الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.

وفيه : أنّه إن كان المراد من الجواز الإباحة ، فالملازمة الأولى ممنوعة ، لأنّ الأشياء وإن لا تخلو عن حكم من الأحكام إلّا أنّها كذلك في نفسها من دون طريان مانع وعروض عنوان ثانوي ، وأمّا معه فيمكن أن يكون الشيء غير محكوم بحكم شرعا. وهذا مثل استدبار الجدي [الملازم] لاستقبال القبلة ، فإنّه في نفسه مباح شرعا لكنّه بعد وجوب استقبال القبلة للصلاة لا يحكم بحكم شرعا ، إذ الوجوب مولويّا لغو بعد حكم العقل مستقلّا بلزوم الإتيان لتحصيل غرض المولى ، والحرمة منافية لوجوب الاستقبال ، والإباحة الشرعية ترخيص في ترك الواجب ، فهو غير محكوم بحكم من الأحكام ، وهكذا المقدّمة في نفسها لها حكم لكن بعد طروّ عنوان المقدّميّة ووجوب ذيها غير محكوم بحكم شرعا.

وإن كان المراد من الجواز عدم المنع الشرعي ، فلزوم أحد المحذورين المذكورين ممنوع ، لأنّها لو لم تكن ممنوعة شرعا وحكم العقل بلزوم الإتيان للوصول إلى مراد المولى ، لا يلزم شيء من المحذورين ، كحكم العقل بوجوب الصلاة إلى أربع جوانب ، فإنّ عدم المنع شرعا لا ينافي إلزام العقل بالإتيان.

وإن كان المراد عدم المنع شرعا وعقلا ، فهو واضح البطلان وخلاف الوجدان وما يقتضيه واضح البرهان من حكم العقل بلزوم إتيان ما يتوقّف تحصيل غرض المولى عليه.

هذا ، وقاعدة الملازمة بين الحكمين وأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع لا تجري هنا ، إذ موردها الأحكام المستقلّة العقليّة ، كحسن العدل وقبح

١٢١

الظلم ، لا ما يحكم في مقام امتثال الأمر المولويّ ، كحكمه بوجوب إتيان العبادة بقصد الأمر وبالداعي الإلهي ، وواضح أنّ المقام من قبيل الثاني لا الأوّل.

فظهر أنّ هذا الدليل عليل ولا يقوم لإثبات الوجوب المولوي الشرعيّ للمقدّمة.

ثمّ إنّ التفصيل بين السبب وغيره بالالتزام بالوجوب شرعا في الأوّل وعدمه في الثاني لا وجه له ، لما مرّ من أنّ السبب والمسبّب غير محتاجين إلى حركتين ، وهما وإن كانا موجودين بوجودين لكن حيث إنّهما معلولا إيجاد مستقلّ واحد وحركة واحدة لا غير ، فلا يمكن أن يحرّك بتحريكين ويبعث إليهما ببعثين ، بل البعث إلى السبب عين البعث إلى المسبّب ، وهكذا العكس. والأمر بتحصيل الطهارة عين الأمر بالوضوء أو الغسل مثلا ، وإنّما الاختلاف في التعبير ، فربّما يعبّر بلفظ «طهّر» وربّما بلفظ «توضّأ» أو «اغسل» فعلى هذا لا معنى للنزاع فيه ، كما لا يخفى.

وهكذا التفصيل بين [الشرط] الشرعي وغيره ، إذ تقرّر في مقرّه أنّ الشرائط الشرعيّة كلّها ترجع إلى الشرائط العقليّة ، مضافا إلى أنّ الشرطيّة والجزئيّة والمانعية إنّما تنتزع عن الأمر بشيء مركّب مقيّد بقيود وجوديّة وعدميّة ، كالصلاة المركّبة من التكبير والقراءة والركوع وغير ذلك المقيّدة بالطهارة وبعدم كونه مأتيّا فيما لا يؤكل لحمه. وليس مدار الشرطيّة وغيرها الأمر الغيري أصلا حتى يقال : لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا شرعيّا.

تتمة : لا ريب في استحباب مقدّمة المستحبّ شرعا لو التزمنا بالملازمة بين الطلبين ، بداهة عدم التفرقة بينهما عند العقل.

وأمّا مقدّمة الحرام فربما يقال بحرمتها بتقريب أنّ المطلوب في النواهي

١٢٢

حيث إنّه يكون هو الترك وترك الشيء يتحقّق إمّا بترك إحدى مقدّماته أو خصوص المقدّمة الأخيرة ، فيترشّح طلب الترك من ذي المقدّمة على إحدى المقدّمات على نحو التخيير ، أو يترشّح على خصوص الجزء الأخير ، بخلاف مقدّمة الواجب ، فإنّ تحقّق الشيء إنّما يتوقّف على تحقق جميع مقدّماته ، فلذا يترشّح الوجوب على الجميع. وهذا هو السرّ في الفرق بين مقدّمات الواجب ومقدّمات الحرام.

هذا ، ولكنّ الحقّ أنّ النواهي إنّما تنبعث عن المبغوضيّة في الفعل والمفسدة فيه ، وأمّا الترك فليس فيه مصلحة حتى يترشّح الطلب عليه.

وبالجملة لا تكون النواهي مركّبة من أمرين : مطلوبية الترك ، ومبغوضية الفعل ، كما أنّ الواجب ليس فيه جهة مطلوبية الفعل ومبغوضية الترك ، بل الأوّل متمحّض في المبغوضية في الفعل ، والثاني متمحّض في المحبوبية في الفعل ، فلا معنى ولا مجال للقول بأنّ طلب الترك يترشّح من ذي المقدّمة على المقدّمة. وذلك واضح.

نعم ، مقدّمة الحرام تنقسم إلى قسمين :

الأوّل : ما يكون المكلّف معه مسلوب الاختيار في ارتكاب الحرام.

والثاني : ما لا يكون كذلك ، بل يكون المكلّف بعد تحقّقها مختارا في الفعل والترك.

والقسم الأوّل أيضا يكون على قسمين :

الأوّل : ما لا يتخلّل بين فعل المقدّمة وذي المقدّمة زمان.

والثاني : ما يتخلّل الزمان بينه وبين الفعل ولكنّ المكلّف يكون في ذلك الزمان مسلوب الاختيار.

١٢٣

أمّا ما لا يتخلّل الزمان بينهما ـ نظير العلّة والمعلول والسبب والمسبّب اللذين ليس بينهما إلّا تخلّل الفاء ، فيقال : «وجد فوجد» ـ فلا شبهة ولا خلاف في حرمة المقدّمة فيه ، وذلك لما قد سبق منّا تحقيقه في باب مقدّمة الواجب من أنّه حيث لا يصدر من المكلّف في إصدار المعلول بسبب إصدار العلّة تحرّكان ، فلا يكون بالنسبة إلى المعلول من المولى تحريكان ، فليس من قبل المولى تحريك إلى العلّة وتحريك آخر إلى المعلول ، فالنهي المتوجّه إلى المعلول هو بعينه متوجّه إلى العلّة ، فلذا لا يفرّق العرف بين قول المولى : «لا تقتل زيدا» وبين قوله : «لا تقطع رأس زيد» ففي مثل المقام تكون مقدّمة الحرام حراما لكن لا بالحرمة المقدّميّة ، بل بالحرمة النفسيّة.

وأمّا الصورة الثانية من صور سلب الاختيار من المكلّف ، كما أنّه يعلم المكلّف أنّه إذا دخل دار زيد يؤجر الخمر في حلقه ، ويصير بمحض دخوله الدار مسلوب الاختيار ، ففي مثل المقام أيضا يكون دخول الدار محرّما أيضا ، لما قد سبق أيضا منّا في بحث المقدّمات المفوّتة ، وذلك لأنّ العقل يحكم بحفظ غرض المولى على العبد وعدم جواز تفويته ، وهذه الحرمة أيضا ليست ترشّحيّة ولا نفسيّة ، بل قلنا : إنّه حرمة طريقيّة ، فإن فات غرض المولى بدخوله الدار ، يكون الدخول محرّما أيضا ، وإن لم يفت ، فليس إلّا صرف التجرّي.

وأمّا المقدّمات التي لا يكون المكلّف بعد تحقّقها مسلوب الاختيار فهي على قسمين ، لأنّ المكلّف إمّا أن يأتي بها بقصد التوصّل إلى الحرام ، كما أنّه يدخل السوق لشرب الخمر ، أو لا يكون كذلك ، بل يأتي بما يقدر معه على شرب الخمر لكن لا بقصد شرب الخمر.

لا شبهة في عدم حرمة القسم الثاني ولا وجه لها ، وأمّا القسم الأوّل :

١٢٤

فليس إلّا عنوان تجرّي العبد على مولاه ، فإن قلنا في بحث التجرّي : إنّه قبيح عقلا وحرام شرعا ، فهذه المقدّمة تكون حراما ، وإلّا فلا.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا أنّ مقدّمات الحرام بعض أقسامها حرام ولكن بملاكات مختلفة ، ولا يكون في أحد منها ما تكون حرمتها بملاك المقدّميّة ، فافهم.

وأمّا ما أفاده شيخنا (١) الأستاذ في المقام من أنّ المقدّمات إن كانت من قبيل الأفعال التوليدية التي يكون العنوان فيها متعدّدا والمعنون واحدا ، فلا شبهة في الحرمة ، كالإلقاء والإحراق ، فإنّ الإلقاء وإن كان هو عنوانا غير عنوان الإحراق لكنّ المعنون يكون واحدا ، فالنهي عن الإحراق يكون نهيا عن الإلقاء أيضا ، فهو ليس إحداث قسم خامس ، وذلك لأنّ العنوانين في مثل ما أفاد من الأفعال التوليدية ليس لهما معنون واحد ، بل لكلّ عنوان معنون مستقلّ ولكلّ إيجاد وجود مستقلّ ، فالإحراق يكون إيجادا للحرقة والإلقاء إيجادا للملاقاة.

نعم أحد الوجودين يكون علّة للآخر ، فيندرج هذا القسم أيضا فيما سبق.

* * *

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩.

١٢٥
١٢٦

فصل :

في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

ويقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في الضدّ الخاصّ.

والثاني : في الضدّ العامّ بمعنى الترك.

أمّا المقام الأوّل :

فقد استدلّ للاقتضاء فيه بوجهين :

الأوّل : أنّ وجود كلّ ضدّ ملازم لترك الضدّ الآخر ، ولا يمكن اختلاف المتلازمين في الحكم ، فإذا كانت الصلاة ضدّا للإزالة وكانت الإزالة واجبة ، فاللازم الحكم بوجوب ترك الصلاة وكون الترك مأمورا به ، فيكون الفعل منهيّا عنه ، وهو المطلوب.

وفيه : أنّه لا دليل على لزوم اتّحاد المتلازمين في الحكم ، نعم لا بدّ من أن لا يكون أحدهما محكوما بحكم مخالف للآخر ، بل يمكن خلوّ ترك الصلاة في المثال عن الحكم.

وما قيل من أنّ الشيء لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة ، إنّما هو في الحكم الواقعيّ لا الظاهريّ ، بل يمكن أن يكون الشيء بواسطة طروّ حالة عليه غير محكوم بحكم من الأحكام ظاهرا ، كما مرّ في مقدّمة الواجب ، أمّا في نفسه وبعنوانه الأوّليّ ـ البتّة على مسلك العدليّة ـ فلا يخلو الشيء من حكم من الأحكام.

والوجه الثاني : أنّه حيث إنّ كلّ واحد من الضدّين يمنع عن الآخر

١٢٧

ـ لفرض أنّهما ضدّان ـ لا يجتمعان ، ومن الواضح أنّ عدم المانع يكون من المقدّمات ، فيكون ترك أحد الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر ، ويترشّح الوجوب من ذي المقدّمة ـ وهو الإزالة مثلا ـ على المقدّمة ـ وهو ترك الصلاة ـ بمقتضى وجوب المقدّمة ، فإذا كان ترك الصلاة واجبا ومأمورا به فيكون فعلها حراما ومنهيّا عنه ، وهو المطلوب.

أقول : قد تقدّم أنّ المقدّمة ليست بواجبة بالوجوب المولويّ الشرعيّ ، وإنّما تكون واجبة بالوجوب العقليّ وباللابدّيّة العقليّة ، فعلى تقدير ثبوت المانعيّة لأحد الضدّين عن الآخر أيضا لا يتمّ هذا برهانا لذلك.

وقد قيل لإنكار المانعيّة ومقدّمية عدم أحد الضدّين للآخر وجوه :

منها : ما أفاده شيخنا الأستاذ (١) ، وهو يتّضح في ضمن مقدّمتين :

الأولى : أنّ أجزاء العلّة وإن كانت لجميعها دخل في ترتّب المعلول إلّا أنّ كيفيّة الدخل مختلفة ومراتبه متفاوتة.

بيان ذلك : أنّ المقتضي ما يترشّح المعلول منه ، والشرط ما له دخل في فعليّة تأثير المقتضي ، والمانع ما يزاحم المقتضي في تأثيره ، والمانعية إنّما تتحقّق بعد تحقّق المقتضي وجميع الشرائط حتى يستند عدم المعلول إليه ، فمرتبته متأخّرة عن الشرط والمقتضي ، وعدم المعلول إنّما يستند إلى [عدم] الشرط بعد وجود المقتضي ، فمرتبته متأخّرة عن مرتبة المقتضي.

مثلا : إذا لم تكن النار موجودة ، لا يستند عدم الاحتراق إلى رطوبة الخشب أو عدم المحاذاة ، بل إلى عدم النار ، وإذا كانت النار في الشرق والخشب في الغرب ، لا يستند عدم الاحتراق إلى رطوبة الخشب ، بل يستند

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.

١٢٨

إلى عدم المحاذاة ، فالمقتضي أسبق رتبة من الشرائط ، وهي أسبق رتبة من عدم المانع.

المقدّمة الثانية : أنّ اجتماع الضدّين حيث إنّه محال ذاتا تسري استحالته إلى علّته ـ تامّة أو ناقصة ـ ومقتضية مع الشرائط أو بدونها ، فإنّ ما يكون محالا ذاتا ـ كشريك الباري ـ يستحيل أن يكون له علّة ولو ناقصة ، ضرورة أنّ ذاته آبية عن الوجود وتقتضي العدم ، فكيف يمكن أن يكون له مقتض!؟

إذا عرفت هاتين المقدّمتين ، تعرف أنّه لا يمكن تحقّق المقتضي للضدّين كليهما ، فإذن تحقّق البياض لا يمكن أن يكون عدم السواد مقدّمة له والسواد مانعا عنه ، إذ عند عدمه ووجود الضدّ الآخر ـ أعني السواد ـ لا يمكن أن يكون له مقتض بمقتضى المقدّمة الثانية ، وإذا لم يكن له مقتض ، فعدمه لا يستند إلى وجود السواد بمقتضى المقدّمة الأولى ، بل هو مستند إلى عدم مقتضية ، فالسواد لا يمكن أن يكون مانعا عن وجود البياض ، وإذا لم يكن مانعا ، لم يكن عدمه مقدّمة للبياض ، فبطل القول بمقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر. هذا ملخّص ما أفاده قدس‌سره.

وهذا الّذي أفاده غير مفيد على وجه وغير تامّ على وجه آخر ، لأنّه إن كان المراد من سراية الاستحالة من المحال إلى مقتضية ومن اجتماع الضدّين إلى مقتضي البياض والسواد ـ مثلا ـ معا أن لا يمكن أن يكون للبياض مقترنا مع السواد مقتض ، وهكذا للسواد حال وجود البياض ، لأنّ السواد لا يمكن أن يجامع مع البياض وممتنع بالذات ، فوجود المقتضي لهذا المحال ـ الّذي هو وجود كلّ واحد من البياض والسواد مقترنا مع الآخر وحال وجود الآخر ـ أيضا محال ، فهو مسلّم لكن لا يفيده لإبطال المقدّميّة ، فإنّ للقائل بالمقدّميّة أن

١٢٩

يقول : إنّه لو قطع النّظر عن المانع ، المقتضي لكلّ من الضدّين موجود في نفسه ، ولو لا المانع ـ وهو وجود الضدّ الآخر ـ كان مؤثّرا يقينا.

وإن كان المراد أنّ وجود المقتضي لكلّ منهما في نفسه وفي طبعه أيضا محال ومحاليّة اجتماع الضدّين تسري إلى المقتضي بهذا المعنى أيضا ، فهو غير تامّ بداهة أنّ السواد في طبعه ممكن من الممكنات وهكذا البياض ، وأيّ برهان يقتضي أن لا يكون للسواد في نفسه مقتض مع أنّه ممكن يمكن أن يوجد بوجود علّته؟ ولم لا يجوز أن يكون لكلّ من الضدّين مقتض مع جميع الشرائط إلّا أنّ أحد المقتضيين يؤثّر أثره فيوجد ، والآخر لا يؤثّر لمزاحمة الضدّ الآخر وممانعته؟ كما إذا كان هناك رجلان قويّان يريد أحدهما تحريك حجر في آن والآخر تسكينه في هذا الآن بعينه ، أليس المقتضي لكلّ من الحركة والسكون موجودا فيما إذا حرّك أحدهما ومنع الآخر فلم يقدر على التسكين؟ وهكذا العكس. وأ ليس عدم التسكين مستندا إلى المانع؟

والحاصل : [أنّه] لا يمكن إنكار مانعيّة أحد الضدّين عن الآخر بهذا البرهان ، فإنّه مساوق لإنكار أصل المانعيّة في العالم ، فإنّ وجود كلّ معلول مقترنا مع المانع ممتنع ذاتا ولا يمكن أن يكون له مقتض ، فلا يستند عدمه إلى المانع ، بل يستند إلى عدم المقتضي ، فإذا لم يستند إليه ، فلا يكون مانعا ، مثلا : يستحيل أن يكون لإحراق الخشب حال رطوبته مقتض ، لأنّه ممتنع ذاتا ، فعدم الإحراق مستند إلى عدم مقتضية لا إلى الرطوبة. وهل يلتزم بذلك أحد؟

ومنها : ما أفاده في الكفاية (١) من أنّه لمّا كان بين وجود أحد الضدّين مع عدم الآخر وبديله كمال الملاءمة والمناسبة ، كان أحد الضدّين مع نقيض الآخر

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦١.

١٣٠

وبديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون هناك تقدّم وتأخّر أصلا.

وما أفاده بظاهره فاسد ، فإنّ الملاءمة والمناسبة بين شيئين أو أكثر لا توجب اتّحاد الرتبة بينهما ، ضرورة أنّ بين العلّة والمعلول ، وبين الشرط والمشروط ، وبين السبب والمسبّب كمال الملاءمة والمناسبة والسنخيّة ، كالنار والحرارة ، مع أنّ النار متقدّمة على الحرارة رتبة.

ومنها : ما أفاده أيضا في الكفاية (١) من أنّ البياض ـ مثلا ـ حيث إنّه في مرتبة السواد ـ إذ لا تقدّم لأحد الضدّين على الآخر عند أحد ـ والبياض ونقيضه الّذي هو عدم البياض أيضا في مرتبة واحدة ، فنرتّب قياس المساواة ، ونقول : البياض متساو مع السواد في الرتبة ، والسواد مساو لعدم السواد ، فالبياض مساو لعدم السواد ، لأنّ مساوي مساوي الشيء مساو لذلك الشيء ، وهكذا في الطرف الآخر ، فإذا تساوت رتبتهما ، بطلت مقدّميّة عدم أحدهما للآخر.

أقول : هذا وإن كان صورة برهانا صحيحا إلّا أنّه بالدقّة صورة برهان (٢) ، وذلك لأنّه يمكن أن يفرض شيئان بينهما تقدّم وتأخّر ، ويكون عدم أحدهما مع وجود الآخر مساويا في الرتبة ، كما في النار والحرارة ، فإنّ النار متقدّمة على الحرارة بالعلّيّة ولكن عدمها مساو مع الحرارة في الرتبة ، ولم لا يجوز أن يكون باب الضدّين من هذا القبيل؟.

نعم ، هذا تمام في الزمانيّات ، كما إذا تحقّق قيام زيد في زمان وجود عمرو هو في زمان موت بكر ، فينتج أنّ قيام زيد في زمان موت بكر ، لكن في غير التقدّم بالزمان فلا ، والمناط وجود ملاك التقدّم وعدمه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦٣. أشار إليه في ضمن قوله : «قلت».

(٢) كذا.

١٣١

ومنها : ما أشار (١) إليه أيضا نقضا ، وهو : أنّه لو كان عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر ، فليس إلّا بواسطة التضادّ والتنافي بين العينين والتمانع بينهما ، وهذا التنافي والتعاند موجود بين المتناقضين أيضا ، فيلزم أن يكون عدم أحدهما مقدّمة للآخر ، وأن يكون [ـ مثلا ـ] عدم البياض مقدّمة للبياض ، أو عدم عدمه مقدّمة لعدم البياض ، وهو باطل بالضرورة.

أقول : يمكن إبداء الفرق بين المقامين بأنّ عدم أحد الضدّين حيث إنّه ملازم للضدّ الآخر فمن الممكن مقدّميّة أحد المتلازمين للمتلازم الآخر ، بخلاف المتناقضين ، فإنّ من الواضح أن لا ملازمة بين عدم أحدهما مع عين الآخر ، بل عدم أحدهما عين الآخر ، وعدم البياض عين العدم الّذي هو بديله للبياض ، فلا يمكن أن يكون مقدّمة لبديله ، لأنّ لازمه تقدّم الشيء على نفسه.

نعم ، ربما يتوهّم ذلك في طرف العدم ، وأنّ عدم عدم البياض ملازم لوجود البياض ، فيمكن أن يكون مقدّمة له.

ولكن بالتأمّل يظهر أنّه ليس كذلك ، إذ ليس لعدم الشيء عدم ، وإلّا لتسلسل ، بل كلّ ماهيّة إمّا في دار التحقّق متحقّقة أولا ، فإذا تحقّقت ، يقال : إنّها موجودة ، وإلّا فمعدومة ، فعدم عدم البياض عبارة أخرى عن البياض ، لا أمر آخر ملازم له ، فلا فرق بين الطرفين من حيث عدم الملازمة بين عدم أحدهما مع عين الآخر وعدم المقدّميّة بينهما.

ومنها : ما في الكفاية (٢) أيضا من أنّ لازم القول بالمانعية في المقام هو الدور.

بيانه : أنّ للمانعيّة أثرين :

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٦١.

(٢) كفاية الأصول : ١٦١.

١٣٢

الأوّل : أن يكون المانع في مرتبة سابقة على عدم الممنوع ، لمكان التوقّف بينهما.

الثاني : أنّ عدم المانع في مرتبة سابقة على الممنوع لذلك ، وكلّما تحقّقت المانعيّة يترتّب عليها هذان الأثران ، ولا يمكن أن تنقلب المانعيّة بالممنوعيّة ، وإلّا يلزم كون ما فرضناه سابقا مسبوقا ، وهو محال ، فإذا فرضنا أنّ بين البياض والسواد التمانع ، وأنّ وجود البياض مانع عن السواد ، وهكذا وجود السواد مانع عن البياض ، فلازم مانعيّة البياض عن السواد أن يكون وجود البياض في مرتبة سابقة على عدم السواد ، وعدم البياض في مرتبة سابقة على وجود السواد ، ولازم مانعيّة السواد للبياض أن يكون السواد في مرتبة سابقة على عدم البياض ، وعدم السواد في مرتبة سابقة على البياض ، فيصير البياض سابقا على نفسه ، وهكذا السواد سابقا على نفسه في الرتبة ، ويتخلّل بين الشيء ونفسه بأن وجد البياض فعدم السواد فوجد البياض ، ويتوقّف وجود البياض على عدم السواد المتوقّف على البياض ، وهو دور واضح.

وبهذا البرهان تثبت استحالة التمانع بين الشيئين مطلقا ، سواء كانا ضدّين أو غيرهما.

وبهذا البيان يظهر أن لا وجه للإشكال بأنّ التوقّف من أحد الطرفين فعليّ ومن الآخر شأنيّ ، فإنّ المانع إنّما هو ذات الشيء لا عنوانه.

ومنها : أنّه لو سلّم إمكان التمانع بين شيئين ، لا يمكن في خصوص باب الضدّين.

بيان ذلك : أنّ الضدّين حيث إنّ كلّ واحد منهما ممكن لا يوجد بدون العلّة ، فلا يخلو من أنّه إمّا أن يكون لأحدهما مقتض مع جميع الشرائط دون

١٣٣

الآخر ، أو لا يكون لشيء منهما ذلك ، أو يكون لكلّ منهما.

فإن كان المقتضي لأحدهما دون الآخر ، كما إذا كان هناك جسم معلّق تقتضي حركته إلى الشرق قوّة كهربائيّة ، فمن المعلوم أنّ عدم حركته إلى طرف الغرب لا يستند إلى حركته إلى طرف الشرق ، بل يستند إلى عدم علّتها ، إذ وجود الممكن بدون العلّة مستحيل ، والحركة إلى طرف الغرب ممكنة من الممكنات.

وإن لم يكن لشيء منها مقتض ، كما إذا لم يقتض حركة هذا الجسم المعلّق مقتض لا إلى طرف الشرق ولا إلى طرف الغرب ، فهو أيضا واضح أنّ عدم الحركة إلى جهة الغرب مستند إلى عدم المقتضي لها ، وهكذا عدم الحركة إلى طرف الشرق.

وإن كان لكلّ منهما مقتض ، فإن كان لا يترجّح أحد المقتضيين على الآخر أصلا ، كما إذا كان هناك قوّة كهربائيّة تقتضي حركة هذا الجسم إلى جهة الشرق وقوّة أخرى متساوية لها تقتضي حركته إلى جانب الغرب ، فواضح أنّ هذا الجسم يبقى على حاله ولا يتحرّك لا إلى الشرق ولا إلى الغرب ، لأنّ المفروض أنّ المقتضيين متساويان ، فكلّ منهما يقتضي حركته إلى طرف ويمنع حركته إلى طرف آخر ، فعدم الحركة إلى الشرق حينئذ إنّما يستند إلى المانع وهو ما يقتضي الحركة إلى طرف الغرب ، وهكذا العكس ، ففي هذه الصورة أيضا عدم كلّ منهما لا يستند إلى وجود الآخر ، بل يستند إلى مقتضي الآخر ، فهو مستند إلى المقتضي ـ بالكسر ـ لا إلى المقتضى ـ بالفتح ـ.

وإن كان أحد المقتضيين أقوى من الآخر ، فحرّك هذا الجسم مثلا إلى جهة الشرق ، فلا ريب أنّ عدم الحركة إلى جهة الغرب مستند إلى المانع ـ وهو

١٣٤

المقتضي الأقوى ـ لا الحركة إلى جهة الشرق.

وإذا قيل : لما ذا لم يتحرّك إلى طرف الغرب؟ لا يقال : لحركته إلى طرف الشرق ، بل يقال : لأنّ القوّة الكائنة في طرف الشرق المقتضية حركته إلى هذا الطرف كانت أزيد وأكثر ، فمنعت من تأثير القوّة الأخرى المقتضية حركته إلى الطرف الآخر ، فدائما في باب الضدّين إذا كان المقتضي لكلّ منهما موجودا ، التمانع يكون بين المقتضيين لا نفس الضدّين ، وفي غير هذه الصورة لا تمانع أصلا.

فانقدح أنّ القول بالتمانع بين الشيئين باطل من رأسه ، وعلى تقدير عدم البطلان في خصوص باب الضدّين بمقتضى الحصر العقليّ لا تمانع بينهما بوجه من الوجوه ، فإذا بطل التمانع ، بطلت المقدّمية بين عدم أحدهما ووجود الآخر.

ثمّ إنّه لا فرق بين ما إذا كان أحد الضدّين موجودا وبين ما لم يكن شيء منهما موجودا في عدم مقدّمية عدم أحدهما لوجود آخر ، ولا وجه للتفصيل والقول بأنّ عدم الضدّ الموجود ورفعه وإزالته مقدّمة لوجود الآخر إذا كان أحدهما موجودا دون ما إذا لم يكن بدعوى أنّ وجود الضدّ الآخر يتوقّف على رفع الضدّ الموجود ، إذ لا يمكن اجتماع الضدّين ، فهو مقدّمة له ، وصحّة ذلك القول مبنيّة على القول بعدم احتياج الممكن إلى المؤثّر في البقاء ، وهو ضروريّ البطلان ، حيث إنّ علّة الاحتياج ومناطه هو الإمكان ، وهو من لوازم الماهيّة ، فلا يمكن استغناؤه عن المؤثّر ، كما لا يمكن انفكاك الإمكان عنه.

إن قلت : النزاع ليس في أنّ عدم البقاء والاستمرار مقدّمة حتّى تبتني المسألة على هذا المبنى ، بل النزاع في أنّ عدم الضدّ الموجود ورفعه وزواله

١٣٥

مقدّمة لوجود الآخر أم لا؟

قلت : لا يمكن أن يتفوّه عاقل بأنّ مشغوليّة الجسم بالبياض يوم الخميس مضادّة لمشغوليّته يوم الجمعة بالسواد ، وقيام زيد في هذا الآن معاند لقيامه في الآن الثاني ، بل المضادّة يشترط في تحقّقها بين شيئين ما يشترط في تحقّق التناقض من الوحدات الثمانية التي منها الوحدة في الزمان ، فالمضادّة إنّما هي بين بقاء الموجود والضدّ الآخر ، ومن المعلوم والمقرّر في محلّه أنّ البقاء هو وجود ثان في الآن الثاني ، فحينئذ كما أنّ الوجود الأوّل يحتاج إلى مقتض ولا يمكن أن يوجد بدونه كذلك الوجود الثاني ، فالجسم المشغول بالبياض في الآن الأوّل إذا اقتضى مقتض سواده في الآن الثاني : فإمّا أن يكون المقتضي للبياض في هذا الآن موجودا أو لا ، فإن لم يكن ، فواضح أنّ وجود السواد مستند إلى علّته ومقتضية لا غير ، وإن كان ، فإمّا أن لا يترجّح أحد المقتضيين على الآخر أو لا ، فإن كان الأوّل ، فلا يوجد شيء منهما ، وعدم السواد مستند إلى وجود المقتضي للبياض ، لا إلى نفس البياض كما مرّ ، وإن كان الثاني ، فيوجد ما هو أقوى مقتضيا ، وعدم الآخر أيضا مستند إلى الابتلاء بالمعارض والمانع الّذي هو المقتضي للآخر ، الأقوى منه ، لا وجود الآخر.

فظهر أنّ رفع أحد الضدّين لا يكون مقدّمة للآخر ، كما أنّ دفعه لا يكون كذلك.

ومنشأ هذا الغلط السخيف لعلّه توهّم أنّ من المشاهد بالعيان بقاء الحجر الموضوع على الأرض ما لم يرفع ، فالبقاء لا يحتاج إلى مؤثّر بالحسّ والعيان ، والغفلة عن أنّ علّة البقاء هي جاذبيّة الأرض أو ضغط الهواء ، وهي موجودة.

هذا كلّه في الأمور التكوينيّة ، وأمّا الأفعال الإراديّة التي هي مورد الكلام :

١٣٦

فالقول باستغناء البقاء عن المؤثّر فيها بديهيّ البطلان ، وهل يعقل بقاء الحركة بمجرّد إرادة حدوثها والقدرة على حدوثها؟ وهل يصدر القول به من ذي مسكة؟

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل ، أمّا المقام الثاني ـ وهو : أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه العامّ بمعنى الترك أم لا؟ فقال بعض بعدم الاقتضاء مطلقا ، وآخر به بنحو العينيّة ، وثالث بالتضمّن ، ورابع بالالتزام باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، وخامس به بالمعنى الأعمّ.

والحقّ : هو الأوّل وعدم الاقتضاء بوجه من الوجوه.

بيان ذلك : أنّ الأمر والنهي ليس معناهما ما هو المشهور من أنّ الأمر هو طلب الفعل ، والنهي طلب الترك ، بل معناهما هو البعث نحو الفعل والزجر عنه اللذان هما ناشئان من الشوق والحبّ النفسانيّ ، والبغض والكراهة النفسانيّ ، وبالبعث والزجر يتحقّق مصداق الطلب ، كما مرّ غير مرّة ، ولا معنى للنزاع في أنّ الأمر بمعنى طلب الفعل هل يقتضي النهي عن الترك بمعنى طلب ترك تركه أم لا؟ حيث ليس ترك ترك الفعل إلّا نفس الفعل وعبارة أخرى عنه ، فمرجعه إلى أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الأمر بالشيء أم لا؟ وثبوت الشيء لنفسه ضروريّ لا يحتاج إلى البحث عنه ، وحيث إنّ الشوق والكراهة والحبّ والبغض صفتان متضادّتان ، فلا يمكن القول بالعينيّة ولا الاقتضاء بنحو التضمّن ، إذ الأمر هو بعث نحو الفعل الّذي له مصلحة ناشئة عن الشوق ، والنهي هو زجر عمّا فيه مفسدة ناشئة عن الكراهة المضادّة مع الشوق ، ولا يعقل العينيّة بين المتضادّين ولا جزئيّة أحدهما للآخر.

١٣٧

نعم ، يمكن أن يدّعي مدّع أنّ الشوق إلى شيء مستلزم للكراهة عن (١) عدمه والحبّ للفعل ملازم مع البغض عن (٢) ترك هذا الفعل ، كما ادّعى شيخنا الأستاذ (٣).

لكنّ الّذي يقتضيه النّظر الدّقيق : أنّه ليس كذلك ، لأنّا نجد من أنفسنا في أوامرنا العرفيّة أنّه ليس هناك إلّا بعث واحد أو زجر واحد ، ولا يكون هناك حكمان مولويّان أحدهما : البعث نحو الفعل ، والآخر : الزجر عن الترك بحيث لو خالف العبد ولم يأت بما امر به فقد خالف حكمين وعصى عصيانين ، فالملازمة وإن كانت ممكنة لكنّ الوجدان يحكم بخلافه ، فلا يقتضي الأمر بالشيء النهي عن ضدّه العامّ بوجه من الوجوه.

نعم ، يمكن أن يكون مراد القائل بالاقتضاء بنحو العينيّة أنّ البعث إلى فعل ربما يعبّر بالأمر به ، كما يقال : «تجب الصلاة على المستحاضة» أو «آتوا الصلاة» وربما يعبّر بالنهي عن تركه ، كما ورد «إنّها ـ أي المستحاضة ـ لا تدع الصلاة بحال» (٤) فالأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه وعبارة أخرى عنه بهذا المعنى من العينيّة ، كما يمكن أن يكون مراد القائل بالاقتضاء بالالتزام أنّ الأمر بالشيء يقتضي ويستلزم المنع بمعنى عدم الترخيص في الترك ، إذ الترخيص المولويّ مضادّ للوجوب ، فلا يمكن اجتماعهما في موضوع واحد ، وعلى هذا فلا إشكال فيه.

ثمّ إنّه ذكروا لهذا البحث ثمرة ، وهو فساد الضدّ إن كان عبادة وقلنا

__________________

(١ و ٢) كذا.

(٣) أجود التقريرات ١ : ٢٥٢.

(٤) الكافي ٣ : ٩٩ ـ ٤ ، التهذيب ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ـ ٤٩٦ ، الوسائل ٢ : ٣٧٣ ، الباب ١ من أبواب الاستحاضة ، الحديث ٥.

١٣٨

بالاقتضاء فيما إذا كان هناك واجبان مضيّقان أحدهما أهمّ ، أو واجبان أحدهما : موسّع ، والآخر : مضيّق ، لا ما إذا كان واجبان كلاهما موسّعان ، أو لا يكون أحدهما أهمّ ، فإنّه أجنبيّ عن المقام ، يعني يثبت بهذه المسألة صغرى ـ وهي أنّ هذه العبادة كالصلاة مثلا منهيّ عنها ، لأنّها مقدّمة لترك الواجب الفعليّ ، وهو الإزالة ـ لكبرى : أنّ النهي في العبادة يقتضي فسادها ، فينتج فساد الصلاة.

وشيخنا البهائي (١) رحمه‌الله أنكر هذه الثمرة بدعوى أنّ الصلاة ـ مثلا ـ حيث إنّها مضادّة للإزالة الواجبة بالفعل لا تكون مأمورا بها ، إذ الأمر بها حينئذ يرجع إلى طلب المحال ، وهو محال في حقّه تعالى ، فإذا لم تكن مأمورا بها ، فلا تصحّ ، سواء قلنا بالاقتضاء أو لم نقل (١).

__________________

(١) زبدة الأصول : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) والإنكار في محلّه ، إذ لو اعتبرنا في صحّة العبادة تعلّق الأمر بها ، فلا يمكن تصحيح العبادة على كلا القولين ، كما أفاده البهائي قدس‌سره ، وإن اكتفينا في ذلك بوجود الملاك ـ كما هو المختار ـ تصحّ العبادة مطلقا.

أمّا على القول بعدم الاقتضاء : فواضح.

وأمّا على القول به : فلأنّ النهي المتعلّق بالعبادة على هذا بما أنّه نهي غيريّ لم ينشأ من مفسدة في متعلّقه موجبة لمبغوضيته ، بل بعد هي على محبوبيتها لا يقتضي فسادها.

الثمرة الثانية : ما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره ، وهو فساد الضدّ العبادي الموسّع ـ كصلاة الظهر لو كان مزاحما بواجب مضيّق ، كالكسوف ـ على الاقتضاء والقول بلزوم الأمر في صحّة العبادة ، وصحّته على القول بعدمه.

توضيحه : أنّ المأمور به لو كان صرف الوجود ، يكون الأمر متعلّقا بالطبيعة لا بخصوصيّة أفرادها ، وكلّ ما وجد في الخارج من الأفراد فهو مصداق للمأمور به ، وليس هو بمأمور به ، سواء في ذلك الفرد المزاحم وغيره.

مثلا : لو أمر المولى عبده بأن يتكلّم بكلام ، فقال العبد في مقام الامتثال : «زيد قائم» ـ

١٣٩

__________________

ـ لا يكون هذا الكلام بعينه مأمورا به بحيث لو كان آتيا بكلام آخر لم يكن ممتثلا ، وحينئذ نقول بناء على الاقتضاء : يتعلّق النهي بالفرد المزاحم للواجب المضيّق ، وهذا النهي يوجب لا محالة تقييد الأمر بالطبيعة بغير الحصّة المتحقّقة في ضمن هذا الفرد ، فبناء على اعتبار الأمر في صحّة العبادة لا يمكن تصحيح هذا الفرد ، لعدم الأمر به على الفرض وتقييد الأمر بالطبيعة أيضا بغيره.

وأمّا بناء على عدم الاقتضاء فحيث لا يكون الفرد المزاحم منهيّا عنه حتى يقيّد الأمر بالطبيعة بغيره ، والفرد المزاحم كغيره من الأفراد في عدم كونه بنفسه مأمورا به ، وانطباق المأمور به عليه ومصداقيته له بلا تفاوت بين الأفراد في ذلك ، فيمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة.

وبعبارة أخرى : ما يكون مزاحما ـ وهو الفرد ـ غير مأمور به ، وما هو مأمور به ـ وهي الطبيعة ـ غير مزاحم ، فلا مانع من صحّة الفرد المزاحم إذا أتي [به] بداعي الأمر بالطبيعة ، لعدم لزوم إتيان الفرد بداعي الأمر المتعلّق به ، بل عدم جوازه ، فإنّه تشريع ، لما عرفت من عدم تعلّق الأمر بالفرد بخصوصيّته ، فلو أتي به بهذا العنوان ، يكون باطلا محرّما.

وبالجملة ، لو اعتبرنا وجود الأمر في صحّة التقرّب أو عجزنا عن كشف الملاك ـ لو صحّحنا التقرّب بالملاك ـ لا إشكال في ترتّب هذه الثمرة ، وأنّ الفرد المزاحم للواجب المضيّق يقع فاسدا على القول باقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه ، وذلك لتقييد إطلاق الأمر بالطبيعي حينئذ بما يتحقّق في غير هذا الفرد ، ويقع صحيحا على القول بعدم الاقتضاء إذا أتي به بداعي الأمر المتعلّق بالطبيعة ، لعدم ما يوجب تقييد إطلاق الأمر بالطبيعة ، ومع إطلاقه للفرد المزاحم لا وجه للحكم بفساده.

وقد أورد على ذلك بوجوه :

الأوّل : أنّ المأمور به في الواجب الموسّع إمّا أن يكون الطبيعي المتحقّق في ضمن هذا الفرد المزاحم أو الطبيعي المتحقّق في ضمن غيره من الأفراد أو الطبيعي مطلقا.

وبعبارة أخرى : الطبيعي بالنسبة إلى الفرد المزاحم إمّا أن يلاحظ بشرط شيء أو بشرط لا أو لا بشرط. والأوّل غير معقول ، فإنّه طلب للضدّين. والثاني غير مفيد ، إذ عليه الفرد المزاحم لا يكون فردا للمأمور به. والثالث لازمه طلب الضدّين في زمان المزاحمة.

والجواب : أنّ المأمور به هو الطبيعي مطلقا ولا بشرط ، ولا محذور فيه ، لما مرّ غير مرّة أنّ معنى الإطلاق رفض القيود وإلغاؤها بعد لحاظها ، لا أخذها وجمعها ، فالآمر إذا ـ

١٤٠