الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

١
٢

٣
٤

فصل :

في مقدّمة الواجب

وتنقيح المقام يستدعي رسم أمور :

الأوّل : أنّ المبحوث عنه هو ثبوت الملازمة بين طلب ذي المقدّمة و [طلب] المقدّمة عقلا ، بمعنى أنّ المولى إذا طلب شيئا ، يجب ويلزم أن يطلب مقدّمته أيضا بحكم العقل ، فبحكمه يترشّح طلب شرعي من ذي المقدّمة ويتعلّق بالمقدّمة. وعلى هذا تكون المسألة أصوليّة ، إذ لا نعني بالمسألة الأصوليّة إلّا ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي وكبرى قياس الاستنباط ، وهي كذلك ، إذ بعد ثبوت الملازمة نرتّب قياسا ، ونقول : هذه مقدّمة للواجب ، وكلّ مقدّمة تجب ، للملازمة بين وجوبها ووجوب ذيها.

نعم ، لو كان المبحوث عنه هو وجوب المقدّمة ـ كما يظهر من صاحب المعالم (١) ـ قدس‌سره ـ كانت فرعيّة ، لكنّ الأمر ليس كذلك (٢).

__________________

(١) معالم الأصول : ٢٥٣.

(٢) يظهر من صاحب المعالم أنّ البحث لفظي ، وأنّ المبحوث عنه هو وجوب المقدّمة ، وكلاهما قابل للتوجيه ، والآن نتكلّم في الأمر الثاني ، فنقول : إنّ ظاهر العنوان في كلام الأصوليّين هو وجوب المقدّمة ، وهو ظاهر في كون البحث عن حكمها الشرعي لا الملازمة بين الوجوبين ، ولا بأس بكون البحث عن ثبوت الملازمة أيضا ، فإنّ بعض المسائل الأصولية له جهة واحدة من البحث ، كمسألة حجّيّة الخبر الواحد ، وبعضها الآخر له جهات مختلفة من البحث على بعضها تكون المسألة من علم وعلى بعضها الآخر من علم آخر ، ومن ذلك مسألة مقدّمة الواجب ، فإنه إذا قلنا : «هل الملازمة بين الوجوبين موجودة أم لا؟» هذا يعني كون المبحوث عنه هو وجود الملازمة وعدمها ، وتصير ـ

٥

والشاهد عليه : أنّ كلّ من حكم بوجوب مقدّمة الواجب حكم باستحباب مقدّمة المستحبّ ، فلو كان البحث فرعيّا ، للزم أن يجعل لاستحباب مقدّمة المستحبّ بحثا مستقلّا ، فجعل البحث واحدا وإجراء الحكم في غير مقدّمة الواجب قرينة قطعيّة على أن البحث ليس عن نفس وجوب المقدّمة ، بل عن ثبوت الملازمة بين الطلبين وعدم ثبوتها.

ثمّ إنّ لشيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ في المقام كلاما حاصله : أنّا وإن فرضنا أنّ البحث عن نفس وجوبها ، لا تكون المسألة مع ذلك فرعيّة ، إذ الأحكام الفرعيّة تتعلّق بالعناوين الخاصّة ، كالصلاة والزكاة والخمس ونحوها ، والحكم بوجوب المقدّمة ليس لعنوان خاصّ ، بل ربّما ينطبق على الوضوء ، وربّما على المشي في طريق الحجّ ، وهكذا.

وفيه : أنّ الأحكام الفرعيّة لا تختصّ بما ذكر ، بل كثير من المسائل الفقهيّة ـ مثل النذر والعهد واليمين وقاعدة الطهارة وغير ذلك ـ تكون كذلك كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الوجوب المبحوث عنه في المقام ليس المراد منه اللّابدّيّة العقليّة بمعنى أنّه لا يمكن عقلا إتيان ذي المقدّمة بدون المقدّمة ، إذ معنى المقدّميّة ليس إلّا هذا.

وهكذا ليس المراد منه عين وجوب ذي المقدّمة الّذي ينسب إليها

__________________

ـ المسألة أصوليّة ، ونتيجتها حكم فرعي ، وإن قلنا : «هل مقدّمة الواجب واجبة شرعا بحكم العقل أم لا؟» أو غير ذلك من التعابير ، فالمسألة فرعية ، وحقيقة كلا العنوانين واحدة ، وهذا مثل قول القائل : «خواجه على ، على خواجه» كلاهما سيّان وإن كان البحث عن الجهة الأولى يشبه الأكل من القفا ، لأنّه يحتاج إلى تشكيل قياس واستنتاج وجوب المقدّمة ، بخلاف البحث عن الجهة الثانية ، وإذا أمكن جعل المسألة من المقاصد لما ذا نجعلها من المبادئ؟ (م).

(١) أجود التقريرات ١ : ٢١٣.

٦

بالعرض والمجاز ، ويقال : إنّ المقدّمة لوجوب ذيها كأنّها واجبة.

وهكذا ليس المراد أنّ المقدّمة واجبة بوجوب استقلالي تبعي آخر من سنخ وجوب ذيها ، كما أفاده المحقّق القمّي (١) قدس‌سره ، إذ من المقطوع أنّ هذا يحتاج إلى التفات تفصيلي ، وهو ربّما يكون وربما لا يكون كما إذا غفل أو لم يعلم بمقدّميّة شيء.

وإنّما المراد منه هو الوجوب الترشّحي التبعي الّذي لا يدور مدار الالتفات تفصيلا.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه المسألة من المسائل العقليّة غير المستقلّة ، وليست من مباحث الألفاظ ، كما ربّما يتوهّم من إيرادها فيها ، فإنّ مناط كون البحث عقليّا أحد أمرين : إمّا كون الحكم مأخوذا من العقل صغرى وكبرى ، وإمّا كونه مأخوذا منه في إحداهما ، والأوّل : كحسن الإحسان وقبح الظلم ، والثاني : كحجيّة الظواهر ، فإنّ صغراها ـ وهي ورود رواية ظاهرة في معنى ـ لا ربط لها بالعقل ، والمقام من قبيل الثاني. فظهر أنّ المسألة من المباحث الأصوليّة العقليّة غير المستقلّة.

الأمر الثاني : أنّ هذا البحث هل له ثمرة عمليّة فقهيّة ، أو هو بحث علميّ محض؟

ذهب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ إلى أنّه لا ثمرة له أصلا ، إذ هذا الوجوب ليس منشأ لأثر من عقاب أو ثواب ، ومقرّبيّة أو مبعّديّة ، ووجود الثمرة في بحث الضدّ منوط بمقدّميّة ترك الضدّ للواجب الأهمّ وعدم القول بالترتّب ، وكلاهما ممنوعان (٢).

__________________

(١) قوانين الأصول ١ : ١٠١.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٤٣.

٧

وهذا تسليم منه ـ قدس‌سره ـ لوجود الثمرة لو قلنا بمقدّميّة ترك الضدّ ولم نقل بالترتّب ، وهو ممنوع ، إذ غاية ما يقال حينئذ : أنّ ترك الصلاة لكونه مقدّمة للإزالة يكون واجبا والصلاة منهيّا عنها ، ومجرّد هذا لا يكفي في الحكم بالفساد ، فإنّه من باب أنّ المنهيّ عنه مبغوض للمولى ، ومبعّد للعبد ، وموجب لاستحقاقه العقاب ، وما هذا شأنه لا يمكن أن يكون مقرّبا وموجبا لاستحقاق الثواب ، وهذا النهي غيريّ لا يترتّب على مخالفته عقاب ولا على موافقته ثواب ، وهو أجنبيّ عن المقرّبية والمبعّدية ، فبأيّ وجه يحكم بفساد الصلاة وتجعل هذه ثمرة للمسألة؟

نعم ، يمكن فرض الثمرة ـ بناء على تعميم الحكم للمقدّمات غير الموصلة ـ فيما إذا توقّف إنقاذ غريق على التوسّط في أرض الغير ، فإنّ التوسّط على هذا يكون محكوما بالجواز ولو لم يكن بداعي الإنقاذ ، بل بداعي التفرّج والاجتياز ، لأنّه مقدّمة للواجب ، توصل أولا ، والمفروض أنّها واجبة مطلقا.

وبالجملة إن لم نقل بوجوب المقدّمة ، كانت المسألة من باب تزاحم الواجب الأهمّ مع المحرّم ، فيحكم العقل بلزوم ارتكاب المحرّم مقدّمة للتوصّل إلى الواجب الأهمّ ، فيختصّ الجواز حينئذ بالمقدّمة الموصلة مطلقا أو مع قصد التوصّل إلى ذيها.

وإن قلنا بوجوب المقدّمة ولكن خصّصناه بخصوص الموصلة مطلقا أو مع قصد التوصّل إلى ذيها ، فالكلام هو الكلام ، إلّا أنّ الوجوب هنا شرعيّ يحكم به العقل من باب الملازمة ، وهناك عقليّ من باب التزاحم.

وإن قلنا بوجوب المقدّمة مطلقا موصلة أولا ، فمقتضاه : جواز التوسّط في الأرض المغصوبة ، الّذي يكون مقدّمة للإنقاذ ولو لم ينقذ إمّا مشروطا بما إذا

٨

قصد الإنقاذ لو خصّصنا الوجوب بما قصد به التوصّل إلى الواجب ، أو مطلقا ولو لم يقصد الإنقاذ لو عمّمناه من هذه الجهة أيضا على الخلاف الآتي في محلّه ، وأيّة ثمرة أحسن من هذه؟

الأمر الثالث : لا يخفى أنّ المقدّمة إمّا داخليّة محضة ، وهي ما يكون قوام الماهيّة بها ، كالأجزاء ، وإمّا خارجيّة محضة ، وهي المتوقّف عليها الماهيّة في الوجود الخارجي ، كالمشي لتحصيل الماء للوضوء ، وإمّا ذات جهتين : من جهة داخليّة ، ومن أخرى خارجيّة ، وهي كالشروط الشرعيّة ، فإنّها من جهة تقيّد الواجب بها داخليّة ، أي نفس التقيّدات مقدّمات داخليّة ، ويلحقها حكمها ، ومن جهة أنفسها خارجيّة يلحقها حكمها.

ثمّ لا ريب في دخول المقدّمات الخارجيّة في محلّ البحث ، وأمّا الداخليّة : فقد وقع الخلاف والإشكال فيه ، فتارة يعترف بمقدميّتها ، ويدّعى خروجها عن البحث ، للزوم اجتماع المثلين ، كما في الكفاية (١) ، وأخرى ينكر أصل مقدّميّتها ، كما يظهر من هامشها(٢).

فالكلام في مقامين : أصل المقدّميّة ، ووجوبها بعد الاعتراف بها.

أمّا المقام الأوّل : فالحقّ أنّه يطلق عليها المقدّمة ، وتكون مصداقا لها ، فإنّ التقدّم لا ينحصر بما يكون بين شيئين ، بل من أقسامه التقدّم بالطبع ، كتقدّم الواحد على الاثنين ، وتقدّم الآحاد على العشرة ، والمقام من هذا القبيل ، فكما تكون العشرة عين الآحاد ومع ذلك تتقدّم الآحاد عليها طبعا ، كذلك المركّب عين أجزائها ، ومع ذلك تتقدّم عليه طبعا. ومعنى التقدّم الطبعي أنّه يمكن

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٥.

(٢) انظر كفاية الأصول : ١١٦ ، الهامش.

٩

تحقّق التكبيرة مثلا أو الواحد دون الصلاة والعشرة لا العكس ، ولا نعني بالمقدّمة إلّا هذا.

وأمّا المقام الثاني : فربما يقال : إنّ الأجزاء لا يعقل كونها معروضة للوجوب الغيري مع كونها معروضة للوجوب النفسيّ ، للزوم اجتماع المثلين ، ولا معروضة للوجوب الغيري فقط ، إذ لو لم يكن وجوب نفسي لها فمن أين يترشّح الغيري ويتعلّق بها؟ فيتعيّن كونها معروضة للوجوب النفسيّ فقط.

ويرد عليه ما أورده عليه شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ من أنّا نلتزم بالأوّل وعروض كليهما لها ، ولا محذور فيه أصلا بعد تعدّد الجهة ، بل نظيره في العرف والشرع كثير ، كشرب الخمر من إناء الذهب ، المغصوب ، في نهار شهر رمضان ، حيث اجتمع فيه جهات أربعة من الحرمة ، وبه صارت الحرمة آكد ، وعقابه أشد ، وما هو نظير المقام صلاة الظهر ، فبما أنّها بذاتها مطلوبة للمولى فوجوبها نفسيّ ، وبما أنّها مقدّمة لصحّة صلاة العصر فوجوبها غيريّ ، فالحكم حكم واحد مؤكّد ، والجهة تتعدّد.

هذا ، ولكنّ الظاهر أنّ الأجزاء وإن كانت مقدّمة ، إلّا أنّها لا يعرضها الوجوب الغيري ، فإنّه (١) وجوب ترشّحي يترشّح من شيء إلى شيء ، ولا يعقل أن يترشّح من نفس الأجزاء الواجبة بالوجوب النفسيّ ، إلى نفسها.

ولا معنى (٢) لتعلّق الطلب التبعي بالأجزاء مع أنّها بذواتها مطلوبة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢١٦.

(٢) بعد معقوليّة مقدّميّة شيء لنفسه لا محذور في ترشّح الوجوب منه إلى نفسه بعد ما كان المترشّح وجوبا آخر غير المترشّح منه ، والمستحيل كون الشيء معلولا لنفسه ومترشّحا من نفسه ، وأمّا ترشّح الوجوب الغيري المتعلّق بشيء ، من الوجوب النفسيّ المتعلّق بذلك الشيء بعينه فلا استحالة فيه أصلا. (م).

(٣) ليت شعري ما الفارق بينه وبين صلاة الظهر ، التي تعلّق بها الطلب التبعي مع كونها ـ

١٠

بالأصالة ، ضرورة أنّ كلّ واحد من آحاد التّمّن المطبوخ مطلوب لنا نفسا لا نفسا وغيرا.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد تقسيم المقدّمات إلى الداخليّة والخارجيّة والمتوسّطات لا وجه لتقسيمها إلى العقليّة والشرعيّة والعاديّة ، إذ العقليّة بعينها هي المقدّمات الخارجيّة ، والشرعيّة هي المتوسّطات التي من جهة نفس القيود خارجيّة ومن جهة التقيّدات داخليّة.

والعاديّة إن كان المراد منها ما جرت العادة على إيجادها من دون توقّف لذيها عليها كلبس العمامة والرداء للمشي إلى السوق ، فمن الواضح خروجها عن حريم النزاع.

وإن كان المراد منها ما يتوقّف عليها ذوها عادة من دون توقّف عليها عقلا ـ كنصب السلّم للكون على السطح ، فحيث إنّ طيّ هذه المسافة في المثال ممّا لا بدّ منه عقلا ، لاستحالة الطّفرة ، وهو إمّا بنصب السلّم أو بالدّراج أو بالطيّارة ، ففي حقّ من لا يتمكّن فعلا إلّا من نصب السلّم لا يكون النصب مقدّمة إلّا عقلا ـ فهي داخلة في المقدّمات الخارجيّة.

وكذا لا وجه لتقسيمها إلى مقدّمة الوجود ، ومقدّمة الصحّة ، ومقدّمة الوجوب ، ومقدّمة العلم ، فإنّ مقدّمة الوجود هي الخارجيّة التي يتوقّف عليها وجود المأمور به في الخارج ، ومقدّمة الصحّة هي من المتوسّطات التي من ناحية تقيّداتها داخليّة ومن ناحية قيودها خارجيّة. ومقدّمة الوجوب لا ربط لها بالمقام ، فإنّ المبحوث عنه هو [وجوب] مقدّمة الواجب ، إذ لا معنى للنزاع في وجوب مقدّمة الوجوب وعدمه ، فإنّ الوجوب متأخّر عن المقدّمة ، فما لم

__________________

ـ مطلوبة بالأصالة؟ (م)

١١

توجد لم يوجد الوجوب حتى يترشّح وجوب آخر إلى مقدّمته ، وإذا وجدت فما معنى وجوبها وطلبها بعد وجودها وحصولها؟

ومقدّمة العلم أيضا خارجة عن محطّ البحث ، فإنّه عن وجوب مقدّمة الواجب لا مقدّمة حصول العلم بتحقّق الواجب خارجا ، كالصلاة إلى أربع جهات مقدّمة للعلم بإتيان الصلاة إلى القبلة.

بقي الكلام في تقسيمها إلى المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة ، وصحّة هذا التقسيم مبنيّة على معقوليّة الشرط المتأخّر ، فلا بدّ من صرف عنان الكلام إليها ، فنقول : قد تعرّض صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ للإشكال وقرّبه بوجهين :

الأوّل : ما يظهر من صدر عبارته ، وهو أنّ العلّة يجب أن تكون بتمام أجزائها مقدّمة على المعلول ، ولا يعقل تأخّر شيء منها عنه.

الثاني : ما يظهر من ذيل عبارته وهو : أنّ التقارن الزماني بين العلّة والمعلول ممّا لا محيص عنه ، ولا يعقل تقدّمها ولا تأخّرها عنه زمانا ، إذ في صورة التقدّم يلزم تخلّف المعلول عن العلّة ، وفي صورة التأخّر يلزم وجود المعلول بلا علّة ، والمقام من قبيل الثاني ، لكن لا ينحصر الإشكال بالشرط المتأخّر ، بل يجري في الشرط المتقدّم أيضا وكذا المركّب المتصرّم بعض أجزائه حين تحقق الأثر.

وربّما يتوهّم فساد التقريب الأوّل لأجل أنّه ثبت استحالة تأخّر ما هو متقدّم رتبة عن شيء متأخّر عنه رتبة ، ومحلّ الكلام تأخّر ما هو متقدّم زمانا عمّا هو متأخّر كذلك ، والدليل المذكور لا يثبت هذا المدّعى ، إذ من الممكن أن يكون الشيء متقدّما على شيء رتبة ومتأخّرا بنحو آخر من أنحاء التأخّر ، فإنّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٨.

١٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله متقدّم على سائر الأنبياء بالشرف ومتأخّر عنهم بالزمان.

لكنّه فاسد ، فإنّه بمدلوله المطابقي وإن كان لا يثبت المدّعى إلّا أنّه بلازمه يثبت ، وهو كاف.

بيان ذلك : أنّ العلّة والمعلول على قسمين : قسم يكون ضرورة وجود المعلول بوجود علّته وبالعكس ، وهذا كما في العلل البسيطة والجزء الأخير من العلل التامّة المركّبة ، وقسم يكون ضرورة وجود العلّة بوجود المعلول ولا عكس ، وهذا في غير الجزء الأخير من المركّبة لا غير ، وعلى كلا التقديرين لا يعقل وجود المعلول في زمان قبل زمان وجود علّته ، فإنّه خلف واضح ، فهذا التقريب تامّ لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في التقريب الثاني ، وفيه خلط واضح ناش من الخلط بين العلل التامّة والناقصة ، ضرورة أنّ تقارن العلّة والمعلول زمانا يعتبر في العلل البسيطة أو الجزء الأخير من العلل التامّة المركّبة لا في العلل الناقصة ، أفيشكّ في أنّ المشي في طريق الحجّ ممّا يتوقّف عليه ومن مقدّماته العقليّة مع تقدّمه عليه زمانا؟

وكيف كان ، قد ورد في الشريعة المقدّسة أمور بظاهرها شرائط متأخّرة ، كالأغسال الليليّة ، التي هي شرط لصحّة صوم المستحاضة ، والإجازة في بيع الفضولي بناء على الكشف ، فلا بدّ من رفع الإشكال إمّا بمنع استحالة الشرط المتأخّر أو بإنكار شرطيّة هذه الأمور.

وقد تصدّى صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ لرفع الإشكال بما حاصله أنّ هذه الشرائط إمّا شرائط للتكليف أو الوضع أو المأمور به.

أمّا الأوّل : فحيث إنّ التكليف من الأمور التشريعيّة لا التكوينيّة وفعل

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٨.

١٣

اختياريّ للمولى ناش من لحاظ مصلحة كامنة في متعلّقه فلا بدّ أوّلا من لحاظ المتعلّق وكلّ ما له دخل في اتّصافه بكونه ذا مصلحة من المتقدّمات والمقارنات والمتأخّرات ثمّ الإرادة والاختيار ثمّ التكليف ، فما هو شرط التكليف في الحقيقة هو لحاظ المتقدّم والمقارن والمتأخّر بوجودها الذهني لا أنفسها بوجودها الخارجي ، ومن البديهي أنّ لحاظ هذه الأمور لا يتقدّم ولا يتأخّر عن التكليف ، ولذا ربما يتخلّف اللحاظ عن الملحوظ ، كما في المولى العرفي ، فيرى دخل شيء في مصلحة شيء ، والملحوظ ليس كذلك.

فاتّضح أنّ الوجود الخارجي لا ربط له بالجعل والتكليف ، وإنّما المربوط به هو اللحاظ والوجود الذهني.

نعم ، في المولى الحكيم العالم بجميع الخصوصيّات لا يتصوّر تخلّف اللحاظ عن الملحوظ.

وبالجملة ما نسمّيه بالشرائط ليست بشرائط واقعا ، بل هي أطراف اللحاظ الّذي هو شرط في كلّ فعل اختياري وأحد مقدّماته ، وإنّما شرائط التكليف هي عبارة عن تصوّر متعلّقه ولحاظه بجميع أجزائه وشرائطه ، والتصديق بكونه صلاحا أو محصّلا لغرضه وإرادته واختياره ، وليس شيء آخر وراء ذلك شرطا للتكليف ، فلا انخرام للقاعدة. هذا ملخّص ما أفاده في بيان رفع الإشكال في شرائط التكليف متقدّمة أو متأخّرة.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ بأنّ هذا اشتباه واضح ناش من خلط القضايا الخارجيّة بالقضايا الحقيقيّة.

وما أفاده في القضايا الخارجيّة متين جدّاً إلّا أنّ الأحكام الشرعيّة من قبيل

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٤.

١٤

القضايا الحقيقيّة ، فلا يفيد هذا الجواب أصلا.

بيان ذلك : أنّ القضيّة إمّا خارجيّة بمعنى أنّ الحكم فيها مترتّب على الموضوع المتحقّق خارجا بجميع شرائطه ، كما إذا قال المولى : «أكرم هذا الشخص» فإذا كانت كذلك ، فلا بدّ للمولى من لحاظ الموضوع بجميع شرائطه وإحراز أنّ كلّ ما له دخل في حصول غرضه حاصل ، متقدّما كان أو متقارنا أو متأخّرا ، ثمّ الحكم بوجوب الإكرام ، فإذا حكم ، فليس على العبد إلّا الامتثال من دون حالة منتظرة له ، لفعليّة الحكم بفعليّة موضوعه عند المولى ، ولا عذر للعبد في ترك الامتثال أصلا حتى في صورة احتمال خطأ المولى.

وإمّا حقيقيّة وهي : ما ترتّب الحكم فيها على الموضوع المقدّر وجوده كما في «أكرم العالم» و «يجب الحجّ على المستطيع» وفي هذا القسم لا يصير الحكم فعليّا بمجرّد جعله بل هو حكم شأني لم يكن في الشرع ثمّ كان ، وفعليّته بفعليّة موضوعه ، فالمكلّف ما لم يصر مستطيعا لا إلزام في حقّه ولا بعث نحوه ، فليس مثل هذا الجعل في حقّه مناطا للإطاعة والعصيان ولا الثواب والعقاب ، فإذا صار مستطيعا ، ينقلب الموضوع من الفرض والتقدير إلى الواقع والتحقيق ، وينقلب الحكم من الشأنيّة إلى الفعليّة ، وحينئذ ترتّبه على موضوعه يكون كترتّب المعلول على علّته التامّة ولا يعقل الانفكاك ، فإنّه خلف محض ، فكلّ موضوع من موضوعات الأحكام ما لم يتحقّق في الخارج بجميع أجزائه وشرائطه لا يعقل ترتّب الحكم ، فتأخّر قيد أو شرط من قيود الموضوع وشرائطه كتأخّر بعض أجزاء العلّة عن معلولها ، وهو غير معقول.

ففي الحقيقة هذا منه ـ قدس‌سره ـ اشتباه مقام المجعول والفعليّة بمقام الجعل والإنشاء ، فإنّ لحاظ الموضوع بجميع القيود المأخوذة فيه من شرائط الجعل

١٥

لا المجعول ، ومحلّ الكلام هو الثاني ، وقد عرفت أنّ وجود الموضوع بتمام قيوده ممّا لا بدّ منه في تحقّق المجعول وفعليّته ، وأنّ فرض تأخّر شيء من القيود عن الحكم خارجا كفرض تأخّر العلّة عن معلولها.

هذا في شرائط التكليف ، والكلام في شرائط الوضع هو الكلام في شرائط التكليف إشكالا وجوابا.

نعم ، جرى الاصطلاح على تسمية قيود الموضوع في موضوعات التكليف شرائط ، وفي باب الوضع أسبابا ، وهذا مجرّد اصطلاح ، فلو دلّ دليل على أنّ الرضي بوجوده المتأخّر يكفي في سببيّة التجارة للملكيّة وصيرورتها تجارة عن تراض ، نلتزم به بلا انخرام للقاعدة العقليّة ، فإنّ المتأخّر بوجوده التصوّري اللحاظي له دخل في الحكم بالملكيّة لا بوجوده الخارجي.

هذا ملخّص ما أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ في شرائط التكليف والوضع مع ما أورد عليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

أمّا الإيراد ففي الجملة وارد متين ، إذ لا ينبغي الإشكال في أنّه من خلط مقام المجعول بمقام الجعل ، لكن جعله كلّ موضوع شرطا وكلّ شرط موضوعا وكذا كلّ قيد من قيود الموضوع شرطا ـ كما هو مكرّر في كلامه قدس‌سره ـ ليس على ما ينبغي ، فإنّ قيود الموضوع ليست بأنفسها شروطا بل هي من المتوسّطات التي تقيّداتها شروط لا القيود ، فإذا كلّما أحرز وجود التقيّد ـ كان القيد سابقا أو متقارنا أو متأخّرا في الوجود ـ صار الحكم فعليّا قطعا ، وله في الشرع والعرف أمثلة كثيرة ، فنرى بحسب الارتكاز أنّ الموضوع غالبا لجواز التصرّف في الحمّام هو الدخول مشروطا بإعطاء عشرين فلسا مثلا عند الخروج ، فمن دخل قاصدا لإعطاء المبلغ المزبور ، جاز له التصرّف مع أنّ القيد

١٦

ـ وهو الإعطاء ـ متأخّر عن جواز التصرّف ، ونحكم بأنّه يستحبّ لمن يريد الحجّ توفير الشعر ولمن يحجّ كذا وبعد الحجّ كذا ، وقبل الصلاة كذا وحينها كذا وبعدها كذا ، ويجب لمن يكون مكلّفا بالصلاة الوضوء قبلها والطمأنينة حالها وسجدتا السهو ـ إذا سها ـ بعدها ، وفي باب الوضع نقول : «الولد غير القاتل لأبيه يرث ، والقاتل لا يرث» والشرط في جميع ذلك هو التقيّد بالقبليّة والمقارنة والبعديّة ، لا القيد المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر حتى يلزم محذور يساوق محذور انفكاك المعلول عن علّته التامّة أو تأخّر بعض أجزاء العلّة عن وجود معلولها ، الواضح استحالة كليهما.

وبالجملة فعليّة الموضوع المتقيّد بأمر غير مقارن ، بفعليّة تقيّده ، وهو مقارن.

ومنه ظهر عدم تماميّة ما أفاده صاحب الكفاية لدفع الإشكال ، وأنّه التزام بلا ملزم مع ما فيه من خلط مقام المجعول بمقام الجعل.

مضافا إلى أنّ لازمه فعليّة كلّ تكليف بنفس إنشائه ، ضرورة أنّ الموضوع بجميع أجزائه متحقّق بوجوده اللحاظي ، وهو باطل بالضرورة.

وأمّا شرائط المأمور به فقد دفع الإشكال صاحب الكفاية (١) بما ملخّصه : أنّ تفاوت حسن الأشياء بالوجوه والاعتبارات ممّا لا ينبغي الريب فيه ، ويمكن دخل أمر سابق أو لاحق في اتّصاف فعل بالحسن أو تعلّق الغرض به ، كما هو واضح ، وأمثلته في العرفيّات كثيرة غير محتاجة إلى البيان ، فالمتقدّم أو المتأخّر إذ لم يكن شرطا في تحقّق ما يقابله بل كان دخيلا في صيرورته معنونا بعنوان حسن أو متعلّقا للغرض ، لا يلزم [منه] محذور ، وشرائط المأمور به من هذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٩.

١٧

القبيل.

ويرد عليه : أنّه لا يتمّ على مذهب العدليّة القائلين بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، فإنّ المصلحة أمر واقعي لا يتفاوت بالوجوه والاعتبارات ، فالمتأخّر إمّا دخيل في ذلك الأمر النّفس الأمري المتقدّم الّذي هو المصلحة أولا ، فإن كان له دخل ، يلزم إشكال تأخّر العلّة عن معلولها ، وإلّا فهو خلف ، ولا ربط له بالمأمور به ، فلما ذا جعل شرطا له؟

فظهر أنّ شيئا ممّا أفيد في المقام ليس بتامّ ، فالصحيح أن يقال : إنّ الأمر المتأخّر تارة يفرض كونه دخيلا في ترتّب المصلحة على المتقدّم ، وأخرى في لحاظه ، وثالثة في تعلّق الطلب به.

والأوّل أمر واقعي لا يتفاوت الحال فيه ، لوحظ أم لم يلحظ ، تعلّق الأمر به أم لا ، وأمثلته في العرف إلى ما شاء الله ، منها : التمشّي بعد شرب المسهل ، فإنّ له دخلا واقعيّا في ترتّب إصلاح المزاج ولينته عليه.

والثاني ـ وهو دخله في اللحاظ ـ أيضا أمر واقعي بمعنى أنّ المولى إذا رأى شيئا مركّبا ذا أجزاء وقيود متقدّمة أو مقارنة أو متأخّرة ، له مصلحة واحدة أو تحت غرض واحد ، يلاحظه شيئا واحدا فيطلبه ويأمر به.

والثالث ـ وهو دخله في تعلّق الطلب به ـ أمر اعتباري ، فإنّ الشرطيّة وهكذا الجزئيّة والمانعيّة تنتزع من تعلّق الطلب بعدّة أمور مقيّدة بقيود وجوديّة أو عدميّة ، ولا يكون من باب التأثير والتأثّر أصلا ، وتعلّق طلب المولى بما هو كذلك بمكان من الإمكان ، فما هو دخيل في المصلحة أو في اللحاظ من هذه الأقسام لا يعقل أن يكون متأخّرا عنها أو عنه ، ضرورة أنّه ـ لكونه أمرا واقعيّا ـ عين تأخّر بعض أجزاء العلّة عن معلولها ، وأمّا ما هو دخيل في الواجب

١٨

والمأمور به فحيث لا واقع له إلّا تعلّق الطلب به ولا تأثير له في المتقدّم أصلا فلا مانع من تأخّره.

وعدم تحقّق امتثال الأمر بالمقيّد بدونه ليس من باب أن القيد له دخل في تحقّق المقيّد ، بل لأجل أنّ متعلّق الطلب هو طبيعة خاصّة مقيّدة ، فما لم توجد بخصوصيّاتها وقيودها المأخوذة فيها لم يوجد مصداق الطبيعة المأمور بها ، فالمطلوب من المستحاضة هو الصوم المتعقّب بالاغتسال في الليل ، فلو فرض الإخلال بالاغتسال ، لم يتحقّق الامتثال ، لعدم تحقّق مصداق تلك الطبيعة المأمور بها ، فهي كمن أمر بعتق رقبة مؤمنة وأعتق كافرة.

نعم ، على مسلك العدلية ـ من تبعية الأحكام للمصالح ـ ربما يتوهّم دخل المتأخّر في مصلحة المتقدّم ، وقد مرّ أنّه أمر واقعي ، ولا يعقل تأثّر المتقدّم عن المتأخّر واقعا.

ودفع هذا التوهّم بالالتزام بأحد أمرين :

الأوّل : أنّ المصلحة لا تترتّب إلّا بعد وجود المتأخّر ، كما هو ظاهر تعلّق الطلب به.

الثاني : أنّها تتحقّق قبله لكنّ المتأخّر بنفسه ليس دخيلا في مصلحة المتقدّم ، بل التقيّد به هو الدخيل فيها ، أو يقال : إنّه لا دخل له لا بنفسه ولا بتقيّده ، بل هو معرّف وكاشف عن خصوصيّة في المتقدّم ، ملازمة في الوجود للمتأخّر وإن لم نعلمها ، ولكن هذا خلاف ظاهر تعلّق الطلب به.

بقي الكلام فيما أفاده شيخنا (١) الأستاذ ـ قدس‌سره ـ في المقام من أنّ شرائط التكليف لا يعقل تأخّرها عنه بخلاف شرائط المكلّف به ، فهو بمكان من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٥.

١٩

الإمكان ، فإنّ شرائط المكلّف به تكون متعلّقة للأمر كالأجزاء ، وكما أنّ الأجزاء لا إشكال في تأخّر بعضها عن بعض كذلك لا إشكال في تأخّر الشرائط عن مشروطها.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ الشرائط لا تقاس بالأجزاء ، فإنّها داخلة في المأمور به قيدا وتقيّدا ، بخلاف الشرائط ، فإنّها داخلة في المأمور به تقيّدا والقيد خارج.

وأجاب عنه بأنّه لمّا كان الضابط في الفرق بين الأجزاء والشرائط أنّ الأجزاء دخيلة في المتعلّق بذواتها وبتقيّداتها ، والشروط دخيلة في المتعلّق من حيث التقيّد بها فقط من دون أن يكون لذواتها دخل فيه ، توهّم أنّ الأمر ينبسط على ذوات الأجزاء بخلاف الشرائط ، فإنّ التقيّد بها يكون تحت الأمر فقط من دون أن يكون لذواتها نصيب من الأمر النفسيّ.

وهذا التوهّم فاسد ، والحقّ اشتراكها مع الأجزاء في انبساط الأمر على ذواتها أيضا ، وذلك لكون التقيّد أمرا انتزاعيّا يتحصّل من إضافة القيد إلى المقيّد به ، ومن الواضح أنّ العناوين الانتزاعيّة حيث لا تحقّق لها خارجا يستحيل تعلّق الأمر بها بأنفسها ، بل الأمر يتعلّق بمناشئ انتزاعها لا محالة ، فانبساط الأمر بالمقيّد على التقيّد مرجعه في الحقيقة إلى انبساطه على ذات القيد ، فالشرط لا محالة يكون متعلّقا للأمر كالجزء ، ويكون الامتثال مراعى بإتيانه في ظرفه ، والفرق بينهما من حيث تعلّق الأمر بالجزء من جهة دخله في المتعلّق قيدا أو تقيّدا وبالشرط من جهة دخله تقيّدا فقط.

هذا ملخّص ما أفاده في المقام ، لكنّه محلّ للنظر والإشكال.

وذلك لأنّ الكبرى التي ذكرها ـ وهي تعلّق الأمر المتوجّه إلى العنوان

٢٠