الهداية في الأصول - ج ٢

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣١

الوصول بالاختيار من ناحية هذه المقدّمة ، وسدّ باب عدم ذي المقدّمة من ناحية هذه المقدّمة.

هذا ، والّذي يقتضيه النّظر الدّقيق هو أنّ الغرض ليس ذلك أيضا ، إذ لا فائدة في إتيان بعض المقدّمات دون بعض ، ولا يتعلّق به غرض حتى يوجبه ، بل الغرض من الإيجاب ليس إلّا الإيصال ، وحيث إنّ الأمر المتعلّق بالواجب النفسيّ واحد ، والوجوب يترشّح منه إلى المقدّمة ، والغرض من إيجاب جميعها واحد ، فليس هناك إلّا أمر واحد وإيجاب غيريّ واحد لغرض واحد ناش من إيجاب أمر نفسيّ واحد متعلّق بجميع المقدّمات التي منها الاختيار ، فإنّه على مسلكنا ـ كما مرّ غير مرّة ـ أمر اختياريّ ، واختياريّته ، بنفس ذاته لا بشيء آخر ، فجميع المقدّمات تكون واجبة بإيجاب واحد بحيث لو أتى بالبعض لم يأت بالواجب الغيريّ أصلا ، كما أنّه لو لم يأت بجزء من أجزاء الصلاة ، لم يمتثل أمرها أصلا.

فظهر بذلك أنّ المتّصف بالوجوب هو الموصلة من المقدّمات فقط ، لما عرفت من أنّ بعض المقدّمات لا يتّصف بالوجوب ، والكلّ المتّصف بالوجوب يترتّب عليه ذو المقدّمة قهرا ، وموصل إليه لا محالة. وهذا واضح.

وبهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني ، إذ الحال في إتيان بعض المقدّمات بعينه على هذا هو الحال في إتيان بعض الأجزاء ، والإشكال يجري هناك أيضا ، والجواب في المقامين هو أنّ السقوط يكون بالموافقة لكن لا مطلقا ، بل مراعى بإتيان بقية الأجزاء أو المقدّمات.

ويظهر الجواب عن الثالث أيضا حيث إنّ الموصليّة على ذلك عنوان مشير إلى جميع المقدّمات ، الملازم لوجود ذيها ، فلا يلزم محذور. واندفع

١٠١

الإشكالات بأسرها.

بقي الكلام فيما استدلّ به صاحب الفصول (١) على اختصاص الموصلة من المقدّمات بالوقوع على صفة الوجوب ، وعمدتها (٢) وجهان (١) :

الأوّل : شهادة الوجدان بأنّ من يريد شيئا لأجل حصول شيء آخر لا يكون ذاته مطلوبا له مطلقا ولو لم يحصل مطلوبه النفسيّ.

الثاني : أنّه يصحّ نهي المولى عن المقدّمة غير الموصلة بأن يقول : «لا تخرج إلى السوق لغير اشتراء اللحم واخرج له» وذلك آية عدم اتّصاف غير الموصلة منها بالوجوب.

وأجاب في الكفاية (٣) عن الأوّل : بأنّه ـ بعد تسليم كون الغرض من الإيجاب الغيري هو حصول المطلوب النفسيّ ـ الوجدان يقضي بخلافه ، وأنّ ما أريد لأجل غاية وتجرّد عن الغاية يقع على صفة المطلوبيّة الغيريّة ، كما إذا ترتّب الغاية ، إلى آخره.

وأجاب عن الثاني بجوابين :

الأوّل : أنّه لو سلّم صحّة النهي عن غير الموصلة منها لا نسلّم كون ذلك آية عدم اتّصاف غير الموصلة منها بالوجوب ، ضرورة أنّ عدم الاتّصاف فيه ليس إلّا لأجل المنع من غير الموصلة ، وأمّا إذا لم يكن منع في البين ، فلا مانع

__________________

(١) الفصول : ٨٤ و ٨٦.

(٢) أي عمدة الأدلّة المرادة من الموصول.

(٣) أقول : كلاهما تمسّك بالوجدان إلّا أنّ الأوّل تمسّك به في مقام الثبوت ، والثاني تمسّك به في مقام الإثبات.

وبعبارة أخرى : أنّ الأوّل بمنزلة المدّعى ، والثاني بمنزلة الدليل ، أي من صحّة النهي في مقام الإثبات يستكشف أنّ الأمر كذلك في الثبوت أيضا. (م).

(٤) كفاية الأصول : ١٤٩ و ١٥٠.

١٠٢

من اتّصاف غير الموصلة بالوجوب أيضا.

أقول : لو سلّم صحّة النهي وعدم المحذور فيه ، يجب ، إذ المفروض أنّ المقدّمة في ذاتها مغضوبة للمولى ، والكلام في هذه الصورة ، وأثر النزاع يظهر في هذا المورد ، وليس لنا شغل بما إذا تعدّد الطريق أو لا تكون المقدّمة مغضوبة في ذاتها ، فإذا كانت مغضوبة ولا محذور في النهي فلم لا ينهى المولى عنه؟

الجواب الثاني : أنّه إذا كان النهي صحيحا ، يلزم جواز ترك الواجب اختيارا ، وعدم تحقّق العصيان بذلك.

بيان ذلك : أنّ الإيجاب الفعلي بالنسبة إلى ذي المقدّمة يتوقّف على القدرة على إتيان ذي المقدّمة ، والقدرة عليه متوقّفة على القدرة على الإتيان بمقدّمته وجوازها شرعا ، وجوازها شرعا متوقّف على الإتيان بالواجب ، وترتّب ذي المقدّمة ، فينتج أنّ الإيجاب متوقّف على الإتيان بالواجب ، فيجوز ترك الواجب اختيارا.

وأيضا يلزم أن يختصّ الإيجاب والطلب بصورة الإتيان بالواجب ، ومن المعلوم أنّ تعلّق الطلب بالمأتي به يكون من طلب الحاصل ، وهو محال.

وفيه : أنّ جواز المقدّمة فعليّ لا يتوقّف على الإتيان بذي المقدّمة وترتّب الواجب النفسيّ ، وإنّما ترتّب الواجب والإيصال وإتيان الواجب بعد إتيان المقدّمة قيد للجائز لا الجواز.

وبعبارة أخرى : الإيصال قيد للمادّة (١) لا الهيئة ، وبعبارة أوضح : الجواز

__________________

(١) لا وجه لكون الإيصال قيدا للواجب وإن كان الواجب هو الموصلة لا غير.

وبعبارة أخرى : لا ملازمة بين مطلوبيّة الموصلة وكون الإيصال قيدا للمطلوب.

١٠٣

لا يتوقّف على الإيصال ، بل الإيصال قيد لمتعلّق الجواز بمعنى أنّ جواز المقدّمة وإن كان مطلقا غير مشروط بشيء إلّا أنّه يتعلّق بالمقدّمة الموصلة ، وهي تقع على صفة الوجوب دون غيرها.

ومن ذلك يظهر الجواب عن إشكال طلب الحاصل ، فإنّ الإيجاب موجود قبل الإتيان ، وإنّما الّذي يوجد ويتحقّق بعد الإتيان هو متعلّق الإيجاب والواجب.

فانقدح أنّ كلام صاحب الفصول متين جدّاً ، ولا بدّ من الالتزام بتعلّق الوجوب بالمقدّمة الموصلة دون غيرها ، وظهر أنّ ما أفاده في الكفاية في ردّ صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ غير تامّ.

الكلام في ثمرة البحث ، وأحسن ثمرة تكون في بحث مقدّمة الواجب هي ما أشرنا إليه سابقا من أنّه إذا توقّف واجب فعليّ نفسيّ على فعل حرام وكان الواجب أهمّ ، كما إذا توقّف إنقاذ غريق على الدخول في أرض الغير ، فعلى

__________________

ووجهه : أنّ الإيصال إلى ذي المقدّمة هو الغرض من إيجاب المقدّمة ولا فرق في ذلك بين المقدّمة الأولى والمتوسّطة والأخيرة ، لأنّ الغرض في جميعها هو الوصول إلى الواجب النفسيّ لا أن يكون لكلّ مقدّمة غرض آخر غير الوصول إلى الواجب النفسيّ.

مثلا : إذا أمر المولى بالوضوء وأمر بتحصيل الماء فكما أنّ الغرض من التوضّؤ هو إتيان الصلاة كذلك يكون الغرض من تحصيل الماء هو الصلاة وإن كان الوضوء غرضا أدنى لتحصيل الماء ، فالغرض من جميع المقدّمات هو الواجب النفسيّ ، فالمطلوب من المقدّمات هو ما يترتّب عليه الواجب النفسيّ.

وبعبارة أخرى : إنّ المطلوب من المقدّمات هو ما يلزم من وجوده وجود ذي المقدّمة لا غير.

وبعبارة ثالثة : الواجب الغيريّ هو الحصّة التوأمة مع ذي المقدّمة لا المتقيّد بذي المقدّمة ، فالوجدان وإن كان حاكما بأنّ غير الموصلة ليس مطلوبا ولكنّه ليس معناه أنّ الموصلة بما هي موصلة مطلوبة بل واقع الموصلة مطلوب ، ومطلوبيّة واقع الموصلة لا تستلزم تقيّد المطلوب بالإيصال. (م).

١٠٤

القول بوجوب المقدّمة مطلقا أوصلت أم لا ، يجوز الدخول لكلّ من يجب عليه الإنقاذ ولو لم ينقذ ، بل ولو كان للتفرّج على القول بعدم اشتراط قصد التوصّل في اتّصاف المقدّمة بالوجوب ، ويقع هذا الدخول المحرّم في نفسه ـ لو لا طريان المقدّميّة عليه ـ على صفة الوجوب والمطلوبية.

ولا يخفى أنّ هذه ثمرة شريفة جيّدة كثيرا ما يقع الابتلاء بها في الفقه ، وأمّا بقيّة الثمرات التي ذكرت في المقام فكلّها غير مثمرة ، وعمدتها ما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ تبعا لصاحب الفصول (٢) ـ من فساد العبادة فيما إذا كان تركها مقدّمة لواجب أهمّ ، كترك الصلاة ، الّذي مقدّمة للإزالة على القول بوجوب المقدّمة مطلقا ، وأمّا على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط فلا يحكم بفساد العبادة.

بيان ذلك : أنّ ترك الصلاة ، الّذي هو واجب مطلقا يحرم نقيضه ، وهو الصلاة على القول بوجوب المقدّمة مطلقا ، فتكون منهيّا عنها ، فتفسد.

وأمّا على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فقط ، فالواجب هو الترك الخاصّ يعني ترك الصلاة ، المترتّب عليه الإزالة ، ونقيضه ترك هذا الترك الخاصّ ، لا الصلاة ، فلا تكون الصلاة منهيّا عنها ، فتصحّ.

وأورد (٣) عليه : بأنّ لهذا النقيض مصداقين وفردين أحدهما : الترك المجرّد ، والثاني : الصلاة ، فكما أنّ وجوب الترك المطلق يقتضي حرمة ما ينطبق نقيضه عليه وهو الصلاة ، كذلك يجب أن يكون وجوب الترك الخاصّ مقتضيا لحرمة ما ينطبق عليه نقيضه ، غاية الأمر أنّه في الأوّل واحد ، وفي الثاني

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٠.

(٢) الفصول : ٩٧.

(٣) المورد هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله. انظر مطارح الأنظار : ٧٨.

١٠٥

اثنان : الصلاة تارة ، والترك المجرّد أخرى ، إذ في كلتا الصورتين نفس النقيض لا يحكم بالحرمة حيث إنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، فالصلاة تكون مصداق النقيض في كلتا الصورتين لا نفسه ، فلا فرق.

وأجاب (١) ـ قدس‌سره ـ عنه بما حاصله بتوضيح منّا : أنّ نقيض الشيء ما يعانده وينافيه ، كما في وجود كلّ شيء مع عدمه ، ووجود التناقض بين الوجود والعدم من البديهيّات الأوّليّة ، وأوّل ما يدركه الإنسان عند بلوغه إلى مرتبة الإدراك والتميز هو تناقض وجوده مع عدمه ، وتعانده وتنافيه معه.

وما يقال في كتاب الحاشية وأمثاله من أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، مسامحة واضحة.

فعلى هذا يتّضح الفرق ، فإنّ نقيض الترك المطلق هو نفس الصلاة ، بخلاف نقيض الترك الخاصّ ، فإنّه قد تقرّر في مقرّه أنّه لا يمكن أن يكون للشيء الواحد نقيضان ، فلا يمكن القول بأنّ الصلاة والترك المجرّد نقيضان للترك الخاصّ ، فالنقيض هنا هو ترك الترك الخاصّ ، والترك المجرّد والصلاة يكونان من مقارناته ، ومن المعلوم أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن مقارنه ، فثبت الفرق بين القولين.

أقول : ما أفاده من الفرق في غاية الجودة لكن غير تامّ من جهة أخرى ، وهي ما سيأتي إن شاء الله من أنّ النهي الغيري لا يوجب فساد العبادة ، فلا تكون هذه أيضا كبقية ما ذكر من الثمرات ثمرة لهذا البحث ، وإنّما الثمرة المثمرة الكثيرة الفائدة هي ما ذكرنا. هذا تمام الكلام في المقدّمة الموصلة.

ومن تقسيمات الواجب : تقسيمه إلى الأصلي والتبعي.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥١.

١٠٦

وأفاد في الكفاية (١) أنّ هذا التقسيم ظاهرا يكون بالقياس إلى مقام الثبوت والواقع ـ بمعنى أنّ الشيء المطلوب إمّا أن يكون ملحوظا وملتفتا إليه تفصيلا أو ملحوظا إجمالا وارتكازا ، فالأوّل أصليّ والثاني تبعيّ ـ لا الإثبات بمعنى أنّ الشيء المطلوب إمّا مقصود بالتفهيم في مقام الإفادة مستقلّا ـ سواء كان الواجب نفسيّا أو غيريّا ـ وإمّا يكون مقصودا بالتفهيم تبعا والتزاما كذلك ، وذلك لأنّ التقسيم إن كان بالقياس إلى عالم الإثبات والدلالة ، لا يصير الحصر حاصرا ، إذ يكون هناك شقّ ثالث ، وهو ما لا يكون أصليّا ولا تبعيّا ، كما إذا لم يكن بعد مفاد خطاب ، بل ثبت وجوبه بالإجماع أو العقل [و] هذا بخلاف ما إذا كان التقسيم بالنسبة إلى مقام الثبوت ، فإنّ الحصر عليه حاصر ، غاية الأمر أنّ الواجب النفسيّ متمحّض على هذا (٢) في الأصليّة حيث إنّه مطلوب نفسا وله مصلحة مستقلّة ، فيتعلّق به طلب مستقلّ وإرادة مستقلّة كان هناك شيء آخر مطلوب أولا.

أقول : إن كان التقسيم بلحاظ حال اللحاظ والالتفات وأنّ الواجب إمّا ملحوظ تفصيلا أو إجمالا وارتكازا ، فلا يتفاوت الحال في النفسيّ والغيري ، وكما يجري هذا التقسيم في الواجب الغيري يجري في الواجب النفسيّ أيضا ، وهذا كما إذا غرق ولد المولى وهو غافل عنه ، فإنّ الإنقاذ حينئذ مطلوب نفسا ومراد مستقلّا في مقام الثبوت والواقع وتعلّق الشوق ، لكنّه غير ملحوظ تفصيلا ، بل لوحظ إجمالا وارتكازا.

والّذي يسهّل الخطب أنّ هذا التقسيم ليس له ثمرة أصلا ، كما لا يخفى ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٢.

(٢) وعلى الأوّل يجري فيه هذا التقسيم أيضا. (م).

١٠٧

ولعلّه لذلك أهمله شيخنا الأستاذ ، ولم يتعرّض له أصلا.

ثمّ إنّه على فرض ترتّب الثمرة عليه إذا شكّ في واجب أنّه أصليّ أو تبعيّ ، قال صاحب الكفاية (١) : إنّ مقتضى الأصل هو التبعيّة وعدم تعلّق التفات تفصيلي وإرادة مستقلّة بهذا الواجب.

وأورد عليه بعض (٢) مشايخنا ـ قدس‌سره ـ بأنّ الأصالة والتبعيّة إن كانت باعتبار تعلّق اللحاظ التفصيليّ والإجمالي بالواجب ، فمقتضى الأصل هو التبعيّة ، وإن كانت باعتبار تعلّق الإرادة الاستقلاليّة وعدمه به ، فمقتضى الأصل هو النفسيّة لا التبعيّة ، لأنّ الأصل عدم دخل الغير في مطلوبيّته ومحبوبيّته ، بل هو محبوب نفسا ومطلوب مستقلّا ، فيختلف الأصل باختلاف الاعتبارين.

هذا ، والتحقيق في المقام أنّ الأصل لا يثبت شيئا منهما بكلا الاعتبارين.

بيان ذلك : أنّ الموضوع إمّا من قبيل الموضوعات المركّبة التي لا ارتباط بين أجزائها من حيث اتّصاف أحدها بالآخر وعدمه ، وإنّما هو صرف الاجتماع في الزمان ، كما إذا قال المولى : «تصدّق بكذا إن مات زيد وقام بأمر الناس عمرو» أو ممّا يكون فيه ارتباط لكن ارتباط عدم الاتّصاف لا الاتّصاف بالعدم ، والقضيّة السالبة لا المعدولة. وبعبارة أخرى : العدم المحمولي لا النعتيّ ، كما إذا فرض أنّ العالم غير المتّصف بالفسق يجب إكرامه ، والمرأة غير المتّصفة بالقرشيّة تحيض إلى خمسين ، أو من قبيل ارتباط الاتّصاف بالعدم بأن يكون موضوع الحكم في المثالين العالم المتّصف بعدم الفسق ، والمرأة المتّصفة بغير القرشيّة ، فإن كان الموضوع المركّب من قبيل القسم الأوّل أو الثاني ، يجري فيه

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٣.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ١٥٨.

١٠٨

الأصل ، ويثبت الحكم بضميمة الوجدان ، وإن كان من قبيل الثالث ، فلا يجري الأصل ، فإنّه مثبت ، بمعنى أنّ استصحاب عدم الفسق وعدم القرشيّة لا يثبت اتّصافه بالعدم ، فإنّ ما له حالة سابقة هو عدم الاتّصاف بالفسق والقرشيّة ، وهو لا يفيد لإثبات الاتّصاف بعدم الفسق والقرشيّة. والمقام من هذا القبيل ، لأنّ التبعي بالاعتبار الأوّل هو ما يكون متّصفا بعدم كونه ملحوظا تفصيلا ، فأصالة عدم الاتّصاف بكونه ملحوظا تفصيلا لا يثبت التبعيّة بهذا الاعتبار ، وهو بالاعتبار الثاني ما يكون متّصفا بعدم كونه مرادا مستقلّا ، ومن المعلوم أنّ أصالة عدم كونه مرادا مستقلّا لا يثبت ذلك ، فيكون الأصل بكلا الاعتبارين مثبتا ، ولا يفيد لإثبات الأصليّة أو التبعيّة أصلا.

الكلام في ثمرة البحث عن وجوب المقدّمة.

وقد عرفت سابقا أنّه يترتّب على هذا البحث ثمرة عمليّة فقهيّة شريفة قابلة لأن تدوّن في الفقه ، وهي أنّه إذا توقّف واجب فعليّ على مقدّمة حرام ، كتوقّف إنقاذ الغريق على الدخول في الأرض المغصوبة ، فإن قلنا بعدم وجوب المقدّمة ، فيكون المقام من باب تزاحم التكليفين الإلزاميّين : حرمة الدخول ووجوب الإنقاذ ، فيجب الأخذ بالأهمّ منهما ، وهو الإنقاذ في المثال ، فيجوز الدخول للوصول إلى هذا الواجب بحكم العقل ، ولا يجوز الدخول لمجرّد التفريح والتفرّج حيث لا يحكم العقل بأزيد من ذلك.

وإن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة لا مطلقا ، فيكون المقام أيضا من باب التزاحم بين وجوب المقدّمة شرعا ، الثابت بحكم العقل وحرمتها الذاتيّة ، فيتّصف الموصلة منها بالوجوب ، لمكان أهمّيّة ذيها ، وعدم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة ، فلا يجوز أيضا الدخول لمجرّد التفرّج.

١٠٩

وإن قلنا بوجوب المقدّمة مطلقا ، فلا إشكال في جواز الدخول مطلقا سواء كان للإيصال أو لم يكن ، بل كان لمجرّد التفريح والتفرّج.

وهذه مسألة فرعيّة عمليّة يجب أن يجيب عنها الفقيه إذا سئل ، ولا تعلم إلّا بالبحث عن وجوب المقدّمة ، فأيّ ثمرة أحسن منها؟

وقد ذكرت ثمرات أخر لهذا البحث لا محصّل لشيء منها.

منها : ما أفاده في الكفاية (١) من استنتاج حكم كلّيّ فرعيّ ، وهو وجوب ما يتوقّف عليه الواجب شرعا بتشكيل قياس استثنائي بأن يقال : لو كانت الصلاة واجبة لكانت مقدّماتها واجبة ، للملازمة العقليّة بين الوجوبين ، لكن الصلاة واجبة ، فالمقدّمات أيضا واجبة ، أو بترتيب قياس اقتراني كبراه ما ثبت في هذا المبحث بأن يقال : الوضوء مقدّمة للصلاة الواجبة ، وكلّ مقدّمة الواجب واجب ، للملازمة بين الوجوبين عقلا ، فالوضوء واجب.

وفيه : أنّ وجوب المقدّمة حيث لا يكون مناطا لاستحقاق تاركها العقاب وفاعلها الأمن من العذاب ولا يكون فيه باعثية ومحرّكيّة غير ما يكون في ذيها ، لا يمكن أن يكون ثمرة لهذا البحث ، إذ لا يترتّب عليه أثر عمليّ ، فأيّ فائدة في العلم (١) بهذا الوجوب الّذي ليس له أثر عمليّ ، ولا يكون إثباته إثبات حكم كلّيّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٣.

(٢) هذا الإشكال يفيد في إنكار الملازمة ، وكلامنا في ثمرات القولين في الملازمة وعدمها ، وبعد قبول الملازمة أو فرضها لا مجال لهذا الإشكال ، فإنّ هذا نظير إنكار الحكم بإنكار الموضوع بعد قبوله.

وبعبارة أخرى : إنّ اللغوية المذكورة تستلزم عدم وجود الملازمة وعدم كشف وجوب المقدّمة ، الشرعي عقلا ، لا عدم ترتّب الثمرة على وجود الملازمة ، فإنّ كشف الوجوب الشرعي الكلّي ثمرة ، نعم لا ثمرة للمكشوف ، وعدم الثمرة للمكشوف أمر وعدمها للكاشف أمر آخر ، وكلامنا في الثاني دون الأوّل. (م).

١١٠

عمليّ يترتّب عليه تحريك عمليّ قابل لأن يعنون في الكتب الفقهيّة؟ إذ لا يبحث في الفقه عمّا لا أثر عمليّ فيه من الأحكام ، والشاهد على ذلك أنّه يعتبر في حجيّة الأمارات والأصول أن يكون لمؤدّاها أثر شرعيّ عمليّ ، وبدونه لا اعتبار بها ، ومن هنا لا تثبت طهارة كرة المرّيخ بقاعدة الطهارة ، كما لا يخفى.

ومنها : إمكان التقرّب بإتيان المقدّمات إن قلنا بوجوبها ، وعدمه إن قلنا بعدمه.

وفيه : ما ذكرنا سابقا من أنّ مناط حصول التقرّب وصيرورة الفعل قربيّا في المقدّمات قصد التوصّل إلى محبوب المولى وتحصيل رضاه ، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو لم نقل.

ومنها : أن يستنتج من هذا البحث صغرى لكبرى مسلّمة فقهيّة ، وهي أنّه إذا أمر أحد أحدا بعمل فعمل ، يستحقّ منه أجرة المثل ، فإذا ثبت وجوب المقدّمة وأنّها مأمور بها شرعا فإذا أتى العامل بالمقدّمات دون ذيها ، فيترتّب قياس ، ويقال : «هذه المقدّمات مأمور بها ، لثبوت الملازمة عقلا بين الأمرين ، وكلّ مأمور بعمل يستحقّ من الآمر أجرة المثل ، فيستحقّ هذا العامل أجرة المثل على عمل هذه المقدّمات.

وفيه : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ مدرك ضمان أجرة المثل إنّما هو المعاملة الضمنيّة الثابتة ببناء العرف والعقلاء والسيرة فيما إذا لم تكن قرينة حاليّة أو مقاليّة على المجّانيّة وبلا عوض ، بخلاف ما إذا قام قرينة على المجّانيّة ، كأمر أحد آخر بسقي الماء بقوله : «جئني بالماء لأشربه» فإنّه لا يكون ضمان في هذه الصورة ، لانتفاء بناء العرف وعدم جريان السيرة ، فحينئذ إن كانت المقدّمات ممّا جرت السيرة العقلائية على عدم مجّانيّتها ، فيستحقّ العامل بها أجرة المثل ،

١١١

قلنا بوجوب المقدّمة أو لم نقل ، وإن لم تجر السيرة على الضمان واللامجّانيّة ، فلا يستحقّ ، قلنا بوجوب المقدّمة أولا ، فالمدار في الضمان وعدمه هو بناء العرف والعقلاء على اللامجّانية وعدمه ، ولا ربط له بوجوب المقدّمة وعدمه ، فلا يمكن أن يكون هذا أيضا ثمرة لهذا البحث.

ومنها : أنّه إذا نذر أحد أن يعطي درهما لمن يأتي بواجب ، فإن قلنا بوجوب المقدّمة ، يحصل البرّ فيما إذا أعطى لمن يأتي بمقدّمات الواجب ، وإن قلنا بعدمه ، فلا يحصل البرّ بذلك.

وفيه : أنّ ثمرة المسألة الأصوليّة وما يستنتج منها يجب أن تكون حكما كلّيّا فرعيّا من وجوب شيء أو حرمة شيء أو غير ذلك ، ومن المعلوم أنّ مثل حصول برّ النذر ليس إلّا مصداق الحكم الكلّي ، المعلوم لنا ، المتعلّق بالنذر ، وهو وجوب الوفاء. وتحقّق الوفاء وعدمه لا يمكن أن يكون ثمرة للمسألة الأصوليّة ، ولو كان مثل هذه ثمرة للمسألة الأصولية ، لكان أكثر مسائل العلوم مسألة أصولية إذا ظهر ثمرة في النذر وكان يبحث في الأصول عن أنّ العبّاسي هل يكون مصداقا للسيّد أم لا؟ بدعوى ظهور الثمرة في النذر.

ومنها : تحقّق الفسق بترك واجب له مقدّمات إن قلنا بوجوبها ، لتحقّق الإصرار ، وعدمه إن لم نقل.

وفيه : أوّلا : أنّه لا يكون قابلا لأن يكون ثمرة له ، إذ مفهوم الكبيرة والصغيرة (١) معلوم من الشرع ، والمسألة الأصوليّة أجنبيّة عن تعيين مصاديقهما.

وثانيا : أنّ الإصرار على الصغيرة إن كان المراد منه هو التكرار ـ بأن

__________________

(١) إذا كان ذو المقدّمة ومقدّماته كلّها صغائر شرعا ، فعلى القول بالوجوب يتحقّق الإصرار ، وعلى عدمه لا يتحقّق ، وليس الكلام في تعيين الكبيرة والصغيرة بالملازمة وعدمها ، فلا مجال لهذا الإشكال في المقام. (م).

١١٢

يعصي مرّة ثم يعصي مرّة أخرى ، كما هو الظاهر ـ فمن المعلوم أنّ المقام ليس من هذا القبيل ، إذ لم تتحقّق المعصية الصغيرة من تارك الواجب إلّا مرّة واحدة ، إذ بترك إحدى المقدّمات امتنع عليه إتيان الواجب ، فمرّة واحدة تحقّق منه عصيانات متعدّدة ، كالنظر مرّة واحدة بأجنبيّات متعدّدة ، ولا تكرّر فيها أصلا.

وإن كان المراد من الإصرار هو التعدّد ، سواء كان مرّة واحدة أو مرّات عديدة ، فلا يفيد أيضا ، لما ذكرنا سابقا من أنّ ترك الواجبات الغيريّة لا يكون مبعّدا وموجبا للفسق زائدا على مبعّديّة الواجب النفسيّ وموجبيّته للفسق ، فعلى القول بوجوب المقدّمة وإن ترك واجبات متعدّدة إلّا أنّ المعصية واحدة ، وليست بمتعدّدة ، فليست هذه الثمرة أيضا بثمرة.

ومنها : عدم جواز أخذ الأجرة عليها إن قلنا بوجوبها ، والجواز إن قلنا بعدمه.

وفيه : أنّ وجوب الشيء لا يكون مانعا من جواز أخذ الأجرة عليه ما لم يعلم من دليل الوجوب أنّه وجب مجّانا وأراد المولى وألزم المكلّف عليه مشروطا ، بأن لا يأخذ الأجرة بإزائه ، وكثير من الواجبات الكفائية من هذا القبيل ، كالخياطة والطبابة والصياغة وغير ذلك ممّا لا إشكال في جواز [أخذ] الأجرة عليها مع أنّها ممّا يجب كفاية ، لاختلال النظام بدونها.

نعم ، العباديّة مانعة ـ على قول المشهور ـ من جواز أخذ الأجرة على العبادة ، ولكن لا ربط له بالمقام ، إذ المانعيّة ثابتة في المقدّمات العبادية سواء قلنا بوجوبها أم لا.

ومنها : صحّة المقدّمة العبادية إن كانت محرّمة ، كالوضوء في الدار الغصبيّة ـ على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ إن قلنا بوجوب المقدّمة ،

١١٣

وبطلانها إن لم نقل بوجوبها ، أو قلنا بالوجوب ولم نقل بجواز اجتماع الأمر والنهي.

وقد أورد عليه في الكفاية (١) بوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ عنوان المقدّمة حيثيّة تعليليّة لا تقييديّة ، فالمأمور به على القول بالملازمة هو ذات المقدّمة وما يكون بالحمل الشائع مقدّمة ، لا عنوان المقدّمة ، وحينئذ فالمقام من باب النهي في العبادة أو المعاملة ، لا من باب اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ ذات المقدّمة محرّمة ، وهي بعينها أيضا مأمور بها على الملازمة ، فالنهي تعلّق بذات المقدّمة التي تكون عبادة بمقتضى الملازمة.

أقول : هذا الإيراد غير وارد ، إذ المقدّميّة وإن كانت حيثيّة تعليليّة لا تقييديّة فتكون ذات المقدّمة مأمورا بها إلّا أنّ الواجب على ذلك إنّما هو طبيعيّ المقدّمة لا خصوص الفرد المحرّم منها ، والنهي المتعلّق بهذا الفرد ليس بعنوان المقدّميّة حتى يكون من قبيل النهي في العبادة ، بل بعنوان آخر ، كالغصب وغيره.

مثلا : الوضوء في الدار الغصبيّة مأمور به من جهة كونه مقدّمة بالحمل الشائع ، ومنهيّ عنه من جهة صدق عنوان الغصب ، وهذا بعينه هو اجتماع الأمر والنهي في أمر واحد شخصي من جهتين.

الثاني : أنّه لا يلزم الاجتماع على تقدير كونه من هذا الباب ، لأنّ المقدّمة المحرّمة إمّا منحصرة أو لا ، فعلى الثاني يختصّ الوجوب بالمباحة ، لأنّ الوجوب بحكم العقل ، وهو لا يحكم أزيد من هذا المقدار ، وعلى الأوّل يكون من باب التزاحم ، فإمّا أن تسقط الحرمة من المقدّمة إن كان وجوب ذيها أهمّ ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٥.

١١٤

أو يسقط الوجوب وتثبت الحرمة لها إن كانت الحرمة أهمّ ، أو يتخيّر بينهما إن لم يكن ترجيح في البين ، فلا يجتمع الأمر والنهي في المقام بوجه من الوجوه.

وهذا الوجه مضروب عليه في بعض نسخ الكفاية ، وحكي عن بعض تلامذته أنّه ـ قدس‌سره ـ عدل عن ذلك في مجلس الدرس ، لعدم تماميّته عنده حيث إنّ الملازمة عقليّة ، ومناط حكم العقل ليس إلّا إمكان التوصّل بذي المقدّمة ، وهو موجود في المحرّم منها والمباح منها ، ولا خصوصيّة لأحدهما موجبة لعدم ترشّح الوجوب ، وإنّما يقال باختصاص الوجوب بها من باب الاجتماع ، لا عدم حكم العقل أزيد من هذا المقدار.

الثالث : أنّ الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصّل بالمقدّمة المحرّمة وعدمه أصلا.

بيان ذلك : أنّ المقدّمة إمّا توصّليّة أو تعبّديّة ، فإن كانت توصّليّة ، فيمكن التوصّل بها إلى ذيها ، قلنا بجواز الاجتماع أو لم نقل به ، وإن كانت تعبّديّة ، فحيث عرفت أنّ العباديّة في المقدّمات العباديّة والطهارات الثلاث ليست من ناحية الأمر الغيري ، بل تكون من ناحية الأمر النفسيّ المتعلّق بها ، وعلى ما قرّبناه سابقا من إضافته إلى المولى ، فعلى القول بجواز اجتماع الأمر النفسيّ والنهي الذاتي يمكن التوصّل بها ، قلنا بوجوبها الغيري أو لم نقل ، وعلى القول بالامتناع لا يمكن ، قلنا بوجوبها أو لا.

وهذا الإشكال متين جدّاً وإن لم يكن الإيرادان السابقان بواردين.

فظهر أنّ شيئا من هذه المذكورات لا يمكن أن يكون ثمرة لهذا البحث ، والثمرة المثمرة (١) هي التي ذكرناها.

__________________

(١) كذا.

١١٥

الكلام في تأسيس الأصل في المقام ثم في الأدلّة الاجتهاديّة الدالّة على وجوب المقدّمة ، فهنا مقامان.

الأوّل : في مقتضى الأصول العمليّة ، وهو إمّا بالنسبة إلى المسألة الأصوليّة ، وإمّا بالنسبة إلى المسألة الفقهيّة.

ولا ريب في عدم جريان الأصل بالنسبة إلى الأولى ، وهي ثبوت الملازمة بين الوجوبين وعدمه ، وذلك لأنّ الملازمة إن كانت ثابتة ، فهي ثابتة أزلا وأبدا ، وليس لها حالة سابقة لا العدم المحمولي ولا النعتيّ حتى تستصحب.

وأمّا بالقياس إلى الثانية ـ وهي وجوب المقدّمة وعدمه ـ فالتزم صاحب الكفاية (١) بجريان الاستصحاب ، إذ الوجوب أمر حادث حدث بوجوب الغير ومسبوق بالعدم ، فتشمله أدلّة الاستصحاب والبراءة ، فيثبت بها عدمه عند الشكّ.

وقد ذكر أمور توهّم مانعيّتها عن التمسّك بالأصل هنا.

الأوّل : ما أشار إليه في الكفاية (٢) وحاصله : أنّ الأصول تجري عند الشكّ في الوقوع وعدمه بعد الفراغ عن إمكان طرفيه ، ولا تجري في صورة احتمال استحالة أحد طرفيه ، ومن الواضح أنّ الملازمة الواقعية في المقام مشكوكة لنا ، ونحتمل استحالة انفكاك الوجوب عن المقدّمة ، لمكان احتمال التلازم الذاتي ، ومع ذلك لا مجال لجريان الأصول والتعبّد بعدم الوجوب.

وأجيب عنه بما حاصله : أنّه بضمّ الوجدان إلى الأصل نستكشف عدم ثبوت الملازمة بين الوجوبين ، إذ وجوب ذي المقدّمة وجداني لنا ، والأصل

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٦.

(٢) نفس المصدر.

١١٦

عدم وجوب المقدّمة ، فينتج عدم ثبوت الملازمة ، فيدفع احتمال التلازم الواقعي بذلك.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بأنّه يدفع الملازمة بين الوجوبين الفعليّين لا الواقعيّين ، والنزاع لا يكون في مقام الفعليّة حتى لا يصحّ التمسّك بالأصل ، بل في مقام الإنشاء والواقع.

ولا يخفى أنّ ما ذكره ـ قدس‌سره ـ بظاهره مخدوش ، فإنّ من الواضح أنّ النزاع ليس في مقام الإنشاء ، بل النزاع ـ على ما يظهر من بعض نسخ الكفاية من عطف الإنشاء على الواقع ـ في مقام الفعلية والبعث والتحريك ، وأنّه هل تكون الملازمة بين البعثين والتحريكين والطلبين الفعليّين أم لا؟

ويمكن توجيه كلامه ـ قدس‌سره ـ بأنّ جريان الأصل لإثبات عدم الوجوب في مرتبة التنجّز لا ينافي التلازم بحسب الواقع ومقام الفعليّة. وكيف يمكن إثبات عدم التلازم في مقام الفعليّة بجريان الأصل في مقام التنجّز ومرتبة الوصول!؟ وأين هذا من ذلك؟

والتحقيق في الجواب أنّ احتمال الاستحالة في الواقع في مورد لا يكون مانعا للتعبّد بأحد طرفيه ، وذلك لأنّ بناء العقلاء وسيرتهم على العمل بالظهورات ما لم تنكشف استحالة مؤدّاها ، فلو أمر المولى عبده باشتراء اللحم مثلا واحتمل العبد عدم قدرته ، لا يعذر عند المخالفة ، وليس له حجة على المولى إلّا بعد الإقدام على العمل والامتثال وانكشاف الاستحالة وعدم القدرة ، ولذا قلنا بأنّه لو لم نقدر على جواب شبهات ابن قبة واحتملنا عدم معقوليّة التعبّد بالظنّ ، لا يضرّ مع ذلك بالحجّيّة ، ويأتي تفصيل الكلام إن شاء الله في بحث خروج أطراف العلم الإجمالي عن طرف الابتلاء.

١١٧

فظهر ممّا ذكرنا أنّ احتمال الاستحالة لا يصلح للمانعيّة ، بل المانع هو ثبوت الاستحالة ، وعلى فرض كون الاحتمال أيضا مانعا في المرتبة الفعلية والواقع لا يضرّ بجريان الأصل في مرتبة الوصول والتنجّز والحكم الظاهري.

الثاني : أيضا ما أشار إليه في الكفاية (١) من أنّ وجوب المقدّمة من قبيل لوازم الماهيّة ، ولا يمكن تعلّق الجعل به ، فلا يمكن رفعه بالأصل كما لا يمكن وضعه.

وأجاب عنه ـ قدس‌سره ـ بأنّه وإن لم يكن مجعولا مستقلّا لا جعلا بسيطا ـ الّذي هو مفاد «كان» التامّة وجعل الشيء كخلق السماوات ـ ولا مركّبا ـ الّذي هو مفاد «كان» الناقصة وجعل الشيء شيئا كجعل الرّجل أميرا ـ إلّا أنّه مجعول تبعا لجعل وجوب ذي المقدّمة ومن لوازمه ، فيكون تحت القدرة بالواسطة ، ويمكن جعله بواسطة جعل ذي المقدّمة ، فله أن يجعله وأن لا يجعله.

أقول : ما أفاده من إمكان تعلّق الجعل بلوازم الماهيّة ، لأنّها مقدورة بالواسطة ، متين لا ريب فيه كبرى.

وأمّا تسليم أنّ الوجوب في المقام من قبيل لوازم الماهيّة وصغرى لتلك الكبرى المسلّمة فممنوع ، إذ لازم الماهيّة إمّا يطلق على خارج المحمول ، كالإمكان بالنسبة إلى الإنسان الّذي لم يكن شيء بإزائه في الخارج ، وإمّا يطلق على لازم جميع الوجودات في أيّ وعاء كان ، كالزوجيّة للأربعة ، ومن المعلوم أنّ وجوب المقدّمة ليس من قبيل شيء منهما ، بل هو معلول لوجوب ذيها ، كما أنّ الحرارة معلولة لوجود النار ، فوجوب المقدّمة ووجوب ذيها وجودان مستقلّان في الخارج غاية الأمر أنّ أحدهما يتبع الآخر بوجوده الواقعي ، فهو

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٦.

١١٨

من لوازم الوجود الخارجي لا الماهيّة.

هذا ، والتحقيق أنّه لا تجري الأصول في المقام بوجه ، وذلك لأنّ جريان البراءة العقليّة لقبح العقاب بلا بيان ، وقد عرفت أنّه لا يترتّب على ترك المقدّمات عقاب أزيد من العقاب المترتّب على ذي المقدّمة. وحديث الرفع في البراءة الشرعية في مقام الامتنان ، ومن الواضح أنّه لا منّة في رفع مثل هذا الوجوب الّذي لا يترتّب على تركه العقاب ، مضافا إلى أنّ الرفع ـ بعد حكم العقل بوجوب الإتيان للوصول إلى الواجب النفسيّ ـ لغو لا يترتّب عليه أثر.

وأمّا الاستصحاب فلا يجري إلّا في حكم شرعي أو موضوع ذي حكم شرعي ، والكلّ منتف في المقام ، لأنّ عدم الوجوب لا حكم شرعي ولا ذو حكم شرعي ، وأيّ ثمرة في إثبات عدم الوجوب شرعا للمقدّمة؟

المقام الثاني : في الأدلّة الاجتهادية ، واستدلّ لوجوب المقدّمة شرعا بوجوه :

الأوّل : ما أفاده شيخنا (١) الأستاذ من أنّ الإرادة التشريعيّة عين الإرادة التكوينيّة ، والفرق أنّ الثانية تتعلّق بفعل نفسه والأولى بفعل غيره ، فكما أنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بمقدّمات الفعل تبعا لإرادة الفعل ـ كإرادة المشي إلى السوق مقدّمة لاشتراء اللحم وتبعا لإرادته ـ كذلك إذا أمر المولى عبده باشتراء اللحم ، فيترشّح من هذه الإرادة إرادة أخرى متعلّقة بالمشي إلى السوق ، فيريد من عبده المشي إلى السوق.

وفيه : ما تقدّم من الفرق بين الإرادتين وأنّ متعلّق الإرادة التكوينيّة فعل نفسه ، فلا يمكن الوصول إلى المراد الأصلي إلّا بإرادة ما يتوقّف عليه ، وأمّا

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣٠.

١١٩

متعلّق الإرادة التشريعيّة فهو فعل العبد ، ويمكن للمولى الوصول إلى المراد بإيجاب ذي المقدّمة على العبد وإرادته ، وأمّا إرادة المقدّمات فلا ربط لها بالمولى ، وإنّما هي من توابع إرادة العبد ، فحيث إنّ العبد لا يصل إلى مراد مولاه إلّا بإتيان تلك المقدّمات فالعقل يحكم بإتيانها تحصيلا لغرض المولى ، فاللزوم عقليّ لا شرعيّ يكشفه العقل.

الثاني : ما أفاده صاحب الكفاية (١) من أنّا إذا راجعنا إلى أنفسنا نرى أنّ الإنسان إذا أراد شيئا أراد مقدّماته لو التفت إليها ، ولذا ربما يجعلها في حيّز الطلب ويقول : «ادخل السوق واشتر اللحم».

وفيه : أنّ الكلام ليس في الأمر النفسانيّ الّذي هو الشوق والحبّ ، بل الكلام في الوجوب الّذي هو اعتبار اللابدّيّة وجعل شيء على عاتق العبد ، وأنّه هل تعلّق بالمقدّمة كما تعلّق بذيها أم لا؟ وإلّا لا معنى للنزاع في الأمر النفسانيّ ، إذ هو ليس قابلا للوضع والرفع. ومن الواضح أنّ الوجدان شاهد على خلافه.

الثالث : ما أفاده في الكفاية (٢) أيضا من وجود الأوامر الغيريّة المولويّة ، كالأمر بالوضوء والغسل وغير ذلك. وهذا دليل على وجود مناط الأمر الغيري في جميع المقدّمات ، إذ لا فرق في البين.

وفيه : ما تحقّق في محلّه من أنّ الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط كلّها إرشاد إلى الجزئية والشرطيّة والمانعيّة ، فهي أوامر إرشاديّة لا مولوية.

الرابع : ما عن أبي الحسن البصري (٣) من أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وحينئذ لو بقي الواجب على وجوبه ، يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٦.

(٢) كفاية الأصول : ١٥٧.

(٣) نفس المصدر.

١٢٠