الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

وشيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ أنكر لزوم تصوير الجامع ، والتزم بأنّ الموضوع له للفظ «الصلاة» مثلا هي المرتبة العالية من الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط ، وإطلاق لفظ «الصلاة» على غيرها من المراتب مبنيّ على تنزيل الفاقد منزلة الواجد في الأفراد الصحيحة ، وعلى المسامحة من باب المشابهة والمشاكلة في الصورة في الأفراد الفاسدة (١).

وما أفاده ـ قدس‌سره ـ مخدوش :

أوّلا : بأنّ المرتبة العالية أيضا لها مراتب ، فإنّها من الحاضر في صلاة الظهر أربع ركعات ، ومن المسافر ركعتان ، وفي صلاة المغرب ثلاث ركعات ، وفي صلاة الآيات ذات عشر ركوعات ، وفي صلاة الأعرابي ذات اثنتي عشرة ركعة وهكذا ، فبالأخرة لا بدّ من تصوير الجامع بين هذه الأفراد ، فما وجه إنكاره؟

وثانيا : بأنّ لازم ذلك أن يكون استعمال لفظ «الصلاة» في غير المرتبة العالية من المراتب استعمالا مجازيا ، ونحن نرى بالوجدان عدم التفاوت بين موارد استعمالاته ، فنحمل ونطلق لفظ «الصلاة» على الفاقدة بلا عناية ولا علاقة ، كإطلاقه على الواجدة بلا تفاوت أصلا.

ثمّ إنّ المراد من الصحيح ـ الّذي هو محلّ الكلام في أنّه موضوع له أو لا ـ ليس الصحيح من جميع الجهات حتى الجهات

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦.

٨١

المتأخّرة عن المسمّى قطعا ، بل المراد الصحيح من حيث الأجزاء والشرائط.

وأمّا الصحيح من حيث عدم النهي أو عدم المزاحم أو قصد عنوان المأمور به كعنوان الصلاة فلا معنى (١) لوقوع البحث فيه ، إذ هذه جهات متأخّرة عن المسمّى ، ولا بدّ من فرض ما يسمّى بالصلاة ، وفرض نهي متعلّق به أو مزاحم له وقصد عنوانه ، فكلّ ذلك خارج عن المسمّى ولا معنى لأخذه فيه ، ولذا يبحث الصحيحي أيضا عن جواز اجتماع الأمر والنهي ، وعن أنّ النهي عن العبادة موجب لفسادها أو لا؟ فلو كان المراد من وضعها للصحيح وضعها للصحيح حتّى من هذه الجهات ، لم يكن لهذه المباحث مجال أصلا ، كما لا يخفى.

وبعد ذلك يقع [الكلام] في تصوير الجامع ، وما قيل في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة وجوه :

الأوّل : ما أفاده في الكفاية (٢) ، وحاصله : أنّ الصلاة الصحيحة مثلا بتمام أفرادها تشترك في خاصّية وأثر ، واشتراكها في الأثر الواحد يكشف عن اشتراكها في جامع واحد به يؤثّر فيه ، وبما أنّ

__________________

(١) إن قلنا بالوضع للأعمّ ، فهو ، وإن قلنا بالوضع للصحيح ، فالموضوع له هو الصحيح مطلقا لا الصحيح من حيث الأجزاء والشرائط ، فالتفكيك بين شرائط الصحّة لا وجه له ، فإنّ القول بالصحيح معناه التساوي بين الصحيح والمأمور به ، والمأمور به ما هو الصحيح من جميع الجهات. (م).

(٢) كفاية الأصول : ٣٩.

٨٢

الواحد بما هو واحد لا يصدر إلّا من الواحد ، فيمكن أن يشار إلى ذلك الجامع إجمالا بأثر النهي عن الفحشاء ووضع اللفظ بإزائه ، فيكون لفظ «الصلاة» موضوعا لما يكون ناهيا عن الفحشاء.

وما أفاده غير تامّ من وجوه :

أمّا أوّلا : فلأنّ المراد ممّا يكون ناهيا عن الفحشاء لو كان ما يكون ناهيا بالفعل ، فلازمه أخذ الجامع بين الأفراد الصحيحة من جميع الجهات حتّى الجهات المتأخّرة عن المسمّى ، وقد عرفت فساده ، وأنّه خارج عن محلّ الكلام ، وإنّما الكلام ، في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة من حيث الأجزاء والشرائط.

وإن كان المراد ما يكون ناهيا عن الفحشاء بالقوّة ، بمعنى أن يكون قابلا لذلك لو انضمّ إليه غير ما أتى به ممّا له دخل في ترتّب هذا الأثر ، فهذا بعينه هو الجامع الأعمّي ، إذ الصلاة عن جلوس قابلة للنهي عن الفحشاء ، غاية الأمر من العاجز عن القيام ، والصلاة مع الإيماء قابلة لذلك أيضا ، لكن لا من هذا الشخص ، بل ممّن لا يقدر على الركوع والسجود ، وهكذا.

وأمّا ثانيا : فلو أنّ الجامع المتصوّر لا يمكن أن يكون أمرا مركّبا ، كما اعترف به ـ قدس‌سره ـ ، إذ كلّ ما فرضناه جامعا إذا زيد [عليه] أو نقص عنه شيء يكون فاسدا ، فلا بدّ أن يكون بسيطا ، ومن المعلوم أنّ الصلاة الواحدة مركّبة من مقولات متعدّدة ، فإنّ النيّة ـ أعني قصد الفعل لا قصد الأمر ـ من مقولة الكيف النفسانيّ ،

٨٣

والقراءة من مقولة الكيف المسموع ، والركوع من مقولة الوضع ، والمقولات أجناس عالية لا يمكن تصوير الجامع الحقيقي بينهما ، فلا يتصوّر الجامع الحقيقي بين أجزاء صلاة واحدة ، فكيف بين جميع الأفراد الصحيحة على اختلاف مراتبها ، فإذا لم يمكننا تصوّر جامع يكون هو مؤثّرا في النهي عن الفحشاء في جميع الصلوات على اختلافها ، لا بدّ من حمل قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) على أحد وجوه ثلاثة : إمّا على أنّ كلّ جزء من أجزاء الصلاة من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وغير ذلك يوجب سنخا خاصّا من النهي عن الفحشاء في حال انضمامه مع غيره مغايرا للآخر ، أو أنّ الصلاة بما أنّها مشروطة بشرائط من طهارة البدن واللباس وإباحة المكان واللباس وغير ذلك ، فلا بدّ لمن يريد الصلاة صحيحة [من] أن يجتنب عن النجاسات ، وأن لا يغصب أموال الناس ، ويخرج حقوق الفقراء من أمواله حتى لا يبتلى بالصلاة في اللباس النجس والمغصوب أو المتعلّق لحقّ الفقراء ، فكون الصلاة ناهية عن الفحشاء باعتبار أنّ المصلّي لا بدّ له في إحراز صحّة صلاته [من] أن يجتنب عن كثير من المحرّمات حتى لا يقع في محذور فقدان ما له دخل في صحّتها ، أو أنّ الصلاة حيث إنّها مقرّبة للعبد وموجبة لكمال النّفس تصير سببا لارتقاء النّفس بمرتبة تأبى عن الفحشاء والمنكر.

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

٨٤

وثالثا لو فرضنا وجود جامع حقيقي بين أفراد الصلاة مع كونها لا تدخل تحت مقولة واحدة ، فهو ممّا لا يفهمه عامّة الناس ، بل أمر دقّي يلتزم به من باب أنّه لا يمكن أن يصدر الواحد من المتعدّد ، والجامع الّذي هو محلّ البحث هو الجامع العرفي الّذي يعرفه كلّ عربيّ : البدوي والقروي والمدني ، لا ما لا يصل إليه إلّا الأوحدي من الناس.

الوجه الثاني : ما أفاده بعض المحقّقين (١) من أنّ الجامع الماهوي وإن كان لا يعقل بين أفراد الصلاة ، الصحيحة إلّا أنّ الجامع الوجوديّ يمكن تصويره ، فإنّ جميع أفراد الصلاة على اختلاف مراتبها كمّا وكيفا تشترك في حقيقة الوجود.

وما أفاده من الغرائب ، فإنّ هذه الألفاظ أسام للماهيات لا الوجودات ، فالصلاة اسم لماهيّة خاصّة تتّصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى ، فيقال : صلّى زيد ولم يصلّ عمرو مثلا ، ولذا ترتّب أحكام على نفس الطبيعي بما هو.

هذا ، مع أنّ الجامع الوجوديّ بين الأفراد الصحيحة من الصلوات الموجودة على اختلافها كمّا وكيفا لا يتصوّر إلّا حقيقة الوجود ، التي لا تختصّ بموجود دون آخر ، ويشترك فيها جميع موجودات العالم حتى وجود الباري عزّ اسمه ، وليس هناك وجود

__________________

(١) هو صاحب المقالات آقا ضياء العراقي ، راجع مقالات الأصول ١ : ١٤٢ ، ونهاية الأفكار ١ : ٨٢.

٨٥

حقيقي خاصّ مشترك بين خصوص أفراد الصلاة دون غيرها من الموجودات حتى يكون هو المسمّى بلفظ «الصلاة».

الوجه الثالث : ما أفاده بعض (١) مشايخنا المحقّقين من أنّ الماهيّات بحسب وضع اللفظ بإزائها على قسمين :

قسم تؤخذ مهملة من حيث الطوارئ والعوارض ومعيّنة من حيث الذات ، وهذا كماهيّة الإنسان ، فلوحظ في مقام الوضع ذات حيوان ناطق ، ولم يلاحظ فيها شيء من الطوارئ من الطول والقصر وكونها أصغر أو أكبر ذا رأس أو رأسين ورجل أو رجلين وهكذا ، فوضع لفظ الإنسان بإزائها.

وقسم آخر تؤخذ مهملة من حيث الذات ومعيّنة من حيث بعض الطوارئ ، وهذا كلفظ «الغداء» و «العشاء» فإنّ لفظ «الغداء» وضع لما يؤكل في وقت الظهر أو قبيله أو بعيده ، وأمّا كون المأكول خبزا أو أرزا أو غير ذلك فشيء منها لم يؤخذ في مفهومه.

وهكذا لفظ «عشاء» فإنّه اسم لما يؤكل في وقت العشاء أيّا ما كان.

ومن هذا القبيل لفظ «الخمر» فإنّه وضع لما يخمر ويستر العقل من جهة إسكاره سواء اتّخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو غير ذلك.

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١٠١ ـ ١٠٢.

٨٦

فبناء على ذلك من الممكن أن يكون لفظ «الصلاة» من هذا القبيل بمعنى أن يكون موضوعا لماهيّة معرّفها فريضة الوقت أو الناهي عن الفحشاء ، وتكون من غير هذه الجهة مهملة ، كانت ذات ركعة أو ركعتين أو أكثر ، قائما أو قاعدا ، مع السورة أو بلا سورة ، وهكذا ، فكما يكون لفظ «غداء» موضوعا لما يتغذّى به في وقت الظهر كذلك لفظ «الصلاة» يكون موضوعا لعبادة يؤتى بها في أوقات معيّنة ، وأثرها النهي عن الفحشاء ، غاية الأمر أنّ هذا معجون إلهي يتغذّى به الروح وذاك غذاء للبدن. هذا حاصل ما أفاده.

وفيه أوّلا : أنّ لازم ذلك أن يكون لفظ «الصلاة» مرادفا للفظ فريضة الوقت والناهي عن الفحشاء إن كان من قبيل الوضع العامّ والموضوع له العامّ ، نظير وضع المشتقّات على ما سيجيء إن شاء الله تعالى من أنّ التحقيق أخذ ذات ما في مفهوم المشتقّ ، وهو باطل بالوجدان.

وإن كان من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فلازمه أن يكون استعمالها في الجامع مجازا ، مع أنّا لا نرى تفاوتا بين قولنا : «زيد صلّى» وقولنا : «الصلاة تنهى عن الفحشاء».

الوجه الرابع : ما أفاده بعض المدقّقين من أنّ من الأفعال ما ليس له إلّا عنوان واحد ، كالأكل والشرب والمشي. ومنها ما يعنون بعنوان عرضي غير عنوانه الذاتي نسمّيه بالمسبّب

٨٧

التوليدي أو العنوان الثانوي ، وهذا كعنوان التعظيم والهتك والاستهزاء والإرشاد وأمثال ذلك ، والعناوين الأوّليّة لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، فالقيام بعنوانه الأوّلي قيام عند الكلّ ، ولكنّ العناوين الثانويّة تختلف ، فيكون التعظيم عند قوم بالقيام ، وعند آخرين برفع القلنسوة عن الرّأس ، وعند طائفة أخرى بشيء آخر.

ثمّ إنّ الملك العرفي له أن يعيّن لرعيّته ـ كلّ بحسب حاله ـ تعظيما خاصّا ، فيقول مثلا : تعظيم الوزير عندي هكذا ، والفقير هكذا ، وفي وقت الصبح كذا والظهر كذا ، وهكذا ، فإذا دخل أحد على الملك في وقت الظهر وفعل ما جعله الملك مصداقا لتعظيمه في وقت الصبح لا غير ، فلم يعظّمه ، وهكذا الوزير إذا عظّمه بما يعظّم الفقير ، لم يعظّمه أيضا.

وبعد ذلك نقول : إنّ لفظ «الصلاة» وضع لمعناه اللغوي الّذي هو العطف والميل والرغبة ، غاية الأمر أنّ ملك الملوك جعل مصداق العطف فعلا خاصّا ، وجعل في وقت الصّبح ركعتين ، وفي الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات للحاضر ، وركعتين للمسافر ، وفي المغرب ثلاث ركعات مطلقا ، وللعاجز عن القيام جالسا ، وللعاجز عن الجلوس أيضا مضطجعا ، وهكذا ، فعنوان الصلاة نظير عنوان التعظيم يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأوقات والحالات بحسب تعيين ملك الملوك ، كما أنّ عنوان التعظيم يمكن

٨٨

أن يختلف كذلك بتعيين الملك العرفي.

وهذا الوجه وإن كان له وجاهة صورة إلّا أنّه أيضا كسابقه ، فإنّ لازمه أن يكون لفظ «الصلاة» مرادفا للفظ «العطف» إن كان من قبيل الوضع العامّ والموضوع له العامّ.

وأيضا لازمه أن لا يجوز التمسّك بالبراءة في الأقلّ والأكثر ، إذ المأمور به على هذا عنوان العطف الّذي هو كعنوان التعظيم مسبّب توليدي ، ومن المعلوم أن لا مجال في مثل ذلك للتمسّك بالبراءة ، فإنّه من الشكّ في الامتثال بعد العلم بالتكليف المقتضي للاشتغال.

مثلا : لو أمرنا بتعظيم عالم مثلا ، وشككنا في صدق التعظيم بمجرّد القيام ، لا يجوز لنا الاقتصار عليه في مقام امتثال هذا الأمر ، بل لا بدّ من ضمّ ما يعلم بتحقّق هذا العنوان ، إلى القيام.

وهكذا لو أمرنا بقتل أحد وشككنا في تحقّقه بضربة السيف مرّة واحدة ، ليس لنا الاقتصار عليها.

وإن كان من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ففيه ـ مضافا إلى أنّه خلاف الوجدان كما مرّ آنفا ـ أنّا لا شغل لنا بمعرفة مسمّى لفظ «الصلاة» أو غيره من ألفاظ العبادات إلّا التمسّك بالإطلاقات على تقدير وضعها للأعمّ ومن المعلوم أنّه لو كان الموضوع له خاصّا لا يمكننا التمسّك بالإطلاق ، إذ المفروض عدم وضع لفظ «الصلاة» لمفهوم العطف حتى يتمسّك بإطلاق (أَقِيمُوا

٨٩

الصَّلاةَ) ونحوه لرفع جزئية ما نشكّ في جزئيّته لها بعد إحراز صدق المسمّى بالصلاة عليه ، بل وضع للأفراد الخارجيّة ، والصلاة بلا سورة مشكوك المصداقية لعنوان الصلاة ، نعني لا نعلم بوضع لفظ «الصلاة» لهذا أيضا.

وبالجملة لم نتصوّر جامعا عرفيّا بين الأفراد الصحيحة من الصلاة ونحوها.

فالآن نصرف عنان الكلام إلى تصوير الجامع الأعمّي ، وذكروا له وجوها :

الأوّل : ما أفاد بعض (١) مشايخنا المحقّقين من أنّ ما يكون جامعا بين الأفراد الصحيحة إذا الغي جهة صدوره من مكلّف خاصّ فهو بعينه جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة ، فإنّ كلّ صلاة كانت صحيحة من أحد يمكن أن تكون فاسدة من آخر [مثلا] صلاة الظهر من المسافر ركعتان ، وهذه الصلاة لا تصحّ من الحاضر ، والصلاة قاعدا تصحّ من العاجز عن القيام ، وهي بعينها فاسدة لو صدرت من القادر ، وهكذا ، فما من صلاة صحيحة ممّن كلّف بها إلّا وهي بعينها فاسدة ممّن لا يكون مأمورا بها ، فإذا لم يلاحظ جهة صدور ذاك الجامع الصحيحي من أهله وعدم صدوره من أهله ، يصير هو الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.

وفيه : أنّه مبتن على أمرين شيء منهما لا يكون تامّا :

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ١١٣.

٩٠

الأوّل : تصوير الجامع الصحيحي ، وقد عرفت أنّه غير متصوّر.

الثاني : كون الملازمة من الطرفين ، وليس كذلك ، فإنّها تامّة من طرف واحد ، وليست بتامّة من طرف آخر ، إذ كلّ ما فرض صلاة صحيحة ممّن كلّف بها وإن كانت فاسدة ممّن لا يكون مأمورا بها ، إلّا أنّه ليس كلّ ما لا يكون صحيحا ممّن لا يكون مأمورا به صحيحا من شخص آخر ، فإنّ الصلاة بلا طهور أو بلا ركوع لا تكون صحيحة من أحد ، فإلغاء جهة الصدور من الجامع الصحيحي لا يجعله جامعا بين جميع أفراد الصلاة ، إذ الصلوات التي لا تصحّ من واحد خارجة عن تحت هذا الجامع ، نعم يكون جامعا بين الأفراد الصحيحة وبعض الأفراد الفاسدة لا جميعها.

الثاني : ما ذكره في الكفاية (١) ونسب إلى المحقّق القمّي (٢) من أنّ الصلاة مثلا وضعت للأركان وباقي الأجزاء والشرائط ممّا له دخل في المأمور به لا في المسمّى.

وقد أورد عليه في الكفاية بإيرادات ثلاثة :

الأوّل : أنّ لازمه أن يكون استعمال لفظ «الصلاة» في مجموع الأجزاء من باب استعمال لفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، فإنّ نسبة الأركان إلى مجموع الصلاة نسبة الجزء إلى الكلّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠.

(٢) قوانين الأصول ١ : ٤٤ و ٦٠.

٩١

لا الجزئي إلى الكلّي ، فلا يكون إطلاق لفظ «الصلاة» على المشتمل على الأركان وغيرها من باب إطلاق الكلّي على بعض أفراده حتى لا يكون مجازا ، بل يكون من باب الاستعمال ، فيكون مجازا ، مع أنّه خلاف الوجدان.

الثاني : أنّ لازمه صحّة إطلاق الصلاة على مجرّد الأركان حقيقة ، مع أنّه لا يصحّ.

الثالث : أنّ لازمه عدم صدق الصلاة على الفاقد لركن من الأركان فقط ولو كان واجدا لكلّ ما له دخل في صحّتها غيره ، مع أنّه يصدق قطعا (١).

ويظهر الجواب عن هذه الإشكالات عند التكلّم في الوجه الآتي.

الثالث : أنّ الصلاة مثلا وضعت لمعظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا.

وهذا الكلام بظاهره واضح البطلان ، فإنّ هذه المعاني معان شرعيّة لا طريق للعرف إليها ، فلعلّ المراد أنّها وضعت لمقدار من الأجزاء التي هي دخيلة في المسمّى بحسب ما هو مرتكز في أذهان عرف المتشرّعة الذين وصلت إليهم هذه الحقائق من الأئمّة سلام الله عليهم أجمعين. وهذا ممّا له وجه وجيه.

توضيحه : أنّ المركّب على قسمين : حقيقي واعتباري.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٠ ـ ٤١.

٩٢

والمركّب الحقيقي : ما كانت أجزاؤه متّحدة في الوجود بمعنى أن لا يكون لجزأيه وجودان ممتازان منحازان في الخارج ، بل ليس في الخارج إلّا وجود واحد.

والمركّب الاعتباري : ما كان لكلّ جزء منه وجود ممتاز عن وجود الجزء الآخر.

والأوّل كالإنسان ، فإنّه مركّب من الحيوانية والناطقية ، ولا يكون أعلاه ناطقا وأسفله حيوانا أو العكس ، بل كلّ ما فرض كونه مصداقا للناطق هو بعينه مصداق للحيوان.

والثاني كالدار ، فإنّها مركّبة من أجزاء كلّ منها له وجود منحاز في الخارج عن وجود جزئها الآخر.

ومن خواصّ المركّب الاعتباري : أنّه يمكن أن لا يكون له أجزاء معيّنة بأن كان محدودا من حيث القلّة ولا بشرط من حيث الكثرة بمعنى أنّه إذا زاد شيء مسانخ له يكون جزءا له وإلّا فلا. وأمثلته في العرف كثيرة.

منها : الكلمة ، فإنّها مركّبة اعتبارية من حرفين فصاعدا ، فمن حيث الزيادة على حرفين لا بشرط ، يعني مثل «أحد» كلمة و «أحمد» أيضا كلمة ، لا أنّه كلمتان أو كلمة وزيادة.

ومنها : لفظ الدار ، فإنّه وضع لمركّب اعتباري له ساحة وقبّة وحيطان ، فمع فقد أحد هذه لا يسمّى دارا ولكن لم يؤخذ في مفهومه أن يكون ذا قبّة أو قبّتين أو أزيد ، فإذا لم يكن له إلّا قبّة

٩٣

واحدة ، دار ، وإن كان له قبتان أيضا دار ، وإن كان له سرداب أيضا ، دار.

ومن هذا القبيل أيضا لفظ «قصيدة» فإنّه وضع لعدّة أشعار كان عددها عشرة أو عشرين أو مائة أو أزيد.

وأيضا من خواصّ المركّب الاعتباري : أنّه يمكن أن يكون أحد الأمور على البدل دخيلا في مسمّاه على نحو الواجب التخييري ، وهذا كلفظ «حلواء» فإنّه وضع لما تركّب من مادّة سكّرية ودقيق حنطة أو أرز أو جزر أو غير ذلك ، فإن كان مركّبا من السكّر والجزر ، سمّي حلواء ، وإن تركّب من دبس ودقيق ، أيضا حلواء.

ثمّ إنّه لا ريب في كون الصلاة ليست من المركّبات الحقيقية بل من المركّبات الاعتبارية ، فيمكن أن يكون موضوعا لعدّة أجزاء ، ويكون لا بشرط من حيث الزيادة بحيث كلّما زاد شيء عليها ممّا له دخل في المأمور به يكون جزءا لها أيضا حتى يكون صدق الصلاة عليها كصدق الدار ، الّذي لا يختلف بزيادة قبّة أو سرداب عليها.

وهكذا يمكن أن يكون أحد أمور على البدل دخيلا في المسمّى ، كالركوع الحقيقي أو الإيماء بالرأس أو الإيماء بالعين نظير الحلوى ، فإذا أمكن ذلك ثبوتا ، نراجع في مقام الإثبات إلى مخترع هذا المركّب ، ضرورة أن لا طريق إلى معرفة أيّ مركّب

٩٤

اعتباري إلّا الرجوع إلى مخترعه ، وإذا راجعنا الروايات الواردة في باب الصلاة ، المبيّنة لحقيقتها ، نرى أنّ بعضها جعل أوّل الصلاة وافتتاحها التكبير وآخرها واختتامها التسليم ، فنستكشف أنّ التكبيرة والتسليمة دخيلتان في المسمّى.

فإن قلنا : إنّ حديث «لا تعاد» يشمل نسيان السلام ـ كما هو الصحيح ، ويظهر من السيّد في العروة أيضا حيث أفتى بصحّة الصلاة التي نسي المصلّي أن يسلّم فيها (١) ـ نحكم بأنّ السلام دخيل في المسمّى على تقدير الذّكر لا على فرض النسيان ، إذ السلام في حال النسيان إذا لم يكن دخيلا في المأمور به بمقتضى حديث «لا تعاد» وكانت الصلاة بدونه في حال نسيانه صلاة صحيحة بحكم الشارع ، لا يكون دخيلا في المسمّى قطعا.

وإن قلنا بعدم شمول الحديث له ـ كما هو مختار شيخنا الأستاذ (٢) ، ولذا أفتى في حاشية العروة بالبطلان في ذلك الفرع (٣) ـ يكون دخيلا في المسمّى على كلّ تقدير بمقتضى ظهور هذه الروايات الدالّة على أنّ الصلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم.

ونستكشف أيضا ممّا دلّ على «أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث : ثلثها

__________________

(١) العروة الوثقى : فصل في التسليم.

(٢) كتاب الصلاة ج ٣ ص ١٢ و ١٣.

(٣) العروة الوثقى ١ : ٣٤٣ فصل في التسليم (مطبعة العرفان ـ صيدا ـ سنة ١٣٤٨ ه‍).

٩٥

الطهور ، وثلثها الركوع ، وثلثها السجود» (١) أنّ هذه الأمور الثلاثة أيضا دخيلة في المسمّى ، وأمّا غير ذلك من الأجزاء والشرائط فكلّ ما لم نقل بشمول حديث «لا تعاد» له في حال السهو والنسيان وكان معتبرا حتى في حالة الاضطرار ، نلتزم بكونه أيضا دخيلا في المسمّى أيضا.

وأمّا الوقت والقبلة فهما وإن كانا من الخمسة المستثناة في الحديث ، إلّا أنّهما لا يكونان دخيلين في المسمّى ، فإنّ الوقت معتبر في الفرائض وبعض النوافل ، وأمّا النوافل المبتدأة فلا يعتبر فيها الوقت قطعا. وهكذا الاستقبال لا يعتبر في النافلة حال المشي. فإذا كانت النافلة الفاقدة لهذين الشرطين صلاة صحيحة بحكم الشارع فكيف لا تكون صلاة!؟

وبالجملة المستفاد من الروايات أنّ الطهور وطبيعيّ الركوع والسجود والتكبير والتسليم على تقدير دخيلة في المسمّى والباقي أمور اعتبرت في المأمور به لا في المسمّى.

ثم إنّ الركوع أو السجود الّذي هو دخيل في المسمّى ليس خصوص الركوع أو السجود الحقيقي بل أحد أمور ثلاثة : الركوع أو السجود الحقيقي أو الإيماء بالرأس أو الإيماء بالعين ، لما عرفت من أنّ المركّب الاعتباري من خواصّه إمكان أخذ أحد أمور

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٧٣ ـ ٨ ، الفقيه ١ : ٢٢ ـ ٦٦ ، التهذيب ٢ : ١٤٠ ـ ٥٤٤ ، الوسائل ١ : ٣٦٦ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٨.

٩٦

على البدل ـ على نحو الواجب التخييري ـ في مسمّاه ، ومثّلنا له بلفظ «حلواء» فهذه الأمور الثلاثة الواحد منها على البدل دخيل في المسمّى ، ولا طوليّة ولا ترتّب في مقام التسمية وإن كان كذلك في مقام الطلب.

ومن التأمّل فيما ذكرنا يندفع جميع الإشكالات التي أوردها في الكفاية.

أمّا لزوم تبادل ما هو معتبر في المسمّى ودخوله فيه تارة وخروجه عنه أخرى : فقد عرفت أنّه لا يمكن في المركّبات الحقيقية لا في مثل الصلاة.

وأمّا لزوم كون إطلاق لفظ الصلاة على مجموع الأجزاء من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ : فقد مرّ أنّها أخذت من حيث الزائد لا بشرط ، كما في نظائره من الدار والكلمة والقصيدة ، فكما أنّ لفظ الدار صادق على الدار المشتملة على السرداب وغير المشتملة عليه على حدّ سواء وليس الأوّل من باب الاستعمال المجازي ، كذلك لفظ الصلاة يصدق على المشتمل على القراءة وغير المشتمل عليها على حدّ سواء.

وأمّا إشكال عدم صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان : فإن كان المراد أنّه يصلّي صلاة بلا ركوع أصلا حتى ركوعا واحدا ، فنلتزم بعدم الصدق ، ولا ضير فيه ، كما لا ضير في الالتزام بعدم كون صلاة الغرقى صلاة ، وإنّما هو شيء امر به لأن يكون الغريق

٩٧

متوجّها إلى الله تعالى في حال الغرق ، ولذا امر بأربع تكبيرات ، ولم يؤمر بثلاث تكبيرات وتسليم ، فلو كان بدلا عن الصلاة ، لكان بدلا فيما لا يمكن الإتيان بالمبدل منه ، والتسليم يمكنه الإتيان كالتكبير ، وإنّما لا يمكنه الإتيان بالركوع والسجود.

وأمّا صلاة الميّت : فهي ليست بصلاة بمقتضى الروايات ، فإنّها دلّت على أنّها ليست بصلاة ذات ركوع وسجود ، وإنّما هي دعاء ، ولذا لا يعتبر فيها شيء ممّا يعتبر في الصلاة من الطهارة وعدالة الإمام وغير ذلك ، إلّا ما دلّ دليل بالخصوص على اعتباره فيها.

وإن كان المراد الإخلال بركوع واحد منها مثلا مع الإتيان بركوع أو أكثر ، فلا نلتزم بعدم الصدق ، بل هي صلاة ، فإنّ المستفاد من الروايات أنّ ما له دخل في المسمّى هو طبيعيّ الركوع والسجود لا عدد خاصّ.

وأمّا لزوم صدق الصلاة على خصوص الأركان ، فهو ـ قدس‌سره ـ لا بدّ له من الالتزام به ، فإنّه ربما يكون صلاة صحيحة ، كما إذا كبّر أحد لصلاة الوتر ونسي القراءة فركع ونسي ذكر الركوع فسجد ونسي ذكر السجود ورفع رأسه وانصرف عن الصلاة نسيانا ، فإنّها صلاة صحيحة بمقتضى حديث «لا تعاد» فمثل هذه الصلاة لا بدّ من شمول الجامع الصحيحي لها ، فكيف لا يصدق الصلاة عليه!؟

٩٨

وهكذا اندفع ما أورده شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ من أنّ التشكيك لا يعقل إلّا في الماهيّات البسيطة ، كالبياض والسواد ، لا في الماهيّات المركّبة ، فإنّه لا يعقل في الماهيّة المركّبة تركيبا حقيقيّا ، كماهيّة الإنسان والبقر والغنم ، لا في المركّبات الاعتبارية ، كالدار والكلمة والقصيدة والصلاة ، فاندفع الإشكال بحذافيره.

وبعد ما ظهر عدم إمكان الوضع للصحيح ، لعدم تصوّر الجامع العرفي بين الأفراد الصحيحة يتعيّن القول بوضعها للأعمّ ، ولا حاجة إلى تكلّف إثبات ذلك بعد ما لم يمكن غيره.

تنبيه : لهذا البحث ثمرتان :

الأولى : جواز التمسّك بالبراءة في باب الأقلّ والأكثر الارتباطي على الأعمّي ، وعدم جوازه على الصحيحي.

وشيخنا الأنصاري ـ قدس‌سره ـ أفاد في المقام : أنّ جواز التمسّك بالبراءة ، وعدمه مبنيّ على القول بالانحلال وعدمه (٢) ، فلو قلنا بأنّ الأمر بالمركّب الارتباطي أمر واحد صورة ، منحلّ بأوامر متعدّدة ، كلّ منها متعلّق بشطر أو شرط من المركّب ، فيدخل المورد في الشكّ في أصل التكليف المقتضي للبراءة ، قلنا بالوضع للصحيح أو للأعمّ.

ولو لم نقل بالانحلال ، نظرا إلى أنّ المأمور به ليس الطبيعة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٢.

(٢) فرائد الأصول : ٢٨٠.

٩٩

المهملة المعبّر عنها باللابشرط المقسمي ، لعدم إمكان الإهمال في الواقعيّات ، بل أمر مردّد بين أمرين متقابلين متضادّين : الطبيعة اللابشرط من السورة ، والطبيعة البشرطشيء ، المتقيّدة بالسورة ، فلا متيقّن في البين حتى يكون الشكّ بالقياس إلى الزائد شكّا في التكليف ، فالشكّ في دخل شيء في المأمور به شكّ في حصول الامتثال بالفاقد بعد العلم بالتكليف ، كان الوضع للصحيح أو للأعمّ.

وبالجملة لم يستشكل أحد من الأصوليّين والأخباريّين ـ إلّا من شذّ ـ في جريان البراءة عند الشكّ في أصل التكليف الوجوبيّ الّذي هو محلّ الكلام ، وإنّما النزاع بين الأخباري والأصولي في الشبهات التحريمية ، ولا كلام أيضا في أنّ القاعدة عند الشكّ في حصول الامتثال بعد العلم بالتكليف هو الاشتغال ، وإنّما الكلام في بحث الأقلّ والأكثر في أنّه داخل في أيّة القاعدتين؟ أعني أنّ النزاع صغرويّ ، فعلى الانحلال يكون مصداقا للشكّ في التكليف الّذي هو مورد للبراءة بلا كلام ، وإلّا يكون من الشكّ في الامتثال الّذي هو مورد للاشتغال بلا إشكال.

هذا ، والصحيح أنّ جواز التمسّك بالبراءة وعدمه مبنيّ على الانحلال وعدمه على قول الأعمّيّ ، وأمّا على قول الصحيحي فلا مناص عن الاشتغال ، لعدم تصوّر الانحلال ، إذ الجامع ـ سواء كان نسبته إلى الأفراد نسبة الكلّي إلى أفراده أو الأمر الانتزاعي إلى

١٠٠