الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

اقتضاء فيه أصلا ، والإتيان مقتض لسقوط الأمر بوجوده الخارجي.

وثانيا : أنّ اللازم في المقام ـ لو سلّم هو اقتضاء الشيء لعدم نفسه بقاء لا حدوثا ، وهو بمكان من الإمكان ، ضرورة أنّ الإنسان يعدم نفسه بشرب السمّ أو بإمساك سلك الكهرباء ، فالإنسان بالشرب مقتض لعدم نفسه بقاء لا حدوثا ، وكذلك بإمساك سلك الكهرباء.

إن قلت : سلّمنا أنّ الاقتضاء بمعنى العلّيّة في الأمر الواقعي ، وأمّا في الأمر الظاهري والاضطراري فلا بدّ فيهما من ملاحظة دليلهما ، وأنّه هل يدلّ على الإجزاء أو لا؟

قلت : محطّ النزاع في المقام هو أنّ الإتيان بالمأمور به ـ بعد كونه وافيا بالغرض ـ يكون علّة للإجزاء أم لا؟ وهو مشترك بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي والظاهري ، إلّا أنّ في الثاني نزاعا آخر ، وهو : أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وكذا الاضطراري هل يكون وافيا بالغرض والملاك أم لا؟ وهذا النزاع يكون صغرى لذلك النزاع وإن كان النزاع فيه كبرويّا في نفسه ، ويترتّب عليه ثمرات مهمّة ، ويقع كبرى في طريق الاستنباط.

الأمر الثالث : أنّ النزاع في المقام يرجع إلى النزاع في مقامين :

الأوّل : أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري هل يجزئ عن الإتيان بهذا المأمور به ثانيا والتعبّد به

٣٠١

كذلك أم لا؟ وهذا لشدة وضوحه ممّا لا ينبغي أن يبحث عنه.

الثاني ـ وهو المهمّ ـ أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري هل يجزئ عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ويسقطه أم لا؟

والفرق بين مسألة المرّة والتكرار وهذه المسألة بالنسبة إلى المقام الأوّل واضح ، وكلام صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ ناظر إلى الفرق بالنسبة إلى هذا المقام.

وذلك لأنّ البحث هناك في تعيين المأمور به وحده ، وهنا في وجوب الإتيان ثانيا بعد الفراغ عن أنّ المأمور به هو الوجود الأوّل.

وبعبارة أخرى : القائل بالتكرار يقول بوجوب الإتيان ثانيا ، والقائل بعدم الإجزاء أيضا يقول بذلك ، إلّا أنّ وجوب الإتيان ثانيا عند من يقول بالتكرار من جهة أنّه لم يؤت بالمأمور به وعند القائل بعدم الإجزاء لأجل أنّه يحكم العقل مثلا بالإتيان ثانيا وإن أتى بالمأمور به.

وهكذا القائل بالمرّة يقول : لا يجب ثانيا ، لأنّه أتى بالمأمور به ، والقائل بالإجزاء أيضا يقول بذلك لكن لأجل أنّ العقل يحكم بالإجزاء وعدم الوجوب ثانيا.

وبيان الفرق بين المسألتين بالنسبة إلى المقام الثاني لا معنى له ، إذ لا ربط ولا جامع بينهما حتى يسأل عن الفرق بينهما حيث

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٦.

٣٠٢

إنّ البحث في مسألة المرّة والتكرار ـ كما عرفت ـ عن أنّ المأمور به هل هو الوجود الأوّل أو الوجودات المتعدّدة واحدا بعد واحد؟ وهنا عن أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري هل يسقط الأمر الواقعي ويجزئ عن المأمور به بأمره أم لا.

وبعبارة واضحة : هناك يبحث عن أنّ الأمر ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ هل يقتضي الإتيان بالمأمور به مرّة أو يجب التكرار؟ وهنا يبحث عن أنّه إذا قام أمارة على وجوب الظهر يوم الجمعة مثلا فصلّينا الظهر ثمّ علمنا بوجوب الجمعة ، فهل إتيان الظهر يجزئ عن إتيان الجمعة ويسقط أمرها أم لا؟ فأيّ ربط بينهما؟

وأمّا الفرق بين هذه المسألة ومسألة تبعيّة القضاء للأداء بالنسبة إلى المقام الأوّل فليس بمجرّد كون البحث هنا عقليّا وهناك لفظيّا ، كما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ حيث إنّ تعدّد الدليل ـ بأن يكون دليل وجوب الإتيان ثانيا خارج الوقت تارة لفظيّا وأخرى عقليّا ـ لا يجعل المسألة مسألتين والبحث بحثين مع كون جهة البحث واحدة ، بل الفرق واضح لا يحتاج إلى البيان ، وهو أنّ في مسألة تبعية القضاء للأداء يبحث عن أنّ الأمر هل يدلّ على أنّ العبد لو لم يأت بالمأمور به في وقته عصيانا أو نسيانا أو لغير ذلك هل يجب الإتيان خارج الوقت أم لا؟ وهنا بعد الفراغ عن أنّ عدم الإتيان موجب لثبوت القضاء يبحث عن أنّ الإتيان بالمأمور به هل

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٦.

٣٠٣

يجزئ عن التعبّد به وإتيانه ثانيا في الوقت أو خارج الوقت أو لا؟ وأيّ جامع بين الإتيان الّذي هو من مقوّمات هذا البحث وعدم الإتيان الّذي هو من مقوّمات ذاك البحث حتى يسأل عن الفرق بينهما؟

وأمّا الفرق بالقياس إلى المقام الثاني أيضا واضح غير خفي ، إذ لا ربط بين الإتيان الموجب لسقوط القضاء كما في المقام وعدم الإتيان الموجب لثبوته كما في ذاك البحث.

وبعد ذلك نتكلّم في المقام الأوّل ، ونقول : إنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري يجزئ عن الإتيان والتعبّد به ثانيا.

وذلك لأنّ الغرض الداعي إلى الأمر إمّا يحصل بالإتيان أو لا يحصل ، فإن حصل ومع ذلك يجب الإتيان ثانيا ، فهو إمّا لحصول الغرض وهو خلف ، إذ المفروض أنّه حصل بالإتيان الأوّل ، وإن لم يحصل فهو أيضا خلف ، لأنّ المفروض أنّ المولى أمر بشيء يحصل غرضه بإتيانه على وجهه ، وأنّ العبد أتى بكلّ ما له دخل في حصول غرضه ، وبعد ذلك لا وجه لعدم حصوله ، ويكون بقاء الأمر بعد حصول غرضه معلولا بلا علّة وهو محال.

فاتّضح أنّ الإتيان بالمأمور به موجب عقلا للإجزاء عن إتيانه ثانيا.

وصاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ نفى البعد عن جواز تبديل الامتثال

٣٠٤

فيما إذا علم عدم حصول الغرض الأقصى (١) ، وقد تقدّم الكلام فيه مستوفى ، فلا نعيده.

بقي الكلام في عدم دلالة ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة على جواز تبديل الامتثال ، وما في قول صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ : «من أنّه يؤيّد ذلك بل يدلّ عليه» (٢) إلى آخره.

فنقول : إنّ الروايات الواردة في هذا الباب قسمان : قسم امر فيها بجعل الصلاة الثانية قضاء لما فات منه من الصلوات ، كما في قوله عليه‌السلام في جواب من سأل عن صلاة الجماعة تقام وقد صلّى : «صلّ واجعلها لما فات» (٣) وهذا القسم أجنبيّ عن المقام ، كما هو ظاهر.

وقسم آخر ، وهو الروايات الدالّة على استحباب إعادة الصلاة جماعة إماما أو مأموما لمن صلّى فرادى ، وإماما لمن صلّى مأموما.

والظاهر أنّها لا تدلّ على المطلوب ، بل الأمر بالإعادة فيها من قبيل الأوامر الواردة في باب استحباب إعادة صلاة الكسوف قبل الانجلاء ، ومن قبيل تكرار الذّكر في الركوع والسجود ، ومن

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٧.

(٢) كفاية الأصول : ١٠٨.

(٣) التهذيب ٣ : ٥١ ـ ١٧٨ و ٢٧٩ ـ ٨٢٢ ، الوسائل ٨ : ٤٠٤ ، الباب ٥٥ من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث ١.

٣٠٥

المعلوم أنّ الإعادة والتكرار فيها ليسا من باب تبديل الامتثال ، بل من باب أنّ الإتيان ثانيا له مصلحة غير لزومية امر به استحبابا ، فإنّ الامتثال حصل بمجرّد الإتيان بالصلاة الأولى ، وسقط التكليف به ، وحيث إنّ الإجزاء أمر غير الإثابة ولا يثاب بالصلاة ولا تقبل إلّا إذا كانت عن حضور القلب مع الخضوع والخشوع ، كما ورد «أنّه قد لا يقبل الصلاة إلّا نصفها أو ثلثها» (١) فإذا صلّى صلاتين ، يختار الله أحبّهما إليه بمعنى أنّ أيّا منهما كان عن خضوع وخشوع فهو أحبّ إليه ، فيقبلها ويثيب عليها.

ويؤكّد هذا انحصار موارد الإعادة في الأخبار وكلمات العلماء الأخيار بالأربعة المذكورة ، إذ لو كانت من باب التبديل بأحسن الأفراد لما اختصّت بها ، بل إذا صلّى في البيت منفردا لجاز إعادتها في المسجد كذلك ، فمن هنا نستكشف أنّ الإعادة بأمر استحبابي ، كما لا يخفى.

ثم إنّ الكلام في المقام الثاني يقع في مسألتين :

الأولى : أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزئ عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاختياري أداء أو قضاء بعد ارتفاع الاضطرار أو لا؟ والبحث فيه من جهات ثلاث:

الأولى : وجوب القضاء وعدمه.

الثانية : وجوب الإعادة وعدمه.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٤١ و ٣٤٢ ـ ١٤١٣ و ١٤١٦.

٣٠٦

الثالثة : أنّه هل يجوز البدار مطلقا ، أو لا يجوز مطلقا ، أو يجوز مع اليأس عن ارتفاع العذر لا بدونه؟ وأنّ مقتضى القاعدة مع قطع النّظر عن الأدلّة الخاصّة الواردة في بعض الموارد ما ذا؟

أمّا الجهة الأولى : فالتحقيق فيها عدم لزوم القضاء ، سواء كان تابعا لفوت الفريضة الفعلية أو فوت الواقع أو الملاك ، وهو في الأوّل واضح ، لأنّه لم تفت منه الفريضة الفعليّة ، إذ المفروض أنّه أتى بواجبة الفعلي ، وهكذا لو كان تابعا لفوت الواقع ، إذ الواقع في حقّه ليس إلّا الفاقد ، والواجد لجميع الأجزاء والشرائط ليس مأمورا به في حقّه واقعا ، فإذا لم يفت منه الواقع في حقّه فلا موجب للقضاء.

ومنه ظهر فساد ما في الكفاية (١) من أنّه لو دلّ دليل على أنّ سبب القضاء هو فوت الواقع ـ ولو لم يكن فريضة ـ كان القضاء واجبا عليه ، لتحقّق سببه ، اللهمّ إلّا أن يريد من فوت الواقع فوت الملاك.

وهكذا لو قلنا بأنّه تابع للملاك.

ولا حاجة إلى ذكر الاحتمالات التي احتملها صاحب الكفاية (٢) ـ قدس‌سره ـ في المقام ، بل نقول : لا بدّ للقائل بوجوب القضاء من أن يلتزم بأحد أمرين : بتعدّد الملاك أو وحدته.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٠.

(٢) كفاية الأصول : ١٠٨.

٣٠٧

فعلى الأوّل يكون ملاك وجوب القضاء بقاء ملاك الأمر الاختياري بعد ارتفاع الاضطراري.

وفيه أوّلا : أنّ هذا مجرّد احتمال لا يكفي في الحكم بوجوب القضاء ، بل يحتاج إلى دليل.

وثانيا : أنّ لازمه تعدّد العقاب فيما إذا عصى ولم يأت في الوقت ، فإنّه فوّت المصلحتين الملزمتين ، ومقتضاه أن يعاقب بعقابين.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون للقيد دخل في حصول الملاك حال الاضطرار أو لا؟

فعلى الأوّل لا يجوز الأمر حال الاضطرار ، إذ المفروض أنّ القيد منتف ، وليس للمولى أن يأمر بشيء لا يحصّل غرضه.

وعلى الثاني يسقط الأمر ، ولم يجب القضاء ، لحصول الملاك على الفرض ، وإلّا يلزم الخلف ، إذ بقاء الأمر مع حصول الغرض من قبيل بقاء المعلول بدون بقاء علّته.

فظهر أنّ مقتضى القاعدة هو عدم وجوب القضاء.

وأمّا مقتضى الإطلاق فهو وإن كان في بعض الموارد الخاصّة ، كآية التيمّم (١) ورواية «التراب أحد الطهورين» (٢) وصريح بعض أخبار التقيّة : الإجزاء ، بل البطلان لو أتى بالعمل حال التقيّة ، كما

__________________

(١) النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٠ ـ ٥٨٠ ، الوسائل ٣ : ٣٨١ ، الباب ٢١ من أبواب التيمّم ، الحديث ١ وفيهما : «التيمم أحد ...».

٣٠٨

أتى به في غيرها ، لكن هذا المقدار لا ينفعنا في المقام حيث إنّ البحث كبرويّ لا صغرويّ ، فالإطلاق المفيد ما يشمل جميع الموارد ، وهو في المقام مفقود ، إذ ليس لنا دليل لفظي شامل لجميع الموارد حتى نتكلّم في أنّ مقتضى إطلاقه أيّ شيء هو ، بل الإجزاء يثبت إمّا بالإجماع أو دليل خاصّ غيره ، وإمّا من قاعدة الميسور ، فلا تدلّ على أزيد من وجوب الإتيان بالميسور ، وأمّا سقوط القضاء فلا دلالة لها عليه.

هذا ، ولو لم يكن لنا دليل خاصّ يدلّ على الإجزاء ولم يكن إطلاق نتمسّك به ، أو كان ولم يكن المولى في مقام البيان ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضاه البراءة ، فإنّ الشكّ في أصل التكليف ، إذ التكليف الّذي كان متيقّنا قد سقط بالإتيان في الوقت قطعا ، وما عداه مشكوك يرتفع بالأصل.

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي وجوب الإعادة عند ارتفاع العذر وعدمه ـ فالكلام فيها يقع في أمرين :

الأوّل : فيما يمكن أن يقع الأمر الاضطراري عليه من الملاك وما لا يمكن.

فنقول : إنّ القول بأنّه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري كالاختياري وافيا بتمام الملاك ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية (١) قدس‌سره ـ ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، إذ لازمه جواز التفويت

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٨.

٣٠٩

وجعل نفسه مضطرّا بالاختيار بأن يهريق الماء مثلا عمدا ويتيمّم ، فيكون حال المختار والمضطرّ حال الحاضر والمسافر في تساوي الملاكين وجواز التفويت.

ودعوى أنّه بمكان من الإمكان في خصوص ما كان الاضطرار طبعيّا دون ما كان اختياريّا ، مثلا : القعود بدلا عن القيام للتعظيم يعدّ تعظيما ووافيا بتمام الملاك في حقّ المريض المستلقي على ظهره بما أنّ اضطراره طبعيّ لا في حقّ من شدّ رجليه بنحو لا يقدر على القيام ، فإنّه ـ أي الاضطرار ـ في حقّه اختياريّ ، فاسدة ، فإنّ لازمها (١) سقوط التكليف رأسا عند التفويت عصيانا ، إذ لا ملاك حينئذ للاضطراري على الفرض ، فالأمر الاختياري سقط بالعصيان ، والاضطراري سقط أيضا ، لعدم كون الاضطرار طبعيّا ، فمع إراقة الماء عمدا لا يجب الوضوء ولا التيمّم ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.

وكذا لا يمكن الالتزام بتعدّد الملاك وأنّ كلّا فيه ملاك مباين لما في الآخر ، إذ ظاهر الأدلّة أنّ الفعل الاضطراري يكون بدلا من الاختياري ، وتعدّد الملاك ينافي البدليّة ، ويقتضي أن يكون كلّ منهما واجبا مستقلّا.

__________________

(١) للخصم أن يفصّل بين موارد الاضطرار الطبعي ، فيقول بالوفاء بتمام الملاك وبين غيرها ، فيلتزم بالملاك الناقص ، لا عدم الملاك رأسا حتى يلزم هذا اللازم ، فإنّه التزام بلا ملزم ، ضرورة أنّ من شدّ رجليه لو نام مستلقيا ولم يقعد تعظيما عقابه أشدّ وآكد ممّن قعد. (م).

٣١٠

هذا ، مضافا إلى أنّ لازمه تعدّد العقاب عند العصيان وتركهما معا فيما إذا كان مختارا في بعض الوقت ومضطرّا في بعض آخر ، والطولية لا ترفع الإشكال ، كما لا ترفع في باب الترتّب.

وكذا لا يمكن الالتزام بوحدة الملاك وتعدّد المطلوب ، إذ لازمه جواز إتيان المختار صلاة المضطرّ بمعنى أنّ صلاته صحيحة وإن عصى ، إذ المفروض أنّها تفي بالغرض والملاك ، فبذلك صحّت صلاته ولكن عصى لأجل أنّه أتى بأحد المطلوبين ولم يأت بالآخر.

مضافا إلى أنّه يلزم منه تعدّد العقاب فيما إذا لم يأت بشيء منهما عصيانا فيما إذا كان مختارا في بعض الوقت ومضطرّا في البعض الآخر.

فظهر أنّ شيئا من القول بوفاء تمام الملاك وتعدّده وتعدّد المطلوب ليس بمفيد ، فلا بدّ من الالتزام بأمر يتحفّظ به على البدليّة وعدم تعدّد العقاب وعدم التفويت.

فنقول : بعد ما بيّنّا أنّ الأمر الاضطراري لا يمكن أن يكون وافيا بتمام الملاك ، فلا بدّ في بيان الفرق بين الاختياري والاضطراري من الالتزام بأحد أمرين :

الأوّل : أن تكون مصلحة الاختياري أشدّ من مصلحة الاضطراري وإن كانت المصلحة أمرا واحدا بسيطا.

ونظيره في العرفيّات : ما إذا قال المولى لعبده : «جئني بالنار

٣١١

فإن لم تتمكّن منه فبالفرو» فإنّ المصلحة المترتّبة على الأمر الاختياري ـ وهو المجيء بالنار ـ بعينها هي المصلحة المترتّبة على الأمر الاضطراري ، وهو المجيء بالفرو ، إلّا أنّها تكون في الاختياري أشدّ ، وبهذا يندفع الإشكال بحذافيره.

أمّا إشكال تعدّد العقاب وعدم التحفّظ على البدلية : فلعدم تعدّد الغرض على الفرض.

وأمّا وجه اندفاع محذور تفويت المصلحة هو : أنّ الفعل الاضطراري ليس بذي مصلحة ضعيفة ملزمة بالنسبة إلى الاختياري إلّا عند عدم التمكّن منه ، فلا يجوز الإتيان بالاضطراري عند التمكّن من الاختياري ، لعدم كونه وافيا بتمام الغرض ، فلا تفوت المصلحة أبدا.

الثاني : أن تكون هناك مصلحتان ملزمتان متلازمتان مترتّبتان على الفعل الاختياري ومصلحة واحدة ملزمة مترتّبة على الاضطراري ، كما إذا فرضنا أنّ لشيء خاصّيّتين كشربة النارنج ، فإنّه يرفع العطش ، ويقوّي المعدة ، وللآخر خاصيّة واحدة ، مثل الماء ، وقال المولى : «جئني بشربة النارنج ، فإن لم تتمكّن فبالماء» ففي الاختياري ـ وهو المجيء بشربة النارنج ـ مصلحتان ، وهما : رفع العطش وتقوية المعدة ، وفي الاضطراري مصلحة واحدة ، وهو رفع العطش فقط ، فيمكن أن يكون الأمر بالصلاة مع الوضوء حال التمكّن منه ومع التيمّم حال عدمه من هذا القبيل.

٣١٢

وبهذا تندفع المحاذير الثلاثة :

أمّا محذور جواز التفويت : فلعدم وفاء صلاة المضطرّ بالغرض على الفرض حتى يلزم جواز التفويت.

وأمّا محذور المنافاة للبدليّة : فلأنّ الملاك وإن كان متعدّدا إلّا أنّه ليس بحيث يجعلهما واجبين مستقلّين ، إذ المصلحة الموجودة في الاضطراري بعينها موجودة في الاختياري مع مصلحة ملزمة أخرى ، وهذا يتّضح بالمثال الّذي ذكرناه.

ومنه ظهر اندفاع محذور تعدّد العقاب كما لا يخفى.

الأمر الثاني : في وجوب الإعادة وعدمه إذا ارتفع الاضطرار في الوقت.

فنقول : هذا البحث مبني على جواز البدار واقعا ، وأمّا بناء على عدم الجواز فهو من صغريات الإتيان بالأمر الظاهري فيما إذا جاز البدار ظاهرا ، كما إذا قامت البيّنة على ضيق الوقت ، فصلّى مع اللباس النجس ثم انكشف خلافه ، وأمّا إذا لم يكن البدار جائزا واقعا ولا ظاهرا فلا مورد لهذا البحث ، إذ لا ريب في بطلان العمل ووجوب الإعادة.

وكيف كان فالحقّ في المقام هو التفصيل بين ما إذا كانت المصلحتان أو المصلحة الشديدة والضعيفة ارتباطيّتين ، فلا تجب الإعادة ، وما لم تكونا كذلك فتجب.

وتوضيحه يقتضي تقديم مقدّمة ، وهي أنّ دخل شيء في

٣١٣

الغرض :

١ ـ تارة يكون على وجه لا يكون الفعل ذا مصلحة بدونه.

٢ ـ وأخرى بنحو يكون كذلك ولكن لا تتحقّق المصلحة في الخارج بدونه ، مثلا : شرب الدواء لا يتّصف بكونه ذا مصلحة إلّا للمريض ، والحجّ لا يكون ذا مصلحة ملزمة إلّا للمستطيع ، وبعد ما كان ذا مصلحة لا تتحقّق في الخارج إلّا بشرائط خاصّة ، كشرب الدواء بنحو خاصّ و [في] وقت مخصوص ، والسير في طريق الحجّ الّذي هو مقدّمة عقليّة له ، كما أنّ الوضوء قيد شرعي لتحقّق مصلحة الصلاة في الخارج.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه إن كانت المصلحتان ارتباطيّتين (١) بمعنى أنّ إدراك مصلحة صلاة المختار كان ملازما لإدراك مصلحة صلاة المضطرّ ، ولا يمكن إدراك الأولى وحدها ، فإذا قلنا بجواز البدار واقعا وصلّى صلاة المضطرّ ، فقد أدرك مصلحتها بدليل جواز البدار ، ولا يمكن إدراك مصلحة أخرى مضافة إلى هذه المصلحة بإعادة الصلاة مع الوضوء مثلا ، إذ المفروض عدم انفكاكهما في الاستيفاء ، فإمّا تترتّبان معا على الفعل الاختياري أو لا يترتّب شيء منهما ، فإذا أدرك إحداهما بالفعل الاضطراري فلا مجال لإدراك الأخرى.

__________________

(١) الأولى أن يعبّر بدل الارتباطيّة بعدم المضادّة بينهما في مقام الاستيفاء بحيث إذا استوفيت إحداهما فقط لا تكون الأخرى قابلة للاستيفاء. (م).

٣١٤

وإن لم تكونا ارتباطيّتين ـ بأن أمكن استيفاء كلّ بدون الأخرى بحيث إذا صلّى المضطرّ صلاته ثمّ ارتفع الاضطرار فأعاد وصلّى صلاة المختار أدرك مصلحتها ـ فتجب الإعادة ، إذ المفروض أنّ كلتا المصلحتين ملزمتان ، فإذا أدرك إحداهما ويتمكّن من إدراك الأخرى يجب إدراكها ، ولا عذر له لو فوّتها بعدم الإعادة.

هذا كلّه فيما إذا علم الارتباطيّة أو الاستقلاليّة ، وأمّا في صورة الشكّ فتجري البراءة عن وجوب الإعادة ، فإنّ الشكّ شكّ في التكليف ، ووجوب الإتيان ثانيا لاحتمال الاستقلالية ، فيرفع بحديث الرفع.

وأمّا الجهة الثالثة : وهي جواز البدار وعدمه ، فالحقّ فيها عدم الجواز ، فإنّ التكليف تعلّق بالطبيعة الكاملة أينما سرت وفي ضمن أيّ فرد حصلت وفي أيّ وقت ممّا وقّت لها تحقّقت ، فإذا تمكّن من إتيان الفرد الكامل في آخر الوقت ، فهو مكلّف به لا بالفرد الناقص ، فلو أتى به في أوّل الوقت لم يأت بالمأمور به.

وبعبارة أخرى : هو مكلّف بإتيان صلاة تامّة فيما بين الزوال والغروب ومتمكّن منه ، فبأيّ وجه جاز البدار والاقتصار بالناقص؟

ثم ليس لنا إطلاق لفظي نتمسّك به لجواز البدار في جميع الموارد.

وقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ

٣١٥

اللَّيْلِ)(١) لا يدلّ على جواز الاكتفاء بإتيان الناقص في أوّل الوقت مع التمكّن من إتيان الكامل في آخره.

فلو أمر المولى عبده ببيع متاع له وقال : «بع هذا المتاع بدينار في هذا الشهر من أوّله إلى آخره ، وإن لم تتمكّن منه فبع بنصف دينار» فهل يمكن القول بأنّه يجوز بيعه بنصف دينار في أوّل الشهر مع التمكّن من البيع بالدينار في آخره؟ كلّا ، بل يعاقبه المولى لو باع بالنصف ، ويذمّه العقلاء ، فمقتضى القاعدة : عدم جواز البدار ، ولم يدلّ دليل خاصّ على الجواز بنحو العموم.

نعم ، دلّ دليل خاصّ في خصوص فاقد الماء على جواز البدار والصلاة مع التيمّم في أوّل الوقت ، لكنّه مختصّ بمورده ، ولا يفيد فيما نحن بصدده.

المسألة الثانية : في أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزئ عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي إذا انكشف الخلاف أم لا؟

وينبغي تقديم ما أفاده صاحب الكفاية (٢) في المقام من التفرقة بين الأمارات والأصول العمليّة.

وحاصل ما أفاده في وجه الفرق : أنّ الأمارات حيث كان لسان أدلّتها لسان النّظر إلى الواقع والحكاية عنه من دون توسعة وتضييق

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) كفاية الأصول : ١١٠ ـ ١١١.

٣١٦

في الواقع ولا يكون التعبّد بها في رتبة الواقع بل في طوله ، فإذا أخبر البيّنة بطهارة شيء ثمّ انكشف خلافه فقد انكشف عدم جواز ترتيب أحكام الطهارة من الشرطيّة للصلاة وغيرها ، وأنّه ليس هذا إلّا وهما وخيالا ، فيجب تحصيل الطهارة ، فإنّ التعبّد بها لا يقتضي إنشاء الشرطيّة وتوسعة دائرتها ، بل يقتضي ترتيب آثار الشرط الموجود بلسان أنّه واجد للشرط الواقعي ، وبعد انكشاف الخلاف ينكشف أنّه فاقد له ، وهذا بخلاف الأصول العمليّة ، كقاعدتي الطهارة والحلّ ، والاستصحاب ـ على وجه قويّ ـ فإنّ لسان أدلّة حجّيتها لسان الحكومة ، وجعل الحكم المماثل في صورة الجهل وتنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، وترتيب آثاره عليه من دون نظر إلى الواقع ، فمقتضاها التوسعة في الشرطيّة ، وأنّ من صلّى في لباس مشكوك الطهارة ، فقد صلّى بطهارة ، وعلى هذا لا ينكشف الخلاف أصلا.

وما أفاده ـ قدس‌سره ـ في الأمارات متين جدّاً ، لكن ما اختاره في الأصول العمليّة فليس بوجيه ، بل يوجب تأسيس فقه جديد ، إذ يرد عليه من النقوض ما لا يلتزم به فقيه.

منها : أنّ لازمه عدم اختصاص ذلك بالشرطيّة ، ولزوم الحكم بطهارة الثوب لو غسلناه بماء محكوم بالطهارة بقاعدة الطهارة أو الاستصحاب ولو انكشف الخلاف بعد ذلك.

ومنها : لزوم جريانه في الطهارة الحدثيّة ، والحكم بصحّة

٣١٧

صلاة المتوضّئ بماء محكوم بالطهارة ظاهرا ولو تبيّن بعد ذلك نجاسته.

ومنها : جريانه في المعاملات ، والحكم بأنّ من باع مال الغير لنفسه عند الشكّ في كونه مال الغير اعتمادا على قاعدة اليد ، فالثمن له ولا وزر عليه في أكله والتصرّف فيه ولو تبيّن أنّه لغيره.

هذا ، والجواب عنه حلّا : أنّ الحكومة لا تقتضي التضييق في الواقع ، بل الواقع على ما هو عليه ، والأصل في طوله لا في رتبته ، ولسان دليله الجري على طبقه ما لم ينكشف الخلاف ، كما في الأمارات ، ولذا لا تضادّ بينهما ، وإنّما التوسعة والتضييق وعدم انكشاف الخلاف فيما إذا كان الحاكم والمحكوم في رتبة واحدة ، كما إذا ورد «الخمر حرام» وورد أيضا «الفقّاع خمر استصغره الناس» وكما في قوله عليه‌السلام : «إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على الأربع» (١) وقوله عليه‌السلام : «لا شكّ لكثير الشكّ» (٢).

والحكم بصحّة صلاة من صلّى في اللباس أو البدن النجس مع الشكّ بقاعدة الطهارة إنّما يكون من جهة قيام دليل خاصّ عليه ، كخبر زرارة (٣) وغيره لا بقاعدة الإجزاء.

وكذا الحكم بصحّة الصلاة في اللباس أو المكان المغصوب

__________________

(١) راجع الوسائل ٨ : ٢١٦ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٢) راجع الوسائل ٨ : ٢٢٧ الباب ١٦ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢١ ـ ٤٢٢ ـ ١٣٣٥ ، الاستبصار ١ : ١٨٣ ـ ٦٤١ ، الوسائل ٣ : ٤٧٧ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٣١٨

مع الجهل بالحكم أو الموضوع ليس بقاعدة الإجزاء بل لوجه آخر قد قرّر في محلّه.

وبعد ذلك نقول : إنّ انكشاف الخلاف في الأمر الظاهري : تارة من جهة أنّه موجود ثمّ يعلم الخلاف ، أو يقوم أمر ظاهري آخر أقوى عليه ، فهذا يكون من قبيل النسخ ، ولا يرتفع الأمر الظاهري الأوّل من أصله ، وأخرى من جهة عدمه من رأسه ، للعلم بالخطإ إمّا في سنده أو دلالته ، وليس هذا محلا للبحث ، بل محطّ البحث هو الأوّل ، وفيه أقوال :

١ ـ الإجزاء مطلقا.

٢ ـ عدمه كذلك.

٣ ـ التفصيل بين الموضوعات والأحكام.

٤ ـ التفصيل بين القول بالطريقيّة والسببيّة.

٥ ـ التفصيل بين القطع بالخلاف في الاجتهاد الثاني والظنّ به كذلك.

والأقوى هو الثاني ، أي عدم الإجزاء مطلقا ، وهذا على الطريقيّة واضح.

وأمّا على السببيّة : فإن كان المراد منها السببيّة الأشعريّة من تبعية الأحكام الواقعيّة لظنون المجتهدين حدوثا وبقاء ، فهذا ـ مضافا إلى أنّه غير معقول ، بداهة أنّه لو لم يكن حكم مشترك بين العالم والجاهل فبما ذا يتعلّق ظنّ المجتهد؟ ـ خلف ، إذ ليس فيه

٣١٩

انكشاف خلاف حتى يبحث فيه.

وإن كان المراد منها السببيّة المعتزليّة من أنّ الحكم الواقعي مشترك بين العالم والجاهل حدوثا إلّا أنّه ينقلب بقاء ، ويتبدّل عن ظنّ المجتهد بخلافه ، فهذا وإن لم يكن مستحيلا إلّا أنّه أيضا خلف كسابقه ، ولا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف ، مضافا إلى أنّه من التصويب المجمع على بطلانه.

وإن كان المراد السببيّة العدليّة ـ وهو القول بالمصلحة السلوكيّة ـ فبيان عدم الإجزاء أنّ مصلحة السلوك تتفاوت بالطول والقصر ولها جزر ومدّ ، وهي كاللاستيك الّذي كلّما تمدّه يمدّ ، فإن امتدّ الجهل إلى الأبد تتدارك المصلحة الفائتة في تلك المدّة.

وإن امتدّ إلى خارج الوقت تتدارك مصلحة الوقت الفائتة ، وأمّا مصلحة أصل الصلاة والقضاء فلا ، فيجب القضاء.

وإن امتدّ إلى وقت الإجزاء وانقضاء وقت الفضيلة ، تتدارك مصلحة وقت الفضيلة لا الصلاة في الوقت فتجب الإعادة.

وبالجملة المصلحة السلوكية تتدارك ما فات من المكلّف معذورا جاهلا لا أزيد من ذلك.

والّذي يدلّ عليه أنّه إذا صلّى صلاة بدون السورة ـ لقيام أمارة على عدم وجوبها ـ فلو سئل في أوّل الوقت لم صلّيت بدون السورة ولم لا تعيدها مع السورة؟ يجيب بأنّه قام أمارة على ذلك ، ولو سئل في آخر الوقت عنه ، يجيب بهذا الجواب ، وهكذا في خارج

٣٢٠