الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

الصادرة عن المأمور في الجهة الثالثة ، ولذا يكون مقتضى الإطلاق هناك هو التوصّليّة ، بخلاف المقام ، فإنّه التعبّديّة ، وأنّ الأمر لا يسقط ، والغرض لا يحصل بفعل الغير ، بل هو بعد باق على حاله.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ في الجهة الأولى خطاب المولى لا يمكن شموله للفعل المحرّم ، إذ لا يعقل تعلّق الشوق بالمحبوب والمبغوض ، وفي الجهتين الأخيرتين يمكن تعلّق الشوق بطبيعي الفعل في مقام الثبوت ، لكن التقييد عبث في مقام الإثبات ، فالأصل لفظا وعملا يقتضي التوصّليّة ، وخلاف ذلك في الجهة الثالثة ، فمقتضاه لفظا وعملا هو التعبّديّة ، كما في الجهة الأولى. هذا تمام الكلام في التعبّدي والتوصّلي.

المبحث الرابع : أنّ إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب نفسيّا تعيينيّا أم لا؟

والأنسب ذكر هذا المبحث في بحث تقسيمات الواجب وبيان أنّه نفسيّ أو غيريّ ، تعيينيّ أو تخييريّ ، عيني أو كفائيّ.

وأيضا الأولى إدخال الواجب المشروط في أقسام الواجب ، لأنّ البحث عن الثلاثة الأخر من تبعات البحث عنه ، كما يتّضح فيما بعد إن شاء الله.

والكلام في المقام متمحّض في الأصل اللفظي ، وأمّا الكلام من حيث الأصل العملي فيأتي بعضه في مقدّمة الواجب ، وبعضه

٢٨١

الآخر في باب البراءة مستوفى إن شاء الله.

وبعد ذلك نقول : إذا شكّ في واجب أنّه مطلق بمعنى عدم تقيّد وجوبه بشيء وعدم كونه مشروطا ومعلّقا على شيء ، أو مقيّد ومشروط ومعلّق.

وبعبارة أخرى : إذا شكّ في أنّ متعلّق الشوق هل هو الطبيعة المهملة اللابشرط المقسمي ، التي هي شاملة للطبيعة المقيّدة ، أو أنّه هو الطبيعة المقيّدة والماهيّة بشرط شيء؟

فمقتضى الإطلاق وعدم تقيّده بشيء وجودي أو عدمي إذا كان المولى في مقام البيان ، هو : أنّ الوجوب مطلق غير معلّق على شيء ، إذ لو كان له دخل في غرض المولى ، لكان عليه البيان والتقييد بما هو دخيل في غرضه ، وحيث إنّه كان في مقام البيان ولم يبيّنه يستكشف أنّه مطلق غير مقيّد بشيء لا مشروط مقيّد.

هذا فيما إذا شكّ في كون الوجوب مطلقا أو مشروطا ، وأمّا ، إذا شكّ في أنّه نفسيّ أو غيريّ ، فبما أنّ الوجوب النفسيّ هو الوجوب غير المترشّح من الغير وبشرط لا ، قبال الغيريّ الّذي هو الوجوب المترشّح الناشئ من الغير وبشرط شيء ، ولا جامع بين الطبيعة بشرط لا والطبيعة بشرط شيء حتى يتصوّر الإطلاق والتقييد ، فلا تجري مقدّمات الحكمة كما تجري في الشكّ في الإطلاق والتقييد.

نعم ، يرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في كون الوجوب مطلقا أو

٢٨٢

مشروطا ، فإنّ مرجعه إلى الشكّ في أنّ الوجوب هل هو مشروط بوجوب الغير أو مطلق وثابت سواء وجب شيء آخر أو لا ، فتجري المقدّمات في مدلوله الالتزامي الّذي هو الشكّ في كون الوجوب مشروطا بوجوب الغير أم لا ، وإذا جرت في المدلول الالتزامي وحكم في اللازم بالإطلاق ، يحكم في الملزوم أيضا بالإطلاق ، لتبعيّة مقام الثبوت لمقام الإثبات ، فيحكم بأنّه مطلق من هذه الجهة ، ونقول : إنّ إطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيّا ، إذ مقتضاه أنّه واجب مطلقا ، وجب شيء آخر أو لا ، وهذا هو الوجوب النفسيّ بعينه.

بقي الكلام فيما إذا شكّ في كون الوجوب تعيينيّا أو تخييريّا.

فنقول : إن كان الوجوب التخييري عبارة عن أنّ الجامع بين الأفراد من دون أن يتخصّص بخصوصيات الأفراد ويتشخّص بتشخّصاته متعلّق للتكليف ـ كما هو الصحيح ـ فواضح أنّ ظاهر توجيه الخطاب إلى فرد خاصّ أو أفراد خاصّة : كون الوجوب تعيينيّا لا تخييريّا من دون حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة ، وإلّا لتوجّه الخطاب إلى الجامع بين الأفراد.

وإن كان عبارة عن وجوبات متعدّدة كلّ منها مشروط بعدم إتيان متعلّق الآخر في الخارج ، فظاهر توجيه الخطاب إلى شيء خاصّ وعدم تقييده بعدم وجود شيء آخر مع كون المتكلّم في

٢٨٣

مقام البيان : أن يكون تعيينيّا أيضا لكن بمقدّمات الحكمة.

ومنه يظهر حكم الشكّ في كون الوجوب عينيّا أو كفائيّا بعين هذا البيان.

فاتّضح أنّ مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيّا لا غيريّا ، تعيينيّا لا تخييريّا ، عينيّا لا كفائيّا على كلا المسلكين في الأخير.

المبحث الخامس : أنّ صيغة الأمر ـ سواء قلنا بأنّها دالّة على الوجوب وضعا أو إطلاقا ، أو قلنا : إنّها دالّة على معنى ملازم للوجوب وهو إبراز الشوق ـ إذا وقعت عقيب الحظر أو توهّمه هل تبقى هذه الدلالة أو لا؟

فنقول : إنّ هذه الدلالة ـ أيّة ما كانت ـ حيث إنّها بمقتضى ظهور اللفظ وبقاء هذا الظهور ـ فإنّ المتأخّرين رفضوا قول السيّد المرتضى ومن تبعه من حجّية أصالة الحقيقة ـ فإذا كان في الكلام ما يصلح للقرينيّة على خلاف ما وضع له بحيث يصحّ اتّكال المتكلّم عليه ، فلا يبقى للكلام ظهور ، بل يصير مجملا ما لم تكن قرينة خاصّة أو عامّة على المراد.

ففيما إذا وقعت الصيغة عقيب الحظر ـ كما في قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) حيث أمر تعالى بالاصطياد حال الإحلال بعد أن نهى عنه حال الإحرام ـ لو قامت قرينة خاصّة أو

__________________

(١) المائدة : ٢.

٢٨٤

عامّة معيّنة للمراد ، فهو ، وإلّا كان الكلام مجملا ، لاحتفافه بما يصلح للقرينيّة ، ولا مجال لظهوره في الإباحة أو الكراهة أو غير ذلك من الوجوه المذكورة في المقام ، بل أمره دائر بين الوجوب والاستحباب والكراهة والإباحة.

نعم ، يمكن في التوصّليات القول بالإباحة ، وفي التعبّديّات بالاستحباب بضميمة الوجدان إلى الأصل على ما هو الحقّ من جريان الأصول في المستحبّات والمكروهات أيضا.

وذلك لأنّ الإباحة والكراهة في التعبّديّات مقطوعتا العدم ، ضرورة أنّه ليس في الشريعة فعل مباح يعتبر فيه قصد القربة أو مكروه كذلك حتى يكون عبادة مباحة أو عبادة مكروهة بالمعنى المصطلح ، فلا يبقى من الاحتمالات إلّا احتمال الوجوب والاستحباب ، وحيث إنّ أصل المطلوبية فيها مقطوع لنا ، ونشكّ في تعلّق الإلزام بها ، فيرفع الإلزام بالأصل ، ويبقى مطلق المحبوبية بلا إلزام ، وهو الاستحباب.

هذا في التعبّديّات ، وأمّا في التوصّليّات فاحتمال الإباحة مقطوع بين الاحتمالات الأربع ، ورضى المولى بالفعل والترك معا معلوم ، إذ المفروض أنّ الحرمة منتفية بالوجدان ، وأصل تعلّق الطلب به فعلا أو تركا مشكوك مرفوع بالأصل ، فيبقى الرضي بالفعل والترك ، وهو الإباحة ، فلو كان مراد من قال بالإباحة ما ذكرنا ، فنعم الوفاق ، وإن كان غير ذلك ، فلا وجه له.

٢٨٥

المبحث السادس : في المرّة والتكرار.

ولا يخفى أنّ البحث عن دلالة الأمر على المرّة والتكرار بمعنى الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد لغو ، إذ الدلالة على أحدهما منشؤها أحد أمور ثلاث : إمّا وضع المادّة ، أو الهيئة ، أو مجموع المركّب منهما ، وشيء من ذلك لا يكون.

أمّا الثالث : فلا وجود له أصلا ، كما تقدّم في باب الوضع.

وأمّا الثاني : فلأنّ الهيئة لأيّ معنى وضعت من الطلب أو البعث أو إظهار الشوق أجنبيّة عن وحدة المطلوب وتعدّده.

وبعبارة أخرى : المرّة والتكرار وصفان للمطلوب والمأمور به الّذي هو أجنبيّ عن مفاد الصيغة ، لا الطلب الّذي هو مفاد الصيغة ، فلا معنى للبحث عن وحدته أو تعدّده (١).

وأمّا المادّة : فلأنّه لو كان لها دلالة على المرّة أو التكرار ، لكانت في جميع المشتقّات حيث إنّ المادّة موجودة في جميعها ، ومن المعلوم عدم دلالة صيغة الماضي أو المضارع على أحدهما.

نعم ، موضوع الطلب أو متعلّقه تارة يؤخذ على نحو الطبيعة المطلقة التي توجد بأوّل الوجودات في الخارج ، فيسقط الطلب بفرد واحد ، وأخرى يؤخذ على نحو الطبيعة السارية ، سواء كان

__________________

(١) أقول : بل لا يعقل ، إذ يستحيل تعدّد الطلب مع قطع النّظر عن تعدّد المطلوب ، فإنّ تعدّده ينتزع من تعدّد متعلّقه ، كتعدّد العلم المنتزع من تعدّد المعلوم. (م).

٢٨٦

السريان في كلّ يوم ، كما في (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) أو في كلّ شهر ، كما في الدعاء عند رؤية الهلال ، أو في كلّ سنة كما في (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(٢) وحينئذ يتعدّد الحكم بتعدّد الموضوعات والمتعلّقات ، فإذا كان الموضوع على النحو الأوّل أو شككنا في أنّه على النحو الأوّل أو الثاني ، فالعقل حاكم بالإتيان مرّة واحدة ، لكن هذا غير دلالة الصيغة على المرّة.

وكذا إذا كان على النحو الثاني ، إذ انحلال الحكم الواحد إلى أحكام متعدّدة لانحلال موضوعه غير تعدّد الحكم.

بقي الكلام فيما أفاده صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ من أنّ النزاع في الهيئة لا المادّة بدعوى أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلّا على الهيئة ، وأمّا المادّة فلا تدلّ إلّا على الطبيعة من دون نظر إلى تحقّقها في ضمن فرد أو أفراد أو دفعة أو دفعات (٣).

وفيه ـ مضافا إلى عدم تحقّق هذا الاتّفاق ـ أنّ هذا الاتّفاق ـ كما أفاده صاحب الكفاية (٤) ـ لا يوجب صرف النزاع من المادّة إلى الهيئة ، فإنّ مادّة المشتقّات ليست هي المصدر لا لفظا ولا معنى ، ضرورة تباينه لفظا ومعنى معها ، والمباين كيف يكون مادّة للمباين!؟

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) الفصول الغرويّة : ٧١.

(٤) كفاية الأصول : ١٠٠.

٢٨٧

أمّا وجه المباينة لفظا : فواضح.

وأمّا معنى فهو أنّ المصدر وضع للحدث المنتسب إلى فاعل ما بنسبة ناقصة ، والفعل الماضي للحدث المنسوب بنسبة تحقّقيّة ، والمضارع بنسبة تلبّسيّة ، والأمر للطلب أو غير ذلك ، ومن الواضح تباين كلّ منها مع الآخر معنى ، فلا يمكن أن يكون المصدر مادّة المشتقّات.

بل المادّة السارية في جميعها ـ حتى المصدر ـ لفظا هي : لفظة «ض ، ر ، ب» مثلا مجرّدة عن جميع الهيئات سوى هيئة تقدّم الضاد على الراء وهي على الباء ، ومعنى هو : الحدث الساذج مجرّدا عن جميع النسب وجودا أو عدما على نحو اللابشرط المقسمي.

ومن ذلك ظهر أنّ معنى الاسم المصدري أيضا غير المادّة ، إذ أخذ فيه عدم النسبة.

نعم ، يمكن القول بأنّ المصدر أصل باعتبار أنّ وضع المادّة للمعنى حيث لا يمكن بعد أن لم يكن متلوّنا بلون فلا بدّ في مقام تفهيم معناها من أن يكون بواسطة أحد المشتقّات والمصادر سيّما المجرّد منها ، إذ لا قياس فيها نوعا ، ووضعها شخصي ، فلا يبعد القول بأنّ الواضع وضع أوّلا المصدر بوضع شخصي ثمّ بملاحظته وضع سائر الصيغ نوعا أو شخصا ، لكن هذا غير كونه أصلا ومادّة للمشتقّات.

٢٨٨

بقي الكلام في أنّه ما المراد من المرّة والتكرار ، هل المراد الدفعة والدفعات ، أو الفرد والأفراد؟

والفرق بينهما أنّ الدفعة هي الوجود الواحد أو الوجودات المتعدّدة في زمان واحد ، والفرد هو الوجود الواحد ، ولذا قد تجتمع الدفعة مع الأفراد المتعدّدة.

والظاهر أنّه يصحّ النزاع بكلا المعنيين.

هذا ، ولصاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ كلام ، وهو أنّه لو كان المراد منهما الفرد والأفراد لوجب أن يبحث عنهما بعد البحث عن تعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد ، فيقال بعد فرض تعلّقه بالفرد : هل يكتفى بفرد واحد في مقام الامتثال ، أو يحتاج إلى التكرار؟ والبحث عن ذلك قبل البحث الآتي لا معنى له ، لأنّه من تبعاته (١).

وقد أنكر عليه صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره.

والحقّ أنّ الحقّ معه ، وإنكاره في محلّه ، فإنّ الطبيعة والفرد المذكورين هنا غيرهما هناك ، ولا اتّحاد للفردين في المقامين ، كما أفاده صاحب الفصول ، ولا للطبيعتين كذلك ، كما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين (٣).

بيان ذلك : أنّ المراد من الطبيعة والفرد في المبحث الآتي هو أنّ الطلب هل تعلّق بصرف وجود الطبيعة مع قطع النّظر عن

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧١.

(٢) كفاية الأصول : ١٠١.

(٣) نهاية الدراية ١ : ٣٥٨ ، ٣٥٩.

٢٨٩

عوارض الوجود ولوازمه من الخصوصيات المختصّة بالفرد بحيث لا مدخل لها في الطلب أصلا ، أو أنّ لها مدخلا في تعلّق الطلب والخصوصيات الفردية متعلّقة للطلب بنحو الواجب التخييري؟ فعلى الأوّل يتعلّق الطلب بالطبيعة ، وعلى الثاني بالفرد.

والمراد من الطبيعة والفرد هنا أنّه هل تعلّق بالطبيعة المتحقّقة في ضمن الفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة أو الدفعة الواحدة والدفعات المتعدّدة؟

فاتّضح الفرق بينهما ، وأنّه على تقدير القول بتعلّق الطلب بالطبيعة في البحث الآتي أيضا يأتي هذا النزاع ، إذ الطبيعة من حيث هي لا معنى لأن تكون متعلّقة للطلب ، بل تكون كذلك باعتبار تحقّقها في ضمن الفرد الواحد أو الأفراد المتعدّدة.

وثمرة البحث الآتي تظهر في مقامين :

الأوّل : فيما إذا فرض محالا تحقّق الطبيعة بدون الفرد هل يحصل الامتثال أم لا؟ فعلى تقدير تعلّقه بالطبيعة يحصل ، وعلى تقدير تعلّقه بالفرد لا يحصل.

الثاني : في باب اجتماع الأمر والنهي ، كما إذا صلّى في مكان مغصوب ، فعلى تقدير تعلّقه بالطبيعة لا يجتمع الأمر والنهي ، إذ الخصوصيات الفردية على هذا الفرض غير متعلّقة للأمر ، فكونها في المكان غير مأمور به ، فلا يجتمع مع النهي عن الكون في المكان المغصوب ، وعلى تقدير تعلّقه بالفرد يجتمع ، وهو واضح.

٢٩٠

وأمّا ثمرة هذا البحث : أنّه على تقدير دلالة الأمر على الفرد أو الدفعة يحصل الامتثال بإتيان المأمور به دفعة واحدة أو بإتيان فرد واحد ، وعلى تقدير دلالته على التكرار لا يحصل الامتثال بذلك ، بل يحتاج إلى الإتيان بأزيد من فرد أو دفعة ، فاتّضحت المغايرة بين البحثين موضوعا وثمرة.

ثمّ إنّه إذا قيل بأنّ الأمر يدلّ على المرّة ، فالظاهر أنّه بمعنى بشرط لا ، أي بدون انضمام فرد آخر إلى الفرد الأوّل ، فالانضمام على هذا ـ مضافا إلى أنّه غير مشروع ـ يضرّ بالفرد الأوّل أيضا ، كما في ركوع الصلاة ، وهكذا لو دلّ على الدفعة.

ولو دلّ على التكرار ، فالاقتصار بالفرد أو الدفعة يضرّ به أو بها أيضا ، فهو من قبيل بشرط شيء.

وأمّا إذا قلنا بعدم دلالة الأمر على شيء من ذلك ، فإذا ورد أمر ، فتارة يكون الآمر في مقام البيان ، وأخرى في مقام الإهمال أو الإجمال.

فإن كان في مقام الإهمال والإجمال ، فيكون المقام من صغريات الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فإن قلنا بالبراءة العقليّة والشرعيّة ـ كما هو المختار ـ أو الشرعيّة فقط ، فالأصل جواز الإتيان بمطلق ما تنطبق الطبيعة عليه ، فردا كان أو أفرادا ، دفعة أو دفعات.

وذلك لأنّ الفرد أو الدفعة من قبيل بشرط لا ، وإرادة الأفراد

٢٩١

أو الدفعات من قبيل بشرط شيء ، وكلاهما قيدان مرتفعان بالأصل.

وأمّا إذا كان في مقام البيان ، فلا إشكال في أنّ مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة : جواز الاقتصار بالفرد الواحد ، وكذا جواز انضمام فرد آخر إلى الفرد الأوّل ، إذ عدم الانضمام أيضا قيد ، فحيث لم يقيّده المولى مع كونه في مقام البيان ، فيرفع بالإطلاق ، ويحكم بجواز الانضمام ، وعدم قدحه في حصول الامتثال.

وهذا بلا تفاوت أصلا بين إرادة الفرد والأفراد من المرّة والتكرار أو الدفعة والدفعات ، إلّا أنّ صاحب الكفاية فرّق بينهما ، فالتزم بجواز الإتيان بالأفراد دفعة واحدة ، وأمّا الإتيان بها دفعات ، ففيه تفصيل ، إذ لو حصل الغرض الأصيل بالإتيان في الدفعة الأولى ، كما إذا أمر المولى بإتيان الماء ليشرب ، فأتى العبد به وشربه المولى ، فلا مجال لإتيانه مرّة ثانية بداعي حصول الامتثال بكليهما ، أو كون الثاني امتثالا آخر أو تبديلا للامتثال الأوّل ، لما مرّ من حصول الغرض ، وسقوط الأمر بسقوط الغرض ضروري.

ولو لم يحصل ، كما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض ، فيصحّ الإتيان بالمأمور به مرّات ودفعات بأحد الدواعي الثلاث المتقدّمة ، كما في المثال المزبور فيما إذا لم يشرب الماء.

والحاصل : أنّ الامتثال إمّا يكون علّة تامّة لحصول الغرض

٢٩٢

في الدفعة الأولى أو لا ، فإن كان الأوّل ، فلا معنى للامتثال ثانيا في الدفعة الثانية ، وإن كان الثاني ، فحيث إنّ الغرض بعد باق ، فللإتيان دفعة ثانية مجال واسع.

هذا ، ويرد عليه أنّ الغرض الواجب تحصيله للمأمور ليس هو الغرض الأصيل ، إذ ربما لا يكون تحت اختيار المكلّف ، أو يكون المأمور به جزءا لمحصّله ، بل هو الغرض المترتّب على المأمور به ، فالامتثال علّة تامّة لحصول الغرض المتعلّق بالمأمور به ، وعلى المكلّف تحصيل هذا الغرض ، سواء حصل الغرض الأصيل أم لم يحصل.

وممّا يوضّح ذلك : أنّ المولى إذا أراد رفع عطشه ، فأمر عبده بالمجيء بالماء ، وجاء به لكن لم يشرب المولى ، فبالضرورة امتثل العبد ، مع أنّ الغرض الأصيل بعد باق ، ولا يكون تحصيله تحت اختيار العبد ، بل حصوله مترتّب على شربه ، فما لم يشرب لم يحصل الغرض ولو جاء بألف كأس من الماء ، فالغرض من المأمور به في المثال هو تمكّن المولى من الشرب ومن رفع العطش وسهولته عليه ، لا رفع العطش.

وبعبارة أخرى ومثال أوضح : إذا كان غرض المولى رفع الجوع أو الالتذاذ بالطبيخ ، فأمر أحد عبيده بابتياع الحطب ، والآخر بابتياع الأرز ، والثالث بابتياع الدهن ، والرابع بالطبخ ، فإذا امتثل كلّ الأمر المتعلّق به إلّا من امر بالطبخ ، فهل يدّعي مدّع أنّ

٢٩٣

مخالفته توجب عدم حصول الامتثال بالقياس إلى باقيهم أيضا بدعوى أنّ الغرض الأصيل لم يحصل كلّا ، بل كلّ امتثل أمره ، وحصل الغرض من الأمر المتعلّق به إلّا من امر بالطبخ ، فإنّه لم يمتثل ولم يحصّل الغرض من الأمر المتعلّق به ، وهو تمكّن المولى من رفع جوعه أو التذاذه أو سهولة ذلك عليه.

فاتّضح فساد الفرق بين المقامين ، وأنّ مقتضى الإطلاق : الاكتفاء بدفعة واحدة ، ولا يضرّ الزائد ، كما أنّ مقتضاه الاكتفاء بالفرد الواحد ، ولا يضرّ الزائد.

بقي شيء ، وهو : أنّه إذا كان مقتضى الإطلاق الاكتفاء بالمرّة في الأوامر ، فلم لا يكتفى بها في النواهي؟ مع أنّ ما هو متعلّق للأمر في الأوامر ـ وهي المادّة ـ هو متعلّق للنهي في النواهي بعينه ، ومفاد الهيئة هو الطلب إلّا أنّه طلب الفعل في الأوامر وطلب الترك في النواهي.

ويمكن أن يفرّق بينهما بفرق عقلي وفرق عرفي.

أمّا الأوّل : فهو أنّ مدلول الأمر والنهي ليس هو طلب الفعل والترك ، بل مدلول الأمر طلب الوجود والاشتياق إليه ، ومدلول النهي الزجر عن الوجود ومبغوضيته ، فمتعلّق الأمر والنهي هو وجود الفعل لكن طبيعيّه الملغى عنه جميع الخصوصيات ، ومقتضى مطلوبية الطبيعي هو : تحقق الامتثال عقلا بمجرّد تحقّقه بأيّ نحو كان ، ومقتضى مبغوضيّة الطبيعي وكونه مزجورا عنه

٢٩٤

هو : عدم تحقّق الامتثال والانزجار عقلا إلّا بعدم تحقّقه في زمان من الأزمنة ولو مرّة واحدة ، إذ بوجود فرد من الأفراد ـ ولو في زمان ما ـ توجد الطبيعة المبغوضة المتعلّقة للنهي.

وأمّا الثاني : فهو أنّ العرف حيث لا يمكن لهم إيجاد الطبيعة في ضمن كلّ فرد في كلّ زمان ولم يبيّن المولى بعضا معيّنا ، فلا يفهمون من الأمر بإيجاد الطبيعة إلّا إيجادها أينما سرت وفي أيّ زمان تحقّقت ، وحيث إنّ كثيرا من الأفراد في كثير من الأزمان منترك ، ولا يمكن للعبد أن يفعل الفعل المنهيّ عنه في جميع الأزمنة ، فلا محالة لا يكون المنهيّ عنه الطبيعة المتحقّقة في ضمن البعض غير المعيّن ولا في ضمن البعض المعيّن ، إذ المفروض أنّ النهي مطلق ولم يبيّن المولى ذلك البعض ، فلا يفهم العرف من النهي إلّا مبغوضيّة إيجاد الطبيعة المطلقة أينما سرت وفي أيّ زمان تحقّقت ولو في ضمن فرد من الأفراد في آن من الآنات.

المبحث السابع : قد ظهر ممّا مرّ ـ من أنّ مفاد الصيغة ليس إلّا إبراز الشوق وأنّه لا دلالة لها على الوجوب ولا على الاستحباب ولا على المرّة ولا على التكرار ـ أنّه لا دلالة لها على الفور ولا على التراخي ، فمقتضى إطلاق المادّة وعدم تقييدها بالفور ولا بالتراخي : جواز التراخي ، إلّا أن يكون هناك دليل مقيّد خارجي يدلّ على التقييد بأحدهما.

٢٩٥

واستدلّ بآية الاستباق (١) والمسارعة (٢) ، على الفوريّة.

وأورد عليه صاحب الكفاية (٣) بوجوه ثلاثة :

أحدها : أنّ حمل الأمر في الآيتين على الوجوب مستلزم لتخصيص الأكثر المستهجن عند العرف ، ضرورة أنّ كثيرا من الواجبات بل أكثرها لا يجب فيها المسارعة والاستباق ، وهكذا المستحبّات بأجمعها ، فلا بدّ من حمله على الندب ، أو مطلق.

وما أفاده في غاية الجودة والمتانة.

ثانيها : أنّ مفاد الآيتين ـ بقرينة السياق ـ إنّما هو البعث والتحريك نحو المسارعة والاستباق إلى سبب المغفرة من دون استتباع للذمّ على الترك ، إذ لو كان كذلك لكان الأنسب البعث بالتحذير.

وفيه ـ مضافا إلى أنّه منقوض بقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٤) حيث إنّه بعث إلى إقامة الصلاة من دون تحذير ، فلا بدّ أن لا يكون تركها مستتبعا للغضب ، وإلّا لكان البعث بالتحذير أنسب ـ أنّه لا وقع لهذا الكلام بعد تسليم ظهور الصيغة في الوجوب ، إذ مخالفة كلّ واجب مستتبع للغضب ، حذّر عنه أو لم

__________________

(١) البقرة : ١٤٨ ، المائدة : ٤٨.

(٢) آل عمران : ١٣٣.

(٣) كفاية الأصول : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٤) البقرة : ٤٣.

٢٩٦

يحذّر ، والتحذير ربما يكون ، كما في آية الحذر (١) ، وربما لا يكون ، كما في (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)(٢) وأمثالهما.

ثالثها : دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وأنّ الأمر في الآيتين وغيرهما من الآيات والروايات إرشاد إلى ذلك الحسن العقلي ، فيكون نظير (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٣).

وهذا أيضا كسابقه في عدم الصحّة ، إذ مجرّد استقلال العقل بشيء لا يوجب حمل الأمر إلى الإرشاد إلى ذلك الشيء ، بل يوجب ذلك إذا لم تكن له فائدة أخرى غير ما حكم به العقل ، وباب الإطاعة من هذا القبيل ، فإنّ ما حكم به العقل ـ وهو حسن الإطاعة واستحقاق العقوبة على تركها ـ بعينه هو الّذي يستفاد من الأمر المولوي الوجوبيّ ، بخلاف المقام ، إذ العقل يحكم بمجرّد الحسن لا به وباستحقاق العقوبة على تركها ، فلا يحمل الأمر حينئذ على الإرشاد ، بل هو أمر مولوي ظاهر في الوجوب.

فظهر أنّ شيئا من الوجهين الأخيرين لا يكون صحيحا.

وهناك وجه رابع : هو أنّ المستفاد من المسارعة إلى سبب المغفرة والاستباق إلى الخير أنّ الفعل مع التأخير أيضا يكون خيرا وسببا للمغفرة ، وهذا معنى عدم اقتضاء الأمر للفورية ، إذ لو كان

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) البقرة : ٤٣.

(٣) النساء : ٥٩.

٢٩٧

مقتضيا (١) لكان الخير منحصرا فيما فعل فورا ، فلا يصحّ الأمر بالاستباق مع الانحصار.

* * *

__________________

(١) الملازمة ممنوعة ، ضرورة إمكان كون شيء واجبا وخيرا ، والاستباق إليه واجبا آخر وخيرا في خير ، كيف لا والصلاة خارج الوقت خير وسبب للمغفرة ، والحجّ بعد عام الاستطاعة كذلك ، ومع ذلك يجب الاستباق والمسارعة بالأداء سنة الاستطاعة وفي الوقت المقرّر له. (م).

٢٩٨

الفصل الثالث

الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟

ولا بدّ قبل البحث عنه من تقديم أمور :

الأوّل : أنّ المراد من قيد «على وجهه» هو الإتيان على ما ينبغي بتمام الأجزاء والشرائط ، لا الإتيان بقصد الوجه ، إذ هو أحد ما يعتبر في المأمور به ، ولا وجه لاختصاص النزاع به دون غيره من الأجزاء والشرائط.

مضافا إلى عدم اعتباره كما عليه الأكثر ، وعدم جريان النزاع في غير العبادات على تقدير الاعتبار.

ولا الإتيان على ما ينبغي أن يؤتى به شرعا أو عقلا ، كما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ ، لأنّ قصد التقرّب قيد شرعي (١) على ما اخترناه في بحث التعبّدي والتوصّلي.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٠٥.

(٢)كونه قيدا شرعيّا على مبناه ـ دام ظلّه ـ لا ينافي إرادة هذا المعنى منه في كلام القوم ، بل إرادته متعيّن ، لجريان النزاع على جميع المباني حتى على مبنى أخذ قصد التقرّب في المأمور به عقلا ، وهذا واضح لا سترة عليه. (م).

٢٩٩

وعلى ما ذكرنا ـ من أنّ المراد به الإتيان بتمام الأجزاء والشرائط ـ هذا القيد يكون تأكيدا لما يفهم ممّا قبله ، إذ على الانحلال يكون هناك أوامر متعدّدة متعلّق كلّ واحد منها بواحد من الأجزاء والشرائط ، فكلّ واحد من الأجزاء والشرائط مأمور به ، وإذا قلنا بأنّ الإتيان بالمأمور به يشمل الجميع ، فهذا القيد تأكيد ، وله فائدة هو دفع توهّم أنّ من أتى ببعض المأمور به يصدق على الانحلال أنّه أتى بالمأمور به ، فقيد «على وجهه» بمعنى «بتمامه» يدفع هذا التوهّم ، فليس لغوا مستدركا بلا فائدة.

الأمر الثاني : الظاهر أنّ «الاقتضاء» في عنوان البحث بمعنى العلّيّة التامّة للإجزاء وسقوط الأمر ، لا بمعنى كاشفيّة الأمر للإجزاء ، ومن هنا نسبه المتأخّرون إلى الإتيان لا إلى الأمر ، بخلاف المتقدّمين حيث نسبوه إلى الأمر ، والأوّل هو الأنسب ، إذ ليس للأمر كاشفيّة لذلك أصلا ، بل الإجزاء وعدمه ممّا يحكم به العقل.

هذا ولبعض مشايخنا ـ قدس‌سره ـ كلام في المقام هو أنّ إسناد الاقتضاء إلى الإتيان لا إلى الأمر موجب لعلّيّة الشيء لإعدام نفسه حيث إنّ الأمر يقتضي الإتيان ، وهو يقتضي سقوط الأمر وعدمه ، فالأمر يقتضي عدم نفسه (١).

وفيه أوّلا : أنّ ما هو مقتض للإتيان هو الأمر بوجوده العلمي ، إذ هو بوجوده الخارجي مع عدم وصوله إلى العبد لا

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : ٣٦٧.

٣٠٠