الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

ومفاد هذه الأخبار ـ كما ورد عن الأئمة عليهم‌السلام : «أنّ المجاهد إن جاهد لله فالعمل له تعالى ، وإن جاهد لطلب المال والدنيا فله» ـ هو أنّ النيّة روح العبادة ، والفعل لا يعنون بعنوان حسن بحيث يمدح فاعله إلّا إذا صدر عن نيّة حسنة ، ولا يعنون بعنوان قبيح بحيث يذمّ فاعله إلّا إذا صدر عن نيّة سيّئة ، فعنوان الفعل تابع للقصد ، فإن كان حسنا ـ كقصد التأديب في ضرب اليتيم ـ فحسن ، وإن كان قبيحا سيّئا ـ كقصد الإيذاء في ضرب اليتيم ـ فقبيح وسيّئ ، وليست هذه الأخبار في مقام بيان أنّ الأوامر عباديّة ليس إلّا ، بل هي في مقام بيان أنّ العمل تابع للقصد عباديّا كان أو توصّليّا ، فهي أجنبيّة عمّا هو محلّ الكلام.

هذا تمام الكلام فيما يقتضيه الأصل اللفظي ، وقد اتّضح أنّه هو التوصّليّة.

بقي الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي لو فرض استحالة الإطلاق لاستحالة التقييد أو عدم تمامية مقدّمات الحكمة مع إمكانه.

ولا بدّ من التكلّم في مقامين :

الأوّل : في مقتضى الأصل العملي على تقدير إمكان التقييد وعدم كون المولى في مقام البيان ، وأنّه هل هو الاشتغال أو البراءة؟

فنقول : إنّ المقام يكون صغرى من صغريات باب الأقلّ

٢٦١

والأكثر الارتباطيّين ، فيكون حال قصد الأمر حال بقيّة الأجزاء والشرائط ، فمن يقول بجريان البراءة العقليّة والشرعيّة هناك ، لا بدّ وأن يلتزم به في المقام أيضا ، ومن يقول بجريان البراءة الشرعية فقط ـ كما عليه شيخنا الأستاذ وصاحب الكفاية (١) ـ دون العقليّة لا بدّ له أن يقول به هنا أيضا.

وهذا واضح جدّاً ، فإنّ قصد القربة على هذا التقدير مشكوك الجزئيّة أو الشرطيّة ، والأمر بغيره من الأجزاء والشرائط متيقّن ، وأمّا الأمر به فلم يصل إلينا ، فيقع تحت قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» العقليّة ، وضابطة «رفع ما لا يعلمون» الشرعيّة ، أو الثانية (٢) فقط على الكلام.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل على تقدير استحالة التقييد.

والحقّ ـ وفاقا لصاحب الكفاية (٣) ـ عدم جريان البراءة الشرعيّة وإن قلنا بجريانها في باب الأقلّ والأكثر.

وذلك لأنّ قاعدة «رفع ما لا يعلمون» تجري في مورد يكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، لا في مثل المقام المفروض أنّه لا يقدر المولى على وضعه ، إذ ما هو كذلك يستحيل رفعه أيضا ، فكيف يرفعه!؟ فمقتضى الأصل في الجزء أو الشرط الّذي لا يمكن أن يكون موضوعا بوضع الشارع ولا مرفوعا برفعه ـ كما في داعي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٨. كفاية الأصول : ٤١٣ و ٤١٦.

(٢) أي : البراءة العقلية.

(٣) كفاية الأصول : ٩٨.

٢٦٢

الأمر ـ ليس إلّا الاشتغال.

هذا في البراءة الشرعيّة ، أمّا البراءة العقليّة : فذهب صاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ إلى عدم جريانها في المقام (١) ، وهو المختار عندهما في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيّين (٢).

ولكنّا قد أثبتنا في محلّه جريانها ـ وفاقا لشيخنا العلّامة الأنصاري (٣) أعلى الله مقامه ـ ولا فرق بين البابين في ذلك ، فإن قلنا بالبراءة العقليّة هناك نقول به هنا أيضا.

وتوضيح ذلك يقتضي عطف عنان الكلام إلى النقض والإبرام فيما يستدلّ لعدم جريانها في ذاك المقام ، ثم بيان ما هو المرام من جريانها في كلا المقامين على سبيل الإجمال والاختصار.

فنقول : إنّ عمدة ما استدلّ لعدم جريانها هناك وجهان :

الأوّل : ما أفاده صاحب الكفاية من أنّه لا ريب في أنّ الواجب الارتباطي مشتمل على غرض يجب على العبد استيفاؤه والقطع بحصوله بحكم العقل ، وواضح أنّه مع عدم إتيان السورة مثلا مع احتمال دخلها في حصول الغرض يشكّ في حصول الغرض ، فالعقاب عليه ـ مع استقلال العقل بوجوب القطع بحصول الغرض ـ ليس عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان لو لا دليل شرعي دالّ على

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٨ ، أجود التقريرات ١ : ١٢١.

(٢) كفاية الأصول : ٤١٦ ، أجود التقريرات ٢ : ٢٨٥ و ٢٩٥.

(٣) مطارح الأنظار : ٦١ ، وفرائد الأصول : ٢٧٣.

٢٦٣

رفع ما لا يعلم دخله في الغرض (١).

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (٢) بما حاصله : أنّ الأغراض المترتّبة على الأفعال لو كانت من قبيل المعلولات المترتّبة على عللها التامّة التي يعبّر عنها بالمسبّبات التوليديّة ، لكان لهذا الكلام وجه وجيه ، إذ كما أنّ الأفعال يمكن أن تكون متعلّقة للأمر كذلك الأغراض ، فإنّ الأغراض أيضا كالأفعال مقدورة للمكلّف ، غاية الأمر أنّها مقدورة بلا واسطة ، وهي مقدورة بواسطة الأفعال ، فإذا أمر المولى بالسبب فكأنّه أمر بالمسبّب ، بل الأمر بالسبب عين الأمر بالمسبّب ، فإنّ الأمر بذبح زيد بعينه أمر بقتله ، ولا فرق بين قول المولى : «ألق زيدا في النار» أو «أحرقه».

وإن لم تكن كذلك ، بل كانت كالآثار المترتّبة على المعدّات ، والمعاليل بالقياس إلى عللها المعدّة ، كصحّة المزاج المترتّبة على شرب الدواء ، فهو غير متّجه ، إذ على ذلك لا يمكن الأمر إلّا بالأسباب والعلل المعدّة ، فإنّ الأغراض التي تكون كذلك خارجة عن تحت اختيار المكلّف.

مثلا : صحّة المزاج مترتّبة على أسباب كثيرة لا يكون كلّها تحت اختيار المريض ، وما يكون تحت اختياره هو شرب المسهل مثلا ، والإمساك عن الأشياء المانعة عن تأثيره ، وواضح أنّ مجرّد

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٨ و ٤١٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١١٩ ـ ١٢١ ، و ٢ : ٢٨٥.

٢٦٤

هذا لا تترتّب عليه صحّة المزاج ، بل يحتاج إلى مقدّمات أخر التي لا تكون تحت اختياره ، كعمليّات القلب والرئة والمعدة وغيرها ممّا لا يكون اختياريّا له ، وحينئذ لو أمر المولى بشرب المسهل ، لا يجب على العبد المريض إلّا هو ، ولا يلزم عليه أن يأتي بما يحتمل دخله في صحّة مزاجه ، لأنّه لا يكون مكلّفا بتصحيح المزاج ، لعدم كونه تحت اختياره ، وهذا واضح.

قال الشاعر :

ابر وباد ومه وخورشيد وفلك در كارند

تا تو نانى بكف آرى به غفلت نخورى

ومن المعلوم أنّ التكاليف الشرعيّة والواجبات الإلهيّة تكون من قبيل الثاني.

والشاهد على ذلك : تخلّف بعض الأغراض المعلومة لنا ، كالانتهاء عن الفحشاء ـ الّذي هو أثر للصلاة ـ فإنّه لا يترتّب على نوع صلوات المصلّين ، فعلى هذا لا يجب تحصيل الغرض ، لعدم توجّه الأمر إليه ، لكونه غير مقدور للمكلّف ، فلا يمكن الحكم بالاشتغال من هذه الجهة.

نعم ، لو كانت الأغراض والملاكات الشرعيّة من قبيل القسم الأوّل ، فلم يكن مناص عن الحكم بالاشتغال ، ولكنّك قد عرفت أنّه بمراحل عن الواقع.

هذا خلاصة ما أفاده ـ قدس‌سره ـ في المقام.

٢٦٥

وفيه : أنّ التكاليف الشرعية وإن كانت متعلّقاتها معدّات لأغراضها وملاكاتها إلّا أنّ لكلّ معدّ أثرا يكون ترتّب هذا الأثر على ذلك المعدّ من قبيل ترتّب المعلول على علّته التامّة وإن كان ترتّب الأثر الأصلي ـ الّذي هو الغرض الأقصى وغاية الغايات ـ عليه لا يكون كذلك.

مثلا : وجود الحطب والأرز والسمن والطبّاخ وطبخه كلّها معدّات لحصول الطبيخ ، وهو لا يترتّب على وجود الحطب فقط ، أو الأرز كذلك ، وهكذا ، إلّا أنّ لوجود الحطب أثرا ، وهو تمكّن الطبّاخ من تسخين الماء في القدر يكون ترتّبه عليه كترتّب المعلول على علّته التامّة ، ولا ينفكّ عنه.

وعلى هذا ، الأثر الإعدادي الّذي هو الغرض من الأمر في الحقيقة مقدور للمكلّف بالواسطة ، فهو مكلّف بما يحتمل دخله في حصول هذا الغرض ولا بد من إتيانه بناء على وجوب تحصيل الغرض بحكم العقل ، فهذا الجواب لا يسمن ولا يغني من الجوع.

فالتحقيق في الجواب : أنّ الغرض في التكاليف الشرعيّة حيث إنّه أمر إجمالي لا يدركه عامّة الناس ولا يعلمون به وبأنّ محصّله ما ذا ، لا يمكن أن يقع تحت الأمر ، بل لا بدّ للمولى أن يأمر بما يحصّل غرضه وبكلّ ما له دخل في تحصيل غرضه ، وليس له أن يأمر بالغرض ويقول : «انه نفسك عن الفحشاء» مثلا بدون ذكر [محصّل الغرض] ، فإن أخلّ بشيء ممّا له دخل في حصول

٢٦٦

غرضه ولم يبيّنه ، فليس له أن يعاقب العبد بتركه ، لأنّه بلا بيان ولا برهان ، فالعقل لا يحكم إلّا بوجوب إتيان ما يعلم دخله في المحصّليّة ، وأمّا ما عداه فهو غير موظّف ـ بحكم العقل ـ على إتيانه.

والثاني : ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من أنّ المأمور به في الواقع إمّا مطلق ولا بشرط بالقياس إلى السورة مثلا ، أو مقيّد وبشرط شيء بالنسبة إليها ، وحيث لا جامع بينهما فيستحيل انحلال العلم الإجمالي إلّا على تقدير ثبوت أحد طرفيه ـ وهو الإطلاق ـ بدليل شرعي ، إذ مع عدمه يبقى الإطلاق على حاله من كونه أحد طرفي الاحتمال ، فيبقى العلم الإجمالي على حاله أيضا وإلّا يلزم انحلاله بلا وجه وبلا موجب ، وكيف يعقل انحلال العلم بنفسه وبلا موجب ولا جهة!؟ ومع عدم الانحلال يستقلّ العقل بالاشتغال ، ولم يكن للبراءة مجال (١).

والجواب عنه : أنّ المأمور به في الواقع وإن كان أمره مردّدا بين أن يكون مطلقا وأن يكون مقيّدا إلّا أنّ الطبيعة المهملة اللابشرط المقسمي الجامعة بينهما معلوم الوجوب تفصيلا ، فإذا شكّ في أنّ الواجب هل هو الطبيعة المطلقة اللابشرط القسمي المتحقّقة في ضمن الصلاة مع السورة وبدونها ، أو أنّه هو الطبيعة المقيّدة بشرط شيء التي لا تتحقّق إلّا في ضمن الصلاة مع السورة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٨٨.

٢٦٧

فالعقل لا يحكم إلّا بوجوب إتيان الجامع بينهما المعلوم وجوبه ووصوله إلى المكلّف ، وهو الطبيعة المهملة اللابشرط المقسمي ، ولا إلزام من ناحية العقل بالنسبة إلى المشكوك.

وبعبارة أخرى : إنّا نعلم تفصيلا [أنّ] عدم إتيان التكبيرة والقراءة والركوع والسجود مبغوض للشارع ونستحقّ المؤاخذة عليه ، وأمّا بالقياس إلى السورة فنشكّ في أنّها هل هي مثل سائر الأجزاء تجب علينا ونعاقب على تركها ، أو أنّا لسنا في ضيق من جهتها ، ويجوز لنا تركها ، ولا نعاقب عليه؟ ومن المعلوم أنّ العقل لا يحكم إلّا بوجوب ما هو معلوم تفصيلا لنا من الأجزاء والشرائط الواصلة إلينا ، ويستقلّ بالبراءة فيما عداه.

ومن ذلك ظهر أنّ ما أفاده من عدم وجود الجامع بين اللابشرط وبشرط شيء إنّما يتم في اللابشرط المقسمي وبشرط شيء ، لا في القسمي منه وبشرط شيء ومن البيّن أنّ المطلق هو اللابشرط القسمي لا المقسمي.

والحاصل : أنّ العلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد لا يفيد شيئا بعد عدم كون الإطلاق موجبا لثبوت الكلفة الزائدة ، كما أنّ التقييد يوجب ذلك ، فيرجع الشكّ إلى الشكّ في ثبوت الكلفة الزائدة من جهة التقييد ، فيستقلّ العقل بقبح العقاب من ناحيته ، وأين هذا من انحلال العلم الإجمالي من قبل نفسه بلا جهة ولا موجب؟ فاتضح أنّ كلا الوجهين غير تامّ.

٢٦٨

ثم إنّ التحقيق الّذي يقتضيه النّظر الدّقيق أن يقال : إنّه على تقدير عدم جريان البراءة العقلية بالنسبة إلى المشكوك دخله في الغرض لا تجري الشرعية منها أيضا ، لأنّ حديث الرفع وغيره من أدلة البراءة الشرعية حيث إنّه أصل لا أمارة ، والمثبت من الأصول ليس بحجّة لا يثبت به ترتّب الغرض على إتيان الأقلّ ، وما لم يثبت ذلك حكم العقل بالاشتغال بالباقي لو قلنا بوجوب تحصيل الغرض.

توضيحه : أنّ لنا ثلاثة شكوك :

الأوّل : أنّ السورة هل هي جزء للصلاة أم لا؟

الثاني : أنّه هل الأمر المتعلّق بالصلاة يسقط بمجرّد الإتيان بما عدا السورة من الأجزاء والشرائط أم لا؟

الثالث : أنّه هل الغرض المترتّب على هذا الواجب المركّب الارتباطي يحصل بإتيان ما هو المعلوم أم لا يحصل؟

وحديث الرفع لا يشمل إلّا الأوّل ، ويدلّ على أنّ المكلّف ليس في ضيق من ناحية جزئية السورة ، ومن لوازمه العقلية حصول الغرض ، وسقوط أمر سائر الأجزاء والشرائط ، وحيث إنّه لا يثبت لوازمه فلا يثبت به حصول الفرض وسقوط الأمر ، ومعه لا يفيد شيئا ، ويكون شموله للشكّ الأوّل لغوا لا يترتّب عليه فائدة أصلا ، فلا بدّ من الالتزام في أمثال المقام بعدم الشمول حتى بالنسبة إلى الشكّ الأوّل.

٢٦٩

نعم ، لو ورد في مورد خاصّ يكون كذلك ، نلتزم بشموله وإثبات لوازمه ، صونا لكلام الحكيم عن اللغوية.

مثلا : إذا سئل الإمام عليه‌السلام عن السورة المشكوك جزئيّتها للصلاة ، فأجاب عليه‌السلام بهذا الحديث وقال : «رفع ما لا يعلمون» نحكم بصحّة الصلاة بدون السورة ، وحصول الغرض منها وسقوط أمرها ، وإلّا يلزم أن يكون جواب الإمام لغوا غير مفيد بوجه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لو قلنا بعدم جريان البراءة العقلية من جهة الشكّ في حصول الغرض في باب الأقلّ والأكثر ، فلا بدّ وأن نقول بعدم جريان البراءة الشرعية أيضا ، وإذا قلنا بجريانها في باب الأقلّ والأكثر من جهة قبح العقاب بلا بيان ، فلا بدّ من القول به في المقام أيضا ، فإنّ بيان ما له دخل في غرض المولى ـ سواء كان قصد القربة أو غيره ـ على عهدة المولى ، كما عرفت ، فإذا لم يبيّن فليس له العقاب ، فإنّه بلا بيان.

لا يقال : إنّ البراءة العقلية لا تجري في المقام على تقدير استحالة تقييد المأمور به ، فإنّ العقل حاكم بذلك فيما إذا أمكن للمولى البيان ولم يبيّن ، لا فيما لا يمكن ذلك.

فإنّه يقال : إنّما المستحيل ـ لو كان ـ هو تقييد المأمور به بقصد الأمر ، وأمّا بيان أنّ المولى غرضه لا يحصل إلّا بالإتيان بقصد القربة ولو بالجملة الخبرية كأن يقول : «لا صلاة إلّا بقصد الأمر» فهو بمكان من الإمكان.

٢٧٠

فالحقّ هو اتّحاد المسألتين في الحكم بجريان البراءة وعدمه ، غاية الأمر أنّ الشرعيّة منها لا تجري في المقام ، لما مرّ آنفا من المانع ، لكنّها في باب الأقلّ والأكثر لا مانع من جريانها ، فتجري العقليّة والشرعيّة كلتاهما.

فظهر أنّ مقتضى الأصل العملي ـ لو وصلت النوبة إليه ـ هو التوصّليّة ، وعدم لزوم إتيان المأمور به بقصد الأمر.

هذا كلّه في التعبّدي والتوصّلي بالمعنى الأوّل الّذي هو عبارة عن كون الواجب قربيّا وغير قربيّ ، وأمّا التوصّلي بالمعنى الثاني ـ وهو الواجب الغيري في مقابل الواجب النفسيّ ـ فيأتي الكلام فيه في بحث مقدّمة الواجب إن شاء الله.

بقي الكلام في الواجب التوصّلي بالمعنى الثالث ، وهو كون الواجب بحيث يسقط أمره بمطلق وجوده في الخارج ، ويتحقّق الامتثال كيف ما اتّفق ولو كان بفعل الغير أو من دون إرادة واختيار أو بفعل محرّم ، وأنّه عند الشكّ في التوصّليّة والتعبّدية بهذا المعنى هل مقتضى الأصل اللفظي والإطلاق هو التوصّليّة وسقوط الأمر بمطلق وجود المأمور به ، أو لا؟ يقع الكلام في جهات :

الأولى : أنّ الأمر هل يسقط بفعل المحرّم أو لا؟

فنقول : إنّ الظاهر عدم السقوط ، وذلك لأنّ الأحكام حيث إنّها متضادّة لا يعقل اجتماع حكمين. منها في موضوع واحد.

وبعبارة أخرى : لا يمكن شمول الأمر الوجوبيّ للفرد المحرّم

٢٧١

وكونه مطلوبا للمولى ، للزوم كون فعل واحد محبوبا ومبغوضا له معا ، وحينئذ فمقتضى الأصل اللفظي والإطلاق ـ إن كان المتكلّم في مقام البيان ـ هو عدم السقوط ، إذ مرجع الشكّ إلى أنّ الوجوب هل هو مشروط بعدم تحقّق الواجب في ضمن فرد محرّم حتى يسقط الأمر عند ذلك ، أو لا حتى يبقى الأمر على حاله ، ويجب الإتيان بمتعلّقه في ضمن فرد غير مبغوض؟ والإطلاق يقتضي عدم الاشتراط ، ولازمه بقاء الأمر ، وعدم سقوطه بإتيان الفرد المحرّم ، وإن لم يكن المولى في مقام البيان ، فمقتضى الأصل العملي أيضا هو عدم السقوط ، والاشتغال.

الجهة الثانية : أنّ الأمر هل يسقط بالفعل غير الاختياري وبما صدر لا عن إرادة واختيار ، أم لا؟

ربما يقال بأنّ الأفعال المتعلّقة بملابساتها ومتعلّقاتها تنصرف إلى الاختيارية ، فتكون ظاهرة في كون متعلّقاتها مطلقا اختيارية.

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ بما حاصله : أنّ هذا المعنى لا يفهم أصلا لا من المادّة ، ضرورة أنّ مادّة «تحرّك» وهي الحركة تطلق على حركة المرتعش والشجر كما تطلق على حركة اليد الصادرة عن الإرادة والاختيار بلا تفاوت أصلا ، ولا من الهيئة ، فإنّها ـ على ما مرّ مرارا ـ لا تدلّ إلّا على حكاية تحقّق المادّة في الخارج ، وهذا المعنى مشترك بين جميع الموادّ ، سواء كانت من

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠٠.

٢٧٢

الأفعال الاختيارية أو الطبعية والقسرية.

ومن هنا أفتى الفقهاء بضمان المتلف أعمّ من أن يكون إتلافه بالاختيار أو غفلة أو حال النوم أو أمثال ذلك تمسّكا بعموم «من أتلف مال الغير فهو له ضامن».

نعم يصحّ ذلك في خصوص فعل الأمر بوجهين :

الأوّل : أنّ مطلوب المولى ـ على ما هو الحقّ ـ كما لا بدّ فيه من الحسن الفعلي كذلك لا بدّ فيه من الحسن الفاعلي بأن يتّصف صدوره عن الفاعل ، بالحسن ، وذلك لا يكون إلّا في الفعل الاختياري ، بداهة أنّ الفعل الحسن الصادر عن طبع أو عن قسر وإن كان حسنا مطلوبا في نفسه لكن لا يمكن أن يكون مطلوبا من المكلّف وحسنا منه بحيث يكون ممدوحا عند العقلاء لأجل صدور هذا الفعل الحسن عنه بلا إرادة واختيار.

الثاني : أنّه ليس الأمر إلّا البعث ، وهو لا يمكن إلّا فيما يمكن الانبعاث ، ومن الواضح أنّ الانبعاث بالنسبة إلى الفعل الصادر لا عن إرادة واختيار ممتنع ، فلا يمكن البعث إليه أيضا ، ومعه كيف يشمله الأمر ويكون مطلقا بالنسبة إليه؟

وبعبارة أخرى : ليس الأمر إلّا جعل الداعي للعبد على الفعل فيما يمكن للعبد أن يصدر عنه بداع من الدواعي ، ومن المعلوم أنّ ما يصدر عن قهر ولا بداع لا يعقل فيه ذلك ، فلا يمكن أن يشمل الواجب لهذا المصداق ، فإذا شكّ في سقوط الأمر بهذا الفعل ،

٢٧٣

فالمرجع أصالة الإطلاق إن كان ، وعدم الاكتفاء بالصادر لا عن اختيار ، لأنّ مقتضى الإطلاق إن كان المتكلّم في مقام البيان : أنّ المأمور به والواجب فعل اختياري ، سواء وجد في الخارج اضطراري أم لا ، وأصالة الاشتغال إن لم يكن في مقام البيان ، كما في صورة الإتيان في ضمن فرد محرّم.

فتلخّص أنّ مقتضى الأصل اللفظي والعملي : هو عدم السقوط (١).

هذا خلاصة ما أفاده في المقام ، وفي كلا الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ لازم ذلك أن تكون الواجبات كلّها تعبّديّة ، إذ الفعل لا يتّصف بالحسن الفاعلي إلّا بإتيانه بالداعي الإلهي ، ومجرّد كونه اختياريّا لا يوجب الحسن الفاعلي ، فإنّ الآتي بالداعي النفسانيّ لا يصدر الفعل حسنا منه بحيث يمدح عليه ، فظهر أنّه لا موجب باعتبار الحسن الفاعلي في اتّصاف الفعل بصفة المطلوبيّة للمولى ، وكونه مصداقا للواجب ، بل اللازم إنّما هو الحسن الذاتي للفعل ، وأن يكون ذا مصلحة ملزمة ، كان اختياريّا أو لا ، صدر على الوجه الحسن أو لا.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا يتمّ بالنقض أوّلا ، وبالحلّ ثانيا.

أمّا النقض : فبما ذكروه في بحث اقتضاء الأمر النهي عن الضدّ وعدمه.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٠١.

٢٧٤

فقال قوم بالاقتضاء ، فالتزموا بعدم صحّة الصلاة بعصيان أمر الإزالة.

وقال شيخنا البهائي قدس‌سره : الصلاة باطلة ، سواء قلنا بالاقتضاء أو لم نقل.

وذلك على الاقتضاء واضح ، وأمّا على القول بعدمه : فلأنّ الأمر بالشيء لو لم يقتض النهي عن ضدّه لا يقتضي الأمر به أيضا ، ويكفي في بطلان الصلاة عدم كونها مأمورا بها.

وقال آخرون بعدم الاقتضاء ، وهم بين من التزم بالبطلان من جهة عدم الأمر بها ، ومن التزم بالصحّة إمّا من طريق الترتّب أو من ناحية التقرّب بالملاك ، ومنهم شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ فقالوا : إنّ هذه الحصّة من الصلاة وإن كانت غير مأمور بها إلّا أنّا نعلم أنّ ملاك الأمر موجود وإن لم يكن للمولى الأمر بها ، لاستحالة الأمر بالضدّين من الشارع الحكيم.

واستشكل بعض بأنّا لا طريق لنا إلى استكشاف ملاكات الأحكام إلّا الأمر ، وحيث إنّ هذه الحصّة من الصلاة غير مأمور بها ، فلا نعلم بوجود الملاك فيها ، فأجابوا عنه : بأنّ هذه الحصّة إنّما لم تكن مأمورا بها بحكم العقل ، لوجود المانع من الأمر ، ولذا لو تمكّن المكلّف من الإزالة حال الصلاة يجب كلا الفعلين ، ويتعلّق الأمر بهما معا ، فالتخصيص عقليّ لا شرعيّ ، وراجع إلى الهيئة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٢ مبحث الضدّ.

٢٧٥

لا المادّة ، وفي ناحية الطلب لا المطلوب ، والملاك يستكشف من إطلاق المادّة وهي الصلاة في المثال وإن كان الطلب مقيّدا بالمقدور عقلا ، والتقييد في الهيئة عقلا لا يلازم التقييد في المادّة ، إذ الضرورات تقدّر بقدرها ، فيبقى إطلاق المادّة على حاله ، وتصحّ الصلاة بالتقرّب بالملاك.

أقول : من قال بصحّة الصلاة وسقوط الأمر المتعلّق بالطبيعة المقدورة للمكلّف بإتيان هذه الحصّة غير المأمور بها لأجل وجود الملاك لم لا يقول بسقوط الأمر المتعلّق بذاك الفعل الاختياريّ بهذا الفعل الاضطراري لأجل وجود الملاك مع أنّ التقريب الجاري هناك بعينه يجري في المقام أيضا؟ فإنّ التخصيص في المقام أيضا عقليّ لا شرعيّ.

مثلا : إذا قال المولى : «أقم في هذه البلدة عشرة أيّام» فالأمر بالإقامة وإن كان مقيّدا بالإقامة المقدورة الاختياريّة عقلا إلّا أنّ إطلاق المادّة ـ وهي الإقامة ـ باق على حاله ، فمقتضاه وجود الملاك في الفعل غير المقدور الاضطراري أيضا ، فأيّ ملزم للالتزام هناك بسقوط الأمر بإتيان الصلاة غير المأمور بها وبعدم سقوطه هنا بإقامة عشرة أيّام؟

وأمّا الحلّ : فبما ذكرنا في بحث الإنشاء والإخبار ودلالة الصيغة على الوجوب من أنّ الإخبار عبارة عن إظهار ما في النّفس من حكاية تحقّق النسبة في الخارج ، والإنشاء هو إظهار تحقّق

٢٧٦

النسبة على مسلك سلكناه في الوضع من أنّه ليس إلّا التعهّد.

مثلا : الواضع تعهّد والتزم بأنّه متى اعتبر ملكيّة شيء لشخص جعل مبرزه لفظ «بعت» وجميع الإنشاءات من هذا القبيل.

وأيضا قلنا في بحث دلالة الصيغة على الوجوب : إنّ مفاد الصيغة ليس إلّا إظهار شوق المولى إلى المادّة ، وأنّه متى أظهر شوقه إلى شيء بمبرز ما من فعل أو كتابة أو إشارة أو لفظ ، يتحقّق بذلك مصداق الطلب ، ولا تدلّ الصيغة على أزيد من تعلّق شوق المولى بالمادّة ، وأمّا الوجوب فهو ممّا حكم به العقل بعد إبراز المولى شوقه إلى شيء.

ومنه يظهر أنّ الاختيار والاضطرار خارجان عن مدلول الصيغة ، كالوجوب والاستحباب ، فإنّ النّفس كما تشتاق إلى فعل اختياري كذلك ربما تشتاق إلى فعل لا يكون كذلك.

وتعلّق شوق المولى بفعل غير مقدور للعبد غير مستحيل ، وإنّما القبح أو الاستحالة ناشئة من ناحية الإبراز ، وعلى هذا إذا لم يأخذ المولى القدرة في متعلّق أمره ولم يجعل الحصّة المقدورة من المادّة في حيّز طلبه يستكشف أنّ الملاك موجود في الجامع بين المقدور وغير المقدور ، ومتعلّق الشوق ومورد المصلحة هو الأعمّ من الاختياري والاضطراري.

نعم ، ليس للمولى إلزام العبد بغير المقدور ، فلا محالة يتقيّد إطلاق الطلب ، لكن يبقى إطلاق المطلوب على حاله ، إذ لا موجب

٢٧٧

لتقييده بعد إمكان كونه مطلقا شاملا للمقدور وغيره في مقام الثبوت ، كما عرفت ، وعدم أخذ القدرة فيه في مقام الإثبات ، وحينئذ يصحّ التمسّك بإطلاق المادّة ، والحكم بسقوط الأمر بإيجاده لا عن إرادة واختيار ، لوجود الملاك فيه أيضا بمقتضى الإطلاق.

وهذا بخلاف ما إذا أخذ القدرة في متعلّق الأمر ، كما في قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) حيث يستكشف من تعلّق الشوق بالحصّة المقدورة والمستطاع إليها من الحجّ دون مطلق الحجّ : أنّ المصلحة قائمة بتلك الحصّة فقط ، فلا إطلاق يقتضي سقوط الأمر عند إتيان الحجّ متسكّعا بلا استطاعة شرعية.

فتلخّص أنّ مقتضى الأصل اللفظي والإطلاق إن كان هو التوصّلية بهذا المعنى ، ومقتضى الأصل العملي لو لم يكن إطلاق هو البراءة ، وعدم وجوب الاختياري بعد الإتيان اضطرارا ، فإنّ المقدار المعلوم تعلّق الغرض بالجامع ، وأمّا تعلّقه بخصوصية الاختياريّة فغير معلوم يرفع بأدلّة البراءة.

الجهة الثالثة : أنّ الأمر هل يسقط بفعل الغير ، أو يشترط في سقوطه أن يصدر عن المأمور بالمباشرة؟ الحقّ هو التفصيل.

وتوضيحه : أنّ فعل الغير على قسمين :

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٢٧٨

قسم يكون الغير بمنزلة الآلة لصدور الفعل عن المأمور ، والفاعل في نظر العرف هو لا الغير ، وهذا كما إذا أمر المولى عبده بقتل عدوّه ، وكان عند العبد حيوان مفترس ، فأرسله إليه فقتله ، أو طفل أو مجنون ، فبعثه على قتله ، فقتله ، فإنّ القتل في هذه الصور منسوب إلى العبد حقيقة بلا عناية ، ولذا يكون القصاص في أمثال هذه الموارد على السبب دون المباشر وإن كان الفعل صادرا عنه بالإرادة والاختيار ، إلّا أنّه لا يلتفت إليه ، ويعدّ آلة بنظر العرف.

والظاهر أنّه لا كلام في سقوط الأمر بفعل الغير الّذي يكون كذلك ، فإنّ الفعل عرفا فعل المأمور ، وصادر عن نفس المخاطب على نحو الحقيقة بلا مسامحة أصلا.

وقسم يسند إلى الغير حقيقة ، ويعدّ المأمور عرفا أجنبيّا عنه ، عكس السابق ، كما إذا كان الغير رجلا بالغا عاقلا رشيدا ، فلو باشر مثله للقتل ، يسند إليه حقيقة من دون تفاوت بين صدوره عنه باستدعاء المأمور أو أمره ، وبلا فرق بين نيابته عن المأمور وعدمها.

وذهب شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ إلى اندراج هذا القسم في الجهة الثانية ، نظرا إلى أنّ فعل الغير ليس تحت اختيار المأمور ، ولا يعدّ في حقّه من المقدور ، فلا يمكن شمول الخطاب له ، ومعه لا يكون لنا إطلاق يقتضي التوصّلية بهذا المعنى حتى يتمسّك به عند الشكّ في سقوط الأمر بفعل الغير ، ومقتضى الأصل العملي : عدم

٢٧٩

التوصّليّة ، والاشتغال حيث إنّ الشكّ في حصول الغرض وسقوط الأمر بفعل الغير ، والأصل عدمه (١).

ويرد عليه ما أوردناه على كلامه في الجهة الثانية من النقض والحلّ وإن كان أصل الدعوى حقّا ، لكن لا لما أفاده ، بل للفرق البيّن بين الجهتين الموجب للاختلاف في الحكم ، وهو تعلّق الأمر بمطلق المادّة في الجهة الثانية ، وتعلّقه بالحصّة الصادرة عن المخاطب في المقام ، فإنّ كلّ قيد وملابس أخذ في المادّة ظاهره أنّه دخيل في حصول غرض المولى ، وأنّ متعلّق الشوق هو المقيّد لا المطلق ، ومن أقوى القيود المأخوذة فيها هو صدور المادّة عن المخاطب.

مثلا : لو قال المولى : «أقم يا زيد عشرة أيّام في كربلاء» ظاهره أنّ متعلّق شوقه هو إقامة زيد لا غيره عشرة أيّام لا أقلّ منها في كربلاء لا مكان آخر ، ومقتضى هذا الظهور هو الصدور عن نفس المأمور.

وحاصل الكلام : أنّ الشوق في مقام الثبوت وإن أمكن تعلّقه بطبيعي الفعل سواء صدر عن نفس المخاطب أو عن الغير ، كإمكان تعلّقه بالجامع بين الاختياري والاضطراري ، فمن هذه الجهة لا فرق بين الجهتين ، إلّا أنّه فرق بينهما في مقام الإثبات ، وهو ظهور الكلام في تعلّق الشوق بمطلق المادّة في الجهة الثانية ، وبالحصّة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٩٨ ـ ٩٩.

٢٨٠