الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

ذلك من الصفات المشهورة أم لا؟

والحقّ هو الثاني ، والوجدان أصدق شاهد على ذلك حيث إنّا لا نجد في أنفسنا ـ سوى مقدّمات الإرادة ونفسها وسائر الصفات المعروفة ـ شيئا آخر وصفة أخرى قائمة بالنفس قيام العرض بمعروضه حتى تكون كلاما نفسيّا مدلولا للكلام اللفظي ، وهذا واضح غاية الوضوح.

بقي الكلام في إثبات متكلّميّته تعالى بعد ما ثبت بطلان القول بالكلام النفسيّ ، وذلك يتّضح ببيان الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل.

فنقول : الميزان في تميّز صفات الذات عن صفات الفعل أنّ الصفة إن أمكن حملها وحمل نقيضها عليه تعالى فهي من صفات الفعل ، كما في الخالق والرازق وأمثال ذلك حيث يصحّ أن يقال : هو تعالى خلق الإنسان ولم يخلق العنقاء أو لم يخلق ذا رءوس أربع ، ورزق زيدا ولدا ولم يرزق عمرا ولدا ، ومن ذلك : المتكلّم ، إذ يصحّ أنّه تعالى تكلّم مع موسى بن عمران عليه‌السلام ولم يتكلّم مع أبيه عمران.

وإن لم يمكن ذلك (١) فهي من صفات الذات كما في القادر والعالم وغير ذلك ، حيث لا يصحّ حمل نقيضها بأن يقال : هو تعالى

__________________

(١) أقول : هذا في غير ما يمتنع وجوده ذاتا ، وإلّا فبالنسبة إلى ما يكون كذلك أيضا يصحّ حمل نقيض صفات الذات عليها بأن يقال : إنّه تعالى لا يقدر على إيجاد شريك له ولا يعلم بشريك له ونحو ذلك. (م).

٢٠١

علم بفلان والعياذ بالله لم يعلم بفلان ، أو قادر على فلان ولا يقدر على فلان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ ما يكون قديما وعين ذاته تعالى من الصفات هي صفات الذات لا صفات الفعل ، وقد عرفت أنّ التكلّم من صفات الفعل حيث إنّه تدريجي الحصول وممّا ينقضي وينصرم ، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون قديما ، فصفة التكلّم مثل سائر الصفات التي هي صفات الفعل ، كما في الخالق والرازق وغير ذلك ، ومتكلّميّته تعالى لا تتوقّف على إثبات الكلام النفسيّ.

فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه ليس في البين كلام نفسي مدلول عليه بالكلام اللفظي.

الجهة الرابعة : أنّه بعد ما ثبت أنّ مدلول الجمل الخبرية ليس أمرا في النّفس يعبّر عنه بالكلام النفسيّ ، وهكذا مدلول الجمل الإنشائية ليس أمرا في النّفس يعبّر عنه بالطلب النفسيّ في الأوامر وبغيره في غيرها ، فمدلول الجمل خبرا أو إنشاء ما ذا؟

المعروف بينهم ـ كما في الكفاية (١) ـ أنّ الجمل الخبرية دالّة على تحقّق النسبة وثبوتها في الخارج أو عدمه ، والإنشائية منها دالّة على إنشاء معانيها في الخارج ، كالطلب والترجّي والتمنّي وغير ذلك.

لكنّ التحقيق ـ كما ذكرنا في بحث المشتقّ ـ أنّ الخبر بما هو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٧.

٢٠٢

خبر ليس له دلالة على وقوع النسبة أو لا وقوعها ، وهو أجنبيّ عن مدلول الخبر ، بداهة أنّ «الأربعة فرد» خبر لا يدلّ على ثبوت النسبة في الخارج ، بل مدلول الخبر هو الحكاية عن ثبوت النسبة في الخارج ، واحتمال الصدق والكذب ناش عن توافق الحكاية مع المحكيّ عنه وتطابقهما.

وذلك لما عرفت في الوضع أنّ حقيقة الوضع وما أسّس بنيانه عليه هو التعهّد بأن يلتزم الواضع بأنّه متى ما أراد الحكاية عن ثبوت القيام لزيد في الخارج مثلا جعل مبرزها ومعرّفها «زيد قائم» وهو بمنزلة تحريك الرّأس في جواب من قال : «أزيد قائم؟» والصدق والكذب ليس باعتبار مدلول الخبر الّذي هو هذه الحكاية ، كما أنّهما ليسا من ناحية الموضوع والمحمول ، بل هما من ناحية مطابقة هذه الحكاية مع ما في الخارج وعدمها ، ومن هنا قيل : «الخبر ما يحتمل الصدق والكذب» وإلّا لا يكون معنى لهذا الاحتمال ، كما لا معنى له في المفردات ، بل ما يلزم فيه وفي المفردات في صورة عدم المطابقة ليس إلّا خلاف الالتزام والتعهّد ، لا الكذب إذا علم المتكلّم بالحال ، وهكذا في صورة عدم معلوميّة المطابقة ، وعدمها ليس إلّا احتمال خلاف الالتزام والتعهّد بالنسبة إلى مدلول الخبر ومفرداته ، لا احتمال الصدق والكذب.

ومن ذلك ظهر أنّ مدلول الجمل الإنشائيّة ليس إنشاء معانيها

٢٠٣

في الخارج ، كما في الكفاية (١) ، ولا جعل المكلّف في الكلفة ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (٢) ، ولا إنشاء البعث والزجر ، كما أفاده بعض (٣) مشايخنا قدس‌سره ، ولا الإلزام بالفعل أو الترك ، كما عن غيرهم ، بل هذه عناوين تنتزع من إظهار المولى شوقه وما في نفسه بلفظ أو إشارة أو كتابة أو غير ذلك ممّا يكون مبرزا لما في النّفس من شوق أو غيره ، فالبعث ينتزع باعتبار أنّ المولى يوجّه عبده نحو المراد ، وعنوان التكليف ينتزع بلحاظ إيقاعه وجعله في الكلفة ، والإلزام باعتبار جعل المأمور به لازما عليه وعلى عهدته ، وهكذا سائر العناوين كلّ ينتزع عنه باعتبار ، وشيء من ذلك لا ربط له بمدلول الأمر ، بل مدلوله كما عرفت هو إبراز (٤) المولى شوقه بفعل لعبده بمبرز وهو صيغة «تعال» تارة ، والإشارة أخرى ، والكتابة ثالثة ، وهكذا ، إذ ذلك مقتضى تعهّد الواضع بأنّ متى ما اشتقت إلى مجيئك إيّاي جعلت مبرزه ومعرّفه هذا اللفظ ، وليس لمدلوله خارج حتى يحتمل مطابقته له أو عدمها ، كما في الخبر ، كما أنّه ليس لتحريك اليد مقام قول المتكلم : «تعال» خارج ولا واقع يطابقه ، وهذا واضح جدّاً.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٨٨.

(٣) نهاية الدراية ١ : ١١٤.

(٤) أقول : يشكل هذا في الأوامر الامتحانية ، فإنّ المولى لا يشتاق إلى ما أمر به امتحانا أصلا ولا يريده جدّاً ، بل الأمر ليس إلّا لمجرّد غرض الابتلاء والامتحان. (م).

٢٠٤

بقي الكلام في دفع شبهات الأشاعرة القائلين بالجبر وأنّ العباد مجبورون في أفعالهم ، ولذا أنكروا (١) التحسين والتقبيح عقلا حيث إنّ موضوعهما الفعل الاختياري لا الجبري ، وتحفّظوا بذلك قدرته وسلطنته تعالى ، وأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يسأل وهم يسألون ، ويدخل من يشاء في نعيمه وإن كان من الفجّار ويدخل من يشاء في جحيمه وإن كان من الأبرار بلا قبح في نظر العقل أصلا ، ووقعوا في شبهة إسناد الظلم إليه ـ تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ في قبال المعتزلة القائلين بالتفويض ، وأنّ يد الله مغلولة ، وأنّ العباد مختارون في أفعالهم اختيارا تامّا بحيث لا يقدر هو تعالى [على] سلبه عنهم ، فتحفّظوا بذلك عدله تعالى ، والتحسين والتقبيح العقليّين ، ووقعوا في شبهة سلب السلطنة والقدرة عنه تعالى ، فكلّ تنحّى عن طريق الاستقامة ، ووقع في طرف الإفراط والتفريط ، خلافا للفرقة المحقّة الاثني عشريّة القائلين بالأمر بين الأمرين وأخذوا وتعلّموا من أئمّتهم صلوات الله عليهم أجمعين ، فتحفّظوا بذلك عدله وقدرته تعالى.

فمن الشبهات : ما عن الفخر الرازي من أنّ الأفعال كلّها معلولة للإرادة ، وهي ـ أي نفس الإرادة ـ غير إرادية ، وإلّا لزم التسلسل ، فإذا كان علّة الفعل أمرا قهريّا جبريّا ، فلا محالة يكون معلولها أيضا

__________________

(١) الظاهر أنّ إنكارهم للحسن والقبح ليس منحصرا بفعل العباد ، بل أنكروهما مطلقا حتى في أفعال الله تعالى. (م).

٢٠٥

كذلك ، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة ، وهو بمكان من البطلان (١).

وأجيب عنه : بأنّ الأفعال حيث إنّها مسبوقة بالإرادة فهي اختيارية في مقابل الفعل القسري الّذي صدر عن قهر وقسر ، كسقوط الحجر ، والطبعي الّذي يصدر بالطبع ، كحركة النبض ، ويكفي في الفعل الاختياري أن يكون إرادية ، ولا يلزم أن تكون الإرادة إرادية أيضا.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ المعلول لأمر غير اختياري غير اختياري ، فهو جبر بصورة الأمر بين الأمرين.

والتحقيق في الجواب أنّ الإرادة تستعمل تارة ويراد منها تلك الصفة النفسانيّة التي هي الشوق ضعيفا أو قويّا ، وتستعمل أخرى ويراد منها الاختيار الّذي هو فعل من أفعال النّفس ، والمحذور المذكور لازم على تقدير أن تكون علّة الأفعال الإرادة بالمعنى الأوّل لا هي بالمعنى الثاني ، ونرى بالوجدان أنّه ليس مجرّد الشوق علّة تامّة للفعل ، بداهة أنّ النّفس في إعمال قدرتها وسلطنتها فيما اشتاقت إليه وما تكرهه على حدّ سواء ، بل ما ارتكز في أذهاننا ونرى من وجداننا أنّ العلّة التامّة للفعل هي الإرادة

__________________

(١) راجع تلخيص المحصّل المعروف بنقد المحصّل ـ للخواجة نصير الدين الطوسي ـ : ٣٢٥.

٢٠٦

بالمعنى الثاني التي قيامها بالنفس قيام الفعل بفاعله. وإن شئت فسمّها بالاختيار أو المشيئة أو إعمال القدرة أو حملة النّفس.

وبالجملة علّة الأفعال ـ وهي الإرادة بمعنى الاختيار وإعمال القدرة ـ اختيارية ، إذ للنفس أن تعمل قدرتها نحو الفعل وتفعل وأن لا تعمل قدرتها ولا تفعل ، فإذا كانت العلّة اختياريّة ، فلا محالة يكون المعلول أيضا اختياريّا.

إن قلت : إعمال القدرة وحملة النّفس واختيارها أيضا فعل من الأفعال ، وبالضرورة لا يكون واجب الوجود ، فيكون ممكنا محتاجا إلى العلّة ، فهي إمّا إرادية أو اضطرارية ، فهو على الثاني يكون اضطراريّا ، ويعود المحذور ، وعلى الأوّل ننقل الكلام فيها ، فإن كانت إرادية ، يتسلسل ، وإلّا يعود المحذور ، فلا أثر لهذا الجواب أصلا.

قلت : يكفي في كون الفعل اختياريّا أمران :

الأوّل : مقدوريته للفاعل بحيث يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل.

الثاني : استناده إليه بحيث يصدر من الفاعل لا عن قهر وقسر ، ولا يلزم في ذلك أزيد من هذين الأمرين.

وما اشتهر في الألسنة من أنّ الممكن لا بدّ لوجوده في الخارج من علّة ممّا لا أصل له لو كان المراد ظاهره من عدم الانفكاك بينهما ، ولكنّ الظاهر أنّ مرادهم بذلك أنّ الممكن حيث إنّ نسبته إلى الوجود والعدم على حدّ سواء وككفّتي الميزان لا يوجد

٢٠٧

بالذات ، وإلّا خرج الممكن بالذات عن كونه ممكنا بالذات ، بل لا بدّ له من موجد يوجده ، أمّا كونه علّة تامّة له بحيث لا ينفكّ عنه فلا ، فحينئذ فعل النّفس الّذي سمّيناه بالاختيار أو إعمال القدرة أو حملة النّفس أو المشيئة أو غير ذلك من الألفاظ ـ

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

 ـ فعل اختياري صادر عن النّفس بلا واسطة في البين ، وهو مقدور لها بحيث يمكنها أن تعمل قدرتها وأن لا تعمل ، بخلاف سائر الأفعال ، فإنّها صادرة عن النّفس بواسطة هذا الفعل الاختياري ، وهذا معنى قوله عليه‌السلام : «خلق الله الأشياء بالمشيئة والمشيئة بنفسها» (١).

والحاصل : أنّ علّة الفعل ليست هي الشوق بل هي الاختيار ، والشوق ليس إلّا باعثا ومحرّكا للنفس وداعيا للاختيار ، وهو فعل من أفعال النّفس يصدر عنها بلا واسطة ، ولها أن تختار وأن لا تختار ، فهو مقدور لها وفعلها.

ونظيره علم النّفس بالأشياء ، فإنّه بواسطة الصورة الحاصلة منها في النّفس ، وأمّا علمها بهذه الصورة فهو بنفسها لا بواسطة صورة أخرى.

ولو قلنا بقهرية الأفعال المعلولة للاختيار ولم نكتف في اختيارية الاختيار بمقدوريته للنفس وصدوره عنها ، وجب أن نقول

__________________

(١) الكافي ١ : ١١٠ ـ ٤ بتقديم وتأخير.

٢٠٨

بذلك في أفعال الله حيث إنّه تعالى أيضا خلق الأشياء بالمشيئة والاختيار ، ولا فارق في البين ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، ولا يقول به الأشعري.

ومنها : أنّ الأفعال بين واجب وممتنع ، إذ الإرادة الأزلية له تعالى إمّا تعلّقت بها فهي واجبة ، أو لم تتعلّق بها فهي ممتنعة ، وإلّا لزم أن تكون إرادة العبد غالبة على إرادة الله ، وهو باطل بالضرورة.

وهذه الشبهة نشأت من جعل إرادته تعالى من صفات الذات ، وهو المعروف بين جملة من الفلاسفة وهو باطل ، بل هي من صفات الفعل.

بيان ذلك : أنّ صفات الذات ـ كما عرفت ـ هي ما لا يمكن نفيها عنه تعالى بوجه من الوجوه ، كالقدرة والعلم حيث إنّهما لا يمكن نفيهما عنه تعالى ، إذ هو تعالى قادر إذ لا مقدور ، وعالم إذ لا معلوم.

وأمّا الإرادة فيمكن نفيها عنه تعالى كما في التنزيل (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١).

وقد تطابقت وتظافرت الأخبار بأنّ الإرادة من صفات الفعل ، وليس شيء غير العلم والقدرة من صفات الذات ، والحياة صفة تنتزع عنهما ، وبقيّة الصفات كلّها من صفات الفعل ، ومنها الإرادة ، فهي على هذا ليست بأزلية ، بل هي ـ كسائر الأفعال ـ ربما تصدر

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

٢٠٩

منه تعالى ، وربما لا تصدر بحسب المصالح والمفاسد ، فالإرادة ليست بأزلية حتى يقال : إمّا تعلّقت بالأفعال أو لم تتعلّق ، ويلزم ما ذكر ، والأفعال ليست أفعال الله حتى تكون معلولة لإرادته واختياره ، بل هي معلولة لاختيار العباد حيث إنّها أفعالهم ، فالقضية سالبة بانتفاء الموضوع.

وبالجملة لمّا جعلوا الإرادة من صفات الذات ، وقعوا في هذه الشبهة ، وقالوا بمجبورية العباد في أفعالهم ، وأنت بعد ما عرفت أنّ الإرادة ليست من صفات الذات لا يبقى لك إشكال من هذه الجهة ، فتأمّل.

ومنها : أنّه تعالى حيث إنّ إرادته عين علمه ، فإن علم بفعل العبد يجب ، وإن علم بعدمه فيمتنع ، فهو إمّا واجب صدوره من العبد أو ممتنع ، وإلّا يلزم تخلّف العلم عن المعلوم ، وهو محال في حقّه تعالى ، وبذلك أشار شاعرهم حيث قال :

 .......................

گر مى نخورم علم خدا جهل بود

والجواب ـ مضافا إلى أنّ هذه الشبهة أيضا مبتنية على جعل الإرادة من صفات الذات ، وقد عرفت بطلانه ـ أنّ علمه تعالى تابع لوقوع الفعل بمعنى أنّه حيث كان العبد يصدر منه الفعل علم هو به ، لا أنّه حيث علم به يصدر الفعل من العبد.

وبعبارة أخرى : ليس العلم بالصدور علّة للصدور ، بل الأمر بالعكس ، والصدور علّة للعلم به ، ضرورة أنّ طلوع الشمس غدا

٢١٠

ليس معلولا لعلمنا به ، بل علّته أمر آخر لا ربط له بعلمنا به ، وهكذا لا ربط له بعلم الباري به ، إذ ليس العلم بالشيء إلّا انكشافه لدى العالم من غير فرق بيننا وبين الباري في هذا المعنى ، والانكشاف كيف يمكن أن يكون مؤثّرا وعلّة للشيء!؟ ولو كان كذلك ، للزم أن يكون الباري تعالى أيضا مجبورا في أفعاله ، إذ هو تعالى عالم بأفعال نفسه ، فأفعاله أيضا ضرورية له ، وإلّا يلزم تخلّف العلم عن المعلوم ، المحال في حقّه تعالى ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

هذا تمام الكلام في الجبر ، والجواب عن شبهات الأشعري.

أمّا التفويض الّذي قال به المعتزلة ، حفظا لعدله تعالى : فالتزموا بأنّ العباد مختارون في أفعالهم تمام الاختيار بحيث لا يمكن للباري تعالى سلب الاختيار عنهم بتوهّم أنّ الممكن لا يحتاج في بقائه إلى المؤثّر ، فالباري تعالى بعد أن أوجد العبد وأعطاه القدرة والاختيار أجنبيّ عنه ، ولا يقدر على سلب اختياره وقدرته ، فقالوا بمقالة اليهود من أنّ يد الله مغلولة.

وفساد هذا التوهّم ظاهر لا سترة عليه ، إذ الممكن ـ كما ثبت في محلّه ـ محتاج إلى المؤثّر وإلى إفاضة الوجود من الحقّ حدوثا وبقاء ، إذ البقاء أيضا وجود ثان يحتاج إلى موجد ومؤثّر ، وإلّا لزم انقلاب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات.

وذلك لأنّ الافتقار ـ الّذي هو من لوازم ذات الممكن وماهيّته ـ

٢١١

إمّا أن يكون باقيا بعد الحدوث أو لا ، فعلى الأوّل لا يستغني عن المؤثّر ما دام باقيا ، وهو المطلوب ، وعلى الثاني يلزم الانقلاب ، إذ انتفاء لازم الذات والماهيّة مستلزم لانتفاء الذات ، وهو محال.

وأوضح مثال مثّل في المقام : وجود الصورة في النّفس ، فإنّها موجودة في النّفس ما دام تتوجّه النّفس بها ، وتنعدم بمجرّد سلب النّفس توجّهها عنها. وهكذا وجود الضوء في العالم متفرّع على إشراق الجرم المشرق المضيء وتابع له ، فإنّه بمجرّد وجود حاجب في البين أو انعدامه ينعدم ، فكما أنّ وجود الصورة في النّفس ليس وجودا واحدا موجودا بتوجّه [واحد] وهكذا وجود الضوء ليس وجودا واحدا بإشراق واحد ، بل هناك وجودات متتابعة ناشئة من توجّهات النّفس آناً فآنا ومن إشراقات متعدّدة واحدا بعد واحد ، إلّا أنّا نرى واحدا في الظاهر ، فكذلك قدرة العبد أيضا في كلّ آن غيرها في آن آخر ، وهي في كلّ آن مفاضة بإفاضة غيرها في آن آخر ، وبمجرّد قطع الفيض عن العبد تنعدم من دون احتياج إلى معدم أصلا.

فالقول بالتفويض ـ كالجبر ـ باطل عاطل ، وإنّما الحقّ هو الأمر بين الأمرين ، وأنّ للعبد سلطنته على الفعل ، وللباري تعالى سلطنة على سلطنته ، والعبد قادر على الفعل والترك ، ومختار بينهما عند إفاضة القدرة والوجود منه تعالى بحيث لو قطع الفيض ينعدم.

٢١٢

فالفعل له جهتان بكلّ جهة منتسب إلى شخص حقيقة ، فمن حيث إنّه يصدر من العبد عن اختيار منتسب إليه حقيقة ، ومن حيث إنّ إفاضة القدرة والاختيار والوجود منه تبارك وتعالى منتسب إليه حقيقة ، وهو معنى الأمر بين الأمرين الّذي يتحفّظ به العدل والسلطنة كلاهما للباري تعالى ، وهو مذهب الفرقة المحقّة الإمامية.

ثمّ إنّه لمّا كانت قدرة العبد بالنسبة إلى الفعل والترك على حدّ سواء وإنّما المرجّح لأحدهما هو الشوق النفسانيّ الّذي هو الإرادة ، فلا بأس بصرف عنان الكلام ـ وإن كان خارجا عن المرام لكنه لا يخلو عن مناسبة للمقام ـ إلى مجمل القول في الترجيح بلا مرجّح والترجّح بلا مرجّح.

فنقول : أمّا الترجّح بلا مرجّح فمحال بالبداهة ، ضرورة أنّ الموجود بلا موجد والمعلول بلا علّة مستحيل قطعا ، والترجّح بلا مرجّح ليس إلّا الوجود بلا موجد ، وهو ينافي الإمكان الّذي هو بالنسبة إلى الوجود والعدم ككفّتي الميزان ، فلا بدّ في ترجّح أحد الجانبين على الآخر من مرجّح في البين بلا شبهة ولا ريب.

وأمّا الترجيح بلا مرجّح فليس بمحال لا في التكوينيّات ولا في التشريعيّات ، وإنّما هو قبيح لا يصدر من العاقل الحكيم إن كان هناك مرجّح أو جامع ، إذ العاقل لا يختار المرجوح على الراجح مع تساوي القدرة وعدم تفاوتها بالنسبة إليهما ، والمولى الحكيم

٢١٣

لا يكلّف عبده بالمعيّن من أحد الأمرين المتساويين من كلّ وجه على وجه يعاقب عبده على ترك المأمور به والإتيان بالآخر فضلا [عن] أن يكلّف بالمرجوح كذلك ، بل العاقل يختار الراجح في التكوينيّات ، والمولى الحكيم يكلّف بالجامع ـ إن كان ـ أو أحدهما ـ إن لم يكن ـ في صورة تساوي الأمرين ، وبالراجح في صورة عدم التساوي في التشريعيّات.

وأمّا في غير التشريعيّات وعدم وجود المرجّح فمن الواضح عدم القبح أصلا ، ضرورة أنّ العطشان الّذي عنده كوزان متساويان في إيفاء المصلحة بلا تفاوت بينهما لا يتأمّل ولا يملك نفسه عن الشرب حتى يموت نظرا إلى أنّ ترجيح أحد المتساويين قبيح ، بل يختار أحدهما ويشرب من أحدهما قطعا ، وهذا واضح جدّاً.

ومن هنا يعلم أنّ ما قاله رئيس المشكّكين ـ من أنّ المصلحة الإلهية اقتضت وجود الحركة في الأجرام السماوية ، لكن الترجيح بلا مرجّح (١) كان قبيحا ، فما وجه حركة الشمس مثلا وسيرها من

__________________

(١) أقول : قد يتوهّم استحالة الترجيح بلا مرجّح نظرا إلى أنّ الترجيح يستلزم الترجّح استلزام الكسر للانكسار ، فلا يمكن الترجيح بلا مرجّح ، لاستلزامه الترجّح بلا مرجّح ، وفي مثال الكوزين يوجد المرجّح ولكنه لخفائه يختفي على الأغلب ، فالعطشان إنّما يرجّح أحد الكوزين المتساويين من جهة كونه أقرب إليه أو إلى يده اليمنى ، أو لأنّه الّذي جاء بمدّ نظره أوّلا ، ووقع عليه توجّهه في بادئ النّظر ، وغير ذلك من المرجّحات الخفيّة.

وفساده أظهر من أن يخفى حيث إنّ الترجيح وإن كان مستلزما للترجّح لا محالة إلّا أنّ هذا الاستلزام لا يتولّد منه استلزام آخر ، وهو أنّه إن كان الترجيح ـ

٢١٤

المشرق إلى المغرب دون العكس مع عدم وجود المرجّح؟ ـ كلام متين في صورة الإشكال والاعتراض ، لكنّه ناظر إلى أنّه لا يجوز للحكيم تفويت المصلحة مع عدم وجود المرجّح ، وهذا ممّا لا يشوبه شكّ ولا ريب.

بقي الكلام في معنى حديث «السعيد سعيد في بطن أمّه ، والشقيّ شقيّ في بطن أمّه» (١).

فنقول : إنّ السعادة والشقاوة ليستا من الأمور الذاتيّة لا من الذاتي في باب (إيساغوجي) ضرورة أنّهما ليستا بجنسين أو فصلين للإنسان ولا من الذاتي (٢) في باب البرهان من قبيل الزوجيّة للأربعة ،

__________________

ـ بلا مرجّح يكون الترجّح أيضا لا محالة بلا مرجّح ، ضرورة أن الترجّح لا يكون بلا علّة ولا سبب ، بل علّته وسببه هو الفاعل والمرجّح ، وهذا مراد من يقول باستحالته ، بخلاف الترجيح ، فإنّه وإن كانت له علّة وسبب أيضا هو الفاعل والمرجّح إلّا أنّ الفاعل رجّح المرجوح أو أحد المتساويين عبثا ومن دون غرض عقلائي ، وقبحه من هذه الجهة ، وإنكاره إنكار للبداهة ، وهذا مراد من يقول بقبحه ، وإلّا فالترجيح بلا مرجّح ـ بمعنى أنّه بلا علّة وسبب وفاعل ـ فممّا لا يشكّ في استحالته ذو مسكة ، كما في الترجّح بلا مرجّح.

والحاصل : أنّ الانكسار كالكسر مثلا لا يمكن أن يكون بلا علّة ، ولكن ترجيح كسر أحد الكوزين ـ اللازم كسر أحدهما ـ على الآخر لا بدّ له من مرجّح فيه أو كونهما متساويين في هذه الجهة حتى يكون حسنا ، وإلّا فهو قبيح. (م).

(١) التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٥٦ ـ ٣ بتفاوت يسير.

(١) أقول : والشاهد على ذلك ما ورد في دعاء ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك بعد جمل منه : «وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء ، واكتبني من السعداء» إلى آخره ، [الإقبال : ٢٠٩] وغير ذلك ممّا يكون بهذا المضمون الّذي وصل بحدّ التضافر بل التواتر ولا يمكن إنكاره. (م).

٢١٥

بداهة أنّهما أمران ينتزعان من الإطاعة والمعصية المترتّبتان على العمل بما أمر به المولى أو بخلافه ، عن إرادة وشعور ، ولا يصحّ إطلاقهما على من لم يعمل عن إرادة وشعور ، فكيف بمن كان في بطن أمّه ، فلا بدّ من العناية في الحمل ، وأن يكون باعتبار وجود المقتضي للسعادة من الصفات الحسنة التي هي جنود الإله ، ووجود المقتضي للشقاوة من الصفات الرذيلة الخبيثة التي هي جنود الشيطان والنّفس الأمّارة ، سواء قلنا بالجبر أو التفويض أو الأمر بين الأمرين ، وهذا كإطلاق النار على الحطب ، لما فيه من اقتضاء النارية ، فالرواية لا تدلّ على الجبر بوجه من الوجوه.

وأمّا حديث «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة» (١) فأجنبيّ عن المقام جدّاً ، فإنّ الظاهر منه ـ والله العالم ـ أنّ الناس مختلفون في القوّة الظاهرة والباطنة والعقل اختلافا شديدا ، وهذا ممّا يختصّ بالإنسان ، إذ غيره لا يختلف في نوع واحد منه أصلا ، أو ليس بهذه الكثرة والشدّة ، كاختلاف معادن الذهب والفضّة.

وهم ودفع :

أمّا الوهم : فهو أنّه لا بدّ في الفعل العبادي أن يكون قربيّا وصادرا عن إرادة ، وهذا ينافي ما ذكر من أنّ الإرادة ليست بعلّة للفعل ولا تامّة التأثير فيه ، بل العلّة التامّة وما يكون مؤثّرا في الفعل

__________________

(١) الكافي ٨ : ١٧٧ ـ ١٩٧.

٢١٦

تمام التأثير هو الاختيار ليس إلّا ، فكيف التوفيق؟

وأمّا الدفع : فهو أنّ لفظ الإرادة ـ كما مرّ غير مرّة ـ تارة يطلق ويراد منه الشوق المؤكّد الّذي هو من صفات النّفس ، وأخرى يطلق ويراد منه الاختيار والمشيئة ، كما في جملة من الروايات ، وكلام الأصحاب ناظر إليها بالمعنى الثاني لا الأوّل ، حيث إنّ الشوق النفسانيّ لا يكون علّة للإمساك من أوّل الفجر إلى الغروب ، بل الشوق بخلافه.

ومن هنا يعلم أنّه لا يكون مرجّحا له أيضا ، والمرجّح له هو الأمر الإلهي والداعي الرحماني والمحرّك المولوي ، بل العلّة التامّة هو الاختيار ، فالمراد من هذا الكلام أنّ الفعل لا بدّ وأن يكون صادرا عن اختيار وبداع إلهي في مقابل القسري ، وما يكون بداع نفساني ، فلا منافاة أصلا.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمادّة الأمر.

* * *

٢١٧
٢١٨

الفصل الثاني

فيما يتعلّق بصيغته وهيئته.

وفيه مباحث :

الأوّل : أنّه ربما يذكر للصيغة معان غير الطلب تبلغ خمسة عشر معنى من : التهديد والتعجيز والتسخير والإرشاد وغير ذلك.

فقال بعض بكونها حقيقة في إنشاء الطلب ومجازا في الباقي.

وقال آخرون بالاشتراك اللفظي ، وأمّا الاشتراك المعنوي فلا يمكن الالتزام به حيث لا يتصوّر جامع بين التهديد والطلب.

والّذي أفاده صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ في المقام ، هو : أنّ للصيغة معنى واحدا ومدلولا فاردا هو إنشاء الطلب. واختلاف المعنى في بعض الموارد لاختلاف الدواعي ، فربما يكون الداعي لإنشاء الطلب هو الطلب حقيقة ، وربما يكون الداعي التهديد أو غير ذلك (١) ، إلى آخر ما أفاده في المقام.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩١.

٢١٩

وممّا ذكرنا سابقا ـ من أنّ معنى الأمر إبراز الشوق وأنّ الطلب ليس إلّا التصدّي نحو المراد في الإنشاءات وغيرها ، وبإيجاد المولى صيغة «اضرب» مخاطبا عبده يتحقّق مصداق الطلب ، لا أنّ مفهومها إيجاد الطلب وإنشاؤه كما أفاده ، وليس هذا إلّا الخلط بين المفهوم والمصداق ـ يظهر أنّه لا يمكن الالتزام بوحدة المعنى ، بداهة أنّ مفهوم صيغة الأمر ، المنشأة في مقام البعث والتحريك مباين لمفهوم صيغة الأمر ، المنشأة في مقام التهديد أو التعجيز أو الإرشاد أو غير ذلك ، فإنّه في مقام البعث هو إبراز الشوق ، وفي مقام التهديد هو إبراز الكراهة ، وأنّ الآمر المنشئ والمتكلّم يكره الفعل بحدّ يعاقب فاعله ، وفي مقام التعجيز هو إبراز أنّ المخاطب عاجز عن الفعل لا يقدر عليه ، وفي مقام الإرشاد هو إظهار أنّ الفعل ذو مصلحة وفائدة عائدة إلى المخاطب إن فعل ، وهكذا.

ومن الواضح أن لا جامع بين هذه المعاني ، لمكان التباين بينها ، فلا محيص عن الالتزام بتعدّد المعنى إمّا بنحو الاشتراك اللفظي أو الحقيقة والمجاز ، ولا يهمّنا إثبات أحدهما وإبطال الآخر بعد ما كانت الصيغة ظاهرة في البعث والتحريك عند عدم القرينة إمّا لأنّه حقيقة فيه أو لانصرافه إليه.

وممّا يؤكّد ذلك : صحّة إطلاق الطلب بجميع اشتقاقاته عند استعمال الصيغة في البعث والتحريك بأن يقال : «طلب زيد كذا» و «هو طالب كذا» و «هذا الفعل مطلوب له» و «هذا الشخص

٢٢٠