الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

ينطبق عليهما ـ ، لأنّ الجامع بينهما لا بدّ وأن يقبل الاشتقاق ، والقابل له هو الحدث ليس إلّا.

هذا ، مضافا إلى أنّ الأمر يطلق على ما لا يصحّ إطلاق لفظ «الشيء» عليه ، فيقال : «لا ندري بما ذا ينتهي أمر فلان» ولا يصحّ أن يقال : «شيء فلان».

وبعد ما ثبت أنّه مشترك لفظي بين الطلب المخصوص وغيره من المعاني ، فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في أنّ معنى الطلب المخصوص ما ذا؟

فنقول : لا ريب في أنّ الإرادة النفسانيّة بإيجاد الغير فعلا في الخارج ما لم تبلغ بمرتبة الإبراز والإظهار لا تكون أمرا وإن كان للمريد اشتياق به بما لا يتصوّر فوقه شيء ، إذ من الواضح ـ الّذي لا سترة عليه ـ أنّه لا يقال : «أمر المولى عبده بإحضار الماء» إذا كان له كمال الاشتياق به وأراده إرادة شديدة ، ما لم يبرز تلك الصفة النفسانيّة ـ التي هي الاشتياق بإحضار الماء وإرادته ـ بمبرز من قول أو فعل أو إشارة أو كتابة أو نحو ذلك ولو كان الإبراز بنفس مادّة الأمر ، بأن يقول : «آمرك بكذا» أو «أمرتك بكذا» أو «إنّي آمرك بكذا» أو غير ذلك.

وذلك لأنّ الإبراز مأخوذ في مفهوم الأمر لا في مصداقه حتى يلزم تجريده عن معنى الإبراز إن كان الإبراز بنفس مادّة الأمر ، فبقولنا : «أمرتك بكذا» يتحقّق مصداق لذلك المفهوم ، كما يتحقّق

١٨١

بقولنا : «افعل كذا» نظير «بعت» الإنشائي الّذي يتحقّق به مصداق البيع كما يتحقّق ب «ملّكت».

ونظير الهبة والتعظيم والهتك والاستهزاء وغير ذلك من العناوين التي تتحقّق مصاديقها بنفس ألفاظها وبغيرها ، فبقولنا : «وهبتك» يتحقّق مصداق الهبة وب «عظّمتك» مصداق التعظيم ، وهكذا.

وبعبارة أخرى : تلحظ المادّة في تلك الإنشاءات على نحو ما تلحظ الموضوعات في القضايا الحقيقية ، فوزانها وزان قولنا : «كلّ خبري صادق» الّذي يشمل بعمومه لنفس هذه القضية.

وبهذا ظهر فساد ما في كلام بعض الأساطين من أنّ الإبراز إن كان بنفس مادّة الأمر ، يلزم تجريد الأمر ـ الّذي بمعنى إبراز الإرادة والاشتياق النفسانيّ المتعلّقين بإيجاد الغير فعلا من الأفعال ـ عن معنى الإبراز ، إذ لو لم يجرّد ، يكون معنى «أمر المولى عبده بكذا» «أبرز إبراز إرادته المتعلّقة بكذا» (١).

وجه الفساد : ما عرفت من أنّ الإبراز لم يؤخذ في مصداق الأمر حتى يلزم هذا المحذور ، بل أخذ في المفهوم ، وعليه لا محذور أصلا.

المقام الثاني : في أنّه هل يكون الجامع للمعاني الأخر غير

__________________

(١) مقالات الأصول ١ : ٢٠٦.

١٨٢

الطلب حتى يكون لفظ الأمر مشتركا لفظيّا بين المعنيين أو لا؟ (١).

الظاهر الأوّل (٢) ، وأنّه مفهوم «الشيء» لكن لا بمفهومه السّعي الّذي يطلق على الجواهر والأعراض ، إذ من الواضح أنّه لا يقال : «رأيت أمرا عجيبا» فيما إذا تعلّق الرؤية بفرس عجيب أو جبل كذلك ، بل بمفهومه المحدود ، المطلق على الصفات والأفعال.

وبعبارة أخرى : هو عبارة عن معنى يساوق مفهوم «الشيء» الّذي يطلق على الأعراض فقط دون الجواهر.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون لفظ الأمر حقيقة في الطلب المخصوص ، ومجازا في غيره؟.

فإنّه يقال : لا بدّ بين المعنى الحقيقي والمجازي من مناسبة وعلاقة مصحّحة للاستعمال ، وأيّة مناسبة بين الطلب وسائر المعاني؟.

والجواب عن هذا الإشكال ـ كما عن بعض الأكابر (٣) ـ بأنّ اختلاف الجمع دليل على تعدّد المعنى وأنّه مشترك لفظي بين

__________________

(١) ولكن الصحيح بعد التأمّل في موارد استعمال هذا اللفظ أنّه يستعمل بمعنى الطلب وبمعنى الشّور ، ومنه المؤامرة ، أي : المشاورة ، وبمعنى العجب ـ كما في أساس البلاغة [: ٩] ـ فيقال : أمر من كذا : «عجب منه» وبمعنى الواقعة والحادثة. (م).

(٢) لا بأس بأن يقال بعدم الجامع بين المعاني الأخر ، فعليه يكون «الأمر» مشتركا لفظيّا لا بين المعنيين فقط بل بين ثلاث معان على الأقلّ ، فيمكن الاشتراك اللفظي بين المعنيين والأكثر على حدّ سواء لكن لا داعي إلى الأخير. (م).

(٣) نهاية الدراية ١ : ٢٥٦.

١٨٣

المعنيين ، فلو كان له معنى واحد واستعمل في الآخر مجازا لكان الجمع واحدا لا متعدّدا ، فيستكشف منه أنّه ليس من قبيل الحقيقة والمجاز ، غير صحيح ، إذ ربما يكون للمعنى الحقيقي جمع وللمعنى المجازي جمع آخر ، صرّح بذلك التفتازاني في المطوّل (١) في باب البيان.

وذلك كما في [لفظ] اليد حيث إنّه إذا استعمل في معناه الحقيقي ـ الّذي هو العضو الخاصّ ـ يجمع على «أيد» وإذا استعمل في معناه المجازي ـ الّذي هو القوّة ـ يجمع على «أياد».

ثمّ إنّه ربّما يقال : إنّ الأمر بحسب الاصطلاح حقيقة في القول المخصوص ، كصيغة «افعل» مثلا ، ومجاز في غيره.

واعترض صاحب الكفاية (٢) ـ قدس‌سره ـ بأنّه على هذا لا يمكن الاشتقاق منه ، إذ الاشتقاق لا بدّ وأن يكون من معنى حدثيّ ، والأمر بمعنى القول المخصوص ليس كذلك ، بل يكون من قبيل الجوامد التي لا تقبل الاشتقاق ذاتا.

وقد أجاب عن هذا الإشكال بعض الأساطين (٣) بأنّ الإشكال في المقام مبنيّ على أحد أمرين :

الأوّل : أنّ الموضوع له لفظ الأمر لفظ لا معنى ، فكيف يكون اللفظ معنى فضلا عن أن يكون حدثيّا! وظاهر أنّ الاشتقاق يكون

__________________

(١) المطوّل : ٢٨٤.

(٢) كفاية الأصول : ٨٢.

(٣) الشيخ محمد حسين الأصفهاني في نهاية الدراية ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

١٨٤

من معنى حدثيّ لا غير.

وفيه : أنّا لم نشترط في الوضع أن يكون الموضوع له غير لفظ ، بل كلّ ما يقبل الحكاية عنه ـ سواء كان لفظا أو غيره ـ يصحّ وضع اللفظ بإزائه ، كما في القول والكلام ، بل نفس اللفظ ، فإنّ مفاهيمها ليست إلّا الألفاظ ، فالقول المخصوص الّذي من الكيف المسموع أيضا وضع اللفظ بإزائه ، كما في القول والكلام وغير ذلك ، ولا مانع منه بوجه.

والثاني : أنّه لا يكون معنى حدثيّا.

وفيه : أنّ الفرق بين المشتقّ والجامد بقابلية المعنى للحاظ نسبته إلى شيء وعدمها ، وصيغة «افعل» من الكيف المسموع ، وهي من الأعراض القائمة بالمتكلّم ، فإن لوحظ نفسها من غير نظر إلى صدورها من الغير ، فهي المبدأ الحقيقي الساري في جميع المشتقّات ، وإن لوحظ صدورها فقط من دون ملاحظة أنّها صدرت في أيّ زمان ، فهي المعنى المصدري المشتمل على نسبة ناقصة ، وإن لوحظ صدورها في الزمان الماضي ، فهي المعنى الماضوي ، أو الحال والاستقبال ، فهي المعنى المضارعي ، فصيغة «افعل» من الأعراض التي يمكن لحاظ نفسها أو صدورها فقط أو في الزمان الماضي وهكذا.

فعلى هذا ، الأمر بمعنى الصيغة المخصوصة والقول المخصوص هو المبدأ الحقيقي ، وبمعنى التكلّم بالصيغة

١٨٥

المخصوصة هو المصدر ، و «أمر» بصيغة الماضي بمعنى تكلّم بالصيغة المخصوصة في الزمان الماضي و «يأمر» بمعنى يتكلّم بها في الحال أو الاستقبال وهكذا.

أقول : هذا الجواب غير سديد أوّلا : بالنقض بالاسم والفعل والحرف والكلام والكلمة ، فإنّ مداليلها هي الألفاظ ، وهي من طبيعة الكيف المسموع القائم بالمتكلّم قيام العرض بمعروضه ، فلم لا يمكن منها الاشتقاق؟ كما في لفظ الأمر ، بأن يقال : «اسم» بمعنى تكلّم بلفظ دالّ على معنى مستقلّ غير مقترن بأحد الأزمنة ، وهكذا «يأسم» و «فعل» بصيغة الماضي بمعنى تكلّم بلفظ دالّ على معنى مستقلّ مقترن بأحدها ، وهكذا «يفعل» وكذلك في الحرف والكلمة والكلام.

وثانيا : بالحلّ ، وهو أنّ الفرق بين المصدر والمبدأ والجامد كون الأوّل بشرط النسبة والثاني لا بشرط منها والثالث بشرط لا ، ولفظ الأمر والاسم والكلمة وأمثالها من القسم الثالث.

وبعبارة أخرى : الواضع تارة يوضع اللفظ بإزاء المعنى الملحوظ فيه النسبة ، كوضع الابيضاض والاسوداد والاحمرار للبياض والسواد والحمرة الملحوظة فيها نسبة القيام بالغير لا بشرط ، وهو بهذا المعنى قابل للاشتقاق ، وتارة يوضع اللفظ بإزاء المعنى بشرط لا ، كوضع البياض والسواد والحمرة لنفس الكيف المبصر الملحوظ فيها عدم النسبة المعبّر عنها بالفارسية

١٨٦

«سفيدى» «سياهى» «سرخى» وهو بهذا المعنى لا يقبل الاشتقاق كما لا يخفى ، ولفظ الأمر يكون من هذا القبيل ، كلفظ الاسم والفعل والحرف بلا فرق أصلا.

فالإنصاف أنّ الإشكال وارد على القوم على تقدير ثبوت النقل والاصطلاح الخاصّ في معنى لفظ الأمر ، ولا يرتفع إلّا بالتوجيه المذكور في المتن من أنّه يمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول المخصوص لا نفس القول إلّا أنّ الكلام في أصل ثبوت هذا الاصطلاح حيث إنّ النقل لا بدّ له من فائدة ولا فائدة (١) في نقل لفظ الأمر من معناه العرفي ـ الّذي هو محطّ نظر الأصولي وما يحمل عليه الخطابات الشرعية ـ إلى هذا المعنى أصلا.

ثم لا يخفى أنّه ليس لنا مورد من آية أو رواية نشكّ في المراد من لفظ الأمر وأنّه هل هو الطلب أو غيره ، إذ كلّما استعمل في مقام بيان الحكم استعمل بصيغة الماضي أو المضارع أو غير ذلك ، وقد عرفت أنّ الأمر بمعنى غير الطلب لا يشتقّ منه.

وعلى تقدير الاشتباه ، فليس لنا أصل لفظي نرجع إليه ، بل يكون اللفظ حينئذ مجملا ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

__________________

(١) أقول : يمكن أن تكون فائدة النقل سهولة الأمر في هذا البحث بأن لا يحتاجوا إلى البحث عن كلّ صيغة برأسها أو عن إحدى الصيغ وقياس الباقي عليها ، وعلى تقدير ثبوت النقل لا محذور فيه ، ولا يلزم أن يكون هذا المعنى المنقول إليه معنى حدثيّا. ومشتقّات لفظ الأمر كلّها مشتق من الأمر بالمعنى العرفي لا منه بالمعنى المصطلح ، فتأمّل. (م).

١٨٧

الجهة الثانية : أنّه هل يعتبر في تحقّق مفهوم الأمر أن يكون الآمر :

١ ـ عاليا فقط ، ولا يعتبر أن يكون مستعليا أيضا.

٢ ـ أو يعتبر عكس ذلك.

٣ ـ أو يعتبر كلاهما.

٤ ـ أو يكفي أحدهما على سبيل منع الخلوّ.

٥ ـ أو لا يعتبر شيء منهما؟ وجوه أقواها : ثالثها ، وهو أن يكون الآمر عاليا ومستعليا (١) أي مظهرا للعلوّ وآمرا بعنوان المولوية والآمرية ، وذلك لأنّ الطلب الصادر عن الداني بل عن المساوي يكون مصداقا للالتماس أو الدعاء والصادر عن العالي لا بعنوان المولوية بل بعنوان آخر من الشفاعة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريرة بعد قولها : «أتأمرني يا رسول الله؟» : «لا ، بل إنّما أنا شافع» (١) أو الإرشاد ،

__________________

(١) والقائل باعتبار الاستعلاء في مفهومه إن أراد منه هذا المعنى فهو ، وإن أراد منه الكبريائية والجبروتية ، فلا وجه له.

وهنا نكتتان :

الأولى : أنّ العلوّ المعتبر لا بدّ وأن يكون بالإضافة إلى المأمور ، ولا يكفي علوّه بالإضافة إلى غير المأمور.

الثانية : أنّ لازم اعتبار العلوّ في صدق الأمر هو عدم وجوب الأمر بالمعروف إلّا على العالي بالنسبة إلى الداني ، لا مثل الابن بالنسبة إلى الأب ونحوه ، فإنّ أدلّة وجوب الأمر بالمعروف لا يشمل كلّ شخص.

نعم يجب الأمر بالمعروف على الكلّ مع وجود الشرائط لا لأجل تلك الأدلّة ، بل لأجل عناوين أخر كعنوان قلع مادّة الفساد أو إشاعة الخير ونحوهما. (م).

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٢١١ ـ ٥٢٨٣ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٧٠ ـ ٢٢٣١ ، سنن ـ

١٨٨

كأوامر الطبيب ، يكون مصداقا للشفاعة والإرشاد دون الأمر.

وصدقه وإطلاقه على طلب المستعلي من العالي ـ كما في إطلاقه على طلبه في مقام تقبيحه وتوبيخه بمثل «لم تأمره؟» ـ يكون بالعناية والمجاز ، وجعل نفسه عاليا ادّعاء ، فطلبه حينئذ أمر ادّعائي لا حقيقي ، فإطلاق الأمر على طلبه لا يكون ناشئا من استعلائه حتى يكون الإطلاق حقيقيّا حيث إنّ الاستعلاء حقيقيّ لا ادّعائي ، بل باعتبار جعل نفسه عاليا واعتقاده بذلك حسب ما يظهر من استعلائه ، وهو صرف ادّعاء لا حقيقة له على الفرض ، فلا يكون الإطلاق حقيقيّا.

ثم إنّ في عبارة المتن في قوله : «وتقبيح الطالب السافل من العالي» (١) إلى آخره ، مسامحة جدّاً ، إذ نفس التوبيخ والتقبيح وبيان وجههما في مقام اعتبار العلوّ في تحقّق مفهوم الأمر مستدرك.

والأولى في تقريبه : ما ذكرنا من أنّ إطلاق الأمر على طلب المستعلي من العالي في مقام تقبيحه وتوبيخه بمثل «لم تأمره؟» يكون بالعناية والمجاز.

الجهة الثالثة : أنّه هل لفظ الأمر مجرّدا عن القرينة يدلّ على الطلب الوجوبيّ أم لا؟

والكلام يقع في مقامين :

__________________

ـ النسائي ٨ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٦٧١ ـ ٢٠٧٥ بتفاوت يسير في اللفظ.

(١) كفاية الأصول : ٨٣.

١٨٩

الأوّل : أنّه هل هو حقيقة في الوجوب أم لا؟

والثاني : أنّه هل هو ظاهر فيه على تقدير عدم كونه حقيقة فيه أم لا؟

وقد أيّد كونه حقيقة في الوجوب بل استدلّ عليه ببعض الآيات والأخبار بتقريب أنّ مفاد بعض الآيات كآية الحذر (١) ، وبعض الأخبار : أنّ كل أمر لازم الامتثال ، ونقطع بأنّ كثيرا ما أريد في استعمالات الشارع من لفظ الأمر الاستحباب ، فيتشكّل شكل ثان ، وصورته : أنّ الطلب الاستحبابي ليس بلازم الامتثال ، وكلّ أمر لازم الامتثال ، فينتج أنّ الطلب الاستحبابي ليس بأمر.

نظيره أن يكون هناك خطاب ، مثل : «أكرم العلماء» وخطاب آخر ، مثل : «لا تكرم زيدا» فنشكّ في أنّ زيدا هل هو عالم حتى يكون خروجه من باب التخصيص ، أو ليس بعالم حتى يكون خروجه من باب التخصّص؟ فنقول : «زيد لا يجب إكرامه ، وكلّ عالم يجب إكرامه ، فزيد ليس بعالم».

والتحقيق أنّ الآيات والأخبار المذكورة في المقام لا تكون مؤيّدة فضلا عن أن تكون دليلا ، وذلك لما قرّر في محلّه من أنّ العمل بأصالة العموم ممّا جرى عليه سيرة العقلاء فيما إذا فرض القطع بالمصداقية والشكّ في خروج ما هو معلوم الفردية عن تحت حكم العامّ ، لا فيما إذا كان الفرد معلوم الخروج ومشكوك

__________________

(١) النور : ٦٣.

١٩٠

المصداقية.

وبعبارة أخرى : السيرة القطعية من العقلاء جارية في العمل بأصالة العموم إذا كان إجراء الأصل لكشف المراد والعلم به لا مطلقا حتى فيما إذا كان المراد معلوما.

فعلى هذا عدم لزوم الامتثال في بعض الطلبات كما يمكن أن يكون بالتخصّص يمكن أن يكون بالتخصيص ، ومع احتمال كونه بالتخصيص وعدم وجود أصل يرفع هذا الاحتمال تكون كلّية الكبرى في القياس مشكوكة ، إذ مقطوعيتها ملازمة مع مقطوعية كون خروج الفرد من باب التخصّص لا التخصيص ، والفرض أنّه مشكوك ، فلا ينتج القياس ، لفقد أحد شرطيه ، وهو كلّية الكبرى.

ثم إنّه استدلّ صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ على كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب بالتبادر وانسباقه وانفهامه منه عند إطلاقه (١).

ولا يخفى عليك أنّ ما يتبادر من لفظ الأمر وينسبق إلى الذهن منه ليس إلّا الإرادة المبرزة والشوق المظهر ، وأمّا هذه الإرادة إلزامية أو غيرها فلا يفهم من اللفظ ، بل لا بدّ لها من ظهور أو قرينة أو دالّ آخر يدلّ عليه.

والشاهد على ذلك صحّة السؤال عن ذلك ، وعدم قبحه ، مضافا إلى عدم صحّة سلب الأمر عن الأوامر الاستحبابية ، مثل أن يقال : «ما أمر النبيّ بصلاة الليل» ضرورة أنّ القائل بهذا القول يعدّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٣.

١٩١

من منكري الضرورة ، وهذا بخلاف سلب الإلزام عنها بقولنا : «ما ألزم النبيّ بصلاة الليل» فإنّ صحّته ممّا لا إشكال فيه.

فانقدح ممّا ذكر أنّ لفظ الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الطلب الوجوبيّ والندبي.

والاستدلال أو التأييد بآية الحذر (١) والروايتين (٢) المذكورتين في المتن ، وأنّ مقتضاها : ثبوت الملازمة بين الأمر والعقوبة على المخالفة ، والمشقّة والكلفة ، فما ليس فيه عقوبة على مخالفته أو مشقّة في امتثاله فليس بأمر ، لا يجدي في المقام ، لأنّه ليس للعقلاء بناء على العمل بالظواهر والعمومات والمطلقات إلّا في تعيين المراد لا تشخيص الوضع بعد معلومية المراد.

والاستدلال بالرواية الأولى بتقريب آخر من طريق المفهوم ـ وهو أنّ مفهوم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك» (٣) هو أنّ السواك لمّا كان فيه المشقّة والكلفة لما أمرتهم به ، ومن المعلوم أنّه أمر بذلك استحبابا ، فنستكشف أنّه ليس بأمر ، إذ لو كان أمرا لما صحّ سلبه عنه ـ لا يفيد أيضا.

وذلك لأنّ القرينة الواضحة ـ وهي وجود الأخبار الكثيرة

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) إحداهما ما سيأتي ، وثانيتهما ما تقدّم في ص ١٨٨ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريرة : «لا ، بل أنا شافع».

(٣) الكافي ٣ : ٢٢ ـ ١ ، الفقيه ١ : ٣٤ ـ ١٢٣ ، الوسائل ٢ : ١٧ و ١٩ ، الباب ٣ و ٥ من أبواب السواك ، الحديث ٤ و ٣.

١٩٢

الدالّة على استحبابه وعدم المشقّة في الطلب الندبي ، إذ اختيار الفعل والترك بيد المكلّف ـ تدلّ على أنّ الأمر في الرواية يكون إلزاميا ، والمعنى : «لأمرتهم إلزاما» وهذا واضح جدّاً.

والاستدلال بمفهوم الرواية الثانية أيضا كذلك تقريرا وجوابا.

ثم إنّ صحّة الاحتجاج على العبد لا تدلّ على وضعه للطلب الوجوبيّ ، بل يصحّ الاحتجاج إذا كان لفظ الأمر ظاهرا في الوجوب ، كما يصحّ إذا كان حقيقة فيه. فدعوى أنّ لفظ الأمر حقيقة في الطلب الإلزاميّ عهدتها على مدّعيها.

وظهر أنّ شيئا من التبادر والآية والروايتين لا يكون مؤيّدا فضلا عن أن يكون دليلا ، فتأمّل جيّدا.

المقام الثاني : في أنّ لفظ الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ فنقول : معنى الأمر ـ كما عرفت ـ ليس إلّا إظهار الإرادة والميل وإبراز الشوق الصادر من العالي بعنوان المولوية ، وإنّما الوجوب والاستحباب أمران خارجيان لا ربط لهما بمدلول الأمر ، بل ينتزعان عن إلزامية المصلحة وعدمها ، فهناك معنى واحد واستعمال فارد ، وهو إظهار الميل ، ولا يفهم من لفظ الأمر إلّا هذا في جميع الاستعمالات ، والإلزام ربما يكون ، وربما لا يكون ، وليس إلّا ناشئا من مصلحة إلزامية داعية للأمر ، فهو أجنبي عن مدلول لفظ الأمر ، لكن مقتضى رسوم العبودية بحكم العقل هو الإطاعة والامتثال إلّا إذا ثبت الترخيص من المولى ، فمفاد «أمر

١٩٣

رسول الله بكذا» أو «افعل كذا» أو «آمرك بكذا» وأمثال ذلك ليس إلّا إظهار الميل بالفعل ، لكن بضميمة حكم العقل بأنّ كلّ أمر صدر من المولى تجب إطاعته إلّا أن يرخّص في الترك ، وهذه القضية الكلّية هي كبرى قياس صغراه : «هذا أمر لم يثبت الترخيص فيه» ونتيجته هو وجوب امتثال هذا الأمر وإطاعته وعدم قبح العقاب على مخالفته حيث ليس للعبد الاعتذار عند مؤاخذة المولى بقوله : «لم خالفتني إذ أمرتك».

فاتّضح أنّ الوجوب لا يستفاد من الأمر ، بل هو مستفاد من مقدّمة خارجية عقلية ، والتعبير بأنّ الأمر دالّ على الوجوب أو ظاهر فيه تعبير مسامحي (١).

__________________

(١) أقول : يمكن أن يقال : إنّ حكم العقل هذا ناش من كون الأمر ظاهرا في الوجوب ، فعليه كون الأمر ظاهرا في الوجوب متقدّم على حكم العقل بلزوم الامتثال ، وحكمه هذا معلول له ، وهذا هو مراد القائل بكونه ظاهرا في الوجوب ، فثبت أنّ الأمر بمادّته ظاهر في الوجوب ، ونستكشفه من حكم العقل هذا.

وبعبارة أخرى : إنّ الإهمال في الواقعيّات مستحيل ، فإنّ إظهار الميل بالفعل أمره دائر بين أمور أربعة :

فإن كان معناه الإلزام وحكم العقل بلزوم الامتثال مبتن عليه ، فهذا خلاف المدّعى بمعنى أنّ الوجوب ليس أمرا عقليّا بل مستفاد من اللفظ.

وإن كان معناه الاستحباب أو الجامع بين اللزوم والاستحباب أو كان مجملا ، فليس للعقل حكم بلزوم الامتثال.

ويشهد عليه أو ينتقض عليهم : أنّ العلماء من الأصوليّين والأخباريّين ـ حتى القائل بهذه المقالة هنا ـ ذهبوا في بحث البراءة إلى جريان قبح العقاب بلا بيان في الشبهة الوجوبية ، فيعلم منه أنّ بيان اللزوم والاستحباب على ـ

١٩٤

وظهر أيضا ممّا ذكرنا أنّه ليس هناك جامع بين الوجوب والاستحباب يكون هو معنى الأمر ، لما عرفت من أنّ استعمال لفظ الأمر في الطلب الوجوبيّ بعينه هو استعماله في الطلب الاستحبابي ، فقوله عليه‌السلام : «اغتسل للجنابة والجمعة» استعمال واحد في معنى فارد ، وهو إظهار ميل المولى بغسل الجنابة والجمعة ، ولو لا دليل خارجي على استحباب غسل الجمعة والترخيص في تركه ، لحكم بمقتضى حكم العقل بالوجوب في كليهما.

__________________

ـ المولى ، وبدونه يحكم العقل بعدم العقاب.

وأيضا كيف فكّكوا بين بيان جواز الترك وبيان عدم جوازه بأنّ الأوّل من وظائف الشرع دون العقل ، بخلاف الثاني.

وأيضا يرد عليهم : أنّ الأخذ بالقدر المتيقّن عند كون الدليل لبّيّا وإجزاء البراءة بالنسبة إلى المشكوك وجوبه مع إحراز الرجحان ينافي ذلك.

وأيضا يرد عليهم ما يغيّر قواعد الأصول في باب العام والخاصّ والمقيّد والمطلق.

وذلك إذا ورد «أكرم الفقهاء» فليس فيه وجوب ولا استحباب عند هذا القائل ، بل كلّ منهما يستفاد من حكم العقل ، وإذا ورد «لا بأس بأن لا تكرم العلماء وإكرامهم أحبّ إليّ» فهذا عام وسابقه خاص إذا قلنا باستفادة الوجوب من الأمر واللفظ الصادر من المولى ، فالجمع العرفي يقتضي أن نقول : إكرام العالم الفقيه واجب وغير الفقيه جائز ، حيث يحمل العامّ على الخاصّ.

وأمّا إذا قلنا بالوجوب العقلي فبعد ورود : «لا بأس بأن لا تكرم العلماء» يحكم العقل بعدم لزوم إكرام أيّ عالم حتى الفقيه ، فيرتفع التنافي الابتدائي بين العامّ والخاصّ ، فلا وجه لحمل العامّ على الخاصّ ، لعدم التنافي.

وبعبارة أخرى : لازم هذا القول هو حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد في الجملة لا بالجملة. (م).

١٩٥

الجهة الرابعة : في اتّحاد الطلب والإرادة.

وقبل الكلام في المقام لا بدّ من بيان منشأ النزاع بين المعتزلي القائل بالاتّحاد والأشعري القائل بالمغايرة.

فنقول : النزاع بين الفريقين نشأ من أمرين :

الأوّل : اعتقاد الأشاعرة بأنّ العباد مجبورون في أفعالهم ، ولازم هذا الزعم الفاسد والرّأي الكاسد أنّ فعل المخلوق إمّا واجب إن تعلّقت الإرادة الأزليّة به ، أو ممتنع إن لم تتعلّق به ، لاستحالة تخلّف الإرادة عن المراد في حقّه تعالى ، لأنّه (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) فالعاصي الّذي لم يمتثل أمره تعالى ، ولم يصدر عنه الفعل لا محالة يكون لأجل عدم إرادته تعالى به ، وحيث إنّه مكلّف بالفعل بالضرورة ومأمور به بالبداهة ـ والمفروض أنّه لم تتعلّق الإرادة به ـ فلا محيص عن التزامهم بأنّ الطلب المفاد من الأمر غير الإرادة ، وإلّا يلزم تخلّف الإرادة عن المراد ، أو كون الخطابات المتوجّهة إلى العاصين مجرّد لقلقة اللسان ، ولا يمكن الالتزام بشيء منهما.

وممّا يتفرّع على هذا الزعم : إنكار التحسين والتقبيح عقلا في أفعال العباد بتوهّم أنّهم لا اختيار لهم وهم مجبورون في أفعالهم ، ومن الواضح أنّ العقل لا يقبّح ولا يحسّن الفعل الصادر لا عن اختيار ، ولا يحسّن مثلا إيقاع السوط على شخص تأديبا إذا صدر

__________________

(١) يس : ٨٢.

١٩٦

لا عن اختيار بل عن قهر وجبر على الضارب والمؤدّب ، ولا يقبّح إيقاعه على اليتيم ظلما كذلك.

والحاصل : أنّ موضوع حكم العقل في التحسين والتقبيح الفعل الاختياري لا مطلقا.

وأيضا يتفرّع عليه إمكان التكليف بما لا يطاق والأمر بالمحال نظرا إلى أنّ العصيان كاشف عن عدم تعلّق الإرادة الأزليّة به ، وأنّه كان ممتنعا له ، غير ممكن الوقوع في الخارج ، وحيث إنّه كان مكلّفا بضرورة من الدين فالتزموا بإمكان التكليف بالمحال.

الثاني : التزام الأشاعرة ـ غير الشاعرة ـ بالكلام النفسيّ نظرا إلى أنّ الأوامر الامتحانية والاعتذارية مفادها الطلب دون الإرادة ، فهناك أمر آخر غير الإرادة والكراهة والحبّ والبغض مسمّى بالطلب.

وكانت هذه الدعوى منهم لتصحيح متكلّميّته تعالى بكلام قديم في قبال الإرادة وغيرها من الصفات المشهورة وقدم الكلام في حقّه تعالى بأن يكون متكلّما بالكلام النفسيّ الّذي يكون قديما دون اللفظي الّذي لا يكون إلّا حادثا ، لتألّفه من أجزاء منقضية منصرمة ، فالتحفّظ على قدم الكلام لتصحيح متكلّميّته تعالى في قبال سائر الصفات أوقعهم في هذا الوهم ، فالتزموا بأنّ في النّفس أمرا مغايرا للإرادة وغيرها من الصفات ، وهو كلام نفسي مدلول عليه بالكلام اللفظي في الإخبارات وطلب نفسي في الأوامر.

١٩٧

ومن هنا يعلم أنّ النزاع بين الفريقين لا يكون لفظيّا ـ كما زعم صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ لما عرفت من أنّ النزاع في المقام ناش من النزاع في أفعال العباد والنزاع في الكلام النفسيّ ، ومع ذلك كيف يمكن أن يقال : مرادهم بالمغايرة المغايرة بين الحقيقي والإنشائيّ من الطلب والإرادة ، والالتزام باتّحاد الإرادة الحقيقية والطلب الحقيقي ، الهادم لكلا البنيانين.

وبعد ذلك يقع الكلام في جهات :

الأولى : أنّه هل ما يفهم من الطلب وما يصدق عليه الطلب عين ما يفهم من الإرادة وما يصدق عليه الإرادة ، أم مفاد الطلب أمر ومفهوم الإرادة أمر آخر ، وما يصدق عليه الطلب شيء ، وما يصدق عليه الإرادة شيء آخر مغاير له؟

فنقول : إنّ من الواضح الّذي لا سترة عليه مغايرتهما مفهوما ومصداقا ، وذلك يتّضح بأدنى التفات إلى موارد استعمالاتهما.

مثلا : لا يقال : طالب العلم ، لمن اشتاق إلى العلم ، وأراده فقط من دون أن يشتغل بالتعلّم.

وهكذا لا يقال : طالب الغريم وطالب الضالّة وطالب الدنيا وطالب الآخرة ، لمن اشتاق إليها وأرادها ، وإلّا فيلزم أن يصدق على كلّ شخص : طالب العلم ، وطالب الآخرة ، إذ ما من أحد إلّا وقد اشتاق إلى العلم والآخرة.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٧.

١٩٨

فالتحقيق أنّ الطلب أمر مباين للإرادة ، وما يفهم من الإرادة هو تلك الصفة النفسانيّة التي هي عبارة عن مطلق الشوق أو الشوق المؤكّد ، وإذا تصدّى المشتاق لما يشتاق إليه فيقال : طلبه ، فمفهوم الطلب هو التصدّي لتحصيل ما تشتاق النّفس إليه ، ومن المعلوم أنّه غير مفهوم الإرادة ، وأنّه مرتبة متأخّرة عنها ، كما عرفت من موارد استعمالاتهما ، وهكذا ما يصدق عليه الإرادة غير ما يصدق عليه الطلب.

وبذلك ظهر فساد ما في الكفاية من أنّهما متّحدان مفهوما وخارجا وإنشاء (١).

وذلك لما عرفت من أنّ الإرادة عبارة عن مطلق الشوق أو الشوق المؤكّد الّذي هو من مقولة الكيف النفسانيّ ، ونسبتها إلى النّفس نسبة العرض إلى معروضه ، والطلب عبارة عن التصدّي لتحصيل ما تشتاق إليه النّفس ، ونسبته إلى النّفس نسبة الفعل إلى فاعله ، فهو من مقولة الفعل ، فكيف تصدق المقولتان على أمر واحد!؟

ثمّ إنّ الطلب في الإنشاءات أيضا يكون بهذا المعنى ، إذ للتصدّي مراتب ، ومنها إيجاد الصيغة ، فإنّ الآمر يتصدّى لتحصيل الضرب في الخارج ، فبإيجاد الصيغة يتحقّق مصداق التصدّي ، كما يتحقّق بتحريك العضلات.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٥.

١٩٩

الجهة الثانية : أنّه هل في النّفس أمر غير مقدّمات الإرادة من التصوّر والتصديق بالفائدة والميل والعزم ونفس الإرادة أم لا؟

فنقول : إنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد أنّ حركة العضلات لا تترتّب على الإرادة ، بل هناك أمر آخر قائم بالنفس قيام الفعل بفاعله (١) وهو إعمال النّفس قدرتها بأيّ اسم شئت سمّيته بالاختيار أو المشيئة أو الطلب.

والحاصل : أنّ المترتّب عليه حركة العضلات هو إعمال النّفس قدرتها بعد ما اشتاقت إلى الفعل وإرادته ، لا الإرادة بمعنى الشوق المؤكّد ، إذ كثيرا ما تشتاق النّفس إلى شيء اشتياقا لا يتصوّر فوقه شيء ، ومع ذلك لا تفعله ولا توجده في الخارج لمانع يكون في البين. ولا يخفى أنّه لا يكون كلاما نفسيّا مدلولا للكلام اللفظي ، ولا يقول به الأشاعرة أيضا.

الجهة الثالثة : هل في النّفس أمر نسبته إلى النّفس نسبة العرض إلى معروضه غير الإرادة والكراهة والحبّ والبغض وغير

__________________

(١) أقول : الظاهر أنّ المراد بالإرادة هو هذه الحالة ، ولذا يعدّونها ممّا يترتّب عليها تحريك العضلات ، ويعبّرون عنها بحملة النّفس تارة ، وبالحالة الإجماعية الحاصلة للنفس أخرى ، وأمّا الشوق المؤكّد فهو من مقدّمات الإرادة ، وأمّا الاختيار فهو عبارة عن عزم النّفس على أحد طرفي الفعل والترك وترجيحها إيّاه على الآخر بعد الشوق إليه.

والحاصل : أنّ الحاصل في النّفس أوّلا هو التصوّر ثم التصديق بالفائدة ثم الميل ثم الشوق المؤكّد ثم ملاحظة عدم وجود المانع عنه وتهيّؤ وسائل وجوده ثم العزم على إيجاده واختيار وجوده على عدمه المعبّر عنه بالاختيار ثم الإرادة المعبّر عنها بحملة النّفس والحالة الإجماعية وإعمال القدرة. (م).

٢٠٠