الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

لا تصديقية.

فظهر من جميع ما ذكرنا إمكان أخذ مفهوم الشيء في مفهوم المشتقّ.

وأمّا الدليل على وقوعه : فهو الوجدان (١) ، فإنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نرى انتقالنا من لفظ «قائم» و «ضارب» و «مفتاح» وهكذا من مرادفاتها في لغتنا إلى «الّذي يقوم ويضرب ويفتح به الباب» ونحوه ، فما أخذ في مفهوم المشتقّ بحسب الوجدان ذات مبهمة من جميع الجهات إلّا جهة قيام المبدأ به ، ويكون مرادفا ل «ما» الموصولة و «الّذي» ، حيث إنّ الموصولات أيضا مبهمة من جميع الجهات إلّا من جهة الصلة ، ولذا يقال لها : «المبهمات».

وما ذكروه وجها للبساطة ـ من أنّ وجود العرض وإن كان وجودا مغايرا مباينا لوجود موضوعه إلّا أنّه وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه وطور من أطواره وشأن من شئونه ، وطور الشيء وشأنه لا يباينه ، فوجود البياض عين وجود موضوعه وهو أبيض بما فيه طور من أطواره ، فالبياض إذا لوحظ بشرط لا بياض ، وإذا لوحظ لا بشرط ، يكون أبيض ، فالفرق بين المشتقّ ومبدئه فرق اعتباري لا حقيقي ـ ليس إلّا سجعا وقافية لا يرجع إلى محصّل.

أوّلا : لأنّ وجود العرض إذا كان مباينا مع وجود موضوعه

__________________

(١) أقول : إذا كان البحث في تركّبه وبساطته بالتحليل العقلي لا الإدراك والتصوّر ، فكيف يتمسّك بالوجدان!؟ وهو ليس إلّا التبادر الّذي يثبت به الوضع والموضوع له. (م).

١٦١

وهذا وجود وذاك وجود آخر فكيف يصير عينه باللحاظ واعتبار كونه لا بشرط؟!

وثانيا : كون وجود العرض طورا لوجود موضوعه أمر دقّي فلسفي لا يلتفت عامّة الناس إليه ولو فرضنا العلم في الواقع وبحسب الدقّة الفلسفية يكون العالم لكن بالضرورة يرون العرف العلم مغايرا للعالم ، ويفهمون منه غير ما يفهمون منه ، فهو أمر ـ لو سلّم لا ربط له بمقام الوضع والتفهيم والتفهّم.

وثالثا : لا تنحصر المشتقّات بأسماء الجواهر والأعراض بل منها ما يكون مبدؤها الإمكان والامتناع ، ومن الأمور الاعتبارية ، كالزوجية والملكية ، ومن الواضح أنّ مثل هذه الأمور ليس لها وجود حقيقي حتى يكون طورا لموضوعه وعينا له ، وكيف يمكن أن يكون العدم طورا للمعدوم والإمكان طورا للممكن والامتناع طورا لاجتماع النقيضين والملكية شأنا للدار فيكون الملكية عين الدار!؟.

هذا ، مع أنّ لازم ذلك أن يكون الخلق أو الرزق في مثل قولنا : «الله تعالى خالق ورازق» عين الخالق والرازق.

مضافا إلى أنّ ما ذكر لا يتمّ في بعض المشتقّات ، كاسم الآلة والزمان والمكان والمفعول ، فإنّ المتلبّس بمبادئها ليس موضوعاتها حتى يقال : إنّ وجود العرض من شئون وجود موضوعه ، وشأن الشيء لا يباين الشيء.

١٦٢

التنبيه الثاني : ذكر الفلاسفة أنّ الفرق بين المشتقّ والمبدأ بالاعتبار ، وأنّ المبدأ مأخوذ بشرط لا والمشتقّ مأخوذ لا بشرط.

وصاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ أرجع كلامهم إلى أنّ المشتقّ أخذ لا بشرط من حيث الحمل ، فهو بمفهومه لا يأبى ولا يعصي عن الحمل ، بخلاف المبدأ ، فإنّه بما أنّه أخذ بشرط لا من جهة الحمل فهو بمفهومه عاص عن الحمل (١).

وبالجملة جعل ـ قدس‌سره ـ اللابشرطية ذاتيّة للمشتقّ ، والبشرط اللائية ذاتيّة للمبدإ بمعنى أنّ مقصود الفلاسفة من كون المشتقّ لا بشرط : أنّ مفهومه في ذاته مفهوم لا بشرط ، أي غير عاص عن الحمل ، ومن كون المبدأ بشرط لا : أنّ مفهومه في ذاته بشرط لا ، أي عاص عن الحمل ، فهناك مفهومان : أحدهما لا بشرط بذاته ، والآخر بشرط لا بذاته.

ثمّ نسب الغفلة إلى صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ حيث أورد عليهم بأنّ العلم ـ وإن اعتبر لا بشرط ـ لا يكون عالما بالضرورة ، فاعتبر صاحب الفصول (٢) اللابشرطية والبشرط اللائية بالقياس إلى شيء واحد ومفهوم فارد.

والحقّ ما استظهره صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ من كلامهم ، فإنّ كلام المحقّق الدواني (٣) صريح في ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٤.

(٢) الفصول الغروية : ٦٢.

(٣) الأسفار ٦ : ٦٣ ذيل الفصل ٧.

١٦٣

وظاهر استدلالهم لبساطة مفهوم المشتقّ بأنّ طور الشيء لا يباين الشيء إلى آخره : أيضا أنّ هذين الاعتبارين واردان على مورد واحد ، فإنّ ظاهره أنّ البياض بما أنّه عرض وموجود في قبال موضوعه يكون بياضا ، وبما أنّه طور لموضوعه وطور الشيء لا يباينه يكون أبيض.

وممّا يؤكّد ما ذكرنا : كلامهم في بيان الفرق بين الجنس والمادّة والفصل والصورة ، فإنّ المحقّقين منهم ذهبوا إلى أنّ التركيب بين المادّة والصورة اتّحادي وخالف في ذلك المحقّق المير سيد شريف (١).

واستدلّوا على ذلك بأنّ كلّ ممكن له جهة مشتركة بينه وبين غيره من الممكنات وجهة مائزة بها يمتاز عن غيره ، فإذا كان ما به الامتياز عين ما به الاشتراك بحيث لا يكون في الخارج وجودان منحازان فهو ، وإلّا يلزم التسلسل ، إذ يكون ما به الاشتراك أيضا مركّبا ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، وهكذا ، فلا مناص عن كون ما به الاشتراك متّحدا مع ما به الامتياز ، وإذا لوحظ ما به الاشتراك بما هو ما به قوّة الشيء في قبال ما به الامتياز أي ما به فعلية الشيء ، يقال له : «المادّة» ولذا لا يصحّ أن يقال : «البدن نفس» وإذا لوحظ لا بشرط ممّا به الامتياز ولم يلاحظ عدمه يقال له :

__________________

(١) شرح المواقف ٣ : ٧.

١٦٤

«الجنس» ولذا يصحّ قولنا : «الحيوان ناطق» و «الناطق حيوان» فالجنس عين المادّة ، وهي عين الجنس.

وهكذا ما به الامتياز تارة يلاحظ بشرط لا ممّا به الاشتراك ملاحظا فيه عدم ذاك ، فيطلق عليه الصورة.

وأخرى يلاحظ لا بشرط من غير لحاظ عدم ما به الاشتراك فيطلق عليه الفصل ، فالفصل عين الصورة ، وهي عين الفصل ، والفرق في الجميع بالاعتبار ، ففي هذا المقام أيضا كلامهم يؤكّد ما فهمه صاحب الفصول لا ما استظهره صاحب الكفاية ، فإنّ اللابشرطية والبشرط اللائية تردان على شيء واحد ، وهو ما به الاشتراك أو ما به الامتياز.

وبالجملة ظاهر جملة من كلماتهم وصريح بعض هو أنّ مفهوما واحدا تارة يؤخذ بشرط لا ، فيكون مبدأ ، وأخرى لا بشرط ، فيكون مشتقّا ، وعلى ذلك يرد عليهم ما أوردناه في التنبيه السابق من الوجوه.

ولو فرضنا إرادتهم ما أفاده صاحب الكفاية من كون المشتقّ بمفهومه غير آب عن الحمل والمبدأ بمفهومه آبيا عن الحمل ، لقلنا : إنّ المراد إن كان الحمل على مصاديق هذا المفهوم ، فكلّ من المشتقّ والمبدأ يكون كذلك ، حيث إنّ القيام أيضا قابل لحمله على مصاديقه من قيام زيد وعمرو ، وهكذا ، وإن كان بالقياس إلى غير مصاديقه ، فالمشتقّ أيضا آب وعاص عن الحمل ، كما هو

١٦٥

واضح لا يخفى.

التنبيه الثالث : يعتبر في صحّة الحمل أمران : الاتّحاد من جهة ، والمغايرة من أخرى ، ضرورة عدم صحّة حمل المباين على المباين ، ولا حمل الشيء على نفسه.

وتارة يكون الاتّحاد حقيقيا ذاتيا ، والمغايرة اعتبارية وأمرا خارجا عن الذات ، وأخرى بالعكس.

والأوّل : كحمل «حيوان ناطق» على «إنسان» في قولنا : «الإنسان حيوان ناطق» ، فإنّ الموضوع ـ وهو إنسان ـ عين حيوان ناطق مفهوما ، ومتّحد معه ذاتا ، وتغايرهما بالإجمال والتفصيل.

ومن هذا القبيل قولنا : «الإنسان بشر» بناء على كونهما مترادفين ، حيث إنّ المفهومين واحد حقيقة ، وتغايرهما باعتبار الوضع ، إذ لكلّ وضع على حدة ، ويسمّى بالحمل الأوّلي الذاتي.

والثاني : كحمل المشتقّات على الذوات ، فإنّ الاتّحاد اعتباري والمغايرة حقيقيّة ، مثل «زيد قائم» ، حيث لا إشكال في تغاير مفهومي «زيد» و «قائم» حقيقة ، ولكن يصحّ الحمل باعتبار أنّ لهما مصداقا واحدا في الخارج ، ويسمّى هذا بالحمل الشائع ، لشيوعه وتعارفه ، والصناعي ، لكون الحمل في باب الأقيسة لا بدّ وأن يكون كذلك ، للزوم كلّية الكبرى في الشكل الأوّل ورجوع سائر الأشكال إليه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الحمل في قولنا : «الإنسان حيوان» أو

١٦٦

«ناطق» أو «الناطق حيوان» أو «إنسان» وأمثال ذلك من قبيل الحمل الشائع لا الأوّلي ، ضرورة تغاير مفهومي «الإنسان» و «الحيوان» حقيقة ، ومفهومي «الإنسان» و «الناطق» كذلك ، وهكذا.

ثمّ إنّ صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ ذهب إلى كفاية لحاظ التركيب بين المتغايرين في الحقيقة ، في صحّة الحمل (١).

والظاهر إرادته لحاظ الاتّحاد بينهما في النّفس ، واعتبار كونهما شيئا واحدا ، وعلى ذلك لا يرد عليه إلّا أنّ اعتبار الاتّحاد بين زيد وعمرو مثلا لا يجعلهما متّحدا في الخارج ، فلا يصحّ أن يقال : «زيد عمرو» نعم يصحّ أن يقال : «زيد عمرو» في اعتبار المعتبر.

التنبيه الرابع : إنّ صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ بعد ما رأى اعتبار مغايرة مبدأ المحمول في المشتقّ مع الموضوع التزم بالنقل أو التجوّز في الصفات الذاتيّة المحمولة على الله تعالى ، كالعالم والقادر والحيّ ، لعدم تغاير المبدأ فيها مع الذات وكونها عين الذات (٢).

وأورد عليه صاحب الكفاية بأنّ المعتبر مغايرة المبدأ مع الذات الجاري عليها المشتقّ مفهوما لا خارجا ، ومن الواضح أن

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

(٢) الفصول الغروية : ٦٢.

١٦٧

مفهوم القدرة والعلم والحياة مغاير لمفهوم الله تعالى وإن كان مصاديق ذلك في الباري عزّ اسمه عين الذات (١).

والصحيح (٢) عدم اعتبار المغايرة بين المبدأ وما يجري عليه المشتقّ أصلا لا مصداقا ولا مفهوما ، بل المعتبر مغايرة المحمول والموضوع ، لئلا يلزم حمل الشيء على نفسه.

وذلك ، لأنّ هذا الاعتبار التزام بلا ملزم ، حيث لم يقم عليه برهان ولا يساعده لغة ، بل المبدأ قد يكون مغايرا مع الذات مفهوما ومصداقا ، كما في «زيد عالم» وربما يختلفان مفهوما لا مصداقا ، كما في «الله تعالى عالم» وقد يتّحدان مفهوما ومصداقا ، كما في «الوجود موجود» و «النور منير» و «الضوء مضيء».

ثمّ إنّه لا يرد على صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ ما أورده شيخنا الأستاذ (٣) ـ قدس‌سره ـ وصاحب الكفاية (٤) ـ قدس‌سره ـ أخذا من السبزواري في

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٦.

(٢) يرد عليه : أنّ اعتبار التغاير بين الموضوع والمحمول ـ كما اعترفتم به ـ يقتضي أن يكون بين «الوجود» و «الموجود» وكذا بين «النور» و «منير» أيضا تغاير ما ، فإنّ «الوجود» مثلا موضوع ، و «موجود» محمول ، وكذا سائر الأمثلة ، وحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز سواء ، فلا بدّ من علاج. نعم صدق «الموجود» على «الوجود» وإن كان أولى من صدقه على الماهية إلّا أنّ هذا لا يوجب خروج «الوجود» عن الموضوعية و «الموجود» عن المحمولية. (م).

(٣) أجود التقريرات ١ : ٨٤.

(٤) كفاية الأصول : ٧٦.

١٦٨

منظومته في بحث اشتراك الوجود ، وفي مقام الجواب عن إشكال أنّ الوجود كيف يمكن أن يكون مشتركا بين الوجود الواجب والممكن مع أنّ وجود الواجب وجود حقيقي ووجود الممكن وجود ظلّي تبعي ليس شيئا في قبال وجود الواجب (١).

وحاصل الإيراد : أنّ هذه الصفات لو لم تكن بمعانيها العامّة إمّا أن يفهم ما يقابلها ، فتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وإمّا أن لا يفهم منها شيء ، فلازم ذلك تعطيل عقولنا عن إدراك صفاته تعالى ، وكون قولنا : «يا عالم» و «يا قادر» صرف لقلقة اللسان.

وحاصل الدفع : أنّ صاحب الفصول يلتزم بأنّ لفظ «عالم» استعمل في مثل «الله تعالى عالم» مجازا أو نقلا في العلم ، فقولنا : «يا عالم» معناه «يا علم» أو قولنا : «يا عالم» معناه «يا من علمه عين ذاته» فأيّ تعطيل للعقول من إدراك الأوراد والأدعية؟

التنبيه الخامس : ذكر بعض أنّه لا يلزم قيام المبدأ بالذات وتلبّسه به في صدق المشتقّ على نحو الحقيقة. واستدلّ عليه بصدق «الضارب» و «المؤلم» مع قيام المبدأ بالمضروب والمؤلم وهذا القول لا بدّ أن يعدّ من المضحكات ، ضرورة أنّه إذا لا يعتبر تلبّس الذات فلما ذا لا يصدق عنوان «الضارب» على غير من يصدر منه الضرب ويصدق عليه فقط؟ فتلبّس الذات بالمبدإ تلبّسا ما ممّا لا ريب في اعتباره ولزومه ، غاية الأمر أنّ أنحاء التلبّس

__________________

(١) شرح المنظومة : ١٥.

١٦٩

مختلفة من الصدوري والحلولي والوقوعي وغير ذلك ، فالضارب معناه من ينتسب إليه الضرب انتسابا صدوريا ، والمضروب من ينتسب إليه الضرب انتسابا وقوعيا ، والقائم من انتسب إليه القيام انتسابا حلوليا.

فإن قلت : أما بنيتم على أخذ الذات في مفهوم المشتقّ ، ولازمه أخذ النسبة أيضا ، فكيف يمكن أن تكون الصفات الجارية عليه تعالى على معانيها العامّة مع أنّ المبدأ فيها عين الذات ، ولا يعقل النسبة بين الشيء ونفسه!؟ فلا مناص عن الالتزام بالنقل أو التجوّز ، كما التزم في الفصول.

قلت : نعم الأمر كذلك لو كانت النسبة المأخوذة في المشتقّ نسبة خارجية ، أمّا لو كانت نسبة مفهومية ـ كما هو الصحيح ـ فلا.

توضيحه : ما ذكرنا في المعاني الحرفية من أنّها وضعت لتضييق المعاني الاسمية في عالم المفهومية لا الخارج ، والهيئة أيضا وضعت لتضييق المعنى الاسمي ، وقد ذكرنا أنّ الذات المأخوذة في المشتقّ مبهمة من جميع الجهات عدا انتساب المبدأ لها الّذي يستفاد من الهيئة ، فالعالم معناه من انكشف لديه الأشياء ـ وبعبارة أخرى : شيء له الانكشاف والعلم ـ وأمّا كون العلم والانكشاف عينه أو خارجا عنه قائما به فأمر خارج عن المفهوم ، فالشيء ضيّق بسبب الهيئة بعد ما لم يكن مضيّقا ، وصار مفهومه مقيّدا بانتساب العلم إليه ، وهذا المفهوم المضيّق ـ أي شيء له

١٧٠

العلم ـ حقيقة منطبق على الباري تعالى كانطباقه على غيره بلا تفاوت.

فأخذ النسبة في المشتقّ لا ينافي صدق صفات الذات عليه تعالى على نحو الحقيقة ، لكون النسبة المأخوذة نسبة مفهومية لا خارجية ، وإلّا امتنع صدق قولنا : «العدم معدوم» و «العنقاء معدوم» و «اجتماع النقيضين ممتنع» ، لاستحالة تحقّق النسبة الخارجية بين العدمين ، بل لا يمكن صدق قولنا : «الإنسان ممكن» ، إذا الإمكان أمر اعتباري لا وجود له.

ثمّ إنّ هنا إشكالا ، وهو : أنّ المفهوم الواحد لا يمكن أن ينتزع من [الأمور] المتعدّدة بما هي متعدّدة بل ينتزع باعتبار الجهة المشتركة بينها ، وكذلك العكس بمعنى أنّه لا يمكن انتزاع مفاهيم وعناوين متعدّدة عن شيء واحد بما هو واحد ، فمع بساطة الواجب تعالى ووحدته من جميع الجهات كيف ينتزع منه تعالى عناوين متعدّدة من العالم والقادر والحيّ وأمثالها!؟

والجواب : أنّ هذه أسماء نحن سمّينا وتعابير نعبّر بها كلّ باعتبار ، وإلّا فالواجب تعالى وجود بحت بسيط لا نقص فيه أصلا ، وليس هناك صفة وموصوف كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وكمال التوحيد نفي الصفات عنه» (١) فباعتبار أنّ ذاته تعالى وغيره ممّا سواه منكشف لديه يطلق عليه «العالم» وباعتبار وجود من سواه من

__________________

(١) نهج البلاغة ـ بشرح محمد عبده ـ : ١٨.

١٧١

قبله تعالى مع عدم كونه مجبورا على إيجاده ، يطلق عليه «القادر» وهكذا.

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

والحاصل : أنّ انتزاع هذه العناوين من ذات الباري تعالى لا ينافي بساطته من جميع الجهات وخلوّه من أيّة شائبة نقص وتركيب ، لأنّ الأمور الواقعية النّفس الأمريّة ـ التي لها واقعية مع قطع النّظر عن اعتبار معتبر وفرض فارض ، وينتزع منها مفاهيم وعناوين ـ لا تنحصر بالمقولات ، بل تعمّ المعدومات والممتنعات والملازمات ، فقولنا : «العدم معدوم» قضية لها واقعية ، وهكذا «الدور أو التسلسل مستحيل» و «طلوع الشمس ملازم لوجود النهار» ومن هذا القبيل قولنا : «الإنسان غير الحيوان» فإنّ كلّ ذلك من الأمور النّفس الأمريّة ، مع أنّه لا يدخل تحت مقولة من المقولات ، فكما يدرك الإنسان أنّه هو لا غيره ـ كما قيل : إنّ كلّ ذي إدراك أوّل ما يدركه أنّه هو لا غيره ـ وهذا أمر واقعي لا فرضي ، كذلك يدرك الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار مع عدم وجود شيء منهما ، فانتزاع عنوان من شيء لا يلازم أن يكون باعتبار وجود صفة أو عرض فيه ، بل اللازم أن يكون باعتبار أمر له واقعيّة ولو لم يدخل تحت المقولات أصلا.

فظهر أنّ ذات الباري تعالى مع بساطتها ووحدتها من جميع الجهات بما أنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء ولا في الأرض

١٧٢

من دون قيام عرض به ـ تعالى عن ذلك ـ نحن ننتزع عنها العلم ، ونقول : «علم وعالم» وبما أنّ جميع ما سوى وجوده مفاض منه تعالى نقول : «إنّه قادر» وهكذا. ولعمري هذا واضح لا سترة عليه.

التنبيه السادس : أنّ صاحب الفصول ـ قدس‌سره ـ ذكر ما حاصله : أنّه يعتبر في صدق المشتقّ على الذات على نحو الحقيقة ، التلبّس بالمبدإ حقيقة ، كما في «الماء جار» لا مجازا ، كما في «الميزاب جار» (١).

وأورد عليه صاحب الكفاية ـ قدس‌سره ـ بأنّ كون المشتقّ حقيقة لا يتوقّف على ذلك ، بل المشتقّ في «الميزاب جار» استعمل في معناه الحقيقيّ كما استعمل الفعل الماضي في «جرى الميزاب» في معناه الحقيقيّ ، وإنّما المجاز في الإسناد لا في الكلمة (٢).

ولعلّه ـ قدس‌سره ـ خلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة.

وشيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ أفاد في المقام أنّه إذا بنينا على أنّ المشتقّ بسيط ، فلا مجاز إلّا في الإسناد.

ولو قلنا بالتركيب ، فيمكن أن يقال : حيث إنّ المأخوذ في المشتقّ هو الذات مع النسبة الناقصة التقييدية التي هي نتيجة النسبة التامّة الخبرية ، فإنّ الأوصاف قبل العلم بها أخبار ، فحال

__________________

(١) الفصول الغروية : ٦٢.

(٢) كفاية الأصول : ٧٨.

١٧٣

هذه النسبة المأخوذة في المشتقّ حال النسبة الخبرية التامّة ، ومن المعلوم أنّها لو كانت تامّة ، لكانت النسبة مجازية ، فالكلمة المشتملة على هذه النسبة المجازية ـ وهو المشتقّ ـ كلمة مجازية أيضا.

ولكنّ الصحيح عدم مجازية المشتقّ حتى على القول بالتركيب ، فإنّه بسيط في مقام الإدراك ، فلا ذات ولا نسبة فيه في هذا المقام وإن كان مشتملا عليهما في مقام التحليل العقلي ، فلا تكون ملازمة بين المجازيّة في الإسناد والمجازيّة في الكلمة أصلا (١).

والتحقيق أنّه لا ملازمة بينهما حتى لو قلنا بأنّ المشتقّ مركّب في مقام الإدراك ، إذ المأخوذ في المشتقّ هو مفهوم الذات لا مصداقها ، فقولنا : «الميزاب جار» بمنزلة قولنا : «الميزاب شيء له الجريان» فقد حملنا هذا المفهوم الخاصّ ـ أعني «شيء له الجريان» ـ على الميزاب ، فلم يسند إلى الميزاب إلّا هذا المحمول المقيّد ، أمّا في نفس المحمول فلا إسناد إلى الميزاب أصلا لا حقيقة ولا مجازا ، بل أسند الجريان إلى مفهوم الشيء المبهم من جميع الجهات ، وهذا الإسناد حقيقيّ ، ثمّ أسند هذا الشيء ـ المسند إليه الجريان إسنادا ناقصا حقيقيّا ـ إلى الميزاب.

فظهر أنّ ما بنى عليه شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ من لزوم المجاز

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٨٥ و ٨٦.

١٧٤

في الكلمة في المقال علي تقدير كون المشتقّ مركّبا في مقام الإدراك ـ في غير محلّه.

ثمّ إنّ صاحب الفصول إن أراد من صدق المشتقّ على الذات وجريه عليها حقيقة مصداقية الذات لعنوان المشتقّ حقيقة وفرديّتها له واقعا ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فلا يرد عليه شيء ، ضرورة أنّ كلّ شيء لا بدّ في كونه مصداقا لعنوان حقيقة أن يكون متلبّسا بالمبدإ ، بداهة أنّ ما لا يكون متّصفا بصفة الإنسانية لا يكون مصداقا حقيقيّا للإنسان ، وصدق «الجاري» على الميزاب ـ الّذي لا يكون فردا حقيقيّا له ومصداقا واقعيّا له ـ ليس بصدق حقيقيّ.

وإن أراد منه استعمال المشتقّ فيما وضع له وفي معناه الحقيقيّ ، وأنّه لا بدّ فيه من أن يكون الإسناد حقيقيّا ، فما أورده صاحب الكفاية في محلّه ، إذ استعمال المشتقّ في معناه الحقيقيّ لا يعتبر [فيه] تلبّس الذات بالمبدإ أصلا لا حقيقة ولا مجازا ، بل لو قلنا : «إنّ الحجر جار» أو «الكتاب جار» استعمل لفظ «الجاري» في معناه الحقيقي ، لكنّ القضية كاذبة ، كما إذا أشير إلى من يكون من أجهل الجهّال وقيل : «إنّه عالم» فالتلبّس بالمبدإ وعدمه مناط الصدق والكذب لا مناط مجازيّة الكلمة وعدمها.

نعم ، التلبّس بالمبدإ حقيقة مناط كون الإسناد حقيقيّا ، والتلبّس به مجازا مناط مجازيّة الإسناد.

هذا تمام الكلام في المقدّمات ، ولنشرع في المقاصد بعون

١٧٥

الله الملك العلّام ، عصمنا الله من الزلل في الأقدام والأقلام بحقّ محمد خير الأنام وآله البررة الكرام.

ليلة ٦ ـ جمادى الأولى ـ ١٣٧٠ ه‍ ق.

* * *

١٧٦

المقصد الأوّل :

في الأوامر

١٧٧
١٧٨

وفيه فصول :

الفصل الأوّل :

فيما يتعلّق بمادّة الأمر.

والكلام فيه من جهات :

الأولى : أنّه قد ذكر للفظ الأمر معان متعدّدة ، منها : الطلب ، ومنها : الفعل ، ومنها : الشأن ، والشيء ، والحادثة ، والغرض ، ولا يهمّنا ذكر أمثلتها (١) ، إنّما المهمّ بيان أنّه هل يتصوّر الجامع بين جميع المعاني حتى يكون مشتركا معنويّا في جميعها ، أو يكون الجامع بين غير الطلب من المعاني الأخر لا بين جميعها حتى يكون مشتركا لفظيّا في هذا الجامع والطلب ، أو يكون حقيقة في الطلب ، مجازا في الباقي؟

التزم شيخنا الأستاذ ـ قدس‌سره ـ بالأوّل ، وأنّ الجامع بين جميع

__________________

(١) وما ذكر مثالا أغلبها يدخل تحت جامع واحد ، مثلا : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] لم يستعمل الأمر في هذه الآية في الفعل العجيب ، بل استعمل في معنى الطلب حيث إنّ قبله (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) كما أنّ لفظ «أمر» في «جئتك لأمر كذا» لم يستعمل في الغرض ، بل في الواقعة ، فاللام في المثال دلّ على الغرض.

١٧٩

المعاني هو الواقعة التي لها أهمّية (١) ، وأصرّ على ذلك نهاية الإصرار.

لكن هذا الجامع لا يغني من الجوع ، إذ الأمر يطلق على الواقعة التي لا أهمّيّة لها ، كما يقال : «هذا الأمر من الأمور التي لا أهمّية لها» و «هذا أمر غير مهمّ».

مضافا إلى أنّ اختلاف الجمع ـ حيث إنّ الأمر بمعنى الطلب يجمع على الأوامر ، وبمعنى غيره يجمع على الأمور ، وأيضا الأمر بمعنى الطلب مشتق وله ماض ومضارع وغيرهما ، وأمّا الأمر بمعنى الواقعة فلا اشتقاق فيه ـ دليل قطعي على اختلاف المعنى ، إذ لو كانت هناك جهة وحدة بين جميع المعاني موضوع بإزائها اللفظ ، لكانت مفهوما واحدا ومعنى فاردا هي مصاديقه ، فإن صحّ جمعه على الأمور عند إرادة بعض مصاديقها ، فلا بدّ وأن يكون صحيحا عند إرادة بعض آخر ، فنستكشف من عدم صحّة الجمع على نهج واحد في جميعها عدم وجود الجامع بين جميعها أصلا لا ذلك الجامع ولا غيره ، فثبت أنّ الأمر لا يكون مشتركا معنويا بين الطلب وغيره من المعاني ، بل يكون مشتركا لفظيا بينهما.

لا يقال : يمكن أن يكون مفهوم «الشيء» جامعا بين جميعها ، حيث إنّه يطلق على الطلب وعلى غيره.

فإنّه يقال : لا يصحّ جعله جامعا بين المشتقّ وغيره ـ وإن كان

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٨٦.

١٨٠