الهداية في الأصول - ج ١

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٨

غيرها لغات يستعمل كلّ منها في معان متعدّدة ، فلا ننكره.

وإن أراد أنّ هذه اللغات كلّ منها وضع لمعان متعدّدة ، فلا دليل عليه ، بل على هذا المبنى مستحيل.

ولا بدّ من إرجاع هذه اللغات إلى أحد أمرين :

إمّا إلى وضعها للجامع بين الجميع ، كما هو متحقّق في جملة الموارد ، نظير مادّة «جنّ» التي بمعنى الستر ، وكلّ ما يشتقّ منه الجنين والجنّ والمجنّة والجنّة وغير ذلك ممّا يستعمل في الجوامد باعتبار هذا المعنى ، فيقال للجنين : الجنين ، باعتبار كونه مستورا في بطن أمّه ، وللجنّ باعتبار كونه مستورا عن الأنظار ، وللمجنّة باعتبار كونه يستر عن الشدّة ، وللجنّة باعتبار سترها عن الناس في الدنيا.

وإمّا إلى ما يظهر من بعض المؤرّخين من أنّ الاشتراك في اللغات حصل من جمع اللغات وخلطها بعد ما كانت متفرّقة ، وكان يعبّر كلّ طائفة عن معنى بهذه الألفاظ واللغات غير ما يعبّر عنه طائفة أخرى بها ، فبعد الجمع والتأليف في كتاب واحد حصل الاشتراك ، فلم يكن الواضع للفظ واحد في معان متعدّدة شخصا واحدا ، بل كلّ وضع لمعنى غير ما وضع له الآخر.

وليعلم أنّه بناء على ما مرّ ـ من أنّ كلّ شخص واضع إمّا تأسيسا أو إمضاء ـ هذه اللغات بعد الجمع موضوعة عند مستعمليها لأحد المعاني أو الجامع بينها ـ لو كان ـ ، فإنّهم كما

١٢١

لا يمكن لهم الالتزام ابتداء بعلاميّة اللفظ لإرادة معان متعدّدة على نحو الاستقلال كذلك لا يمكن لهم إمضاء وضع واضعين الذين كلّ يضع اللفظ لمعنى مستقلّ غير ما يضعه له آخر ، بل لا بدّ لهم إمّا من إمضاء علاميّة لواحد أو التزامهم ابتداء للجامع بين الجميع ولو كان عنوان «أحدهما» ولا يخفى أنّه لا يترتّب على هذا البحث ثمرة أصلا.

الأمر الحادي عشر : أنّه بعد ما أرجعنا اللغات المشتركة إلى وضعها للجامع بين جميع المعاني ولو كان انتزاعيّا بأن كان الموضوع له لما يسمّونه بالمشترك أحد معانيه أو معنييه على سبيل منع الخلوّ ، يقع الكلام في أنّه هل يجوز استعماله في أكثر من معنى واحد بحيث يكون هناك استعمالان واللفظ مستعملا بأحدهما في معنى وبالآخر في آخر ، نظير ما إذا كان اللفظ متعدّدا؟ عمدة ما ذكر للاستحالة ما أفاده في الكفاية (١) من أنّ الاستعمال جعل اللفظ وجودا تنزيليّا للمعنى بحيث يكون المعنى كأنّه الملقى ، واللفظ يكون حين الاستعمال ملحوظا آلة ، بل مغفولا عنه ، واللحاظ الاستقلاليّ متعلّقا بالمعنى ، فإذا احتاج كلّ استعمال إلى لحاظ اللفظ فانيا في المعنى ـ والمفروض أنّ اللفظ يستعمل باستعمالين في معنيين ـ فاستعماله كذلك في معنيين يحتاج إلى تعلّق اللحاظين الآليّين باللفظ الواحد في آن واحد ، وهو آن

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٣.

١٢٢

الاستعمال ، واجتماع اللحاظين على ملحوظ واحد في آن مستحيل ، ضرورة امتناع كون الشيء في آن واحد متصوّرا بتصوّرين وملتفتا إليه بالتفاتين ، وملحوظا بلحاظين ، سواء كانا آليّين أو مستقلّين أو مختلفين.

هذا ، وقد مرّ عدم تمامية هذا المبنى ، وأنّ الاستعمال ليس إلّا مجرّد جعل اللفظ علامة للمعنى ، وإذا كان علامة ، فمن الممكن جعل شيء علامة لشيئين.

وما أفاده من أنّ اللفظ غير ملحوظ استقلالا وإن كان صحيحا في الجملة إلّا أنّ الاستعمال لا يستلزم ذلك ، بل كثيرا ما يلتفت المتكلّمون والمستعملون إلى مزايا كلامهم وخصوصيات ألفاظهم من الإعراب والقافية وغير ذلك ، بل الشعراء والخطباء لا يمكنهم في مقام إنشاء الشعر وإلقاء الخطبة إلّا التوجّه التامّ إلى الألفاظ ، ولولاه لا يصدر منهم شعر ولا خطبة ، فإذا لم يكن الاستعمال دائما ملازما للحاظ اللفظ فانيا في المعنى وآلة له ، نستكشف أنّ حقيقته ليست كما أفاده ، بل مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى.

وإمكان علاميّة شيء لشيئين في التكوينيّات والجعليّات من الواضحات ، ولكن لا يخفى أنّ مجرّد الإمكان لا يوجب حمل المشترك على أكثر من معنى واحد ، بل يحتاج إلى قرينة عليه.

ثم إنّ صاحب الكفاية أورد سؤالا على نفسه بأنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدلّ على وقوع استعمال

١٢٣

المشترك في أكثر من معنى.

وأجاب عنه : أوّلا بإمكان أنّ المعاني المتعدّدة المعبّر عنها بالبطون كانت مرادة بإرادات مستقلّة حال استعمال اللفظ في معناه الظاهر ، لا أنّها مرادة بأجمعها من اللفظ حتى يكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

وثانيا : باحتمال كون المراد من البطون لوازم المعنى الواحد المستعمل فيه اللفظ (١).

وما أفاده ثانيا أحسن معنى لهذه الأخبار على تقدير وجودها ، ومثّلنا له في الدورة السابقة بقول القائل : «فلان أكل عشر حبّات كذائيّة» فإنّ العامّة لا يفهمون من هذا الكلام إلّا أنّه وضعها في فمه وبلعها ، ولكنّ الطبيب الحاذق العالم بأجزاء هذه الحبّات وكيفية تركيبها يفهم بأنّ هذا المسكين مات بسببها ، لكونها مسمومة.

والحاصل : يمكن أن يكون للكلام لازم وللازمه لازم وهكذا إلى أن ينتهي إلى سبعة أو سبعين. والسبعة والسبعين في لغة العرب كناية عن الكثرة.

ولكن ما أفاده أوّلا فغريب منه ـ قدس‌سره ـ ، إذ بطن الشيء لا بدّ له من إضافة إليه ، وأيّ ربط بما أريد من المعاني التي لا تكون لازمة لمعنى اللفظ ولا مرادة من التلفّظ به؟

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٥.

١٢٤

وهل يمكن عدّ ما أريد حال قولنا : «أكرم زيدا» من تعليم عمرو أو بيع كتاب ، من بطون هذا الكلام؟

هذا كلّه ـ كما ذكرنا ـ على تقدير وجود هذه الأخبار ، لكنّا تتبّعنا المواضع المناسبة من الوافي والوسائل والبحار ولم نجد خبرا واحدا يدلّ على ذلك.

نعم ورد ما يدلّ على أنّ للقرآن ظهرا وبطنا (١) وأنّ له تنزيلا وتأويلا (٢) ، وقد فسّر الظهر والبطن والتنزيل والتأويل في الروايات بما يستفاد منه أنّ ظاهره ما يفهمه العامّة وباطنه ما يحتاج إلى التعمّق والتدبّر وإمعان النّظر ، وتنزيله مورد النزول ، وتأويله انطباق الآية على غير من نزل في حقّه ممّن هو مثله في الصفة ، فإنّه ورد ما مضمونه أو لفظه : «أنّ القرآن ظاهره قصّة ، وباطنه عظة (٣) ، وأنّه يجري كجري الشمس والقمر» (٤).

وبالجملة : البطن والتأويل بهذا المعنى لا يختصّ بالقرآن بل رسائل الشيخ أيضا كذلك ، فإنّ الأشخاص مختلفون في فهمه ، فربما يفهم الملتفت إلى مزايا كلامه بإرجاع بعضه إلى بعض وأخذ لوازمه ما لا يخطر ببال غيره الّذي أيضا يعرف ظواهر كلامه ، فاختلاف الناس في فهم القرآن كاختلافهم في فهم سائر الكتب.

__________________

(١) انظر : البحار ٨٩ : ٩٤ وما بعدها.

(٢) البحار ٨٩ : ٩٧ ـ ٦١ و ٦٢ و ٦٤.

(٣) بصائر الدرجات : ١٦٥.

(٤) البحار ٨٩ : ٩٤ ـ ٤٧ ، و ٩٧ ـ ٦٤.

١٢٥

نعم فهم القرآن بجميع خصوصياته ومزاياه مختصّ بمن نزل في بيتهم من الأئمّة الطيّبين الطاهرين الوارثين لعلم النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

الأمر الثاني عشر : وقع الخلاف في كون المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ أو الأعمّ منه ومن المنقضي عنه المبدأ بعد الاتّفاق ـ عدا ما حكي عن السكّاكي ـ على أنّه مجاز فيما لم يتلبّس به بعد ولكنّه يتلبّس به في الاستقبال إذا كان الحمل بعلاقة الأول لا باعتبار حال التلبّس ، ك «زيد ضارب غدا» فإنّه حقيقة بلا إشكال ولا كلام.

وقبل الورود في البحث نقول : المحمولات على أقسام خمسة :

منها : ما يكون محمولا على الذات باعتبار أنّ مبدأه مقوّم للذات ، الّذي يسمّى بذاتيّ باب إيساغوجي ، كقولنا : زيد إنسان أو حيوان أو ناطق.

ومنها : ما يكون من قبيل خارج المحمول ، الّذي يحمل على الذات باعتبار أنّ مبدأه منتزع عن مقام الذات ، ويكون من الذاتيّ في باب البرهان ، الّذي يكفي وضع الذات فقط لانتزاعه ، وهذا كقولنا : الإنسان ممكن ، أو اجتماع النقيضين ممتنع ، أو هذه علّة ، فإنّ الإمكان والامتناع والعلّيّة كلّ منها خارج عن الذات ومحمول على الذات باعتبار انتزاعه عن نفس الذات ، وبهذا الاعتبار يسمّى

١٢٦

بخارج المحمول.

ومنها : ما يكون من قبيل المحمولات بالضميمة ، التي تحمل على الذات باعتبار انضمام ضميمة إليها ، أي إلى الذات.

وهذا القسم الثالث على أقسام ثلاثة ، فإنّ الضميمة تارة تكون نفسها من المقولات الخارجية ، كالبياض والسواد ، فباعتبار ضميمة البياض إلى جسم يقال له : أبيض.

وأخرى لا تكون نفسها من المقولات ، لكنّها منتزعة عنها ، وهذا مثل الفوقية والتحتية والأصغريّة والأكبريّة وأمثال ذلك ، فإنّ قولنا : هذا فوق ذاك ، لا باعتبار نفس الذات فقط ، بل باعتبار انضمام الفوقية إلى الذات ، التي ليس لها ما بحذاء في الخارج ، وإنّما تنتزع عن مقولة خارجية ، وهي مقولة الأين ، التي هي عرض قائم بالذات ، وهذا الأمر الانتزاعي ينتزع عن قيام عرض من الأعراض التسعة بموضوعه ، ويكون أمرا إضافيّا بمعنى أن لو سأل أحد عن شيء «إنّه فوق أو لا» لا جواب له إلّا بعد السؤال أنّه بالإضافة إلى أيّ شيء؟

وثالثة تكون الضميمة من الأمور الاعتبارية ، التي قوامها باعتبار المعتبر كالزوجية والرقّيّة والملكية وغير ذلك ممّا هو متعلّق للاعتبارات الشرعية والعرفية ، فيقال : هذا ملك لزيد باعتبار اتّصاف الذات بأمر اعتباري وهو ملكيته لأحد.

ولا إشكال في خروج القسم الأوّل من محلّ النزاع ، فإنّه

١٢٧

لا يتصوّر فيه زوال وصف وبقاء ذات حتى [يتكلّم] في عموم وضعه لما زال عنه الوصف وعدم عمومه ، فإنّ شيئيّة الإنسان مثلا بصورته لا بمادّته ، إذ لا يصحّ إطلاق لفظ الإنسان على التراب باعتبار كونه إنسانا في زمان ، ولا إطلاق لفظ التراب على الإنسان باعتبار صيرورته بعد ذلك كذلك ، ويعدّ هذا الإطلاق من الأغلاط ، فاستعماله مجازا غير صحيح فضلا عنه حقيقة.

وهكذا لا ريب في دخول الأقسام الثلاثة الأخيرة في محلّ النزاع ، لعدم الإشكال في صحّة استعمال مثل العالم في المنقضي عنه العلم ، والأصغر فيما زال عنه مبدؤه ، والزوجة فيمن كانت زوجة في زمان ، وإنّما الكلام في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز ، فمثل الزوج والزوجة ونحوهما داخل في محلّ النزاع وإن لم يكن مشتقّا اصطلاحيّا.

وإن أبيت ـ على قول صاحب الكفاية (١) ـ إلّا عن اختصاص النزاع المعروف ، بالمشتقّ ، فمثل هذه الجوامد أيضا داخل في محلّ البحث ، فإنّ لفظ «المشتقّ» لم يرد في آية ولا رواية حتى يدور مداره ، ولذا فرّع الفخر في الإيضاح حرمة المرضعة الثانية لمن له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة ، على مسألة كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٧.

(٢) إيضاح الفوائد ٣ : ٥٢ أحكام الرضاع.

١٢٨

هذا كلّه في القسم الأوّل والأقسام الثلاثة الأخيرة ، وأمّا القسم الثاني : فقد ألحقه شيخنا الأستاذ (١) ـ قدس‌سره ـ بالقسم الأوّل نظرا إلى جريان ملاك الخروج فيه أيضا ، حيث إنّه فيه أيضا لا يتصوّر زوال الوصف وبقاء الذات ، إذ الوصف المنتزع عن مقام الذات يدور مدار الذات وجودا وعدما.

ولكنّ الصحيح دخوله في محلّ النزاع أيضا ، حيث إنّ النزاع ليس في مادّة المشتقّ ، وإنّما هو في الهيئة ، وهيئة «ممكن» و «ممتنع» كهيئة «مكرم» و «مقعد» وإنّما الفرق في المادّة ، فالمادّة في الأوّلين ، لها خصوصية غير قابلة للزوال مع بقاء الذات ، بخلاف الأخيرين ، وهذا لا يوجب التفاوت في وضع هيئة اسم الفاعل ، فلو قلنا بوضع الهيئة للأعمّ ، لا ننظر إلى مادّة دون مادّة ، غاية الأمر فيما لا تكون مادّته قابلة للزوال مع بقاء الذات ليس له إلّا مصداق واحد ، وهو المتلبّس.

وبعبارة أخرى : لو كان لكلّ من لفظ «مكرم» و «مقعد» و «ممكن» و «ممتنع» وضع مستقلّ ، لكان لهذا الكلام مجال ، ولكن حيث إنّ الوضع في الجميع واحد ، فلا مجال لإخراج صيغة من الصيغ لخصوصية في مادّته.

ألسنا نتكلّم في أنّ لفظ «الغنيّ» وضع للمتلبّس بالمبدإ أو الأعمّ منه ومن المنقضي مع أنّ الانقضاء في بعض مصاديقه ـ وهو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٣.

١٢٩

الباري تبارك وتعالى ـ مستحيل؟

بل نقول : إنّ القسم الأوّل أيضا داخل في محلّ النزاع إذا كان من المشتقّات الاصطلاحية ، كالناطق والحيوان ، فإنّه صفة مشبهة على زنة فعلان ، لما ذكرنا من أنّ الهيئة ، لها وضع نوعي ، فهيئة فاعل بأيّة مادّة كانت وضعت لما قام به المبدأ ، سواء كان مبدؤها ما يعقل فيه الزوال مع بقاء الذات أو لم يكن كذلك.

وبالجملة : الميزان الكلّي أنّ المشتقّات الاصطلاحية بأجمعها داخلة في محلّ النزاع حتّى إذا كان من القسم الأوّل فضلا عن الثاني ، لأنّ لها وضعين : وضعا للهيئة ، وهو نوعي ، ووضعا للمادّة ، وهو شخصي ، وكلّ هيئة من هيئاتها وضعت بوضع واحد إمّا للمتلبّس أو للأعمّ.

ولا ينافي وضعها للأعمّ أن لا تكون في بعض مصاديقها قابلة للاستعمال في المنقضي ، كما في لفظ «الغنيّ» ، فإنّ الّذي في حقّ الباري تعالى لا يعقل الانقضاء في مبدئه حتى يستعمل في المنقضي ، وفي غيره تعالى ، له مصداقان يمكن أن يستعمل في كلّ منهما.

وأمّا الجوامد التي لها وضع واحد شخصي هيئة ومادّة ، فإن كانت موضوعة لنفس الذوات ، فهي خارجة عن محلّ الكلام ، إذ لا يعقل بقاء الذات وفناؤها معا ، وهذا كالحجر والمدر ، فإنّهما اسمان للذات ، وما زال عنه صورة الحجرية والمدرية ليس بحجر

١٣٠

ولا مدر ، بل إنّما هو شيء وذات آخر ، فإنّ شيئية الشيء بصورته.

وبذلك ظهر خروج جميع أسماء الأعراض أيضا ، كالبياض والسواد ونحوهما ، فإنّها وضعت لنفس الذوات.

وإن كانت موضوعة لا لنفس الذوات فقط ، بل لها باعتبار قيام وصف بها ، كلفظ «العبد» و «الزوج» وغيرهما ـ وإن كان لفظ «الزوج» يحتمل أن يكون صفة مشبهة على وزن فعل ـ حيث لم يوضع لفظ العبد لنفس الذات ، بل لها باعتبار مملوكيتها لأحد ، فهي داخلة في محلّ النزاع وإن لم تكن من المشتقّ الاصطلاحي.

وممّا ذكرنا ظهر وجه دخول اسم الزمان مع كون الذات فيه ممّا لا يعقل بقاؤه مع زوال مظروفه ، إذ لو كان لخصوص اسم الزمان وضع مخصوص في لغة العرب أو غيرها ، لكان للإشكال في دخوله في محلّ البحث مجال ، ولكن ليس الأمر كذلك ، بل هيئة «مفعل» مثلا وضعت لوعاء الفعل وظرفه ، سواء كان الظرف هو الزمان أو المكان ، فإذا كان موضوعا للأعمّ ، تكون هذه الهيئة ـ التي وضعت لمطلق وعاء الفعل ـ موضوعة [له].

وعدم انفكاك زمان زوال المبدأ عن زمان زوال الذات في بعض مصاديقها لا ينافي الوضع للأعمّ بعد ما كان استعمالها في المكان المنقضي عنه المبدأ ممكنا وصحيحا.

والحاصل : يكون لفظ «مقتل» بعينه مثل لفظ «غنيّ» فكما يصحّ النزاع في وضع هيئة «فعيل» ـ مع أنّ بعض مصاديقها وهو

١٣١

لفظ «غنيّ» بالقياس إلى الباري تعالى لا يعقل إلّا المتلبّس بالمبدإ ـ كذلك هيئة «مفعل» يمكن أن توضع للأعمّ من وعاء الفعل ، المتلبّس بالوعائية والمنقضي عنه تلك ، غاية الأمر استعمال مثل «مقتل» في المكان المنقضي عنه وعائيّته للقتل ممكن وصحيح ، كما أنّ استعماله في المتلبّس ممكن ، ولكن استعماله في زمان القتل لا يمكن إلّا في المتلبّس ، لعدم تعقّل انقضاء فعل القتل وبقاء زمانه.

والمسألة لا تحتاج بعد ذلك إلى مزيد بيان ومئونة برهان ، ولذا لا نتعرّض للإشكالات الواردة على دخول اسم الزمان ، والجواب عنها بعد وضوح المطلب.

وهكذا ظهر ممّا ذكرنا دخول مثل «المتحرّك» و «السيّال» المسند إلى ذات ينقضي ويتصرّم ، كنفس الحركة والزمان ، إذ ليس لهذه الهيئة وضع مخصوص ، ولو فرض ، ليس لخصوص ما كان الذات فيه ينقضي وضع مخصوص ، بل لها وضع عامّ ، في بعض مصاديقها يعقل بقاء الذات وزوال الوصف ، كالإنسان المتحرّك ، وفي بعض آخر لا يعقل ، كالزمان المتحرّك.

ثمّ إنّ هذا البحث ليس له ثمرة عمليّة أصلا ، فإنّ المناط والمتّبع في باب الألفاظ هو الظهور العرفي ، وقد مرّ أنّه لا شغل لنا بمعرفة الحقائق وتمييزها عن المجازات ، فلو ثبت الوضع للأعمّ ، لا ينبغي الريب في انصرافه إلى المتلبّس وظهوره فيه ، ضرورة أنّه

١٣٢

لا يشكّ فيما إذا ورد «إنّ الخمر حرام» أو «الصلاة في النجس أو المتنجّس باطلة» أنّ المقصود الخمر الفعلي ، والنجس أو المتنجّس الفعلي ، لا ما كان خمرا أو نجسا أو متنجّسا في زمان.

وهكذا إذا قال : «يحرم إهانة العلماء والعدول» لا يرتاب أحد في عدم شموله لمن كان عالما أو عادلا في زمان والآن من أجهل الجهّال وأفسق الفسّاق.

ومن هذه الجهة نجمل البحث ، فإنّ التطويل بلا فائدة.

وأمّا ما أفاده الفخر من ابتناء حرمة المرضعة الثانية ، على وضع المشتقّ للأعمّ فليس بصحيح ، فإنّ المسألة ، لها مبنى آخر لا ربط له بمسألة الوضع للأعمّ وعدمه.

ولتوضيح ذلك نقدّم مقدّمتين :

الأولى : أنّ حرمة أمّ الزوجة وبنت الزوجة إن فرضنا أنّها حرمة جمعية ـ نظير حرمة الجمع بين الأختين بمقتضى قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)(١) ـ فلازمها بطلان زوجية كلّ من الأمّ والبنت إذا وقع العقد عليهما في زمان واحد ، كما في الأختين ، إذ المفروض أنّ الجمع بين الزواجين لا يمكن ، فلا يمكن صحّة كلا العقدين ، وبطلان أحدهما معيّنا ترجيح بلا مرجّح ، وأحدهما لا بعينه لا معنى له ، وأحدهما لا بعينه أي مخيّرا بحيث يكون التخيير بيد المكلّف بلا دليل ، فلا بدّ من الحكم ببطلان كلا

__________________

(١) النساء : ٢٣.

١٣٣

العقدين ، وزوال كلا الزواجين.

وهذا من دون فرق بين أن يكون الجمع متحقّقا حدوثا كما إذا أوقع العقد هو ووكيله على الأختين أو الأمّ والبنت واتّفقت المقارنة بين العقدين ، أو بقاء ، كما إذا كانت لأحد زوجتان إحداهما صغيرة ، فارتضعت الصغيرة من أمّ الزوجة الأخرى ، فبعد تماميّة الرضاع يبطل كلا العقدين ، لصيرورة الزوجة الصغيرة أختا للأخرى بسبب الرضاع ، وما يحرم بالسبب يحرم بالرضاع أيضا.

المقدّمة الثانية : أنّ مقتضى ظهور قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ)(١) أنّ بنت الزوجة الفعلية المدخول بها من المحرّمات ، وأمّا بنت من كانت زوجة له سابقا والآن تزوّجت بآخر ، وهكذا بناتها المتأخّرة عن زوجيتها له المتولّدة من الزوج المتأخّر ، فلا ، لما عرفت من أنّ المشتقّ وإن قلنا : [إنّه] حقيقة في الأعمّ ، لا شكّ في كونه منصرفا إلى المتلبّس وظاهرا فيه ، فظاهر الآية حرمة البنت الفعليّة من الزوجة الفعليّة المدخول بها دون غيرها ، لكن من المتسالم عليه ظاهرا بين الأصحاب أنّ حدوث الزوجية في زمان يكفي لحرمة بناتها الفعلية أو المتأخّرة ، فمن ذلك نستكشف أنّ الآية من قبيل قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٢) ويكون حدوث الزوجيّة

__________________

(١) النساء : ٢٣.

(٢) البقرة : ١٢٤.

١٣٤

موضوعا للحرمة العينية الأبديّة ، كما أنّ حدوث الظلم من أحد موجب لعدم لياقته ونيله الخلافة إلى الأبد.

فالمستفاد من الآية بضميمة التسالم الخارجي حرمة بنت الزوجة المدخول بها ولو زالت عنها الزوجية ، كما أنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١) حرمة بنت الزوجة ، الرضاعية كذلك.

وأيضا مقتضى ظهور قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ)(٢) حرمة أمّ الزوجة الفعليّة لا أمّ من كانت زوجة ، ولكن حرمتها أيضا من المتسالم عليه. ولا فرق أيضا في ذلك بين الأمّ النسبي والرضاعي.

فقد ظهر ممّا ذكرنا حرمة البنات المتأخّرة للزوجة نسبيّة كانت أو رضاعيّة.

وربما يدّعى الإجماع على حرمة الأمّهات المتأخّرة للزوجة أيضا ، غاية الأمر أنّها لا تتصور إلّا في الرضاع.

وبعد ذلك نقول : إنّ للمسألة فروضا ثلاثة :

١ ـ عدم الدخول أصلا لا بالكبيرة الأولى ولا بالثانية.

٢ ـ والدخول بالمرضعة الأولى.

٣ ـ والدخول بالمرضعة الثانية.

__________________

(١) التهذيب ٨ : ٢٤٤ ـ ٨٨٠ ، الفقيه ٣ : ٣٠٥ ـ ٤٦٧ ، الوسائل ٢٠ : ٣٧١ ، و ٣٧٢ ، الباب ١ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث ١ و ٧.

(٢) النساء : ٢٣.

١٣٥

وأمّا فرض الدخول بكلتيهما فلا ربط له بما نحن بصدده ، ولعلّ ما في الكفاية (١) من سهو القلم.

أمّا الفرض الأوّل : فإن قلنا بالحرمة الجمعية ، فلازمها ـ كما ذكرنا ـ بطلان عقد المرضعة الأولى والصغيرة بمجرّد تمامية الرضاع ، لتحقّق الجمع بين الأمّ والبنت بذلك بقاء ، وأمّا الحرمة الأبديّة فمنتفية بالنسبة إلى الصغيرة ، لفرض (٢) عدم الدخول بأمها الرضاعية.

وأمّا بالنسبة إلى أمّها فمبنيّة على حرمة الأمّهات المتأخّرة ، ومع عدم القول بها فالقول بالحرمة مشكل من جهة أنّ آن تحقّق الأمّية بعينه آن زوال زوجية الصغيرة ولم يمض زمان تكون الصغيرة زوجة والمرضعة الأولى امّا لها.

نعم زوال الزوجية يكون متأخّرا عن الأمّية ، لكونه معلولا لها ، لكنّ المراتب تلاحظ في الأحكام الدقّية الفلسفية لا في الأحكام الشرعية المترتّبة على الموضوعات العرفية. اللهم إلّا أن

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٧.

(٢) يمكن أن يكون اللبن للزوج مع عدم الدخول بأن تجذب الرحم المني ، فبتحقّق الرضاع الكامل تصير الصغيرة بنت الزوج ، الرضاعية ، فتحرم أبدا.

فالحقّ في الفرض الأوّل ـ أي عدم الدخول بالكبيرة ـ هو التفصيل بين كون اللبن للزوج أو غيره ، أو تقييد عدم الدخول بكون اللبن للغير.

وبعبارة أخرى : ليس فرض عدم الدخول مساويا لكون اللبن لغير الزوج حتى يعلّل انتفاء الحرمة الأبديّة بعدم الدخول ، فالصغيرة يمكن أن تكون محرّمة أبدا ، لا لكونها ربيبته ، لفرض عدم الدخول بأمها ، بل لأجل إمكان كون اللبن للزوج ، وصيرورتها بنته الرضاعية. (م).

١٣٦

يقال : إنّ مثل هذا لا يضرّ بصدق أمّ الزوجة الفعلية عرفا.

هذا في المرضعة الأولى ، أمّا الثانية فحيث إنّها أرضعت من كانت زوجة له سابقا ، فحرمتها أبدا من جهة صيرورتها امّا للصغيرة بالرضاع ، مبنيّة على القول بحرمة الأمّهات المتأخّرة لا على مسألة المشتقّ.

هذا كلّه لو قلنا بالحرمة الجمعية ، أمّا لو أنكرنا ذلك ، لعدم دليل عليه من آية أو رواية ، وقلنا بأنّ أمّ الزوجة من المحرّمات العينية ، فتحقّق الرضاع بين الأولى والصغيرة لا يقتضي بطلان كلا الزواجين ، بل يقتضي بطلان زوجية الأمّ فقط.

وذلك لأنّ زوال الزوجية لا بدّ له من سبب ، والمفروض أنّ الصغيرة لا تصير محرّمة أبديّة بالرضاع ، لفرض عدم الدخول بأمها ، والطلاق أيضا مفروض العدم ، فبأيّ سبب نحكم ببطلان زوجيّتها؟ فإذا كانت الصغيرة زوجة فعليّة ، فتكون أمّها الرضاعية ـ وهي المرضعة الأولى ـ محرّمة أبدا.

وبعبارة أخرى : صحّة زواج الصغيرة لا تتوقّف على شيء ، بخلاف صحّة زواج أمّها الرضاعية ، فإنّها متوقّفة على عدم صحّة زواج بنتها.

وهذا بعينه هو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسبّبي والأمارات على الأصول.

وإجماله أنّه كلّما كان شمول الدليل لفرد بلا مانع وشموله

١٣٧

لفرد آخر منه دوريّا متوقّفا على عدم شموله للفرد الآخر ، لا بدّ من الحكم بخروج الثاني عن تحت الدليل دون الأوّل.

ثمّ إذا أرضعت الثانية الصغيرة التي قلنا بعدم بطلان زوجيتها بإرضاع الأولى أيضا يبطل زواجها دون الصغيرة بناء على عدم تحريم الجمع بين الأمّ والبنت ، وتحرم المرضعة الثانية أبدا ، لصيرورتها أمّ الزوجة الفعليّة.

ويترتّب على هذا المبنى ـ أي إنكار الحرمة الجمعية ـ ثمرات :

منها : أنّه لو وقع العقد على كلّ من الأمّ والبنت في زمان واحد ، يبطل زواج الأمّ دون البنت ، بل لو تزوّج ابتداء بالأمّ ثمّ بعد ذلك تزوّج بالبنت ، يبطل زواج الأمّ.

وكلّ ذلك لأنّ صحّة زواج البنت لا تشترط بشيء ، ولكن صحّة زواج الأمّ مشروطة بعدم كون البنت في حبالته ، وإلّا تكون الأمّ امّا للزوجة ، التي هي من المحرّمات العينيّة.

فتلخّص : أنّ حرمة المرضعة الثانية أبدا لا تبتني على مسألة المشتقّ والقول بالأعمّ ، بل على مبنى آخر ، وهو القول بحرمة الأمّهات المتأخّرة بناء على كون الحرمة حرمة جمعية ، أو بطلان عقد الأمّ فقط وصيرورتها أمّ الزوجة الفعلية بناء على الحرمة العينية.

هذا في فرض عدم الدخول أصلا ، أمّا الفرض الثاني ـ وهو

١٣٨

فرض الدخول بالأولى ـ فيبطل أيضا بإرضاع الأولى للصغيرة كلا الزواجين ، بناء على الحرمة الجمعية ، وأمّا حرمة الصغيرة أبدا فمن جهة التسالم على حرمة بنات الزوجة المدخول بها فعلية كانت أو متأخّرة ، كما أنّ حرمة المرضعة الأولى أبدا مبنيّة على القول بحرمة الأمّهات المتأخّرة للزوجة ، كالبنات المتأخّرة.

وأمّا بناء على الحرمة العينية : فيبطل زواج الصغيرة ، لصيرورتها بالرضاع بنتا للزوجة المدخول بها ومحرّمة أبدا ، وأمّا بطلان زواج أمّها وحرمتها الأبديّة فمبنيّ على حرمة الأمّهات المتأخّرة للزوجة ، وأمّا المرضعة الثانية فكذلك ، فبطلان زواجها وحرمتها الأبديّة مبنيّ على حرمة الأمّهات المتأخّرة ، ولا يبتني على مسألة المشتقّ.

ومن ذلك ظهر حكم الفرض الثالث ـ وهو فرض الدخول بالثانية ـ فإنّ حكم إرضاع الأولى قد مرّ في الفرض الأوّل ، وأمّا إرضاع الثانية المدخول بها فعلى تقدير بطلان زواج الصغيرة والمرضعة الأولى من جهة الحرمة الجمعية ، فحرمة المرضعة الثانية مبنيّة على حرمة الأمّهات المتأخّرة للزوجة ، وعلى تقدير بطلان زواج المرضعة الأولى فقط دون الصغيرة فهي بما أنّها أمّ للزوجة الفعلية تحرم أبدا بلا إشكال ، إلّا على القول بالحرمة الجمعية ، فيبطل كلا الزواجين ، وتبتني حرمة الكبيرة الثانية على حرمة الأمّهات المتأخّرة. وعلى كلّ تقدير لا تبتني على مسألة

١٣٩

المشتقّ. وأمّا الصغيرة فمحرّمة على كلّ حال.

فقد اتّضح أنّ هذه المسألة بتمام شقوقها وفروعها لا تبتني على مسألة المشتقّ أصلا ، ولم يكن المقصود في المقام إلّا هذا ، وتفصيل الكلام فيها في الفقه ، فانقدح أنّه لا ثمرة لهذا البحث أصلا.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية (١) ـ قدس‌سره ـ أفاد أنّ اختلاف المشتقّات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها فعليّا ، كالآكل والشارب والقاعد والقائم ، وفي بعضها ملكة ، كالمجتهد والفقيه ، وفي بعضها شأنية وقوّة ، كالمفتاح والشجرة المثمرة ، وفي بعضها حرفة ، كالعطّار والنجّار والحفّار لا يوجب اختلافا في وضع الهيئة ، ولا يجعل بعضها خارجا عن محلّ النزاع ، بل الجميع داخل في محلّ النزاع ، وإنّما التفاوت في مبادئها ، والتلبّس والانقضاء يلاحظ في كلّ بحسبه.

ففي مثل المجتهد بوجود ملكة الاستنباط ـ ولو لم يكن مستنبطا حال الجري ـ وانقضائها وزوالها ، وفي المفتاح بآليته للفتح الفعلي ، وزوالها بانكسار سنّ من أسنانه مثلا ، وفي العطّار ونحوه بتلبّسه بهذه الحرفة ورفع يده عنها ، وهكذا.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المبادئ لا اختلاف فيها ، وإنّما الاختلاف في الهيئات ، فإنّ هيئة «فعّال» وغيرها من هيئات

__________________

(١) كفاية الأصول : ٦٢.

١٤٠