المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) معناه : هلكت ثمرتهم عن آخرها ولم يسلم منها شيء ، كما يقال : أحاط بهم العدو إذا هلكوا عن آخرهم.

ومعنى (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) أي : يتحسر على ما أنفق في عمارتها (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) معناه : حيطانه قائمة لا سقوف عليها ، لأنها انهارت فصارت في قرارها ومثله قولهم : وقعت الدار على سقوفها. أي : أعلاها في أسفلها.

والعروش الابنية. وقيل : العروش السقوف ، فصار الحيطان على السقوف.

فصل : قوله (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الاية : ٥٠.

قوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ) معناه : صار من الجن المخالفين لأمر الله.

وقال قوم : ذلك يدل على أنه لم يكن من الملائكة ، لان الجن جنس غير الملائكة ، كما أن الانس غير جنس الجن.

ومن نصر (١) أنه كان من الملائكة يقول : يعني كان من الجن ، يعني من الذين يستترون عن الأبصار ، لأنه مأخوذ من الجن وهو الستر ، ومنه المجن لأنه يستر الإنسان.

وقال ابن عباس : نسب الى الجنان التي كان عليها ، كقولك كوفي وبصري.

وقال غيره : بل كانت قبيلته التي كان منها يقال لهم الجن ، وهم سبط من الملائكة فنسب اليهم.

وقوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) معناه : خرج عن أمر ربه الى معصيته بترك السجود لآدم.

وأصل الفسق الخروج الى حال تضر ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها. وفسقت الفأرة إذا خرجت من حجرها.

__________________

(١). في التبيان : زعم.

٨١

قوله (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً).

قال ابن عباس : أي مهلكا ، وبه قال قتادة والضحاك وابن زيد ، وهو من أو بقتة ذنوبه ، أي : أهلكته. وقال أنس بن مالك : وهو واد في جهنم من قيح ودم.

(فَظَنُّوا) أي : علموا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا) عن دخولها معدلا ولا مصرفا ، لان معارفهم ضرورية. فالظن هاهنا بمعنى العلم ، وقد يكون الظن غير العلم ، وهو ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه ، مع تجويزه أن يكون على خلافه.

(وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي : خصومة.

والجدل شدة الفتل عن المذهب بطريق الحجاج ، وأصله الشدة ، ومنه الأجدل الصقر لشدته ، وسير مجدول شديد الفتل.

وقوله (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) معناه : ما منعهم من الايمان بعد مجيء الدلالة أن يستغفروا ربهم على ما سبق من معاصيهم أن تأتيهم سنة الأولين في مجيء العذاب من حيث لا يشعرون ، أو مقابلة من حيث يرون ، وانما هم بامتناعهم من الايمان بمنزلة من يطلب هذا حتى يؤمن كرها ، لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.

فصل : قوله (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) الاية : ٥٩.

من ضم الميم وفتح اللام وهو الاختيار ، فلان المصدر من أفعل ، والمكان يجيء على مفعل ، كقوله (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) (١) كذلك أهلكه الله مهلكا.

وكل فعل كان على فعل يفعل مثل ضرب يضرب فالمصدر مضرب بالفتح ،

__________________

(١). سورة الاسراء : ٨٠.

٨٢

والزمان والمكان مفعل بكسر العين. وكل فعل كان مضارعه يفعل بالفتح نحو يشرب ويذهب ، فهو مفتوح أيضا ، نحو المشرب والمذهب.

وكل فعل كان على فعل يفعل بضم العين في المضارع ، نحو يدخل ويخرج فالمصدر والمكان منه بالفتح ، نحو المدخل والمخرج الا ما شذ منه نحو المسجد فانه من سجد يسجد.

قيل : فتى موسى كان يوشع بن نون. وقيل : ابن يوشع ، وسمي فتاة لملازمته إياه. (لا أَبْرَحُ) أي : لا أزال.

وقيل : انه كان وعد بلقاء الخضر عند مجمع البحرين. قال قتادة : مجمع البحرين بحر فارس والروم.

وقوله (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) يعني بين البحرين (نَسِيا حُوتَهُما) وانما نسيه يوشع بن نون وأضافه اليهما ، كما يقال : نسي القوم زادهم وانما نسيه بعضهم.

وقوله (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) يعني الحوت (فِي الْبَحْرِ سَرَباً) قال ابن عباس وابن زيد ومجاهد : أحيى الله الحوت ، فاتخذ طريقه في البحر مسلكا وكان موسى وفتاه تزودا حوتا مملوكا حتى إذا كان حيث شاء الله رد الله الى الحوت روحه فسرب في البحر.

قال الحسن : وكان موسى سأل ربه هل أحد اعلم مني؟ يعني الآدميين ، فأوحى الله نعم عبدي الخضر ، فقال موسى : كيف لي بلقائه؟ فأوحى الله اليه أن يحمل حوتا في متاعه ويمضي على وجهه حتى يبلغ مجمع البحرين ، بحر فارس والروم المحيطان بهذا الخلق ، وجعل العلم على لقائه أن يفقد حوته ، فإذا فقدت الحوت فاطلب حاجتك عند ذلك ، فإنك تلقي الخضر عند ذلك.

٨٣

ثم (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) ففتش متاعه ففقد الحوت ، قال (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) وكانت الصخرة عند مجمع البحرين (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) فقال موسى لفتاه (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).

تم التعليق من الجزء السادس من كتاب التبيان في تفسير القرآن ، وكتب محمد بن إدريس حامدا مصليا.

٨٤

التعليق من الجزء السابع من التبيان في تفسير القرآن

تصنيف الشيخ أبى جعفر الطوسي رحمه‌الله

يشتمل على بقية الكهف وسورة مريم وسورة طه والأنبياء

والحج والمؤمنين والنور والفرقان والشعراء والنمل والقصص

والعنكبوت والروم ولقمان

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل : قوله (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) الاية : ٦٢.

النصب التعب والوهن الذي يكون عن الكد ، ومثله الوصب ، فقال له فتاه في الجواب (أَرَأَيْتَ) الوقت الذي (أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أي : أقمنا عندها (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ).

ثم قال (وَما أَنْسانِيهُ) يعني الحوت (إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) أي : وسوسني وشغلني بغيره حتى نسيت ، فلذلك اضافه الى الشيطان لما كان عند فعله وجاز نسيان مثل ذلك مع كمال العقل ، لأنه كان معجزا.

(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) بمعنى أن موسى عليه‌السلام لما رأى الحوت قد

٨٥

جيء وهو يسلك طريقا الى البحر عجب منه ومن عظم شأنه.

وقوله (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) حكاية عما قال موسى عند ذلك من أن ذلك الذي كنا نطلب من العلامة يعني نسيانك الحوت ، لأنه قيل له : صاحبك الذي تطلبه وهو الخضر حيث تنسى الحوتة ، فارتدا يقصان أي : يتبعان آثارهما حتى انتهيا الى مدخل الحوت.

فصل : قوله (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) الاية : ٦٥ ـ ٦٦.

اختلفوا في الذي كان يتعلم موسى منه هل كان نبيا أم لا؟ فقال الجبائي : كان نبيا ، لأنه لا يجوز أن يتبع النبي من ليس بنبي ليتعلم منه العلم ، لما في ذلك من العضاضة على النبي.

وقال ابن الاخشاذ : ويجوز أن لا يكون نبيا على أن لا يكون فيه وضع من موسى. وقال قوم : كان ملكا.

وقال الرماني : لا يجوز أن يكون الا نبيا ، لان تعظيم العالم المعلم فوق تعظيم المتعلم.

وقيل : انه سمي خضرا لأنه كان إذا صلى في مكان لا نبات فيه اخضر ما حوله وكان الله تعالى قد أطلعه من علم بواطن الأمور على ما لم يطلع عليه غيره.

فان قيل : كيف يجوز أن يكون نبي أعلم من نبي في وقته؟

قيل : عن ذلك ثلاثة أجوبة :

أحدها : يجوز أن يكون نبي أعلم من نبي في وقته عند من قال : ان الخضر كان نبيا.

الثاني : أن يكون موسى أعلم من الخضر بجميع ما يؤدي عن الله الى عباده وفيما هو حجة فيه ، وانما خص الخضر بعلم ما لا يتعلق بالأداء.

٨٦

الثالث : ان موسى استعلم من جهته ذلك العلم فقط ، وان كان عنده علم ما سوى ذلك.

فصل : قوله (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها) الاية : ٧١.

قال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب قط ، والزكية التي أذنبت وتابت. أخبر الله تعالى عن موسى وصاحبه الذي تبعه ليتعلم منه ، فخرق صاحبه السفينة ، أي : شق فيها شقا ، لما أعلمه الله من المصلحة في ذلك.

فقال له موسى منكرا لذلك على ظاهر الحال : «أخرقتها لتغرق أهلها» أي : غرضك بذلك أن تغرق أهلها الذين ركبوها. ويحتمل أن يكون قال ذلك مستفهما.

والاول أقوى ، لقوله بعد ذلك (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) والامر المنكر ، في قول مجاهد وقتادة. وقال أبو عبيدة : داهية عظيمة وأنشد :

لقد لقي الاقران منه نكرا

داهية دهياء ادا امرا (١)

فقال له : يا موسى (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) فيما قبل (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي لا يخف عليك ما تشاهده من أفعالي ويثقل عليك ، لأنك لا تعرف المصلحة فيه.

ولم يرد بالاستطاعة القدرة ، لان موسى كان قادرا في حال ما خاطبه بذلك ولم يكن عاجزا ، وهذا كما يقول الواحد منا لغيره : أنا لا أستطيع النظر اليك ، وانما يريد أنه يثقل علي ، دون نفي القدرة في ذلك.

فقال له موسى في الجواب عن ذلك (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) وروي أنه قال ذلك لما رأى أن الماء ليس يدخل السفينة مع خرقها ، علم أن ذلك لمصلحة يريده الله ، قال (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ).

وقيل : في معنى (نَسِيتُ) ثلاثة أقوال :

__________________

(١). مجاز القرآن : ١ / ٤٠٩.

٨٧

أحدها : ما حكي عن أبي بن كعب أنه قال : معناه : بما غفلت من النسيان الذي هو ضد الذكر.

والثاني : ما روي عن ابن عباس أنه قال : معناه بما تركت من عهدك.

الثالث : لا تؤاخذني بما كأني نسيته ولم ينسه في الحقيقة.

فصل : قوله (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) الاية : ٧٧.

الانقضاض السقوط بسرعة. قال الفراء : في قوله (لَوْ شِئْتَ) قال موسى : لو شئت لم تقمه حتى يقربونا فهو الأجر ، وأنشد في «يريد أن ينقض» قول الشاعر :

ان دهرا يلف شملي بجمل

لزمان يهم بالإحسان

أي : كأنه يهم ، وانما هو سبب الإحسان المؤدي اليه ، وقال الاخر :

يشكوا الي جملي طول السرى

صبرا جميلا فكلانا مبتلى

والجمل لم يشك شيئا ، وقال عنترة :

وشكا الى بعبرة وتحمحم

كل ذلك يراد به ما ظهر من الامارة الدالة على المعاني.

فصل : قوله (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) الاية : ٨١.

قال قوم : أبدلت الشيء من الشيء إذا أزلت الاول وجعلت الثاني مكانه ، كقول أبي النجم :

عزل الأمير للأمير المبدل

وبدلت الشيء من الشيء إذا غيرت حاله وعينه ، والأصل باق كقولهم بدلت قميصي ، واستدلوا بقوله (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١) فالجلد

__________________

(١). سورة النساء : ٥٥.

٨٨

الثاني هو الاول ، ولو كان غيره لم يجز عقابه.

قوله (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) والسبب في ذلك أنه كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، فقيل : ان الملك كان يأخذ السفينة الصحيحة ولا يأخذها إذا كانت معيبة.

والوراء والخلف واحد ، وهو نقيض جهة القدام على مقابلتها.

وقال قتادة : وراءهم هاهنا بمعنى أمامهم ، ومنه قوله (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) (١) و (مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) (٢) وذلك جائز على الاتساع ، لأنها جهة مقابلة الجهة ، فكان كل واحد من الجهتين وراء الاخر ، قال لبيد :

أليس ورائي ان تراخت منيتي

لزوم العصا تحني عليها الأصابع

وقال آخر :

أيرجو بني مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقال الفراء : يجوز ذلك في الزمان دون الأجسام ، تقول : البرد والحر وراءنا ولا تقول زيد وراءك.

وقال الرماني وغيره : يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الاخر.

وقال الزجاج : وراءهم خلفهم ، لأنه كان رجوعهم عليه ولم يعملوا به.

وقيل : ان قوله «فخشينا» من قول الخضر. وقيل : انه من قول الله ، ومعناه علمنا. وقيل : معنى خشينا كرهنا ، فبين أن الوجه في قتله ما لا بويه من المصلحة في باب (٣) الدين ، لأنه لو بقي حيا «لارهقهما طغيانا وكفرا» أي : أوقعهما فيه ،

__________________

(١). سورة الجاثية : ٩.

(٢). سورة المؤمنون : ١٠١.

(٣). في التبيان : ثبات.

٨٩

فكان يكون ذلك مفسدة ، فأمر الله بقتله لذلك كما لو أماته.

ثم أخبر عن حال الجدار الذي أقامه وأعلمه انه «كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما» فقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : كانت صحف علم.

وقال الحسن : كان لوحا من ذهب مكتوب فيه الحكم. وقال قتادة وعكرمة : كان كنز مال ، والكنز في اللغة هو كل مال مذخور من ذهب وفضة وغير ذلك.

وقال الجبائي : لا يجوز أن يكون صاحب موسى الخضر ، لان خضرا كان نبيا من الأنبياء الذين بعثهم الله من بني إسرائيل بعد موسى ، قال : ولا يجوز أيضا أن يبقى الخضر الى وقتنا هذا ، كما يقوله من لا يدري ، لأنه لا نبي بعد نبينا ، ولأنه لو كان لعرفه الناس ولم يخف مكانه.

وهذا الذي ذكره ليس بصحيح ، لأنا لا نعلم أولا أن خضر كان نبيا ، ولو ثبت لم يمتنع أن يبقى الى وقتنا هذا ، لان تبقيته في مقدور الله تعالى ، ولا يؤدي الى انه نبي بعد نبينا ، لأنه نبوته كانت ثابتة قبل نبينا ، وشرعه ان كان شرعا خاصا له منسوخ بشرع نبينا ، وان كان يدعو الى شرع موسى ، أو من تقدم من الأنبياء فان جميعه منسوخ بشرع نبينا عليه‌السلام ، فلا يؤدي الى ما قال.

وقوله «لو كان باقيا لرئي ولعرف» غير صحيح ، لأنه لا يمتنع أن يكون بحيث لا يتعرف الى أحد منهم وان شاهدوه لا يعرفونه.

وروي عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام في قوله (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قال : سطران ونصف ولم يتم الثالث ـ عجبا للمؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبا للمؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح.

فصل : قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) الاية : ٨٣.

قيل : سمي ذا القرنين لأنه كان في رأسه شبه القرنين.

٩٠

وقيل : انه سمي بذلك لأنه ضرب على جانبي رأسه. وقيل : لأنه كانت له ضفيرتان. وقيل : انه بلغ قرني الشمس.

«وجدها تغرب في عين حمئة» أي : في عين ماء ذات حمأة ، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. ومن قرأ حاميه أراد حارة في قول الحسن.

فصل : قوله (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) الاية : ٩٠.

معناه : انه لم يكن بها جبل ولا شجر ولا بناء ، لان أرضهم لم يكن ثبت عليها بناء ، فكانوا إذا طلعت الشمس يغورون في المياه والاسراب ، وإذا غربت تصرفوا في أمورهم ، في قول الحسن وقتادة وابن جريح.

وقال الحسن : ان ذا القرنين كان نبيا ملك مشارق الأرض ومغاربها.

وقال عبد الله بن عمر : وكان ذو القرنين والخضر نبيين ، وكذلك لقمان كان نبيا.

وقوله (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) فالردم أشد الحجاب ، في قول ابن عباس ، يقال ردم فلان موضع كذا يردمه ردما وردم ثوبه ترديما إذا أكثر الرقاع فيه ، ومنه قول عنترة :

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم (١)

أي : هل تركوا من قول يؤلف تأليف الثوب المرقع. وقيل : الردم السد المتراكب.

قال الجبائي والبلخي وغيره : ان يأجوج ومأجوج قبيلان من بني آدم. قال الجبائي قيل : انهما من ولد يافث بن نوح ، ومن نسله الأتراك. وقال سعيد بن جبير : قوله :

__________________

(١). ديوان عنترة ص ١٥.

٩١

(مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) معناه : يأكلون الناس. وقال قوم : معناه سيفسدون ذهب اليه قتادة.

فصل : قوله (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) الاية : ٩٦.

الزبرة : الجملة المجتمعة من الحديد والصفر ونحوهما ، وأصله الاجتماع ومنه الزبور ، وزبرت الكتاب إذا كتبته لأنك جمعت حروفه.

والصدفان جبلان ، في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وابراهيم.

فصل : قوله (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) الاية : ٩٩.

الترك في الحقيقة لا يجوز على الله الا أنه يتوسع فيه ، فيعبر به عن الإخلاص بالشيء بالترك.

وقوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) فالنفخ إخراج الريح من الجوف باعتماد. والصور قال عبد الله بن عمرو في حديث يرفعه أنه قرن ينفخ فيه. ومثله روي عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري. وقال الحسن : الصور جمع صورة فيحيون بأن ينفخ في الصور الأرواح ، وهو قول أبي عبيدة.

فصل : قوله (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الاية : ١٠٤.

أي : يظنون أنهم يفعلون الافعال الجميلة. والحسبان هو الظن وهو ضد العلم.

وفي الاية دلالة على أن المعارف ليست ضرورية ، لأنهم لو عرفوا الله تعالى ضرورة لما حسبوا غير ذلك ، لان الضروريات لا يشك فيها.

سورة مريم

فصل : قوله (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ

٩٢

بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) الاية : ٤ ـ ٥.

انما أضاف الوهن الى العظم [لان العظم] مع صلابته إذ كبر ضعف وتناقص فكيف باللحم والعصب. وقيل : شكا البطش وهو لا يكون الا بالعظم.

والآل خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم اليه ، وقد يرجع اليه أمرهم بالقرابة تارة وبالصحبة أخرى وبالدين والموافقة فيه ، مثل آل النبي.

والجعل على أربعة أقسام :

أحدها : بمعنى الأحداث كقولهم «جعل البناء» أي : أحدثه.

والثاني : احداث ما يتغير به ، كقولهم «جعل الطين خزفا» أي : أحدث ما به يتغير.

الثالث : أن يحدث فيه حكما ، كقولهم «جعل فلانا فاسقا» أي : بما أحدث من حكمه.

الرابع : أن يدعوه الى أن يفعل ، كقولهم «جعل يقتل زيدا» أي : بما أمره به ودعاه الى قتله.

ومعنى «واجعله رب رضيا» اجعل ذلك الولي الذي يرثني مرضيا عندك ممتثلا لأمرك عاملا لطاعتك.

وفي الاية دلالة على أن الأنبياء يورثون المال ، بخلاف ما يقول مخالفنا أنهم لا يورثون ، لان زكريا صرح بدعائه وطلبه من يرثه ويحجب بني عمه وعصبه من الولد.

وحقيقة الميراث انتقال ملك المورث الى ورثته بعد موته بحكم الله ، وحمل ذلك على العلم والنبوة خلاف الظاهر ، على أن العلم والنبوة لا يورثان ، لان النبوة تابعة للمصلحة لا مدخل للنسب فيها ، والعلم موقوف على من يتعرض له ويتعلمه.

٩٣

على أن زكريا انما سأل وليا من ولده يحجب مواليه من بني عمه وعصبته من الميراث ، وذلك لا يليق الا بالمال ، لان النبوة والعلم لا يحجب الولد عنهما بحال ، على أن اشتراطه أن يجعله رضيا لا يليق بالنبوة ، لان النبي لا يكون إلا رضيا معصوما ، فلا معنى لمسألته ذلك ، وليس كذلك المال ، لأنه يرثه الرضا وغير الرضا.

واستدل المخالف بهذه الاية على أن البنت لا تحوز المال دون بني العم والعصبة ، لان زكريا طلب وليا يمتنع مواليه ولم يطلب ولية.

وهذا ليس بشيء ، لان زكريا انما طلب وليا ، لان من طباع البشر الرغبة في الذكور دون الإناث من الأولاد لذلك ، على أنه قيل : لفظ «ولي» يقع على الذكر والأنثى ، فلا نسلم أنه طلب الذكر ، بل الذي يقتضي الظاهر أنه طلب ولدا ، سواء كان ذكرا أو أنثى.

فصل : قوله (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) الاية : ٩.

أي : لم تك موجودا ، ومن نفي المعدوم استدل بذلك ، فقال : لو كان المعدوم شيئا لما نفى أن يكون شيئا قبل ذلك ، وحمل قوله (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) على المجاز. والمعنى أنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما.

ومن قال : المعدوم شيء قال : أراد ولم يك شيئا موجودا ، ولم يكن قوله (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) على وجه الإنكار ، بل كان ذلك على وجه التعجب من عظيم قدرة الله.

فصل : قوله (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) الاية : ١٥.

قال قوم : معناه أمان له وسلامه يوم ولد من عبث الشيطان به وأعوانه إياه ، ويوم يموت من عذاب القبر وهول المطلع ، ويوم يبعث حيا من عقاب النار وأهوال المحشر.

__________________

(١). سورة الحج : ١.

٩٤

فصل : قوله (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) الاية : ١٧.

قال الحسن وقتادة والسدي وابن جريح ووهب بن منبه : يعني جبرئيل عليه‌السلام وسماه الله روحا لأنه روحاني لا يشوبه (١) شيء من غير الروح ، وخص بهذه الصفة تشريفا له.

وقيل : لأنه تحيا به الأرواح بما يؤديه اليهم من أمر الأديان والشرائع.

فان قيل : كيف تعوذت منه ان كان تقيا؟ والتقي لا يحتاج أن يتعوذ منه ، وانما يتعوذ من غير التقي؟.

قيل : المعنى في ذلك أن التقي للرحمن إذا تعوذ بالرحمن منه ارتدع عما يسخط الله ، ففي ذلك تخويف وترهيب ، كما يقول القائل : ان كنت مؤمنا فلا تظلمني وتكون هي غير عالمة بأنه تقي أم لا.

فقالت مريم عند ذلك متعجبة من قول جبرئيل «أنى يكون لي غلام» أي : كيف يكون ذلك.

«ولم يمسسني بشر» بالجماع على وجه الزوجية.

«ولم أك بغيا» أي : لم أك زانية ، في قول السدي وغيره ، وهي التي تطلب الزنا ، لان معنى تبغيه تطلبه.

وأصله لم أكن ، لأنه من كان يكون. وانما حذفت النون لاستخفافها على ألسنتهم ولكثرة استعمالهم لها ، كما حذفوا الالف من لم أبل ، وأصله لم أبالي ، لأنه من المبالاة ، وكقولهم «لا أدر» وكقولهم «أيش» وأصله أي شيء ومثله كثير.

فصل : قوله (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) الاية : ٢٣.

قالت هذا استحياء من الناس «وكنت نسيا منسيا» فالنسيء المتروك حتى ينسى بالفتح والكسر.

وقيل : النسيء خرقة الحيض التي تلقيها ، قال الشاعر :

__________________

(١). في التبيان : لا يشبه.

٩٥

كأن لها في الأرض نسيا تقصه

إذا ما غدت وان تكلمك (١) تبلت

أي : شيئا تركته.

وقيل : لم يكن للنخلة رأس وكان في الشتاء ، فجعله الله تعالى آية ، وانما تمنت الموت قبل تلك الحال التي قد علمت أنها من قضاء الله ، لكراهتها أن يعصى الله بسببها إذا كان الناس يتسرعون الى القول فيها بما يسخط الله.

وقال قوم : انما قالت ذلك بطبع البشرية خوف الفضيحة.

فصل : قوله (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) الاية : ٢٦.

قال الجبائي : كان الله تعالى أمرها بأن تنذر لله الصمت ، فإذا كلمها انسان تومئ بأنها نذرت صمتا ، لأنه لا يجوز أن يأمرها بأنها نذرت ولم تنذر ، لان ذلك كذب.

وقال أنس بن مالك وابن عباس والضحاك : يريد بالصوم الصمت ، وانما أمرها بالصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبرئ به ساحتها ، في قول ابن مسعود وابن زيد ووهب بن منبه.

وقيل : كان من صام في ذلك الوقت لا يكلم الناس ، فأذن لها في هذا المقدار من الكلام ، في قول السدي.

فان قيل : كيف تكون نذرت الصمت وأن لا تكلم أحدا مع قولها واخبارها عن نفسها بأنها نذرت؟ وهل ذلك الا تناقض؟

قيل : من قال : انه أذن لها في هذا القدر فحسب يقول : انها نذرت ألا تكلم بما زاد عليه. ومن قال : انها نذرت نذرا عاما أو مت بذلك ولم تلفظ به.

وقيل : أمرها أن تشير اليهم بهذا المعنى وأنه ولدته بناحية بيت المقدس في

__________________

(١). في التبيان : تكالمك.

٩٦

موضع يعرف ببيت لحم.

فقال لها قومها «يا أخت هارون» قيل : في هارون الذي نسبت اليه بالاخوة أربعة أقوال :

فقال قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه الى النبي عليه‌السلام أنه كان رجلا صالحا في بني إسرائيل ينسب اليه من عرف بالصلاح.

وقال السدي : نسبت الى هارون أخي موسى ، لأنها كانت من ولده ، كما يقال يا أخا بني فلان.

وقال قوم : كان رجلا فاسقا معلنا بالفسق فنسبت اليه.

وقال الضحاك : كان أخاها لأبيها وأمها.

فصل : قوله (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) الاية : ٣٧ ـ ٣٨.

المعنى في الاية اختلف الأحزاب من أهل الكتاب في عيسى عليه‌السلام ، في قول قتادة ومجاهد.

فقال قوم : هو الله وهم اليعقوبية.

وقال آخرون : هو ابن الله وهم النسطورية.

وقال قوم : هو ثالث ثلاثة وهم الاسرائيلية.

وقال قوم : هو عبد الله وهم المسلمون.

وقوله (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) معناه : ما أسمعهم وأبصرهم على وجه التعجب والمعنى في ذلك أنهم حلوا في ذلك محل من يتعجب منه.

وقال الحسن وقتادة : المعنى لئن كانوا في الدنيا صميا عميا عن الحق ، فما أسمعهم به وأبصرهم به يوم القيامة.

فصل : قوله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا

٩٧

أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً») الاية : ٤١ ـ ٤٢.

قال قوم : هذه المخاطبة من ابراهيم كان لأبيه الذي هو والده ، والذي يقوله أصحابنا : انه كان جده لامه ، لان آباء النبي عليه‌السلام كانوا مسلمين الى آدم ولم يكن فيهم من يعبد غير الله ، لقوله : لم يزل الله ينقلني من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات.

والكافر لا يوصف بالطهارة ، لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (١) قالوا : وأبوه الذي ولده كان اسمه تارخ ، وهذا الخطاب منه كان لآزر.

فصل : قوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) الاية : ٥٩.

فالخلف ـ بفتح اللام ـ يستعمل في الصالح ، وبتسكين اللام الطالح ، قال لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

قال الفراء والزجاج : يستعمل كل واحد منهما في الاخر. قال القرطي : تركوها.

وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز : أخروها عن مواقيتها ، وهو الذي رواه أصحابنا.

والغي الشر والخيبة ، في قول ابن عباس وابن زيد ، قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي : من يخب. وقال عبد الله بن مسعود : الغي واد في جهنم.

فصل : قوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الاية : ٦١ ـ ٦٢.

__________________

(١). سورة التوبة : ٢٩.

٩٨

الوعد الاخبار بما يتضمن فعل الخير ، ونقيضه الوعيد ، وهو الخبر عن فعل الشر ، وقد يقال : وعدته بالخير ووعدته بالشر ، وأوعدته لا يكون الا في الشر.

وقوله (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قيل : معناه في مقدار اليوم من أيام الدنيا ، فذكر بالغداة والعشي ليدل على المقدار ، لأنه ليس في الجنة ليل ولا نهار.

فصل : قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) الاية : ٧١.

واختلفوا في كيفية ورودهم اليها ، فقال قوم وهو الصحيح : ان ورودهم وصولهم اليها واشرافهم عليها من غير دخول منهم فيها ، لان الورود في اللغة هو الوصول الى المكان ، وأصله ورود الماء ، وهو خلاف الصدور عنه.

والدليل على أن الورود هو الوصول الى الشيء من غير دخول فيه قوله تعالى (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) (١) وأراد وصل اليه. وقال زهير :

فلما وردن الماء زرقا جمامة

وضعن عصي الحاظر المتخيم (٢)

والأثاث المتاع. والرئي المنظر ، وهو قول ابن عباس.

فصل : قوله (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) الاية : ٧٦.

زيادة الهدى بايمانهم بالناسخ والمنسوخ.

(الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) هي فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المعاصي. وقيل : هي قول «سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولله الحمد».

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن الباقيات الصالحات القيام آخر الليل لصلاة الليل والدعاء في الاسحار. وسميت باقيات بمعنى أن منافعها تبقى وتنفع أهلها في الدنيا والاخرة ، بخلاف ما نفعه مقصور على الدنيا فقط.

قوله (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال قتادة : معناه اتخذ عهدا بعمل

__________________

(١). سورة القصص : ٢٣.

(٢). ديوان زهير ص ٧٨.

٩٩

صالح قدمه. وقال غيره : معناه اتخذ عند الرحمن عهدا ، أي قولا قدمه اليه بما ذكرتم.

ومعنى (نَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : نرثه نحن المال والولد بعد إهلاكنا إياه وابطالنا ما ملكناه. والمقام بضم الميم مصدر الاقامة ، وبفتحها المكان ، كقوله «مقام ابراهيم».

فصل : قوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) الاية : ٨٣.

أي : لما سلط الكفار الشياطين على نفوسهم وقبلوا منهم واتبعوهم ، خلينا بينهم وبينهم حتى أغووهم ، ولم نخل بينهم بالإلجاء ولا بالمنع ، وعبر عن ذلك بالإرسال على ضرب من المجاز.

ومثله قوله (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (١) أي : تخليها الى أجل مسمى.

ومعنى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي : تزعجهم إزعاجا. والاز الإزعاج الى الامر ، أزه أزا وأزيزا إذا هزه بالازعاج الى أمر من الأمور.

فصل : قوله (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) الاية : ٨٩.

أخبر عن الكفار بأنهم (قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) كما قال النصارى : ان المسيح ابن الله ، واليهود قالت : عزير ابن الله ، فقال لهم الله على وجه القسم.

(لَقَدْ جِئْتُمْ) بهذا القول (إِدًّا) أي : منكرا عظيما ، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد ، قال الراجز :

لقد لقى الاعداء مني منكرا

داهية دهياء ادا امرا

سورة طه

قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد : معنى «طه» بالسريانية يا

__________________

(١). سورة الزمر : ٤٢.

١٠٠