المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

لأنه لو أمكنه أن يصرعه لكان له عليهم سلطان ، وأجاز أبو الهذيل وابن الاخشاذ ذلك.

فصل : قوله (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) الاية : ١٠٣.

قال الضحاك : أرادوا به سلمان الفارسي. وقال قوم : أرادوا به إنسانا يقال له : عايش أو يعيش كان مولى لحو يطب بن عبد العزى أسلم وحسن إسلامه.

فقال الله تعالى ردا عليهم (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) أي : يميلون اليه «أعجمي وهذا لسان عربي» كما تقول العرب للقصيدة : هذه لسان فلان ، قال الشاعر :

لسان السوء تهديها إلينا

وحنت وما حسبتك ان تحينا

والاعجمي الذي لا يفصح ، والعجمي منسوب الى العجم. والاعرابي البدوي والعربي منسوب الى العرب ، ومعناه ظاهر بين لا يشكل.

فصل : قوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) الاية : ١٠٦.

نزلت هذه الاية في عمار بن ياسر رحمة الله عليه أكرهه المشركون بمكة بأنواع العذاب.

وقيل : انهم غطوه في بئر ماء على أن يلفظ بالكفر ، وكان قلبه مطمئنا بالايمان فخاف من ذلك وجاء الى النبي عليه‌السلام جزعا ، فقال له النبي عليه‌السلام : كيف كان قلبك؟

قال : كان مطمئنا بالايمان ، فأنزل الله فيه الاية وأخبر أن الذين يكفرون بالله بعد أن كانوا مصدقين به بأن يرتدوا عن الإسلام فعليهم غضب من الله.

فصل : قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الاية : ١٠٧.

معناه أحد شيئين :

أحدهما : أنه لا يهديهم الى طريق الجنة والثواب لكفرهم.

٦١

الثاني : أنه لا يحكم بهدايتهم لكونهم كفارا. فأما نصب الدلالة فقد هدى الله جميع المكلفين ، كما قال (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (١).

وقيل : انهم لما لم يهتدوا بتلك الادلة فكأنها ما نصبت لهم ونصبت للمؤمنين الذين اهتدوا بها ، فلذلك نفاها عنهم فكأنها لم تكن.

فصل : قوله (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) الاية : ١١٠.

نزلت في المستضعفين المفتنين بمكة عمار وبلال وصهيب ، فإنهم حملوا على الارتداد عن دينهم ، فمنهم من أعطى ذلك تقية ، منهم عمار فانه أظهر ذلك تقية ثم هاجر.

قال الرماني : في الاية دلالة على أنهم فتنوا عن دينهم بمعصية كانت منهم لقوله «ان ربك من بعدها لغفور رحيم» لان المغفرة الصفح عن الخطيئة ، ولو كانوا اعطوا التقية على حقها لم تكن هناك تقية (٢).

هذا الذي ذكره ليس بصحيح ، ولا في الكلام دلالة عليه ، وذلك أن الله تعالى انما قال «ان ربك من بعدها» يعني : بعد الفتنة التي يشق أمرها «لغفور رحيم» أي : ساتر عليهم ، لان ظاهر ما أظهروه يحتمل القبيح والحسن.

فلما كشف الله عن باطن أمورهم وأخبر أنهم كانوا مطمئنين بالايمان كان في ذلك ستر عليهم وازالة للظاهر المحتمل الى الامر الجلي ، وذلك من نعم الله عليهم.

فصل : قوله (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) الاية : ١١٢.

انما سماه لباس الجوع لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوب اللون وسوء

__________________

(١). سورة فصلت : ١٧.

(٢). في التبيان : خطيئة.

٦٢

الحال ما هو كاللباس.

وقيل : انه شملهم الجوع والخوف ، كما يشمل اللباس البدن.

الجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج والتي هي أحسن فيه الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة.

سورة بنى إسرائيل

قالت أم هاني بن أبي طالب : ان النبي عليه‌السلام كان في منزلها ليلة أسري به. وقال الحسن وقتادة : كان في نفس المسجد الحرام. والمسجد الأقصى بيت المقدس ، وهو مسجد سليمان بن داود.

فصل : قوله (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) الاية : ٣.

نصبه على النداء ، وهو خطاب لجميع الخلق ، لان الخلق كله من نسل نوح من بنيه الثلاثة : حام وهو أبو السودان ، ويافث وهو أبو البيضان الروم والترك والصقالبة وغيرهم ، وسام وهو أبو العرب والفرس.

فصل : قوله (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الاية : ٥.

قيل : في معنى «بعثنا» قولان :

أحدهما ـ قال الحسن : انا خلينا بينهم وبينكم خاذلين لكم جزاء على كفرهم ومعاصيكم ، كما قال (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١).

الثاني : قال أبو علي : أمرناهم بقتالكم.

فصل : قوله (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الاية : ١٣.

__________________

(١). سورة مريم : ٨٤.

٦٣

معنى (طائِرَهُ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : عمله من خير أو شر ، كالطائر الذي يجيء من ذات اليمين فيتبرك به ، والطائر الذي يجيء من ذات الشمال فيتشأم به وطائره عمله ، والزام الله طائره في عنقه الحكم عليه بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

ثم قال (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : لا يأخذ أحدا بذنب غيره. والوزر الإثم.

وقوله (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) اخبار من الله أنه لا يعاقب أحدا على معاصيه حتى يستظهر عليه بالحجة وإنفاذ الرسل.

وليس في ذلك دلالة على أنه لو لم يبعث رسولا لم يحسن منه أن يعاقب إذا ارتكب القبائح العقلية ، اللهم الا أن يفرض أن في بعثة الرسل لطفا ، فانه لا يحسن من الله مع ذلك أن يعاقب أحدا الا بعد أن يعرفه ما هو لطف له ومصلحة لتزاح علته.

وقيل : معناه (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) بعذاب الاستيصال والإهلاك في الدنيا حتى نبعث رسولا. وفي الاية دلالة على بطلان قول المجبرة ، من أن الله تعالى يعذب أطفال الكفار بكفر آبائهم ، لأنه بين أنه لا يأخذ أحدا بجرم غيره.

فصل : قوله (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) الاية : ١٦.

ذكر في هذه الاية وجوه أربعة :

أحدها : أن مجرد الإهلاك لا يدل على أنه حسن أو قبيح ، بل يمكن وقرعه على كل واحد من الامرين ، فإذا كان واقعا على وجه الظلم كان قبيحا ، وإذا كان واقعا على وجه الاستحقاق ، أو على وجه الامتحان كان حسنا ، فتعلق الارادة به لا يقتضي تعلقها على الوجه القبيح ، وإذا علمنا أن القديم لا يفعل القبيح علمنا أن ارادته للاهلاك على الوجه الحسن.

وقوله (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) المأمور به محذوف ، وليس يجب أن يكون المأمور

٦٤

به هو الفسق وان وقع بعده الفسق ، بل لا يمتنع أن يكون التقدير : وإذا أردنا أن نهلك أهل قرية أمرناهم بالطاعة ففسقوا فيها فحق عليها القول ، وجرى ذلك مجرى قولهم أمرته فعصى ، والمراد أمرته بالطاعة فعصى.

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : المعنى أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، ومثله أمرتك فعصيتني.

ومن قرأ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بتشديد الميم بمعنى أكثرنا ، من قولهم سكة مأبورة ومهرة مأمورة ، أي : كثيرة النتاج ، فالمعنى أي : أكثرنا عددهم أو مالهم ففسقوا ، فقد سلم من الاعتراض.

فصل : قوله (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) الاية : ٢٣.

في (أُفٍّ) سبع لغات : روي عن الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عليهم‌السلام أنه قال : لو علم الله لفظة أو جز في ترك عقوق الوالدين من أف لاتى بها.

فان قيل : هل أباح الله أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟

قلنا : لا ، لان الله أوجب على الولد طاعة الوالدين على كل حال وحظر عليه أذاهما.

وانما خص الكبر ، لان وقت كبر الوالدين مما يضطر فيه الوالدين الى الخدمة إذا كانا محتاجين عند الكبر ، وفي المثل يقال : «فلان أبر من النسر» لان النسر إذا كبر ولم ينهض للطيران جاء الفرخ فزقه كما كان أبواه يزقانه ، ومثله قوله (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (١).

والوجه في قوله «وكهلا» مع أن الناس يتكلمون كلهم حال الكهولية أن الله تعالى أخبر أن عيسى يكلم في المهد أعجوبة ، وأخبر أنه يعيش حتى يكتهل ويتكلم

__________________

(١). سورة آل عمران : ٤٦.

٦٥

بعد الكهولة ، ونحوه قوله (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١) انما خص بذلك اليوم بأن الامر لله ، لان في الدنيا مع أنه يملك قد ملك أقواما جعلهم ملوكا وخلفاء ، وذلك اليوم لا يملك سواه.

معنى قوله «وقضى ربك ألا تعبدوا الا إياه» أي : أمره ، في قول ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد.

فان قيل : الامر لا يكون أمرا بألا يكون الشيء ، لأنه يقتضي ارادة المأمور به ، والارادة لا تتعلق بألا يكون الشيء ، وانما تتعلق بحدوث الشيء.

قلنا : المعنى أنه كره ربكم عبادة غيره ، وأراد منكم عبادته على وجه الإخلاص ، وسمي ذلك أمرا ب «ألا تعبدوا الا إياه» لان معناهما واحد.

فصل : قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) الاية : ٢٩.

أي : لا تكن ممن لا يعطي شيئا ولا يهب ، فتكون بمنزلة من يده مغلولة الى عنقه لا يقدر على الإعطاء ، وذلك مبالغة في النهي عن الشح والإمساك (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي : ولا تعط أيضا جميع ما عندك ، فتكون بمنزلة من بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وذلك كناية عن الإسراف.

والمحسور المغموم المنحسر والحسرة الغم.

فصل : قوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الاية : ٣٣.

إسرافه فيه أن يقتل غير من قتل ، أو يقتل أكثر من قاتل وليه ، لان مشركي العرب كانوا يفعلون ذلك ، والتقدير فلا يسرف الولي في القتل أن الولي كان منصورا بقتل قاتل وليه والاقتصاص منه.

فصل : قوله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا

__________________

(١). سورة الانفطار : ١٩.

٦٦

بِالْعَهْدِ) الاية : ٣٤.

انما خص مال اليتيم بذلك ، وان كان التصرف في مال البالغ بغير اذنه لا يجوز أيضا ، لان اليتيم الى ذلك أحوج والطمع في مثله أكثر.

وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قال قوم : حتى يبلغ ثمان عشرة سنة. وقال آخرون : حتى يبلغ الحلم. وقال آخرون وهو الصحيح : حتى يبلغ كمال العقل ويؤنس منه الرشد.

وقوله «وأوفوا بالعهد» أمر من الله تعالى بالوفاء بالعهد وهو العقد ، ومتى عقد عاقد على ما لا يجوز ، فعليه نقض ذلك العقد الفاسد والتبري منه. وانما يجب الوفاء بالعقد الذي يحسن.

وقيل : كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد ، وقد يجب الشيء للنذر وللعهد والوعد به وان لم يجب ابتداء وانما يجب عند العقد.

وقوله «ان العهد كان مسؤولا» معناه : انه كان مسؤولا عنه للجزاء عليه ، فحذف «عنه» لأنه مفهوم ثم نهى نبيه أن يقفوا ما ليس له به علم ، وهو متوجه الى جميع المكلفين ، وأصله القفو اتباع الأثر ، ومنه القيافة وكأنه يتبع قفا المتقدم.

واستدل بهذه الاية على أنه لا يجوز العمل بالقياس ولا بخبر الواحد ، لأنهما لا يوجبان العلم ، وقد نهى الله تعالى أن يتبع الإنسان ما لا يعلمه.

فصل : قوله (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الاية : ٦١.

انما جاز أن يأمره بالسجود له ولم يجز أن يأمره بالعبادة له ، لان السجود يترتب في التعظيم بحسب ما يراد به ، وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع ، لأنه يترتب في التعظيم بحسبه (١) ، يبين ذلك أنه لو سجد ساهيا لم يكن له منزلة في التعظيم ، على قياس غيره من أفعال الخوارج.

__________________

(١). في التبيان : بحسب نيته.

٦٧

قال الرماني : الفرق بين السجود لآدم والسجود الى الكعبة ، أن السجود لآدم تعظيم له بإحسانه ، وهذا يقارب قولنا في أنه قصد بذلك تفضيله بأن أمره بالسجود له.

ومعنى (لَأَحْتَنِكَنَّ) لاقتطعنهم الى المعاصي ، يقال منه احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك ، قال الشاعر :

تشكو اليك سنة قد أجحفت

جهدا الى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلفت

فصل : قوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) الاية : ٦٤.

معنى «استفزز» استزل يقال : استزله واستفزه بمعنى واحد ، وتفزز الثوب إذا تخرق وفززه تفزيزا ، وأصله القطع ، فمعنى استفزه استزله بقطعه عن الصواب.

والاستطاعة قوة تنطاع بها الجوارح للفعل ، ومنه الطوع والطاعة وهو الانقياد للفعل.

وقيل : في الصوت الذي يستفزهم به قولان :

أحدهما ـ قال مجاهد : هو صوت الغناء واللهو.

الثاني : قال ابن عباس : هو كل صوت يدعى به الى معصية الله.

وقوله «وشاركهم في الأموال والأولاد» فمشاركته إياهم في الأموال كسبها من وجوه مخطورة ، أو إنفاقها في وجوه مخطورة ، كما فعلوا في السائبة والبحيرة وفي الأولاد قال مجاهد والضحاك : فهم أولاد الزنا. وقال ابن عباس : الموءودة وقال ابن عباس في روايته : هو تسميتهم عبد الحارث وعبد شمس.

فصل : قوله (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الاية : ٧١.

٦٨

جعل الله تعالى إعطاء الكتاب باليمين من علامة الرجاء والخلاص وأن من أعطي كتابه باليمين تمكن من قراءة كتابه وسهل له ذلك ، وكان فحواه أن من أعطي كتابه بيساره أو وراء ظهره ، فانه لا يقدر على قراءة كتابه ولا يتأتى له بل يتلجلج فيه.

والفتيل هو المفتول الذي في بطن النواة في قول قتادة.

وقيل : الفتيل في بطن النواة ، والنقير في ظهرها ، والقطمير قشر النواة ، ذكره الحسن.

فصل : قوله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الاية : ٧٨.

اختلفوا في الدلوك ، فقال ابن عباس وابن مسعود وابن زيد : هو الغروب والصلاة المأمور بها هاهنا هي المغرب.

وقال ابن عباس في رواية أخرى والحسن ومجاهد وقتادة : دلوكها زوالها وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وذلك أن الناظر اليها يدلك عينيه لشدة شعاعها. وأما عند غروبها ، فيدلك عينيه ليتبينها. وغسق الليل ظهور ظلامه.

و (قُرْآنَ الْفَجْرِ) يعني قرآن الفجر في الصلاة ، وذلك يدل على أن الصلاة لا تتم الا بالقراءة ، لأنه أمر بالقراءة وأراد بها الصلاة ، لأنها لا تتم الا بها.

وقوله (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) معناه : يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ذهب اليه ابن عباس وقتادة ومجاهد وابراهيم.

ومعنى «لدلوك الشمس» أي : عند دلوكها.

واستدل قوم بهذه الاية على أن وقت الاولى موسع الى آخر النهار لأنه ، أوجب اقامة الصلاة من وقت الدلوك الى وقت غسق الليل ، وذلك يقتضي أن ما بينهما وقت.

وهذا ليس بشيء ، لان من قال : ان الدلوك هو الغروب لا دلالة له فيها ، لان

٦٩

من قال ذلك يقول : انه تجب اقامة المغرب من عند الغروب الى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق ، وما بين ذلك وقت المغرب ، ومن قال : الدلوك هو الزوال يمكنه أن يقول : المراد بالاية بيان وجوب الصلاة الخمس على ما ذكره الحسن ، لا بيان وقت صلاة واحدة ، فلا دلالة في الاية.

فصل : قوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) الاية : ٧٩.

التهجد التيقظ لما ينفي النوم. وقال المبرد : التهجد عند أهل اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله ، فإذا سهر للصلاة قيل : تهجد ، وإذا أراد النوم قيل : هجد.

قال الرماني : يجوز أن يكون نافلة أكثر ثوابا من فريضة إذا كان ترك الفريضة صغيرا ، لان نافلة النبي أعظم من هذه الفريضة من فرائض غيره ، وقد تكون نعمة واجبة أعظم من نعمة واجبة كنعمة الله ، لأنه يستحق بها العبادة من نعمة الإنسان التي يستحق بها الشكر فقط.

وقوله «نافلة لك» وجه هذا الاختصاص هو أنه أتم للترغيب لما في ذلك من صلاح أمته في الاقتداء به والدعاء الى الاستنان بسنته ، وروي أنها فرضت عليه ولم تفرض على غيره فكانت فضيلة له ، ذكره ابن عباس.

وقوله (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وهي الشفاعة ، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة.

وقال قوم : المقام المحمود إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة و «عسى» من الله واجبة وقد أنشد لابن مقبل :

ظني بهم كعسى وهم بتنوقة

يتنازعون جوائز الأمثال (١)

يريد كيقين.

__________________

(١). اللسان «ظنن».

٧٠

فصل : قوله (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الاية : ٨٤.

معنى ذلك أي : على طريقته التي يشاكل أخلاقه. وقال مجاهد : على طبيعته وقيل : على عادته التي ألفها.

والمعنى أنه ينبغي للإنسان أن يحذر الف الفساد ، فلا يستمر عليه بل يرجع عنه.

فصل : قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الاية : ٨٥.

اختلفوا في الروح ، فقال ابن عباس : هو جبرئيل وروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أن الروح ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه سبعون ألف لسان ، يسبح لله بجميع ذلك.

وقيل : هو روح الحيوان. وهو الأظهر في الكلام.

فصل : قوله (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) الاية : ٩٤.

فان قيل : لم جاز أن يرسل الله الى النبي وهو من البشر ملكا ليس من جنسه؟ ولم يجز أن يرسل الى غير النبي مثل ذلك؟

قلنا : لأنه صاحب معجزة قد اختير للهداية والمصلحة ، فصارت حاله بذلك مقاربة لحال الملك ، وليس كذلك غيره من الامة ، مع أن الجماعة الكثيرة ينبغي أن يتخير لها ما يجتمع عليه هممها بما لا يحتاج اليه في الواحد منها إذا أريد صلاح الجميع.

على أنه يلزمهم على الامتناع من اتباع النبي ، لأنه بشر مثلهم الامتناع من اتباع الملك ، لأنه عبد ومحدث مثلهم في العبودية ، فان جاز ذلك لان الله عظمه وشرفه واختاره جاز أيضا في البشر لمثل هذه العلة.

فصل : قوله (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) الاية : ٩٧.

٧١

قيل : في معنى ذلك قولان :

أحدهما : من يحكم الله بهدايته ويسميه بها با خلاصه الطاعة فهو المهتدي في الحقيقة ، وفيه دعاء الى الاهتداء وترغيب فيه وحث عليه ، وفيه معنى الامر به.

الثاني : من يهديه الله الى طريق الجنة فهو المهتدي اليها.

وقوله «ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه» يحتمل أيضا أمرين :

أحدهما : من يحكم الله بضلاله ويسميه ضالا بسوء اختياره للضلالة ، فانه لا تنفعه ولاية ولي له ، فلو تولاه لم يعتد بتوليه ، لأنه من اللغو الذي لا منزلة له ، فلذلك حسن أن ينفي لأنه بمنزلة ما لم يكن.

والثاني : من يضلله الله عن طريق الجنة وأراد عقابه على معاصيه لم يوجد له ناصر يمنعه من عقابه.

فصل : قوله (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) الاية : ١٠٠.

القتور البخيل ، في قول ابن عباس. وظاهر قوله «وكان الإنسان قتورا» العموم وقد علمنا أن في الناس الجواد ، والوجه فيه أحد أمرين :

أحدهما : أن الأغلب عليهم من ليس بجواد من مقتصد أو بخيل ، فجاز إطلاقه تغليبا للاكثر.

والثاني : أنه لا أحد الا وهو يجر الى نفسه نفعا بما فيه ضرر على الغير ، فهو بخيل بالاضافة الى جود الله.

فصل : قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) الاية : ١٠١.

اختلفوا في هذه التسع ، فقال ابن عباس والضحاك : هي يد موسى وعصاه ولسانه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع.

٧٢

وقوله «مسحورا» حكاية عما قال فرعون لموسى : اني لا ظنك يا موسى معطى علم السحر ، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك ، وقد يجوز أن يكون المراد اني لا ظنك يا موسى ساحرا ، فوضع المفعول موضع فاعل.

فصل : قوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) الاية : ١١٠.

معناه : بأي أسمائه تعالى تدعون ربكم به ، وانما تدعون واحدا ، فله الأسماء الحسنى ، وانما أمره بذلك لان مشركي قومه لما سمعوا النبي عليه‌السلام يدعو الله تارة بأنه الله ، وتارة بأنه الرحمن ، فظنوا أنه يدعو الهين ، حتى قال بعضهم : الرحمن رجل باليمامة ، فأنزل الله هذه الاية احتجاجا لنبيه بذلك وأنه شيء واحد ، وان اختلفت أسماؤه وصفاته ، وبه قال ابن عباس ومكحول ومجاهد وغيرهم.

وقوله (أَيًّا ما) يحتمل أن يكون صلة ، كقوله (عَمَّا قَلِيلٍ) (١) ويحتمل أن يكون بمعنى «أي» كررت لاختلاف لفظهما ، كما قالوا : ما رأينا كالليلة لليلة.

وقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) نهي من الله تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة ، وعن المخافتة الشديدة ، وأمر بأن يتخذ بين ذلك طريقا. وحد أصحابنا الجهر فيما يجب الجهر فيه بأن يسمع غيره. والمخافتة بأن يسمع نفسه.

ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : قل يا محمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وليس لاحد أن يقول : كيف يحمد الله على أن لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك ، والحمد انما يستحق على فعل له صفة التفضل.

وذلك أن الحمد في الاية ليس هو على أن لم يفعل ذلك ، وانما هو حمد على أفعاله المحمودة ، ووجه الى من هذه صفته لا من أجل أن ذلك صفته ، كما

__________________

(١). سورة المؤمنون : ٤٠.

٧٣

تقول : أنا أشكر فلانا الطويل الجميل ، ليس أنك تشكره على جماله وطوله ، بل على غير ذلك من فعله.

سورة الكهف

فصل : قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) الاية : ١ ـ ٢.

كسرت العين من قوله (عِوَجاً) لان العرب تقول في كل اعوجاج كان في دين أو فيما لا يرى شخصه وانما يدرك (١) عيانا منتصبا ، كالعوج في الدين ، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع ، وكذلك العوج في الطريق ، لأنه ليس بالشخص المنتصب ، فأما ما كان في الاشخاص المنتصبة ، فان عينها تفتح ، كالعوج في القناة والخشبة ونحوهما.

فصل : قوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) الاية : ٦.

معناه : فلعلك يا محمد قاتل نفسك ، فتهلكها على آثار قومك ، يقال : بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا ، قال ذو الرمة :

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادر (٢)

يريد نحته مخفف.

قوله «صعيدا جرزا» الصعيد ظهر الأرض.

والجرز الذي لا نبات عليه ولا زرع ولا غرس.

فصل : قوله (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) الاية : ٩.

اختلفوا في معنى «الرقيم» فقال قوم : هو اسم قرية ، ذهب اليه ابن عباس.

__________________

(١). في التبيان : ولا يدرك.

(٢). مجاز القرآن ١ / ٣٩٣.

٧٤

وقال عطية : الرقيم واد.

وقال قتادة : الرقيم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.

وقال سعيد بن جبير : هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أهل الكهف ، ثم وضعوه على باب الكهف ، وهو اختيار البلخي والجبائي وجماعة.

فصل : قوله (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) الاية : ١٤.

الشطط الخروج عن الحد بالغلو فيه ، ومنه قد أشط فلان في السوم إذا تجاوز القدر بالغلوفيه يشط اشطاطا وشططا وشط منزل فلان يشط شطوطا إذا جاوز القدر في البعد.

فصل : قوله (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) الاية : ١٧.

قيل : في معنى «تقرضهم» قولان : أحدهما ـ تقطعهم في ذات الشمال ، أي : انها تجوزهم منحرفة عنهم من قولك قرضته بالمقراض أي : قطعته.

قال أبو عبيد : كذلك هو في كلامهم ، يقال : قرضت الموضع إذا قطعته وجاوزته وقال الكسائي والفراء : هو المحاذاة (١).

والقرض يستعمل في أشياء غير هذا ، منه القطع للثوب وغيره ، ومنه سمي المقراض. ومنه قرض الفار والقرض من تقارض الناس بينهم الأموال ، وقد يكون ذلك في الثناء تثني عليه كما يثني عليك.

والقراض بلغة أهل الحجاز المضاربة.

والقرض قول الشعر القصيد منه خاصة دون الرجز ، وقيل للشعر : قريض من ذلك ، قال الأغلب العجلي :

أرجزا تريد أم قريضا

__________________

(١). في التبيان : المجاوزة.

٧٥

قوله «من يهد الله فهو المهتدي» معناه : من يسميه الله هاديا ويحكم بهدايته فهو المهتدى.

ويحتمل أن يكون أراد من يهده الله الى الجنة فهو المهتدي في الحقيقة.

ويحتمل أن يكون من يلطف الله له بما يهتدي عنده فهو المهتدي.

«ومن يضلل» أي : من يحكم بضلاله أو يسميه ضالا ، أو من يضله عن طريق الجنة ويعاقبه.

فصل : قوله (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) الاية : ١٩.

في ورقكم أربع لغات : فتح الواو وكسر الراء وهو الأصل ، وفتح الواو وسكون الراء ، وكسر الواو وسكون الراء. فالورق الدراهم ، ويقال أيضا : بفتح الراء ويجمع أوراقا ، ورجل وراق كثير الدراهم ، فأما ما يكتب فيه فهو الورق بفتح الراء لا غير.

وقيل : الورق بفتح الراء المال كله المواشي وغيرها ، قال العجاج :

اغفر خطاياي وثمر (١) ورقي

فصل : قوله (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ) الاية : ٢٢.

قال الرماني : وفرق بينهما ، لان السبعة أصل للمبالغة في العدة ، كما قال عزوجل (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٢).

قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) قال قتادة : معناه قذفا بالغيب. وقال المؤرج : ظنا بالغيب.

قوله «ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله» نهي من الله لنبيه

__________________

(١). في التبيان : وطوح.

(٢). سورة التوبة : ٨١.

٧٦

أن يقول : اني أفعل شيئا في غد ، الا أن يقيد قوله بمشيئة الله ، فيقول : ان شاء الله ، لأنه لا يأمن اخترامه ، فيكون خبره كذبا. وإذا قيده بقوله «ان شاء الله» ثم لم يفعل لم يكن كاذبا.

والمراد بالخطاب جميع المكلفين ، ومتى أخبر المخبر عن ظنه وعزمه بأنه يفعل شيئا فيما بعد ثم لا يفعل لا يكون كاذبا ، لأنه أخبر عن ظنه وهو صادق فيه.

وقال الفراء قوله «الا أن يشاء الله» بمعنى المصدر ، فكأنه قال : الا مشيئة الله. والمعنى الا ما يريده الله ، وإذا كان الله تعالى لا يشاء الا الطاعات ، فكأنه قال له : لا تقل اني أفعل الا الطاعات وما يقرب الى الله.

وهذا وجه حسن ، ولا يطعن في ذلك جواز الاخبار عما يريد فعله من المباحات التي لا يشاؤها الله ، لان هذا المنهي ليس هو نهي تحريم وانما هو نهي تنزيه ، لأنه لو لم يقل ذلك لما أثم بلا خلاف ، وانما هو نهي تحريم فيما يتعلق بالقبح ، فانه لا يجوز أن يقول : اني أفعل ذلك بحال.

والاية تضمنت أن لا يقول الإنسان اني أفعل غدا شيئا الا أن يشاء الله ، فأما أن يعزم عليه من غير ذكر ذلك ، فلا يلزم المشيئة فيه الا ندبا.

قال ابن عباس : له أن يستثني ولو الى سنة.

والذي نقوله : ان الاستثناء متى لم يكن متصلا بالكلام أو في حكم المتصل لم يكن له تعلق بالأول ولا حكم له ، وأنه يجوز دخول الاستثناء بمشيئة الله في جميع أنواع الكلام من الامر والنهي والخبر والايمان وغير ذلك. ومتى استثنى ثم خالف لم يكن حانثا في يمينه ولا كاذبا في خبره. ومتى هو استثناه بعد مدة وبعد انفصال الكلام لم يبطل ذلك حنثه ولزمته الكفارة.

ولو لم يقل ذلك أدى الى أن لا يصح يمين ولا خبر ولا عقد ، فان الإنسان متى شاء استثنى في كلامه ويبطل حكم كلامه ، وقد روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : من

٧٧

حلف على أمر يفعله ، ثم رأى ما هو خير له ، فليحنث وليكفر.

ولو كان الاستثناء جائزا بعد مدة ، لكان يقول : فليستثن ولا يحتاج الى الكفارة ولا يلزمه الحنث. وقد روي في أخبارنا مثل ما حكيناه عن ابن عباس.

ويشبه أن يكون المراد به أنه إذا استثنى وكان قد نسي من غير تعمد ، فانه يحصل له ثواب المستثنى دون أن يؤثر في كلامه ، وهو الأشبه بابن عباس وأليق بعلمه وفضله ، فان ما حكي عنه بعيد جدا.

وقال الكسائي والفراء : التقدير ولا تقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا أن تقول ان شاء الله فأضمر القول. وانما كان الاستثناء مؤثرا إذا كان الكلام متصلا لأنه يدل على أنه يؤول كلامه ، وإذا لم يكن متصلا ، فقد استقرت نيته وثبتت ، فلا يؤثر الاستثناء فيها.

فصل : قوله (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الاية : ٢٥ ـ ٢٦.

معناه : اخبار من الله تعالى وبيان عن مقدار مدة لبثهم ، أعني أصحاب الكهف الى وقت انتباههم.

ثم قال لنبيه : فان حاجك المشركون فيهم من أهل الكتاب فقل (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا).

ويحتمل أن يكون المعنى : ولا يجوز لحاكم أن يحكم الا بما حكم الله به أو بما دل على حكم الله ، وليس لاحد أن يحكم من قبل نفسه ، فيكون شريكا لله في أمره وحكمه.

وقيل : ان معناه : قل الله أعلم بما لبثوا الى أن ماتوا.

وحكي عن قتادة أن ذلك حكاية عن قول اليهود ، وأنهم الذين قالوا : لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، وقوى ذلك بقوله (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا)

٧٨

فذكر أنه تعالى العالم بذلك دون غيره.

وقد ضعف جماعة هذا الوجه ، قالوا : لان الوجه الاول أحسن ، لأنه ليس لنا أن نصرف أخبار الله الى أنه حكاية الا بدليل قاطع ، ولأنه معتمد الاعتبار الذي بينه الله عزوجل للعباد.

فصل : قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الاية : ٢٨.

معناه : يريدون تعظيمه والقربة اليه دون الرياء والسمعة ، فذكر الوجه بمعنى التعظيم ، كما يقال : أكرمته لوجهك أي : لتعظيمك ، لان من عادتهم أن يذكروا وجه الشيء ، ويريدون به الشيء المعظم ، كقولهم : هذا وجه الرأي ، أي : هذا الرأي.

فصل : قوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ (١)) الاية.

قال بعض أهل اللغة : الثمر المال ، والثمر المأكول. وجاء في التفسير أن الثمر النخل والشجر والثمر على ما روي عن جماعة من السلف الأصول التي تحمل الثمرة لا نفس الثمرة ، بدلالة قوله (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أي : في الجنة.

فصل : قوله (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) الاية : ٣٣.

الالف في (كِلْتَا) ليست ألف التثنية ، ولذلك لا يجوز أن تقول الاثنتان قام ، ويجوز أن يقال : كل الجنة أتت ، ولم يجز كل المرأة قامت ، لان بعض المرأة ليس بامرأة ، وبعض الجنة جنة ، فكأنه قال : كل جنة من جملتها أتت.

والمحاورة المراجعة في الكلام.

فصل : قوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) الاية : ٣٧.

__________________

(١). كذا في جميع النسخ ، وسيأتى تمام الاية.

٧٩

معنى (خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) ان أصلك من تراب ، إذ خلق أباه آدم عليه‌السلام من تراب فهو من تراب ويصير الى تراب.

وقيل : لما كانت النطفة يخلقها الله بمجرى العادة من الغذاء ، والغذاء ينبت من تراب ، جاز أن يقال : خلقك من تراب ، لان أصله تراب ، كما قال (مِنْ نُطْفَةٍ) وهو في هذه الحالة خلق سوي حي ، لكن لما كان أصله كذلك جاز أن يقال ذلك.

وفي الاية دلالة على أن الشك في البعث والنشور كفر.

قوله (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) قال ابن عباس وقتادة : معناه عذابا. وقيل : نارا من السماء تحرقها.

وقيل : أصل الحسبان السهام التي ترمى بمجرى (١) في طلق واحد وكان ذلك من رمي الاساورة ، والحسبان المرامي الكثيرة مثل كثرة الحساب واحده حسبانه.

فصل : قوله (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً. هُنالِكَ الْوَلايَةُ) الاية : ٤٣ ـ ٤٤.

والفئة الجماعة ، وقد يسمى الرجل الواحد فئة ، كما أن الطائفة تكون جماعة وواحدا.

قال ابن عباس : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، فالطائفة الرجل الواحد.

فأما الولاية بفتح الواو وكسرها فلغتان ، مثل الوكالة والدلالة. وقال قوم : هما مصدران ، فالمكسور مصدر الوالي من الامارة ، والمفتوح مصدر الولي ضد العدو.

فصل : قوله (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) الاية : ٤٢.

__________________

(١). في التبيان : لتجرى.

٨٠