المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

عبادتها ، ودعاء الأنبياء لا يكون الا مستجابا ، فعلى هذا يكون سؤاله أن يجنب نبيه عبادة الأصنام ، مخصوصا بمن علم الله من حاله أنه يكون مؤمنا لا يعبد الا الله.

وقوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) اخبار من ابراهيم أن هذه الأصنام ضل كثير من الناس بها حتى عبدوها ، فكأنها أضلتهم ، كما يقول القائل : فتنتني فلانة أي : افتتنت بها ، قال الشاعر :

هبوني امرأ منكم أضل بعيره

يعني : ضل بعيره عنه ، لان أحدا لا يضل بعيره عنه قاصدا الى ضلاله.

فصل : قوله (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الاية : ٣٧.

الوادي سفح الجبل العظيم ، ومن ذلك قيل للأنهار العظام : أودية ، لان حافاتها كالجبال لها ، ومنه الدية لأنه مال عظيم يحمل في أمر عظيم من قتل النفس المحرمة.

والزرع كل نبات ينغرس من غير ساق ، وجمعه زروع «عند بيتك المحرم» معناه : حرم فيه ما أحل في غيره من البيوت من الجماع ، والملابسة بشيء من الدم والنجاسة.

وانما أضاف البيت الى الله لأنه مالكه من غير أن يملكه أحد سواه ، لان ما عداه قد ملك غيره من العباد ، وسماه بيتا قبل أن يبنيه ابراهيم لامرين :

أحدهما : أنه لما كان المعلوم أنه يبنيه ، فسماه بما يكون بيتا.

والثاني : قيل : انه كان البيت قبل ذلك وانما خربته طسم واندرس. وقيل : انه رفع أيام (١) الطوفان الى السماء.

__________________

(١). في التبيان : عند.

٤١

الحمد هو الوصف بالجميل على وجه التعظيم لصاحبه والإجلال. والهبة عطية التمليك من غير عقد مثامنة.

فصل : قوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) الاية : ٤١.

نداء من ابراهيم لله تعالى أن يغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين ، وهو أن يستر عليهم ما وقع منهم من المعاصي عند من أجاز الصغائر عليهم ، ومن لم يجز ذلك حمل ذلك على أنه انقطاع منه اليه تعالى فيما يتعلق به وسؤال على الحقيقة في غيره.

وقد بينا أن أبوي ابراهيم لم يكونا كافرين.

وفي الاية دلالة على ذلك ، لأنه سأل المغفرة لهما يوم القيامة ، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك ، لأنه قال تعالى (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (١) فدل ذلك على أن أباه الذي كان كافرا جده لامه ، أو عمه على الخلاف.

فصل : قوله (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ) الاية : ٤٢ ـ ٤٣.

شخوص البصر أن تبقى [العين] مفتوحة لا تنطبق لعظم ذلك اليوم.

«مهطعين» قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة : معناه مسرعين ، يقال : أهطع اهطاعا إذا أسرع ، قال الشاعر :

بمهطع شرع كان زمامه

في رأس جذع من أراك مشذب (٢)

فصل : قيل في قوله (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) ثلاثة أقوال :

أولها : قال ابن عباس ومرة والحسن : منخرقة لا تعي شيئا وفارغة من كل شيء الا من ذكر اجابة الداعي.

__________________

(١). سورة التوبة : ١١٥.

(٢). مجاز القرآن ١ / ٣٤٣.

٤٢

الثاني : قال سعيد بن جبير : يردد في أجوافهم لا يستقر في مكان.

الثالث : قال قتادة : خرجت الى الحناجر لا تنفصل ولا تعود ، وكل ذلك يشبه بهواء الجو. والاول أعرف بكلام العرب ، قال حسان بن ثابت :

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت مجوف نخب هواء (١)

وقال زهير :

كان الرجل منها فوق صعل

من الظلمان جؤجؤه هواء

فصل : قوله (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) الاية : ٥١.

أي : سريع المجازاة. وقيل : سريع الحساب لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة آخرين.

والكسب فعل ما يجتلب به النفع للنفس ، أو يدفع به الضرر عنها ، فالكسب ليس بجنس الفعل ، والله تعالى يقدر على مثله في الجنس.

وفي الاية حجة على ثلاث فرق :

أحدها على المجبرة في الارادة ، لأنها تدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين أن يعلموا انما هو اله واحد ، وهم يزعمون أنه أراد من النصارى أن يثلثوا ، ومن الزنادقة أن يقولوا بالتثنية.

الثاني : حجة عليهم في أن المعصية لم يردها ، لأنه إذا أراد منهم أن يعلموا أنه اله واحد لم يرد خلافه من التثليث والتثنية الذي هو الكفر.

الثالث : حجة على أصحاب المعارف ، لأنه بين أنه أراد من الخلق أن يتذكروا ويفكروا في دلائل القرآن التي تدلهم على أنه اله واحد.

ثم أخبر تعالى (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : ذووا العقول ، لان من لا عقل

__________________

(١). ديوان حسان : ٨.

٤٣

له لا يمكنه الفكر والاعتبار.

سورة الحجر

فصل : قوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الاية : ٢.

قال المبرد قال الكسائي : العرب لا يكاد توقع «رب» على أمر مستقبل ، وهذا قليل في كلامهم ، وانما المعنى عندهم أن يوقعوا على الماضي ، كقولهم ربما فعلت ذلك وربما جاءني فلان.

وانما جاز هذا في القرآن على ما جاء في التفسير أن ذلك يكون يوم القيامة.

وانما جاز هذا لان كل شيء من أمر الله خاصة ، فانه وان لم يكن وقع بعد فهو كالماضي الذي قد كان ، لان وعده آت لا محالة وعلى هذا عامة القرآن ، نحو قوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (١) وقوله (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٢) وقوله (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٣).

فان قيل : لم قال (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) والكتاب هو القرآن ولم أضاف الآيات الى الكتاب وهي قرآن وهل هذا الا اضافة الشيء الى نفسه؟

قلنا : انما وصفه بالكتاب وبالقرآن لاختلاف اللفظين وما فيهما من الفائدتين وان كانا لموصوف واحد ، لان وصفه بالكتاب يفيد أنه مما يكتب ويدون ، والقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه الى بعض ، قال الشاعر :

الى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وقال مجاهد وقتادة : المراد بالكتاب ما كان قبل القرآن من التوراة والإنجيل

__________________

(١). سورة الزمر : ٦٨.

(٢). سورة الزمر : ٧٣.

(٣). سورة ق : ٢١.

٤٤

فعلى هذا سقط السؤال.

فأما اضافة الشيء الى نفسه فقد بينا الوجه فيما مضى فيه ، وأنه يجري مجرى قولهم «مسجد الجامع» وصلاة الظهر ويوم الجمعة ، وقوله تعالى (لَحَقُّ الْيَقِينِ) (١) وهو مستعمل مشهور.

فصل : قوله (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الاية : ١١.

الهزء اظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح ، وهو بمعنى اللعب والسخرية.

فصل : قوله (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) الاية : ١٧.

وحفظ الشيء جعله على ما ينفي عنه الضياع.

والرجم : الرمي بالشيء بالاعتماد من غير آلة مهياة للاصابة ، فان القوس يرمى عنها ولا يرجم.

فصل : قوله (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) الاية : ١٩.

قوله (مَوْزُونٍ) قيل في معناه قولان :

أحدهما ـ قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجبائي : من كل شيء مقدر معلوم.

وقال الحسن وابن زيد : من الأشياء التي توزن من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغير ذلك.

والوزن وضع أحد الشيئين بإزاء الاخر على ما يظهر.

فصل : قوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) الاية : ٢٢.

يحتمل ذلك شيئين :

__________________

(١). سورة الحاقة : ٥١.

٤٥

أحدهما : أن يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء ، فيكون فيها اللقاح ، فيقال : ريح لاقح ، كما يقال : ناقة لاقح.

والثاني : أن يصفها باللقح وان كانت تلقح كما قيل : ليل نائم وسر كاتم.

واللواقح التي تلقح السحاب حتى يحمل الماء ، أي : يلقى اليه ما يحمل به ، يقال : لقحت الناقة إذا حملت ، وألقحها الفحل إذا ألقى اليها الماء فحملته فكذلك الرياح هي كالفحل للسحاب.

فصل : قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الاية : ٢٦.

قيل : في معنى الصلصال قولان :

أحدهما : أنه الطين اليابس الذي يسمع له عند النقر صلصلة ، ذهب اليه ابن عباس والحسن وقتادة.

والثاني : قال مجاهد : هو مثل الخزف الذي يصلصل. وقال الفراء : الصلصال طين الحر إذا خلط بالرمل إذا جف كان صلصالا ، وإذ اطبخ كان فخارا.

والصلصلة القعقعة ، وهو صوت شديد متردد في الهواء ، يقال لصوت الرعد صلصلة وللثوب الجديد صلصلة ، وللثوب الجديد قعقعة ، وأصل الصلصلة الصوت يقال : صل يصل وله صليل إذا صوت ، قال الشاعر :

رجعت الى صدر كجرة حنتم

إذا فرغت صفرا من الماء صلت (١)

فصل : قوله (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) الاية : ٢٨.

المراد بالبشر آدم ، وسمي بشرا لأنه ظاهر الجلد لا يرى به شعر ولا صوف كسائر الحيوان.

وأضاف روح آدم الى نفسه تكرمة له ، وهي اضافة الملك لما شرفه وكرمه.

والروح جسم رقيق روحاني فيه الحياة التي بها يجيء الحي ، فإذا خرجت

__________________

(١). اللسان «حنتم».

٤٦

الروح من البدن كان ميتا في الحكم ، وإذا انتفت الحياة من الروح فهو ميت في الحقيقة.

وقوله (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أمر من الله للملائكة أن يسجدوا لآدم. وقيل : في وجه سجودهم له قولان :

أحدهما ـ أنه سجود تحية وتكرمة لآدم وعبادة لله. وقيل : انه على معنى السجود الى القبلة ، والاول عليه أكثر المفسرين.

والسجود خفض الجبهة بالوضع على بسط من الأرض أو غيره ، وأصله الانخفاض ، قال الشاعر :

ترى الاكم فيه سجدا للحوافر

فصل : قوله (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الاية : ٣٦ ـ ٣٨.

قال البلخي : أراد بذلك الى يوم الوقت المعلوم الذي قدر الله أجله فيه وهو معلوم له ، لأنه لا يجوز أن يقول تعالى لمكلف : اني أبقيك الى وقت معين ، لان في ذلك إغراء له بالقبيح.

واختلفوا في تجويز اجابة دعاء الكافر ، فقال الجبائي : لا يجوز لان اجابة الدعاء ثواب لما فيه من إجلال الداعي بإجابته الى ما سأل.

وقال ابن الاخشاذ : يجوز ذلك لان الاجابة كالنعمة في احتمالها أن يكون ثوابا وغير ثواب ، لأنه قد يحسن منا أن يجيب الكافر الى ما سأل استصلاحا له ولغيره. فأما قولهم فلان مجاب الدعوة ، فهذه صفة مبالغة لا تصح لمن كانت اجابته نادرة من الكفار.

فصل : قوله (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) الاية : ٤٤.

قال الجبائي : ذلك يدل على أن الجن لا يقدرون على الإضرار ببني آدم ،

٤٧

لأنه على عمومه.

قال علي عليه‌السلام والحسن وقتادة وابن جريح : أبوابها اطباق بعضها فوق بعض لكل باب جزء من المستحقين للعقوبة على قدر استحقاقهم من العقاب في القلة والكثرة.

فصل : قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ) الاية : ٤٥ ـ ٤٦.

يقال للمتقين ادخلوها بسلام آمنين بسلامة ، وهي البراءة من كل آفة ومضرة ، كما قال (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (١) أي : براءة منكم.

وقوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) الغل الحقد الذي ينعقد في القلب ، ومنه الغل الذي يجعل في العنق. والغلول الخيانة التي تطوق عارها صاحبها.

فبين تعالى ان الأحقاد التي في صدور أهل الدنيا تزول بين أهل الجنة ويصبحون إخوانا متحابين.

وقال قوم : ان نزع الغل يكون قبل دخولهم الجنة. وقال آخرون : يكون ذلك بعد دخولهم فيها.

فصل : قوله (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) الاية : ٥٣.

انما وصفه بأنه عليم قبل كونه لدلالة البشارة به على أنه سيكون على هذه الصفة ، لأنه انما بشر بولد يرزقه الله ويكون عليما فقال لهم ابراهيم.

فصل : قوله (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) الاية : ٥٩ ـ ٦٠.

(قَدَّرْنا إِنَّها) أي : كتبنا (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) والغابر الباقي في من يهلك.

وآل الرجل أهله الذين يرجعون الى ولايته ، ولهذا يقال : أهل البلد ، ولا

__________________

(١). سورة الفرقان : ٦٣.

٤٨

يقال : آل البلد ولكن آل الرجل قال لوط : أتباعه الذين يرجع أمرهم اليه بولايته ونصرته.

وقال أبو عبيدة : في الاية معنى فقه (١) ، وكان أبو يوسف يتأوله فيها ، لان الله تعالى استثنى آل لوط من المجرمين ، ثم استثنى امرأة لوط من آل لوط ، فرجعت امرأته في التأويل الى القوم المجرمين ، لأنه استثناء رد على استثناء كان قبله وكذلك كل استثناء في الكلام إذا جاء بعد آخر عاد المعنى الى أول الكلام ، كقول الرجل : لفلان علي عشرة الا أربعة الا درهما ، فانه يكون اقرار بسبعة.

وكذلك لو قال : له علي خمسة الا درهما الا ثلاثا ، كان اقرار بأربعة وثلث ، قال : وأكثر ما يستثنى ما هو أقل من النصف ولم يسمع أكثر من النصف إلا بيت أنشده الكسائي :

أدوا التي نقصت سبعين من مائة

ثم ابعثوا حكما بالعدل حكاما

فجعلها مائة إلا سبعين وهو يريد ثلاثين. وضعف المبرد الاحتجاج بهذا البيت ، ولم يجز استثناء الأكثر من الجملة ولا نصفها.

وانما جاز استثناء ما دون النصف من الجملة حتى قال : لا يجوز أن يقال له : عندي عشرة الا نصف ، أو لا عشرة الا واحدا ، قال : لان تسعة ونصفا أولى بذلك ، وعلى هذا النحو يبنى هذا الباب. والصحيح الاول عند أكثر العلماء من المتكلمين والفقهاء وأكثر النحويين.

فصل : قوله (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) الاية : ٦٥.

قيل : بقطع من الليل ببعض من الليل. وقيل : بقية من الليل. وقيل : إذا بقي من الليل قطعة ومضى أكثره.

والأدبار جمع دبر ، وهو جهة الخلف ، والقبل جهة القدام ، ويكنى بهما عن

__________________

(١). في التبيان : فقر.

٤٩

الفرح.

فصل : قوله (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) الاية : ٦٩.

الخزي الانقماع بالغيب الذي يستحيى منه ، خزى خزيا وأخزاه الله إخزاء ، والاخزاء والاذلال والاهانة نظائر.

فصل : قوله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ) الاية : ٧٢.

معنى «لعمرك» مدة بقائك حيا ، والعمر والعمر واحد ، غير أنه لا يجوز في القسم الا بالفتح.

قال أبو عبيدة : ارتفع لعمرك وهي يمين ، والايمان تكون خفضا إذا كانت الواو في أوائلها ، ولو كانت بالواو وعمرك لكانت خفضا ، وانما صارت هذه الايمان رفعا بدخول اللام في أوائلها ، لأنها أشبهت لام التأكيد ، فأما قولهم : عمرك الله أفعل كذا فإنهم ينصبون.

سورة النحل

فصل : قوله (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ) الاية : ١.

التسبيح في اللغة ينقسم أربعة أقسام :

أحدها : التنزيه ، مثل قوله (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (١).

والثاني : بمعنى الاستثناء ، كقوله (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢) أي : هلا تستثنون.

والثالث : الصلاة ، كقوله (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (٣).

والرابع : النور ، جاء في الحديث «فلو لا سبحات وجهه» أي : نوره.

__________________

(١). سورة الاسراء : ١.

(٢). سورة القلم : ٢٨.

(٣). سورة الصافات : ١٤٣.

٥٠

فصل : قوله (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) الاية : ٢.

الروح تنقسم عشرة أقسام : فالروح الإرشاد ، والحياة ، والروح الرحمة قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (١) والروح النبوة ، لقوله (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٢) والروح عيسى روح الله ، أي : خلق من غير بشر. وقال آخرون : من غير فحل.

وقيل : انه سمي بذلك لكونه رحمة على عباده لما يدعوهم الى الله.

والروح جبرئيل عليه‌السلام. والروح النفخ يقال : أحييت النار بروحي أي : بنفخي. والروح الوحي ، قال الله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٣) قيل : انه جبرئيل. وقيل : الوحي. والروح ملك في السماء من أعظم من خلقه.

والروح روح الإنسان. وقال ابن عباس : روح ونفس ، فالنفس التي تكون فيها التمييز والكلام. والروح هو الذي يكون به الغطيط والنفس ، فان نام العبد خرجت نفسه وبقي روحه ، وإذا مات خرجت نفسه وروحه معا.

فصل : قوله (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) الاية : ٥.

الانعام جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، سميت بذلك لنعمة (٤) مشيها بخلاف الحافر الذي يصلب مشيها.

والدفء ما استدفأت به. وقال الحسن : يريد ما استدفئ به من أوبارها وأصوافها وأشعارها. وقال ابن عباس : هو اللباس من الاكسية وغيرها.

فصل : قوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ

__________________

(١). سورة الواقعة : ٨٩.

(٢). سورة غافر : ١٥.

(٣). سورة الشورى : ٥٢.

(٤). في التبيان : لنعومة.

٥١

تُسِيمُونَ) الاية : ١٠.

قوله (فِيهِ تُسِيمُونَ) أي : ترعون ، يقال : أسمت الإبل إذا رعيتها وقد سامت تسوم فهي سائمة إذا رعت ، وأصل السوم الابعاد في المرعى ، والسوم في البيع الارتفاع في الثمن.

فصل : قوله (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) الاية : ١٢.

ووجه تسخير الشمس والقمر والليل والنهار ، أن الليل والنهار انما يكون بطلوع الشمس وغروبها ، فما بين غروب الشمس الى طلوع الفجر وهو [غياب] ضوء الشمس فهو ليل ، وما بين طلوع الفجر الى غروب الشمس فهو نهار ، فالله تعالى سخر الشمس على هذا التقدير لا تختلف لمنافع خلقه ومصالحهم ، وليستبدلوا بذلك على أن المسخر لذلك والمقدر له حكيم.

والذرء اظهار الشيء بإيجاده ، ذرأه يذرؤه ذرءا وذرأة وفطره وأنشأه نظائر وملح ذرءاني ظاهر البياض.

فصل : قوله (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الاية : ١٧.

تعلق بهذه الاية المجبرة فقالوا : أعلمنا الله تعالى أن أحدا لا يخلق ، لأنه خلاف الخالق ، وأنه لو كان خالق غيره لوجب أن يكون مثله ونظيره.

وهذا باطل ، لان الخلق في حقيقة اللغة هو التقدير والإتقان في الصنعة وفعل الشيء لا على وجه السهو والمجازفة.

بدلالة قوله (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (١) وقوله (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٢) وقوله (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٣) فأعلمنا أن غيره يكون خالقا لأنه لو لم يستحق اسم

__________________

(١). سورة العنكبوت : ١٧.

(٢). سورة المائدة : ١١٣.

(٣). سورة المؤمنون : ١٤.

٥٢

خالق غيره لما قال (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) كما لا يجوز أن يقول : انه أعظم الآلهة لما لم يستحق الالهية غيره ، وقال زهير :

ولانت تفري ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفري (١)

فصل : قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) الاية : ٢٤ ـ ٢٥.

معناه : انهم يتحملون مع أوزارهم من أوزار من أضلوه عن دين الله وأغووه عن اتباع الحق بغير علم منهم بذلك ، بل جاهلين به.

والمعنى أن هؤلاء كانوا يصدون من أراد الايمان بالنبي عليه‌السلام. فعليهم آثامهم وآثام أتباعهم (٢) لاقتدائهم بهم.

وعلى هذا ما روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : أيما داع دعا الى ضلالة ، فان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.

فصل : قوله (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) الاية : ٢٦.

معنى «تشاقون» أي : يعادون الله فيهم ، فيجعلونها شركاء له. والشقاق الخلاف في المعنى.

ومعنى «تشاقون» أي : تكونون في جانب والمسلمون في جانب لا يكونون معهم يدا واحدة ومن ثم قيل لمن خرج عن طاعة الامام وعن جماعة المسلمين : شق العصا ، أي : صار في جانب عنهم ، فلم يكن مجتمعا في كلمتهم.

والمكر : الفتل بالحيلة الى جهة منكرة.

قيل : في معنى «خر عليهم السقف من فوقهم» قولان :

__________________

(١). ديوان زهير : ٢٩.

(٢). في التبيان : أبنائهم.

٥٣

أحدهما : أنه قال ذلك تأكيدا ، كقولك قلت أنت.

الثاني : انهم كانوا تحته ، وقد يقول القائل : تهدمت علي المنازل وان لم يكن تحتها. وأيضا فيعلم أنهم لم يكونوا فوق السقوف.

فصل : قوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الاية : ٢٨.

وقوله (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي : قالوا ما علمنا من سوء فكذبهم الله وقال بلى قد فعلتم والله عالم بما كنتم تعملون في الدنيا من المعاصي وغيرها.

وقيل : في معنى ذلك قولان :

أحدهما : ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا ، لأنهم في الاخرة ملجؤون الى ترك القبيح والكذب ، ذكره الجبائي.

وقال الحسن وابن الاخشاذ : [في] الاخرة مواطن يلجئون في بعضها دون بعض.

فصل : قوله (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الاية : ٣٥.

حكى الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا (لَوْ شاءَ اللهُ) أي : لو أراد الله لم نكن نعبد شيئا من دونه من الأصنام والأوثان لا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من قبل نفوسنا بل أراد الله ذلك منا فلذلك فعلنا ، كما تقوله المجبرة الضلال ، فكذبهم الله وأنكر عليهم وقال : مثل ذلك فعل الذين من قبلهم من الكفار الضلال ، كذبوا رسل الله وجحدوا أنبياءه.

ثم عذر أنبياءه فقال : «هل على الرسل الا البلاغ» الظاهر ، أي : ليس عليهم الا ذلك ، وفي ذلك إبطال مذهب المجبرة ، لان الله أنكر عليهم قولهم أنه لو شاء

٥٤

الله ما عبدنا من دونه من شيء.

فصل : قوله (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) الاية : ٦٢.

المعنى أنهم مقدمون بالاعجال الى النار ، وهو قول العرب : أفرطنا فلانا في طلب الماء فهو مفرط ، إذا قدم لطلبه وفرط فهو فارط إذا تقدم لطلبه ، وجمعه فراط قال القطامي :

واستعجلونا وكانوا من صحابتنا

كما تعجل فراط لوراد

ومنه قول النبي عليه‌السلام «أنا فرطكم على الحوض» أي : متقدمكم وسابقكم حتى تردوه ، ومنه يقال في الصلاة على الصبي الميت : اللهم اجعله لنا ولأبويه فرطا. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أنا والنبيون فراط القاصفين ، أي : المذنبين.

وقيل : في وجه تعميمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنين قولان :

أحدهما : أن الإهلاك وان عمهم فهو عقاب للظالم دون المؤمن ، لان المؤمن يعوض عليه.

الثاني : أن يكون ذلك خاصة ، والتقدير : ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم.

فصل : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) الاية : ٦٦.

الفرق بين أسقينا وسقينا ، أن معنى أسقينا جعلنا له شرابا دائما من نهر أو لبن وغيرهما ، وسقيناه شربة واحدة ، ذكره الكسائي ، وبعضهم جعله لغتين ، ويحتج بقول لبيد :

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (١)

__________________

(١). ديوان لبيد ١ / ١٢٨.

٥٥

والأظهر ما قال الكسائي عند أهل اللغة.

وقال بعضهم : سقيته ماء ، كقوله (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (١) وأسقيته سألت الله أن يسقيه. وقال أبو عبيد : إذا سقاه مرة يقال سقيته ، وإذا سقاه دائما قال أسقيته.

والانعام يعني الإبل والبقر والغنم.

وقد استدل قوم بهذه الاية على تحليل النبيذ ، بأن قالوا : أمتن الله علينا وعدده من جملة نعمه علينا ، أي : خلق لنا الثمار التي نتخذ منها السكر والرزق الحسن وهو تعالى لا يمتن بما هو محرم.

وهذا لا دلالة فيه لأمور :

أحدها : أنه خلاف ما عليه المفسرون ، لان أحدا منهم لم يقل ذلك ، بل التابعون من المفسرين قالوا : هو ما حرم من الشراب. وقال الشعبي منهم : أنه أراد ما حل طعمه من شراب وغيره.

والثاني : أنه لو أراد بذلك تحليل السكر لما كان لقوله «ورزقا حسنا» معنى لان ما أحله وأباحه ، فهو أيضا رزق حسن ، فلم فرق بينه وبين الرزق الحسن ، والكل شيء واحد.

وانما الوجه فيه أنه خلق هذه الثمار لتنتفعوا بها ، فاتخذتم أنتم منها ما هو محرم عليكم ، وتركتم ما هو رزق حسن.

وأما وجه المنة فبالامرين معا ثابتة ، لان ما أباحه وأحله فالمنة به ظاهرة ليجعل الانتفاع به ، وما حرمه فوجه النعمة (٢) أنه إذا حرم عليه وأوجب الامتناع ضمن في مقابلته الثواب الذي هو أعظم النعم ، فهو نعمة على كل حال.

__________________

(١). سورة الدهر : ٢١.

(٢). في التبيان : المنة.

٥٦

والثالث : أن السكر إذا كان مشتركا بين المسكر وبين الطعم ، وجب أن يتوقف فيه ولا يحمل على أحدهما الا بدليل ، وما ذكرناه مجمع على أنه مراد ، وما ذكروه ليس عليه دليل ، على أنه كان يقتضي أن يكون ما أسكر منه يكون حلالا وذلك خلاف الإجماع ، لأنهم يقولون : القدر الذي لا يسكر هو المباح ، وكان يلزم على ذلك أن يكون الخمر مباحا ، وذلك لا يقوله أحد.

والسكر في اللغة على أربعة أقسام :

أحدها : ما أسكر.

والثاني : ما طعم من الطعام ، كما قال الشاعر :

جعلت عيب الأكرمين سكرا

أي : طعما.

الثالث : السكون قال الشاعر :

وجعلت عين الجزور تسكر

والرابع : المصدر من قولك سكر سكرا ، وأصله انسداد المجاري بما يلقى فيها ، ومنه السكر.

فصل : قوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الاية : ٦٨.

ثم قال (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) يعني : بطون النحل (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) من أبيض وأحمر مع أنها تأكل الحامض والمر ، فيحيله الله عسلا حلوا لذيذا فيه شفاء للناس.

وأكثر المفسرين على أن الهاء راجعة الى العسل ، وهو الشراب الذي ذكره الله ، وأن فيه شفاء من كثير من الأمراض ومنافع جمة.

وانما قال (مِنْ بُطُونِها) وهو خارج من فيها ، لان العسل يخلقه الله في بطن النحل ويخرجه الى فيه ، ولو قال من فيها لظن أنها تلقيه من فيها وليس بخارج

٥٧

من البطن.

فصل : قوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) الاية : ٧٢.

قيل : في معنى «حفدة» أقوال : أحدها ـ الخدم. وقيل : الأعوان. وقيل : البنون وبنو البنين. وقيل : الأختان وهم أزواج البنات.

فصل : قوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) الاية : ٧٥.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : الشكر لله على نعمه.

وفي هذه الاية دلالة على أن المملوك لا يملك شيئا ، لان قوله (مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) ليس المراد به نفي القدرة ، لأنه قادر على التصرف. وانما المراد أنه لا يملك التصرف في الأموال ، وذلك عام في جميع ما يملك ويتصرف فيه.

فصل : قوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً) الاية : ٨٠.

هي بيوت الأدم التي تتخذ للسفر والحضر ، فهيأ الله ذلك لما فيه من المرافق والمنافع (تَسْتَخِفُّونَها) أي : يخف عليكم حملها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي : ارتحالكم ثم قال : وجعل لكم (مِنْ أَصْوافِها) أي : من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز (أَثاثاً) يعني متاع البيت.

وخص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لامرين :

أحدهما : ان الذين خوطبوا بذلك أهل حر في بلادهم ، فحاجتهم الى ما يقي الحر أشد ، في قول عطاء.

الثاني : انه ترك ذلك لأنه معلوم ، كما قال الشاعر :

وما أدري إذا يممت أرضا

أريد الخير انهما يليني

فكنى عن الشر ولم يذكره ، لأنه مدلول عليه ، ذكره الفراء.

فصل : قوله (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الاية : ٨٩.

٥٨

يقول الله تعالى ان اليوم الذي (نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) اي : من يشهد عليهم.

(مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : من أمثالهم من البشر ، ويجوز أن يكون ذلك نبيهم الذي بعث اليهم. ويجوز ان يكونوا مؤمنين عارفين بالله ونبيه يشهدون عليهم بما فعلوه من المعاصي.

وفي ذلك دلالة على أن كل عصر لا يخلو ممن يكون قوله حجة على أهل عصره عدل عند الله ، وهو قول الجبائي وأكثر أهل العدل ، وهو قولنا وان خالفناهم في من هو ذلك العدل والحجة.

(وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يعني : كفار قريش وغيرهم من الذين كفروا بنبوته ، ثم قال (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : بيانا لكل أمر مشكل. والتبيان والبيان واحد.

ومعنى العموم في قوله (لِكُلِّ شَيْءٍ) المراد به من أمور الدين ، اما بالنص عليه ، أو الاحالة على ما يوجب العلم من بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والحجج القائمين مقامه أو اجماع الامة ، أو الاستدلال لان هذه الوجوه أصول الدين وطرق موصلة الى معرفته.

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) الاية : ٩٠.

(بِالْعَدْلِ) يعني : الانصاف بين الخلق وفعل ما يجب على المكلف والإحسان الى الغير. ومعناه : يأمركم بالإحسان ، فالأمر بالأول على وجه الإيجاب ، وبالإحسان على وجه الندب. وفي ذلك دلالة على أن الامر يكون أمرا بالمندوب اليه دون الواجب.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي : وأمركم بإعطاء ذي القربى ، ويحتمل أمرين :

أحدهما : صلة الأرحام ، فيكون ذلك عاما في جميع الخلق.

٥٩

والثاني : أن يكون أمرا بصلة قرابة النبي عليه‌السلام وهم الذين أرادهم الله بقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) (١) على ما بيناه فيما قبل.

ثم أمر خلقه بأن يفوا بعهده إذا عاهدوا عليه ، والعهد الذي يجب الوفاء به هو كل فعل حسن إذا عقد عليه وعاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه ، فانه يصير واجبا عليه ، ولا يجوز له خلافه ، ثم يكون عظم النقص بحسب الضرريه ، فأما إذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عند الفقهاء. وقال أصحابنا : إذا وجد خيرا منه فعل الخير ولا كفارة عليه.

ثم قال «ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها» نهي منه تعالى عن حنث الايمان بعد عقدها.

وفي الاية دلالة على أن اليمين على المعصية غير منعقدة ، لأنها لو كانت منعقدة لما جاز نقضها ، وأجمعوا على أنه يجب نقضها ولا يجوز الوفاء بها ، فعلم بذلك أن اليمين على المعصية غير منعقدة.

فصل : قوله (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الاية : ٩٨.

قال : يا محمد (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) والمراد به جميع المكلفين (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) والمعنى إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله ، كما قال (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (٢) والمعنى : إذا أردتم القيام اليها ، لان بعد القراءة لا تجب الاستعاذة الا عند من لا يعتد بخلافه.

والاستعاذة عند التلاوة مستحبة غير واجبة بلا خلاف ، ثم أخبر أنه ليس للشيطان سلطان وحجة على الذين آمنوا بالله وحده ولم يشركوا به سواه.

قال الجبائي : في الاية دلالة على أن الصرع ليس من قبل الشيطان ، قال :

__________________

(١). سورة الانفال : ٤١.

(٢). سورة المائدة : ٦.

٦٠