المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

الاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى ، مثل ما اختاره الله تعالى ليوسف من الخصال الكريمة والأمور السنية.

فصل : قوله (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) الاية : ٨.

العصبة : الجماعة التي يتعصب (١) بعضها لبعض وكانوا عشرة. والعصبة تقع على جماعة من عشرة الى خمسة عشر ، ولا واحد له من لفظه ، كالرهط والقوم والنفر.

وقوله «ان أبانا لفي ضلال مبين» معناه : الاخبار عن قولهم ان أبانا في ذهاب عن طريق الحق والصواب الذي فيه التعديل بل بيننا في المحبة ، ولم يريدوا الضلال في الدين ، لأنهم لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا ، وذلك خلاف الإجماع.

وأكثر المفسرين على أن اخوة يوسف كانوا أنبياء. وقال قوم : لم يكونوا كذلك وهو مذهبنا ، لان الأنبياء لا يجوز أن تقع منهم القبائح وخاصة ما فعلوه مع أخيهم يوسف من طرحه في الجب وبيعهم إياه بالثمن البخس وادخالهم الغم به على أبيهم يعقوب ، وكل ذلك يبين أنهم لم يكونوا أنبياء.

فصل : قوله (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ) الاية : ١٠.

الالتقاط : تناول الشيء من الطريق ، ومنه اللقطة واللقيط ، ومعنى التقاطه أن يجدوه من غير أن يحتسبوه ، يقال : وردت الماء التقاطا إذا وردته من غير أن تحسبه.

فصل : قوله (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) الاية : ١١.

النصح : اخلاص العمل من فساد يتعمد ، ونقيضه الغش. والنصح في التوبة إخلاصها مما يفسدها ، وذلك واجب فيها ، وهي التوبة النصوح.

__________________

(١). في التبيان : يعين.

٢١

فصل : قوله (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) الاية : ١٤.

الخسران : ذهاب رأس المال. والربح : زيادة على رأس المال.

فصل : قوله (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) الاية : ١٦.

العشاء آخر النهار ، ومنه اشتق الأعشى ، لأنه يستضيء ببصر ضعيف. والبكاء جريان الدمع من العين عند حال الحزن.

فصل : قوله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) الاية : ٢١.

معناه : أنه قادر عليه من غير مانع حتى يقع ما أراد منه وقوع المقهور بالغلبة في الذلة ، ولا يدل ذلك على أن من فعل ما كرهه الله يكون قد غالب الله ، لان المراد بذلك ما قلناه من أنه غالب على ما يريد فعله لعباده.

فاما ما يريده على وجه الاختيار منهم ، فلا يدل على ذلك ، ولذلك لا يقال : ان اليهودي المقعد قد غلب الخليفة ، حيث لم يفعل ما أراده الخليفة من الايمان وفعل ما كرهه من اليهودية ، وهذا واضح.

فصل : قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) الاية : ٢٤.

معنى الهم في اللغة على وجوه :

منها العزم على الفعل ، كقوله (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) (١) أي : أرادوا ذلك وعزموا عليه ، ومثله قول الشاعر :

همت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

ومنها : خطور الشيء بالبال وان لم يعزم عليه ، كقوله (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) (٢) والمعنى : ان الفشل خطر ببالهم.

ولو كان الهم هاهنا عزما لما كان الله وليهما ، لأنه قال (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ

__________________

(١). سورة المائدة : ١٢.

(٢). سورة آل عمران : ١٢٢.

٢٢

إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (١) وارادة المعصية والعزم عليها معصية بلا خلاف.

وقال قوم : العزم على الكبير كبير ، وعلى الكفر كفر ، ولا يجوز أن يكون الله ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه عليه‌السلام ، ويقوى ذلك قول كعب بن زهير :

فكم فيهم من سيد متوسع

ومن فاعل للخيران هم أو عزم

ففرق بين الهم والعزم ، وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى ، ومنها المقاربة يقولون : هم بكذا وكذا ، أي : كاد يفعله ، قال ذو الرمة :

أفول لمسعود بجرعاء مالك

وقد هم دمعي أن تلج (٢) أوائله

والدمع لا يجوز عليه العزم ، وانما أراد كاد وقارب ، وعلى هذا قوله (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) (٣) أي : كاد.

ومنها الشهوة وميل الطباع ، يقول القائل فيما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه اليه : هذا من همي ، وهذا أهم الأشياء الي.

وروي هذا التأويل في الاية عن الحسن فقال : أما همها فكان أخبث الهم. وأما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء.

وإذا احتمل الهم هذه الوجوه ، نفينا عنه عليه‌السلام العزم على القبيح ، وأجزنا باقي الوجوه لان كل واحد منها يليق بحاله.

ويمكن أن يحمل الهم في الاية على العزم ، ويكون المعنى : وهم بضربها ودفعها عن نفسه ، كما يقول القائل : كنت هممت بفلان ، أي : بأن أوقع به ضربا أو مكروها.

__________________

(١). سورة الانفال : ١٦.

(٢). في التبيان : تسيح.

(٣). سورة الكهف : ٧٨.

٢٣

فصل : قوله (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) الاية : ٣١.

قال أبو علي الفارسي : لا يخلو قولهم «حاشى لله» من أن يكون الحرف الجار في الاستثناء كما قال الشاعر :

حاشى أبى ثوبان

أو فاعلا من قولهم «حاشى بحاشى» ولا يجوز أن يكون حرف الجر ، لان حرف الجر لا يدخل على مثله ، فإذا بطلت ذلك ثبت أنه فاعل مأخوذ من الحشى الذي هو الناحية. والمعنى : انه صار في ناحية مما قرف (١) به ، وفاعله يوسف. والمعنى بعد عن هذا الذي رمي به.

«لله» أي : لخوفه من الله ومراقبته أمره.

فصل : قوله (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) الاية : ٣٣.

انما جاز أن يقول : السجن أحب الي من ذلك وهو لا يحب ما يدعونه اليه ولا يريده ولا يريد السجن أيضا ، لأنه ان أريد به المكان فذلك لا يراد ، وان أريد به المصدر فهو معصية منها ، فلا يجوز أن يريده لامرين :

أحدهما : ان ذلك على وجه التقدير ، ومعناه : اني لو كنت مما أريده لكانت أرادني لهذا أشد.

الثاني : أن المراد أن توطين نفسي على السجن أحب الي.

وقيل : معناه ان السجن أسهل علي مما يدعونني اليه.

وقوله «والا تصرف عني كيدهن» معناه : ضرر كيدهن ، لان كيدهن قد وقع وحصل.

فصل : قوله (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) الاية : ٣٦.

الخمر : عصير العنب إذا كان فيه الشدة ، والتقدير : أعصر العنب للخمر.

__________________

(١). كذا ، وفي التبيان : قذف.

٢٤

وقال الضحاك : هي لغة يسمى العنب خمرا ، ذكر جماعة أنها لغة عمان.

والإحسان : النفع الواصل الى الغير إذا وقع على وجه يستحق به الحمد. وان اختصرت فقلت هو النفع الذي يستحق عليه الحمد جاز ، لان ما يفعله الإنسان مع نفسه لا يسمى إحسانا.

فصل : قوله (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ) الاية : ٣٨.

الملة مذهب جماعة يحمى بعضها بعضا في الديانة ، وأصله الحمى من المليلة وهي حمى يلحق الإنسان دون الحمى.

والاباء جمع أب ، وهو الذي يكون منه نطفة الولد. والام الأنثى التي يكون منها الولد. والجد أب بواسطة ، ولا يطلق عليه صفة أب ، وانما يجوز ذلك بقرينة تدل على أنه أب بواسطة الابن ، وجد الأب أب بواسطتين.

فصل : قوله (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) الاية : ٤٠.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أنه لما كانت الأسماء التي سموا بها آلهتهم لا تصح معانيها ، صارت كأنها أسماء فارغة يرجعون في عبادتهم اليها ، فكأنهم انما يعبدون الأسماء ، لأنه لا يصح معاني يصح لها من اله ورب.

الثاني : الا أصحاب أسماء سميتموها لا حقيقة لها.

والعبادة هي الاعتراف بالنعمة مع ضرب من الخضوع في أعلى الرتبة ، ولذلك لا يستحقها الا الله تعالى.

فصل : قوله (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) الاية : ٤١.

الاستفتاء طلب الفتيا ، والفتيا جواب بحكم المعنى فهو غير الجواب بعلته (١).

فصل : قوله (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) الاية : ٤٧.

__________________

(١). في التبيان : بعينه.

٢٥

الزرع طرح الحب في الأرض بالدفن مع التعاهد له بالسقي ، تقول : زرع يزرع زرعا وازدرع ازدراعا وزارعه مزارعة.

والحصد قطع الزرع ، حصده يحصده حصدا ، واستحصد الزرع إذا حان حصاده.

فصل : قوله (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) الاية : ٥٠.

الملك هو القادر الواسع المقدور الذي اليه السياسة والتدبير ، وكان هذا الملك ملك مصر.

ويجوز أن يمكن الله الظالم من الظلم وينهاه عن فعله ، ولا يجوز أن يملكه الظلم ، لان ما يملكه فقد جعل له ، وذلك لا يليق بعدله ، وعلى هذا إذا مكن الله تعالى من الظلم أو الغصب لا يكون ملكه ، لأنه لم يجعل له التصرف فيه ، بل زجره عنه.

فصل : قوله (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) الاية : ٥٥.

طلب اليه ذلك ليحفظ ذلك عمن لا يستحقه ويوصله الى الوجوه التي يجب صرف الأموال اليها ، فلذلك رغب الى الملك فيه ، لان الأنبياء لا يجوز أن يرغبوا في جمع أموال الدنيا إلا لما قلناه.

وقوله «اني حفيظ عليم» معناه حافظ للمال عمن لا يستحقه عليم بالوجوه التي يجب صرفها اليه.

وفي الاية دلالة على جواز تقلد الامر من قبل السلطان الجائر إذا تمكن معه من إيصال الحق الى مستحقه.

فصل : قوله (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها) الاية : ٥٦.

التبوء هو اتخاذ منزل يرجع اليه ، وأصله الرجوع من (باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) قال الشاعر :

فان تكن القتلى بواء فإنكم

فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

٢٦

أي : يرجع بدم بعضها على بعض ، فان هذا المقتول لا كفاء لدمه.

فصل : قوله (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) الاية : ٥٩.

الوفاء تمام الامر على ما يوجبه الحق ، ويكون ذلك في الكيل وفي الوزن وفي الذرع وفي العد وفي العقد.

فصل : قوله (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) الاية : ٦٨.

لما وردوا عليه ودخلوا اليه من أبواب متفرقة حسب ما أمرهم به أبوهم ورغبهم فيه لم يكن يعقوب يغني عنهم من الله شيئا الا حاجة في نفس يعقوب قضاها من خوف العين عليهم أو الحسد ، على اختلاف القولين.

فصل : قوله (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) الاية : ٨١.

الشهادة خبر عن مشاهدة اقرار أو حال ، ويجوز أن يشهد الإنسان بما علمه من جهة الدليل ، كشهادتنا بأن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله.

فصل : قوله (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) الاية : ٨٤.

أخبر الله بأنه ابيضت عيناه. والمعنى : انه عمي فلم يبصر شيئا. والعين حاسة الإدراك للمرئيات.

والحزن الغم الشديد ، وهو من الحزن وهي الأرض الغليظة والكظيم هو الممسك للحزن في قلبه لا يبثه بما لا يجوز الى غيره.

فصل : قوله (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) الاية : ٨٦.

البث تفريق الهم بإظهاره عن القلب ، يقال : بثه ما في نفسه بثا وأبثه ابثاثا ، وبث الخيل على العدو إذا فرقها.

والبكاء ليس بممنوع منه في الشرع ، وانما الممنوع اللطم والخدش والجز وتخريق الثياب والقول الذي لا يسوغ ، وكل ذلك لم يكن منه عليه‌السلام.

٢٧

فصل : قوله (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) الاية : ٩٣.

هذا اخبار من الله تعالى بأن يوسف أعطى اخوته قميصه وقال لهم : احملوه الى أبي يعقوب واطرحوه على وجهه ، فانه يرجع بصيرا ويزول عنه العمى ، وذلك معجز دال على نبوته ، لأنه على قول المفسرين كالحسن والسدي وغيرهما : كان قد عمي ، ولو لا أن الله أعلمه أنه يرجع بصيرا لم يدر أنه يرجع اليه بصره.

فصل : قوله (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) الاية : ٨٨.

الأهل : خاصة الشيء الذي ينسب اليه ، ومنه قوله (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (١) وتسمى زوجة الرجل بأنها أهله ، وكذلك أهل البلد وأهل الدار ، وهم خاصته الذين ينسبون اليه.

فصل : قوله (وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) الاية : ٩٠.

أي : أنعم علينا بنعمة قطعتنا عن حال الشدة ، يقال : من الله عليه يمن منا ، وأصله القطع من قوله (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢) أي : غير مقطوع ، ومنه من عليه في الصنيعة إذا ذكرها بما يجري مجرى التعيير بها ـ لأنه قاطع عن شكرها.

والمنون الموت لأنه يقطع عن تصرف الأحياء. والإحسان فعل حسن يستحق به الحمد.

فصل : قوله (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) الاية : ٩٢.

معناه : لا تأثير (٣) عليكم اليوم بما سلف منكم. والتثريب تعليق الضرر لصاحبه من أجل جرم كان منه.

وقال سفيان : معنى «لا تثريب» لا تعيير. وقيل : معناه لا تخليط بعائد مكروه.

__________________

(١). سورة هود : ٤٥.

(٢). سورة فصلت : ٨ وغيرها.

(٣). في التبيان : لا بأس.

٢٨

قبل : في معنى قوله (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) قولان :

أحدهما : أنه دعا لهم بالمغفرة ، ويكون الوقف عند قوله (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ثم ابتدأ فقال (يَغْفِرُ اللهُ) وقد وقف بعضهم عند قوله (عَلَيْكُمُ) والاول أجود.

الثاني : لما كان ظلمهم له معلقا بإحلاله إياهم منه حسن هذا القول ، لان الله هو الأخذ له بحقه الا أن يصفح.

فصل : قوله (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) الاية : ٩٧.

أي : سل الله أن يستر علينا ذنوبنا لا يعاقبنا عليها ومتى قيل : كيف سألوه الاستغفار مع أنهم كانوا تابوا ، والتوبة تسقط العقاب.

قلنا : أما على مذهبنا فان التوبة لا تسقط العقاب وجوبا ، وانما يسقطه الله تعالى عندها تفضلا.

وأما على مذهب مخالفينا ، فإنهم سألوه ذلك لأجل المظلمة المتعلقة بصفح المظلوم وسؤال صاحبه أن لا يأخذ بظلمه.

فصل : قوله (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) الاية : ٩٩.

يعني : أباه يعقوب وأمه ، فثني على لفظ الأب تغليبا للذكر على الأنثى ، ولم يثن على لفظ الامام ، كما غلب المفرد على المضاف في قولهم : سنة العمرين ، ومثله قوله «وورثه أبواه» (١) يعني أباه وأمه.

فصل : قوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ) الاية : ١٠٢.

الغيب : ذهاب الشيء عن الحس ، ومنه (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٢) أي : عالم بما غاب عن الحواس وبما حضرها.

__________________

(١). سورة النساء : ١١.

(٢). سورة الانعام : ٧٣ وغيرها.

٢٩

«نوحيه اليك» أي : نلقيه. والإيحاء : الإلقاء.

فصل : قوله (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) الاية : ١٠٧.

الغاشية ما يتجلل الشيء بانبساطها عليه ، يقال : غشية يغشاه غشيانا فهو غاش وهي غاشية ، أو تجيئهم القيامة بغتة أي : فجأة.

والبغتة والفجأة والفلتة نظائر ، وهو مجيء الشيء من غير تقدمة. قال يزيد ابن مقسم الثقفي :

ولكنهم باتوا ولم أدر بغتة

وأفظع شيء حين يفجؤك البغت

فصل : قوله (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) الاية : ١٠٩.

من جره فعلى الاضافة ، تقديره : ولدار الحال الاخرة ، لان للناس حالين : حال الدنيا وحال الاخرة ، ومثله صلاة الاولى والصلاة الاولى ، فمن أضافه قدر صلاة الفريضة الاولى ، ومن لم يضف جعله صفة. ومثله ساعة الاولى والساعة الاولى ، ذكره الزجاج.

وقال الفراء : قد يضاف الشيء الى نفسه إذا اختلف لفظهما ، مثل حق اليقين ومثله بارحة الاولى والبارحة الاولى ، ومسجد الجامع والمسجد الجامع.

فصل : قوله (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) الاية : ١١١.

معناه : ان ما أخبرناك به لم يكن حديثا كذبا. والحديث الاخبار عن حوادث الزمان ، وتسميته بأنه حديث يدل على أنه حادث ، لان القديم لا يكون حديثا.

والافتراء القطع بالمعنى على خلاف ما هو به. وأصل الفري من قولهم : فريت الأديم فريا إذا قطعته.

٣٠

سورة الرعد

فصل : قوله (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ) الاية : ٢.

قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معناه : استولى بالاقتدار عليه ونفوذ السلطان ، وأصله استواء التدبير ، كما أن أصل القيام الانتصاب ، ثم يقال : قائم بالتدبير ، فالمعنى مستو على العرش بالتدبير المستقيم من جهته بجميع الأمور.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فالتسخير والتذليل والتوطئة نظائر. والمسخر هو المهيئ ، لأنه يجري بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج اليه ، كتسخير النار للاسخان ، والماء للجريان ، والفرس للركوب.

والأجل هو الوقت المضروب لحدوث امر أو انقطاعه ، فأجل الدنيا الوقت المضروب لانقضائها ، وأجل الاخرة الوقت المضروب لحدوثها ، وأجل الدين وقت حدوث أدائه ، وأجل العمر الوقت المضروب لانقضائه.

فصل : قوله (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) الاية : ٤.

الزرع إلقاء الحب للنبات في الأرض والغرس جعل الأرض من الشجر للنبات في الأرض.

والصنوان المتلاصق وهي الفسيلة تكون في أصل النخلة. وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد : الصنوان النخلات التي أصلها واحد.

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) معناه أن ما ذكرناه يسقى بماء واحد.

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) بأن يكون بعضه حلوا وبعضه حامضا

٣١

وبعضه مرا في الاكل ، فالأكل الطعام الذي يصلح للأكل.

فدل بذلك على بطلان قول من يقول بالطبع ، لأنه لو كان قولهم صحيحا لما اختلفت طعوم هذه الأشياء ، مع أن التربة واحدة والأرض واحدة والماء واحدة ، وجميع أحوالها المعقولة واحدة متساوية ، فلما تفاضلت مع ذلك دل على أن المدبر لها عالم حكيم يفعله بحسب المصلحة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) اخبار منه تعالى أن فيما ذكرناه دلالات لقوم يعقلونها.

فصل : قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الاية : ٦.

قال ذلك على وجه الاخبار عن نفسه بالرحمة لخلقه والتفضل عليهم ، بأنه يغفر للناس مع كونهم ظالمين.

وذلك يدل على بطلان قول من قال : ان أصحاب الكبائر لا يجوز أن يعفو الله عنهم الا بالتوبة ، لأنه تعالى لم يشرط في ذلك التوبة. ومن شرط في الاية التوبة أو خصها بالصغائر ، كان تاركا للظاهر.

فصل : قوله (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) الاية : ١٢.

البرق : ما ينقدح من السحاب من اللمعان كعمود النار ، وجمعه بروق ، وفيه معنى السرعة ، يقال : امض في حاجتك كالبرق.

قوله «خوفا وطمعا» قيل : في معناه قولان :

أحدهما ـ قال الحسن : خوفا من الصواعق التي يكون مع البرق ، وطمعا في الغيث الذي يزيل الجدب والقحط.

وقال قتادة : خوفا للمسافر من أذاه ، وطمعا للمقيم في الرزق.

فصل : قوله (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ) الاية : ١٥.

٣٢

قيل : في معنى ذلك ثلاثة أقوال :

أحدها : قال الحسن وقتادة وابن زيد : ان المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد كرها بالسيف.

الثاني : ان المؤمن يسجد لله طوعا والكافر في حكم الساجد كرها بما فيه من الحاجة اليه والذلة التي تدعو الى الخضوع لله تعالى.

الثالث : قال أبو علي : سجود الكره بالتذلل للتصرف من عافية الى مرض ، وغنى الى فقر ، وحياة الى موت ، كتذليل الاكم للحوافر في قول الشاعر :

ترى الاكم فيها سجدا للحوافر

وقوله (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أن سجود الظلال ما فيه من تغير الذلة التي تدعو الى صانع غير مصنوع له العزة والقدرة.

والثاني : قيل سجود الظلال (١) ، لأنه يقصر بارتفاع الشمس ويطول بانحطاطها وذلك من آيات الله الدالة عليه.

والسجود هو وضع الوجه على الأرض على وجه الخضوع مذللا لمن وضع له ، وأصله التذليل من قول الشاعر :

بجمع تظل البلق في حجراته

ترى الاكم فيه سجدا للحوافر

وأصل السجود هو الميل والتطأطؤ ، يقال : سجد البعير وأسجده صاحبه إذا طأطأه ليركبه.

والآصال جمع أصل ، والأصل جمع أصيل وهو العشي ، فكأنه قيل : أصل الليل الذي ينشأ منه ، لأنه مأخوذ من الأصيل (٢) ، وهو ما بين العصر الى مغرب

__________________

(١). في التبيان : الظل.

(٢). في «ن» و «م» : الأصل.

٣٣

الشمس ، قال أبو ذؤيب :

لعمري لانت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفنائه بالاصائل

فصل : قوله (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الاية : ١٦.

من تعلق من المجبرة بقوله (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) على أن أفعال العباد مخلوقة لله فقد أبعد ، لان المراد بذلك أنه خالق كل شيء يستحق بخلقه العبادة دون ما لا يستحق به ذلك.

ولو كان المراد ما قالوه ، لكان فيه حجة للخلق على الله ، وبطل التوبيخ الذي تضمنته الاية الى من وجه عبادته الى الأصنام ، لأنه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو الله على قول المجبرة.

فلا توبيخ يتوجه على الكفار ولا لوم يلحقهم ، بل لهم أن يقولوا : انك خلقت فينا ذلك فما ذنبنا فيه ، ولم توبخنا على فعل فعلته؟ فتبطل حينئذ فائدة الاية.

فصل : قوله (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) الاية : ١٧.

الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ومنه اشتقاق الدية ، لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدي عن القتيل.

والاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل.

وقوله «هذا» يحتمل وجهين ، معناه له قوة يحمل بها الوجهين والزبد وضر الغليان وهو خبث الغليان.

فصل : قوله (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) الاية : ١٨.

قيل : في معناه قولان :

قال ابراهيم النخعي : ان سوء الحساب هو مؤاخذة العبد بذنبه لا يغفر له شيء منه.

وقال الجبائي : معناه أخذه به على وجه التوبيخ والتقريع.

٣٤

فصل : قوله (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) الاية : ٢٢.

قال ابن زيد : الصبر على وجهين : أحدهما ـ الصبر لله على ما أحب. والاخر الصبر له عما كره ، كما قال «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار».

وقيل : ويدرؤن سفه الجهال بما فيهم من الحلوم.

وقيل : يدفعون ظلم الغير عن نفوسهم بالرفق والمواعظ الحسنة.

فصل : قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) الاية : ٢٣.

الجنات البساتين التي تحتها الشجر وأحدها جنة.

والعدن الاقامة الطويلة ، عدن بالمكان يعدن عدنا ، ومنه المعادن التي يخرج منها الذهب والفضة وغيرهما.

والسلام التحية بالكرامة على انتفاء كل أمر يشوبه من مضرة.

فصل : قوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الاية : ٢٦.

معناه : يوسعه على من يشاء من عباده بحسب ما يعلمه من مصلحته ويضيقه على آخرين إذا علم أن مصلحتهم في ذلك.

فصل : قوله (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) الاية : ٢٧.

أمر الله نبيه أن يقول لهم ان الله يضل من يشاء ، بمعنى أنه يحكم على من يشاء بالضلال إذا ضل عن طريق الحق.

ويجوز أن يكون المراد يضل من يشاء عن طريق الجنة بسوء أفعالهم وعظم معاصيهم. ولا يجوز أن يريد بذلك الإضلال عن الحق ، لان ذلك سفه لا يفعله الله تعالى.

وقوله (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي : يحكم لمن رجع الى طاعة الله والعمل بها بالجنة ويهديه اليها. والهداية الدلالة التي تؤدي الى طريق الرشد بدلا من طريق الغي ، والمراد بها الحكم بسلوك طريق الجنة.

٣٥

فصل : قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ) الاية : ٢٨.

الايمان هاهنا هو الاعتراف بتوحيد الله على جميع صفاته والإقرار بنبوة نبيه وقبول ما جاء به من عند الله والعمل بما أوجبه عليهم. وفي اللغة الايمان هو التصديق.

فصل : قوله (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الاية : ٣٠.

انما قال «بالرحمن» دون الله ، لان أهل الجاهلية من قريش ، قالوا : الله نعرفه والرحمن لا نعرفه ، ولذلك قالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) (١) وقال (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) وهو قول الحسن وقتادة.

فصل : قوله (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الاية : ٣٩.

وجه اتصال هذه الاية بما تقدم ، هو أنه لما قال «لكل أجل كتاب» اقتضى أن يدخل فيه أعمال العباد ، فبين أن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت ، لئلا يتوهم أن المعصية مثبتة بعد التوبة كما هي قبل التوبة.

وقيل : ان مما يمحى ويثبت الناسخ والمنسوخ.

وقيل : يمحو ما يشاء ويثبت مما يثبته الملكان ، لأنه لا يثبت الا الطاعات والمعاصي دون المباحات.

«وعنده ام الكتاب» معناه أصل الكتاب ، لأنه كتب أولا سيكون كذا وكذا لكل ما يكون ، فإذا وقع كتب أنه قد كان ما قيل انه سيكون.

وقيل : أصل الكتاب لان الكتب التي أنزلت على الأنبياء منه نسخت.

فصل : قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) الاية : ٤١.

قيل : في معناه أربعة أقوال ، قال ابن عباس والحسن والضحاك : ما فتح

__________________

(١). سورة الفرقان : ٦٠.

(٢). سورة الاسراء : ١١٠.

٣٦

على المسلمين من أرض المشركين.

وقال مجاهد وقتادة : ننقصها بموت أهلها.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس ومجاهد لموت العلماء. وفي رواية أخرى عنهما بخرابها.

والطرف منتهى الشيء ، وهو موضع من الشيء ليس وراءه ما هو منه وأطراف الأرض نواحيها.

فصل : قوله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) الاية ٤٣.

قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : روي عن ابن عباس أنه قال : هم أهل الكتاب الذين آمنوا من اليهود والنصارى.

وقال الحسن : الذي عنده علم الكتاب هو الله تعالى ، وبه قال الزجاج.

وقال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام : هم أئمة آل محمد عليهم‌السلام لأنهم الذين عندهم علم الكتاب كله لا يشذ عنهم شيء من ذلك دون من ذكروه.

والكفاية وجود الشيء على قدر الحاجة ، فكأنه قيل : قد وجد من الشهادة مقدار ما بنا اليه من الحاجة في فصل ما بيننا وبين هؤلاء الكفار.

سورة ابراهيم

فصل : قوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الاية : ٤.

يحتمل أمرين :

أحدهما : أنه يحكم بضلال من يشاء إذا ضلوا هم عن طريق الحق.

٣٧

والثاني : يضلهم عن طريق الجنة إذا كانوا مستحقين للعقاب ، ويهدي من يشاء الى طريق الجنة.

ورفع قوله «فيضل الله» لان التقدير الاستئناف لا العطف على ما مضى. ومثله قوله (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) (١) ومثله (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٢).

ثم قال بعد ذلك «ويتوب الله على من يشاء» لأنه إذا لم يجز أن يكون عطفا على ما مضى فينتصب لفساد المعنى ، فلا بد من استئنافه ورفعه.

وقال الحسن : أمتن الله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه لم يبعث رسولا الا الى قومه وبعثه خاصة الى جميع الخلق.

وقال مجاهد : بعث الله نبيه الى الأسود والأحمر ، ولم يبعث نبيا قبله الا الى قومه وأهل لغته.

فصل : قوله (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) الاية : ٩.

قوله (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) أي : لا يعلم تفاصيل أحوالهم وما فعلوه وفعل بهم من العقوبات ولا عددهم الا الله ، ولذلك قال النبي عليه‌السلام : كذب النسابون.

وقوله (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قيل : في معناه خمسة أقوال :

أحدها : قال عبد الله بن مسعود وابن زيد : انهم عضوا على أناملهم تغيظا عليهم في دعائهم الى الله ، كما قال (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (٣).

وثانيها : قال الحسن : جعلوا أيديهم في أفواه الأنبياء تكذيبا لهم وردا لما جاءوا به.

__________________

(١). سورة الحج : ٥.

(٢). سورة التوبة : ١٥.

(٣). سورة آل عمران : ١١٩.

٣٨

فصل : قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا») الاية : ١٣.

انما قالوا (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وهم لم يكونوا على ملتهم قط لامرين :

أحدهما : أنهم توهموا ذلك على غير حقيقة أنهم كانوا على ملتهم.

والثاني : أنهم ظنوا بالنشوء أنهم كانوا عليها دون الحقيقة.

فصل : قوله (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) الاية : ١٥.

معناه : استنصروا ، وهو طلب الفتح بالنصر ، ومنه قوله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) أي : يستنصرون.

وقال الجبائي : هو سؤالهم أن يحكم الله بينهم وبين أممهم ، لان الفتح الحكم ، ومنه قوله «الفتاح».

والجبرية طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية من الوصف ، فإذا وصف العبد بأنه جبار كان ذما ، وإذا وصف الله به كان مدحا ، لان له علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة.

والعنيد هو المعاند ، الا أن فيه مبالغة. والعناد الامتناع من الحق مع العلم به كبرا وبغيا.

فصل : قوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) الاية : ٢٢.

قال الجبائي : في الاية دلالة على أن السلطان لا يقدر على الإضرار بالإنسان بأكثر من اغوائه ودعائه الى المعاصي ، فأما بغير ذلك فلا يقدر عليه لأنه أخبر بذلك ويجب أن يكون صادقا ، لان الاخرة لا يقع فيها من أحد قبيح لكونهم ملجئين الى تركه.

__________________

(١). سورة البقرة : ٨٩.

٣٩

فصل : قوله (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) الاية : ٢٣.

تحية بعضهم لبعض في الجنة سلام ، والتحية التلقي بالكرامة في المخاطبة كقولك أحياك الله لحياة طيبة سلام عليك وما أشبه ذلك ، تبشيرا لهم بدوام السلامة.

وروى أنس بن مالك عن النبي عليه‌السلام أن هذه الشجرة الطيبة هي النخلة. وقال ابن عباس : هي شجرة في الجنة.

وقوله «يؤتي أكلها» أي : يخرج هذه الشجرة الطيبة ما يؤكل منها في كل حين.

وقال ابن عباس : في رواية يعني ستة أشهر الى صرام النخل ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وبه قال سعيد بن جبير والحسن ، وأهل اللغة يذهبون الى أن الحين هو الوقت ، قال النابغة :

يبادرها الراقون من سوء سمها

تعلقه حينا وحينا تراجع (١)

قوله (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) الاية : ٢٦.

لما ضرب الله المثل للكلمة الطيبة ضرب المثل للكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة.

قال أنس بن مالك ومجاهد : الشجرة الممثل بها هي شجرة الحنظل. قال أنس هي السرمان. وقال ابن عباس : هي شجرة لم تخلق بعد.

والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول ، والكلمة انما تكون خبيثة إذا خبث معناها.

فصل : قوله (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) الاية : ٣٥ ـ ٣٦.

أي : جنبنا عبادة الأصنام بلطف من ألطافك الذي نختار عنده الامتناع من

__________________

(١). ديوان النابغة : ٨٠.

٤٠