المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وحسن أخلاقه وما خصه الله به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى أنه قيل : انه لم يصافح أحدا قط فنزع يده من يده حتى يكون ذلك الذي ينزع يده منه.

فمن هذه صفته كيف يغضب (١) في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام ، على أن الأنبياء عليهم‌السلام منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء الى دعائهم. ولا يجوز مثل هذا على الأنبياء عليهم‌السلام من عرف مقدارهم وتبين صفتهم.

وقال قوم : ان هذه الآيات نزلت في رجل من بني أميه كان واقفا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما أقبل ابن أم مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله ذلك وأنكره معاتبة على ذلك.

وقوله تعالى (وَما يُدْرِيكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقديره : قل له يا محمد وما يدريك لعله يزكى ، وانما أضاف العبوس الى النبي من أضافه لقوله تعالى (وَما يُدْرِيكَ) فرآه متوجها اليه ظن أنه عتب له دون أن يكون متوجها اليه على أن يقول لمن فعل ذلك ويوبخه عليه.

وقوله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تعرض عنه ، واللهي عن الشيء هو التروح بالاعراض عنه والتلهي به التروح بالإقبال عليه ، ومنه قولهم «إذا استأثر الله بشيء فاله عنه» أي : اتركه وأعرض عنه.

قوله (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) في الاية دليل على بطلان مذهب المجبرة في أن القدرة مع الفعل ، وأن المؤمن لا قدرة له على الكفر ، وأن الكافر لا يقدر على الايمان ، لأنه تعالى بين أن من شاء أن يذكره ذكره لأنه قادر عليه.

قوله تعالى (فَأَقْبَرَهُ) فالاقبار جعل القبر لدفن الميت فيه ، يقال : أقبره اقبارا

__________________

(١). في التبيان : يقطب.

٣٦١

والقبر الحفر المهيأ للدفن فيه ، يقال : أقبرني فلانا أي : جعلني أقبره ، فالمقبر هو الله تعالى يأمر عباده أن يقبروا الناس إذا ماتوا ، والقابر الدافن للميت بيده قال الشاعر :

لو أسندت ميتا الى نحرها

عاش ولم ينقل الى قابر

حتى يقول الناس مما رأوا

يا عجبا للميت الناشر (١)

فصل : قوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الآيات : ٢٤ ـ ٣٢.

القضب الرطبة ، في قول الضحاك والفراء ، وأهل مكة يسمون القث قضبا وأصله فيما يقطع رطبا. والغلب جمع أغلب ، وهي الغلاظ العظيم الأشجار ، شجرة غلبا إذا كانت غليظة ، قال الفرزدق :

عرى فاثار اغلب ضيغميا

فويل ابن المراغة ما استثارا (٢)

والأب المرعى من الحشيش وسائر النبات الذي ترعاه الانعام والدواب والانعام الماشية بنعمة المشي من الإبل والبقر والغنم ، بخلاف الحافر لشدة وطئه بحافره من الخيل والبغال والحمير.

فصل : قوله تعالى (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الآيات : ٣٣ ـ ٤٢.

قوله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) صعوبة الامر وشدة أهواله.

ومعنى (يُغْنِيهِ) أي : يكفيه من يأتي عليه ، أي : ليس فيه فضل لغيره لما هو فيه من الامر الذي قد اكتنفه ، فصار كالغني عن الشيء.

__________________

(١). ديوان الأعشى ص ٩٣.

(٢). ديوان الفرزدق ٢ / ٤٤٣.

٣٦٢

سورة التكوير

قوله تعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) الآيات : ١ ـ ١٣.

يقول الله تعالى مخبرا عن وقت حضور القيامة وحصول شدائدها (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ثم انفطرت ، واللفظ وان كان ماضيا فالمراد به الاستقبال ، لأنه إذا أخبر الله تعالى بشيء فلا بد من كونه فكأنه واقع ، والفعل الماضي يكون بمعنى المستقبل في الشرط والجزاء وفي أفعال الله تعالى وفي الدعاء إذا تكرر ، كقولك : حفظك الله وأطال بقاك.

ومعنى «كورت» في قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة والضحاك : ذهب نورها ، والتكوير تلفيف على جهة الاستدارة ، وهو كور العمامة ومنه الكارة ويقال : كورت العمامة على رأسي أكورها كورا وكورتها تكويرا.

وقوله (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) فالانكدار انقلاب الشيء حتى يصير الأعلى الأسفل بما لو كان ماء لتكدر. وقيل : أصل الانكدار الانصباب قال العجاج :

أبصر خربان فضاء فانكدر

وقوله (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) فالعشار جمع عشراء وهي الناقة التي قد أتي عليها عشرة أشهر من حملها ، وهو مأخوذ من العشرة ، والناقة إذا وضعت لتمام فهي مسنة.

وقال الفراء : العشار لقح الإبل عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم.

وقال الجبائي : معناه ان السحاب يعطل مما يكون فيها من المياه التي ينزلها الله على عباده في الدنيا.

٣٦٣

وقوله تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) معناه : ملئت نارا كما يسجر التنور. وأصل السجر الملء ، قال لبيد :

فتوسطا عرض السري وصدعا

مسجورة متجاوز أقدامها

أي : مملوءة ، ومنه (الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (١).

وقوله (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) فالموؤدة المقتولة بدفنها حية ، فكانت العرب تئد البنات خوف الاملاق ، وعلى هذا جاء قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) (٢) وقيل : مؤودة للثقل الذي عليها من التراب ، ومنه قوله تعالى (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (٣) أي : لا يثقله ، قال الفرزدق :

ومنا الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم يؤود (٤)

وانما يسأل الموؤدة على جهة التوبيخ لقاتلها ، وهو أبلغ من سؤاله ، لان هذا مما لا يصلح الا بذنب وأي ذنب كان لك ، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها جاءت الطامة الكبرى على قاتلها.

وقوله (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فالكشط القلع عن شدة التزاق ، والكشط والنشط واحد.

وقوله (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي : قربت من أهلها يوم القيامة ، فالازلاف ادناء ما يجب ، ومنه الزلفة القربة ، ومنه المزدلفة لأنها قريبة من مكة.

فصل : قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الآيات : ١٥ ـ ١٩.

__________________

(١). سورة الطور : ٦.

(٢). سورة الانعام : ١٥١.

(٣). سورة البقرة : ٢٥٥.

(٤). ديوان الفرزدق ١ / ٢٠٣.

٣٦٤

الخنس جمع خانس ، وهو الغائب عن طلوع ، خنست الوحشة في الكناس إذا غابت فيه بعد طلوع ، وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن الخنس النجوم لأنها تخنس بالنهار وتبدو بالليل.

وقيل : تخنس في مغيبها بعد طلوعها ، وبه قال الحسن ومجاهد. وقال ابن مسعود وابراهيم : هم بقر الوحش.

والجارية النجوم السيارة ، والجارية السفن في البحر ، والجارية المرأة الشابة.

وقوله (الْكُنَّسِ) نعت للجوار ، وهو جمع كانس ، وهي الغيب في مثل الكناس وهو كناس الوحشية بيت تتخذه من الشجر تختفي فيه ، قال طرفة :

كأن كناسي ضالة مكنفانها

واطرقسي تحت صلب مؤيد (١)

ومعنى (عَسْعَسَ) أدبر بظلامه ، في قول أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد ، قال علقمة بن قرط :

حتى إذا الليل (٢) لها تنفسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

والأفق ناحية من السماء ، وفلان ينظر في آفاق السماء. وقال الحسن وقتادة الأفق المبين حيث تطلع الشمس.

وقوله تعالى (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وابراهيم والضحاك : معناه ليس على وحي الله وما يخبر من الاخبار بمتهم ، أي : ليس ممن ينبغي أن يظن به الريبة ، لان أحواله ناطقة بالصدق والامانة. ومن قرأ بالضاد معناه ليس ببخيل على الغيب.

وقوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

__________________

(١). ديوان طرفة ص ٢٥.

(٢). في التبيان : الصبح.

٣٦٥

أحدها : وما تشاؤون من الاستقامة الا وقد شاءها الله ، لأنه قد جرى ذكرها ، فرجعت الكناية اليها ، ولا يجوز أن يشاء العبد الاستقامة الا وقد شاءها الله ، لأنه أمر بها ورغب فيها أتم الترغيب ، ومن ترغيبه فيه ارادته له.

والثاني : وما تشاؤون شيئا الا أن يشاء الله يمكنكم منه ، لان الكلام يقتضي الاقتدار على تمكينهم إذا شاء ومنعهم إذا شاء.

والثالث : وما تشاؤون الا أن يشاء الله أن يلطف لكم في الاستقامة ، لما في الكلام من معنى النعمة.

وروي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : شيبتني هود وأخواتها الواقعة وإذا الشمس كورت ، وهو جميع ما وعظ الله به عباده.

فان قيل : أليس أنس لما سأل هل اختضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ما شأنه الشيب ، فقال : أو شين هو يا أبا حمزة. فقال : كلكم يكرهه.

قيل : عنه جوابان :

أحدهما : أنه روي أن عليا عليه‌السلام لما غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجد في لحيته شعرات بيضاء ، وما لا يظهر الا بعد التفتيش لا يكون شيبا.

والثاني : أنه أراد لو كان أمر يشيب منه انسان لشبت من قراءة ما في هذه السورة وما فيها من الوعيد.

سورة الانفطار

قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) الآيات : ١ ـ ١٢.

قوله (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي : خرق بعض مواضع الماء الى بعض ،

٣٦٦

يقال : فجر الأنهار يفجرها تفجيرا ، ومنه الفجر لانفجاره بالضياء ، ومنه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج الى كثير من الذنوب. وقال قتادة : معنى فجرت أي تفجر عذبها في مالحها ، ومالحها في عذبها.

وقوله تعالى (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) معناه بحثرت.

ومعنى (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما أخذت وتركت مما يستحق به الجزاء. وقيل : معناه كل ما يستحق به الجزاء مما كان في أول عمره أو آخره. وقيل : معناه ما قدمت من عملها وما أخرت من سنة سنتها يعمل بها ، ذكره القرطبي. وقال ابن عباس وقتادة : معناه ما قدمت من طاعة أو تركت. وقيل : ما قدمت وأخرت من احسان أو اساءة إذا قرأ كتابه وجوزي بعمله.

والغرور : ظهور أمر يتوهم به جهل الامان من المحذور.

وقوله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) فالصورة البنية التي تمثل (١) بالتأليف.

وقال مجاهد : معناه في أي صورة ما شاء ركبك من شبه أب أو أم أو خال أو عم.

وقال قوم : معناه في أي صورة ما شاء ركبك من ذكر أو أنثى ، وجسيم أو نحيف ، وطويل أو قصير ، ومستحسن أو مستقبح.

ومن قال : الإنسان غير هذه الجملة استدل بقوله (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قالوا : لأنه بين أنه يركب القابل (٢) في أي صورة شاء. فدل على أنه غير الصورة.

وقد بينا القول في تأويل ذلك ، على أن عندهم أن ذلك الحي لا يصح عليه التركيب ، والله تعالى بين أنه يركبه كيف شاء وفي أي صورة شاء ، وذلك خلاف

__________________

(١). في التبيان : تميل.

(٢). في «م» : الفاعل.

٣٦٧

مذهبهم.

وقوله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي : لا يخفى عليهم شيء من الذي تعملونه ، فيثبتون ذلك كله.

وقيل : ان الملائكة تعلم ما يفعله العبد اما باضطرار ، كما تعلم أنه يقصد الى خطابنا وأمرنا ونهينا. واما باستدلال إذ رآه وقد ظهر منه الأمور التي لا يكون الا عن علم وقصد من نحو التحري في الوزن والكيل ورد الوديعة وقضاء الدين.

وقال الحسن : يعلمون ما تفعلون من الظاهر دون الباطن. وقيل : بل هو على ظاهر العموم ، لان الله تعالى يعلمهم إياه.

فصل : قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) الآيات : ١٣ ـ ١٩.

أخبر تعالى بأن الفجار وهم الذين خرجوا عن طاعة الله الى معصيته والمراد به هاهنا الكفار لفي جحيم ، جزاء على كفرهم ومعاصيهم.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) يعني : لا يكونون غائبين عن الجحيم بل يكونون مؤبدين فيها ، وليس يدل ذلك على أن فساق أهل الملة لا يخرجون من النار ، لأنا بينا أن الاية مخصوصة بالكفار من حيث بينا في غير موضع أن معهم ثوابا دائما على ايمانهم لم ينحبط لبطلان القول بالإحباط (١) ، فاذن لا بد من إخراجهم من النار ليوفوا ثوابهم.

سورة المطففين

قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ

__________________

(١). في التبيان : بالتحابط.

٣٦٨

وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الآيات : ١ ـ ٦.

(وَيْلٌ) كلمة موضوعة للوعيد والتهديد ، ويقال ذلك لمن وقع في هلاك وعقاب. وقيل : ان ويلا واد في جهنم قعره سبعون سنة.

والمطفف المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن. والطفيف النزر القليل ، وهو مأخوذ من طف الشيء ، وهو جانبه ، والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن.

فصل : قوله (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ. وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الآيات : ٧ ـ ١٤.

قوله (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) يعني كتابهم الذي فيه ثبت أعمالهم من المعاصي والفجور (لَفِي سِجِّينٍ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني في الأرض السابعة السفلى ، وهو قول الضحاك.

وقال مجاهد : تحت صخرة في الأرض السابعة السفلى ، وروي في الخبر أن سجين جب في جهنم. وقال أبو عبيدة : سجين شديد وأنشد :

ضربا تواصى به الابطال سجينا

يعني شديدا فكأنه كشدة السجن.

وقوله (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فواحد الأساطير أسطورة ، مثل أحدوثة وأحاديث. وقيل : معناه أباطيل الأولين. وقيل : معناه هذا ما سطره الأولون أي كتبوه ولا أصل له.

ثم قال (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ومعناه ليس الامر على ما قالوه بل غلب على قلوبهم ، يقال منه رانت الخمر على عقله يرين رينا إذا سكر فغلبت ، فالرين غلبة السكر على القلب ، قال أبو زبيد الطائي :

ثم لما رآه رانت به الخمر

وأن لا يرينه بابقاء يرينه

٣٦٩

أي : مخافة أن يسكر فهو لا يبقيه.

فصل : قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) الآيات : ١٨ ـ ٣٦.

قوله (عِلِّيِّينَ) أي : مراتب عالية محفوفة بالجلالة. وجمعت بالواو والنون تشبيها بما يعقل في الفصل وعظم الشأن.

وقال ابن عباس : العليون الجنة. وقال كعب وقتادة ومجاهد والضحاك : أرواح المؤمنين في السماء السابعة.

وقال الضحاك : في رواية عليون سدرة المنتهى ، وهي التي ينتهي اليها كل شيء من أمر الله تعالى.

وقيل : عليون علوا على علو مضاعف ، ولهذا جمع بالواو والنون تفخيما لشأنه ، قال الشاعر :

وأصبحت المذاهب قد أذاعت

به الاعصار بعد الوابلينا

يريد مطرا بعد مطر غير محدود العدد ، وكذلك تفخيم شأن العدد الذي ليس على الواحد نحو ثلاثين الى تسعين ، وجرت العشرون عليه.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) قال ابن عباس : الأرائك الاسرة. وقال مجاهد : هي من اللؤلؤ والياقوت واحدها أريكة ، وهو سرير في حجلة ينظرون الى ما أعطاهم الله من الملك والكرامة ، والحجلة كالقبة على الاسرة.

والرحيق : الخمر الصافية الخالصة من كل غش. قال الخليل : هي أفضل الخمر وأجودها ، قال حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردا يصفق بالرحيق السلسل

وقوله (خِتامُهُ مِسْكٌ) قيل : في معناه قولان :

٣٧٠

أحدهما : ان مقطعه مسك بأن يوجد ريح المسك عند خاتمة شربه ، ذكره ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك.

الثاني : أنه ختم اناؤه بالمسك بدل الطين الذي يختم بمثله الشراب في الدنيا ذكره مجاهد وابن زيد.

قوله (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) فالمزاج خلط المائع بالمائع ، والتسنيم عين ماء يجري من علو الى أسفل يتسنم عليهم من الغرف واشتقاقه من السنام. قال ابن عباس : التسنيم أشرف شراب في الجنة. وقال عكرمة : من تشريف ، ويقال سنام البعير لعلوه من بدنه.

قوله (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي : لاهين. ومن قرأ «فكهين» أراد مرحين معجبين بجمالهم.

(وَإِذا رَأَوْهُمْ) يعني الكفار إذا رأوا المؤمنين في دار الدنيا «قالوا» يعني بعضهم لبعض (إِنَّ هؤُلاءِ) وأشاروا به الى المؤمنين (لَضالُّونَ) عن طريق الحق وعادلون عن الاستقامة.

فقال الله تعالى (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي : لم يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ، فيحفظون ما هم عليه (١) ، والمراد بذلك الذم لهم بعيب المؤمنين بالضلال من غير أن كلفوا منعهم من المراد.

قوله تعالى (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : هل جوزي الكفار إذا فعل بهم هذا الذي ذكر بما كانوا يفعلون.

الثاني : ينظرون هل جوزي الكفار ، فيكون موضعه نصبا ب «ينظرون».

__________________

(١). في التبيان : عليهم.

٣٧١

سورة الانشقاق

قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) الآيات : ١ ـ ٦.

قوله (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة معناه : سمعت وأطاعت ، أي : كأنها سمعت بإذن وأطاعت بانقياد لتدبير الله تعالى تقول العرب : أذن لك هذا الامر اذنا بمعنى أستمع لك ، قال عدي بن زيد :

أيها القلب تعلل بددن

إن همي في سماع وأذن

وقال آخر :

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وان ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أي : سمعوا. وقال عدي بن زيد :

في سماع يأذن الشيخ له

وحديث مثل ما ذي مشار

وقيل : ان معنى «وحقت» حق لها أن تأذن بالانقياد لأمر ربها ، يقال : حق له أن يكون على هذا الامر بمعنى جعل ذلك حقا.

قوله (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) الكدح السعي الشديد في الامر ، يقال : كدح الإنسان في أمره يكدح كدحا ، وفيه كدوح وخدوش ، أي : آثار من شدة السعي في الامر.

ومعنى (كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أيها الإنسان انك ساع في أمرك بشدة ومشقة الى أن تلقى جزاء عملك من ربك ، فأنت لا تخلو في الدنيا من مشقة ، فلا تعمل

٣٧٢

لها واعمل لغيرها فيما يصل (١) به الى الراحة من الكدح.

فصل : قوله تعالى (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً. إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) الآيات : ١٠ ـ ١٥.

لما ذكر الله تعالى حكم من يعطي كتابه بيمينه من المؤمنين وأهل الطاعات وما أعده لهم من أنواع النعيم وانقلابه الى أهله مسرورا ، ذكر حكم الكفار الذين يعطون كتاب أعمالهم وراء ظهورهم.

وروي أنه يخرج شماله من ظهره ويعطي كتابه منه ، والوجه في ذلك ما قدمناه من كون ذلك امارة للملائكة والخلائق أنه من أهل النار ، كما أن أعطاه الكتاب على أنه من أهل الجنة.

ثم حكى ما يحل به فقال (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) الهلاك أن يقول : وا هلاكاه والمثبور الهالك.

فصل : قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ. فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) الآيات : ١٦ ـ ١٩.

قيل : معنى (وَسَقَ) جمع الى مسكنه ما كان منتشرا بالنهار في متصرفه ، يقال وسقته أسقه وسقا إذا جمعته ، وطعام موسوق أي : مجموع في الغرائر والاوعية والوسق الطعام المجتمع وقدره ستون صاعا.

وقوله (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) معناه منزلة عن منزلة وطبقة عن طبقة ، وذلك أن من كان على صلاح دعاه الى صلاح قومه ، ومن كان على فساد دعاه الى فساد قومه ، لان كل شيء يحن الى شكله. وقيل : معنى (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) جزاء عن

__________________

(١). في التبيان : تصير.

٣٧٣

عمل. وقيل : معناه شدة عن شدة.

سورة البروج

قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) الآيات : ١ ـ ٧.

قوله (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) فالشاهد هو النبي ، والمشهود يوم القيامة ، في قول الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وتلا قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) وقال (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (٢) وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب. وقال قتادة : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، وروي ذلك في أخبارنا. وقال الجبائي : الشاهد هم الذين يشهدون على الخلائق ، والمشهود هم الذين يشهدون عليه.

فصل : قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ. إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) الآيات : ١١ ـ ١٥.

البطش : الأخذ بالعنف ، بطش به يبطش بطشا.

وقوله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي : كريم ، فالمجيد الكريم العظيم الكريم بما يعطي من الخير ، فلما كان القرآن يعطي المعاني الجليلة والدلائل النفيسة كان كريما [مجيدا] (٣) بما يعطي من ذلك.

__________________

(١). سورة النساء : ٤٠.

(٢). سورة هود : ١٠٤.

(٣). الزيادة من التبيان.

٣٧٤

ويقال : مجدت الإبل تمجد مجودا إذا رعيتها فرعت وشبعت ولا فعل لك ، وأمجدتها امجادا إذا أشبعتها من العلف وملات بطونها ولا فعل لها في ذلك ، وفي المثل «في كل شجر نار واستمجد المرخ والغفار» ومعناه كثر ناره لأنه ليس في الشجر أكثر نارا من الغفار.

سورة الطارق

قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ. إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الآيات : ١ ـ ٧.

الثاقب المضي المنير ، وثقوبه توقده بنوره ، تقول العرب : أثقب نارك أي اشعلها حتى تضيء.

قوله (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) فالصلب هو الظهر ، والترائب جمع تربية وهو موضع القلادة من صدر المرأة ، في قول ابن عباس ، وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب.

قال المثقب :

ومن ذهب يشن على تريب

كلون العاج ليس بذي غصون (١)

وقال آخر :

والزعفران على ترائبها

شرقا به اللبات والصدر (٢)

فصل : قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ. إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ٢٩٤.

(٢). في التبيان : والنحر.

٣٧٥

أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) الآيات : ١١ ـ ١٧.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : ذات الرجع ذات المطر.

وقال ابن زيد : يعني شمسها وقمرها ونجومها تغيب ثم تطلع.

وقيل : رجع السماء إعطاؤها الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال. وقيل : الرجع الماء لكثرة تردده بالرياح. قال المنخل في صفة السيف :

أبيض كالرجع رسوب إذا

ما ثاخ في محتفل يختلى

وقوله (ذاتِ الصَّدْعِ) بالنبات يصدع الأرض انشقاقها بالنبات لضروب الزروع.

قوله (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي : أجازيهم على كيدهم ، وسمي الجزاء على الكيد باسمه لازدياد الكلام.

سورة الأعلى

قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى. سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ) الآيات : ١ ـ ١٠.

الغثاء : ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات. والاحوى الأسود ، والحوة السواد (١) ، قال ذو الرمة :

لمياء في شفتيها حوة لعس

وفي اللثات وفي أنيابها شنب

وقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) معناه : سنأخذ عليك قراءة القرآن فلا تنسى ذلك ، والنسيان ذهاب المعنى عن النفس بعد أن كان حاضرا لها ، ونقيضه الذكر ومثله السهو ، يقال : نسي ينسى نسيانا.

__________________

(١). في التبيان : السوداء.

٣٧٦

وقيل : فلا تنسى الا ما شاء الله أن تنساه برفع حكمه وتلاوته ، في قول الحسن وقتادة. وقيل : معنى (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي : ما شاء نسيانه مما لا يكلف القيام بأدائه ، لان التكليف مضمن بالذكر.

وقوله (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) معناه : سيتعظ وينتفع بدعائك وذكرك من يخاف الله ويخشى عقابه ، لأنه من لا يخافه لا ينتفع بها.

فصل : قوله تعالى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) الآيات : ١١ ـ ١٤.

قال الحسن : النار الكبرى نار جهنم ، والنار الصغرى نار الدنيا. وقال الفراء : النار الكبرى التي في الطبقة السفلى من جهنم.

وقوله تعالى (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) معناه : ان هذا الشقي لا يموت في النار فيتخلص من العذاب ، ولا يحيى حياة له فيها لذة ، بل هي في ألوان العذاب وفنون العقاب.

وقوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) معناه : قد فاز من تزكى ، يعني صار زاكيا بأن عمل الطاعات ، في قول ابن عباس والحسن ، وذكر اسم الله على كل حال ، وصلى على ما أمره الله به.

ثم قال : بل هؤلاء الكفار يؤثرون ، أي : يختارون الحياة الدنيا على الاخرة ، بأن يعملوا للدنيا ولا يعملوا للاخرة.

سورة الغاشية

فصل : قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ

٣٧٧

ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) الآيات : ١ ـ ٧.

معنى (هَلْ أَتاكَ) قد أتاك يا محمد (حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) قال ابن عباس وقتادة والحسن : الغاشية القيامة تغشى الناس بالاهوال. وقال سعيد بن جبير : الغاشية النار تغشى وجوه الكفار بالعذاب.

وقوله (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال الحسن : معناه لم تعمل لله في الدنيا فأعملها (١) في النار.

وقال قوم : معناه عاملة ناصبة في الدنيا بما يؤديها الى النار ، وهو مما اتصلت صفتهم في الدنيا بصفتهم في الاخرة. ومعنى الناصبة والنصبة التعبة ، وهي التي أتعبها الانتصاب للعمل ، يقال : نصب الرجل ينصب نصبا إذا تعب في العمل.

والضريع نبات يأكله الإبل يضر ولا ينفع كما وصفه الله. وقيل : الضريع الشبرق.

فصل : قوله تعالى (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً. فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الآيات : ١١ ـ ١٧.

الأكواب كالاباريق لا عرى لها ولا خراطيم ، وهي آنية تتخذ للشراب. والنمارق الوسائد واحدها نمرقة. والزرابي البسط الفاخرة واحدها زربية.

ثم نبه على الادلة التي يستدل بها على توحيده ووجوب اخلاص العبادة له ، فقال (أَفَلا يَنْظُرُونَ) أي : أفلا يتفكرون بنظرهم (إِلَى الْإِبِلِ) ويعتبرون ما خلقه الله عليه من عجيب الخلق ، ومع عظمه وقوته ذلله للصبي الصغير ، فينقاد له بتسخير الله له ويبركه ويحمل عليه ثم يقوم ، وليس ذلك في شيء من الحيوان.

__________________

(١). في التبيان : فاعمالها.

٣٧٨

سورة الفجر

قوله (وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) الآيات : ١ ـ ١٤.

الفجر : شق عمود الصبح ، فجره الله لعباده يفجره فجرا إذا أظهره في أفق المشرق بادبار الليل المظلم واقبال النهار المضيء.

والفجر فجران : أحدهما الفجر المستطيل ، وهو الذي يصعد طولا كذنب السرحان ولا حكم له في الشرع. والاخر : هو المستطير ينتشر في أفق السماء ، وهو الذي يحرم عنده الاكل والشرب ويوجب الصوم في شهر رمضان ، وهو ابتداء اليوم.

وقوله (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال ابن عباس والحسن وعبد الله بن الزبير ومجاهد ومسروق والضحاك وابن زيد : هي العشر الاول من ذي الحجة شرفها الله ليسارع الناس فيها الى عمل الخير.

وقال قوم : هي العشر من أول المحرم. والاول هو المعتمد.

وقوله (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال ابن عباس وكثير من أهل العلم : الشفع الخلق بما له من الشكل والمثل ، والوتر الخالق الفرد الذي لا مثل له.

وقوله (لِذِي حِجْرٍ) أي : لذي عقل ، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن.

وقوله (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) قيل : عاد الاولى عاد ابن ارم. وقيل : ان ارم بلد منه الاسكندرية في قول القرطي. وقال المعري : هو دمشق. وقال مجاهد : هم أمة من الأمم.

وقوله (ذاتِ الْعِمادِ) قال ابن عباس ومجاهد : معناه ذات الطول. وقيل :

٣٧٩

ذات عمد الأبيات ينتقلون من مكان الى مكان للانتجاع. وقيل : ان ارم هو سام بن نوح.

وقوله (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) يعني : في عظم أجسامهم وشدة قواهم. وقوله (جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) معناه : قطعوا الصخر من الجبال لشدة قوتهم ، قال النابغة :

أتاك أبو ليلى يجوب به الدجى

دجى الليل جواب الفلاة عميم (١)

قال مجاهد : قطعوا الجبال بيوتا ، كما قال (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) (٢)

وقوله (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قال ابن عباس : معناه ذي الجنود الذين كانوا يشيدون أمره. وقال مجاهد : كان يوتد الأوتاد في أيدي الناس. وقيل : ان فرعون كان إذا غضب على الرجل مده بين أربعة أوتاد حتى يموت.

وقوله (سَوْطَ عَذابٍ) أي : قسط عذاب ، كالعذاب بالسوط الذي يعرف الا أنه أعظم.

وقوله (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) معناه : ان ربك يا محمد لا يفوته شيء من أعمال العباد كما لا يفوت من بالمرصاد ، والمرصاد مفعال من رصده يرصده فهو راصد إذا راعى ما يكون منه ليقابل بما يقتضيه.

فصل : قوله تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) الآيات : ١٥ ـ ٢٥.

قوله (كَلَّا) معناه : ليس الامر على ما ظن هذا الإنسان الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الاخر ، ذكره قتادة.

وقوله (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) أي : جمعا ، يقال : لممت ما على الخوان

__________________

(١). في التبيان : غشمشم.

(٢). سورة الشعراء : ١٤٩.

٣٨٠