المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

من فعل القبيح ، لا يخالفون الله في أمره ، ويمتثلون كل ما يأمرهم به ، وعمومة يقتضي أنهم لا يعصونه في صغير ولا كبير.

وقال الرماني : لا يجوز أن يعصي الملك في صغيرة ولا كبيرة ، لتمسكه بما يدعو اليه العقل دون الطبع ، وكل من يمسك بما يدعوا اليه العقل دون الطبع ، فانه لا يقع منه قبيح ، وقد اختارهم الله على ما في المعلوم منهم.

قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قيل : معناه جاهد الكفار بالقتال والحرب ، والمنافقين بالقول الذي يردع عن القبيح لا بالحرب ، الا أن فيه بذل المجهود ، فلذلك سماه جهادا. وفي قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : جاهد الكفار بالمنافقين ، لأنه عليه‌السلام يجاهد الكفار وفي عسكره جماعة من المنافقين يقاتلون معه.

وقوله تعالى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي : أشدد عليهم.

وقوله (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) قال ابن عباس : كانت امرأة نوح وامرأة لوط منافقين فخانتاهما.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : انه مجنون ، وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه ، وكان ذلك خيانتهما لهما ، وما زنت امرأة نبي قط ، لما في ذلك من التنفير عن الرسول والحاق الوصمة به ، فمن نسب أحدا من زوجات النبي الى الزنا فقد أخطأ خطا عظيما ، وليس ذلك قولا لمحصل.

ثم قال (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما) أي : لم يغن نوح ولوط المرأتين (مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لم ينجياهما من عقاب الله وعذابه (وَقِيلَ) لهما يوم القيامة (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) من الكفار.

قال الفراء : هذا مثل ضربه الله تعالى لعائشة وحفصة وبين أنه لا يغنيهما ولا ينفعهما مكانهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان لم يطيعا الله ورسوله ويمتثلا أمرهما ، كما لم ينفع امرأة نوح وامرأة لوط كونهما تحت نبيين.

٣٤١

وفي ذلك زجر لهما عن المعاصي ، وأمر لهما أن يكونا كآسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران في طاعتهما لله تعالى وامتثال أمره ونهيه.

فصل : قوله (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) الآيتان : ١١ ـ ١٢.

الفائدة في هذه الاية وفي الاية التي قبلها : أن أحدا لا ينفعه الا عمله ، ولا يؤخذ بجرم غيره ، وان كان خصيصا به وملازما له. وبين ان امرأة نوح وامرأة لوط لم ينفعهما قربهما من نبيين واختصاصهما والتصاقهما بهما ، لما كانتا كافرتين عاصيتين ، بل عاقبهما بالنار بكفرهما وسوء أفعالهما. وبين في هذه الاية أن كفر فرعون لم يتعد الى زوجته لما كانت مؤمنة طائعة لله تعالى.

وقوله (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) فاحصان الفرج منعه من دنس المعصية ، يقال : أحصن يحصن احصانا ، ومنه الحصن الحصين ، لأنه بناء منيع. والفرس الحصان الذي يمنع من ركوبه.

وقوله (فَنَفَخْنا فِيهِ) قال قتادة : معناه فنفخنا في جيبها من روحنا.

وقال الفراء كل شق فهو فرج ، فأحصنت فرجها منعت جيب درعها من جبرئيل عليه‌السلام والظاهر أنه أراد الفرج الذي يكنى عنه.

وقوله (فِيهِ) يعني : في الفرج ، فلذلك ذكر في الأنبياء «فيها» لأنه رد الى التي أحصنت فرجها. وقيل : ان جبرئيل نفخ في فرجها ، فخلق الله فيه المسيح.

(وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) يعني : بما تكلم الله به وأوحاه الى أنبيائه.

٣٤٢

سورة الملك

قوله (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ. الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) الآيات : ١ ـ ٥.

معنى قوله (مِنْ فُطُورٍ) أي : من شقوق وصدوع ، يقال : فطره يفطره فطورا فهو فاطر إذا شقه ، ومنه قوله تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (١) أي : يتصدعن.

وقال ابن عباس : هل ترى من وهن. وقال قتادة : من خلل. وقال سفيان : من شقوق.

ثم أكد ذلك بقوله (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي : دفعة ثانية ، لان من نظر في الشيء كرة بعد أخرى بأن له ما لم يكن ثانيا له.

وقوله (خاسِئاً) يعني : ذليلا صاغرا ، في قول ابن عباس. وقال قتادة : معناه كال معيي ، فالحسير الكليل.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الآيات : ١٢ ـ ١٤.

قوله (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) معناه : من خلق الصدور يعلم ما في الصدور. ويجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأشياء ما في الصدور.

وقيل : تقديره ألا يعلم سر العبد من خلقه ، يعني من خلق العبد. ويجوز أن

__________________

(١). سورة مريم : ٩١.

٣٤٣

يكون المراد ألا يعلم خلق (١) من خلق ، وحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه.

ولا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق أفعال القلوب ، لأنه لو أراد ذلك لقال : ألا يعلم ما خلق ، لأنه لا يعبر عما لا يعقل ب (مَنْ).

ولا يدل ذلك على أن الواحد منا لا يخلق أفعاله من حيث أنه لا يعلم الضمائر ، لأنا بينا أن المراد ألا يعلم من خلق الصدور أي خلق الأشياء ، والواحد منا لا يخلق ذلك ، فلا يجب أن يكون عالما بالضمائر.

فصل : قوله (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ. وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) الآيات : ١٧ ـ ١٩.

المعنى : ءأمنتم من في السماء سلطانه ونهيه وأمره ، كما قال (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) (٢) أي : وهو الله في السماوات والأرض معلومة لا يخفى عليه شيء منه.

وقيل : أيضا يجوز أن يكون المراد أأمنتم من في السماء ، يعني : الملك الكائن في السماء أن يخسف بكم الأرض بأمر الله.

فصل : قوله (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الآيات : ٢٢ ـ ٢٦.

يقال : أكب يكب اكبابا فهو مكب فيما لا يتعدى ، قال الأعشى :

مكبا على روقيه يحفر عرقه (٣)

على ظهر عريان الطريقة أهيما (٤)

__________________

(١). في التبيان : سر.

(٢). سورة الانعام : ٣.

(٣). في التبيان : عرقها.

(٤). ديوان الأعشى ص ١٨٨.

٣٤٤

سورة النون

قوله (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) الآيات : ١ ـ ١٨.

اختلفوا في معنى نون في هذا الموضع ، فقال قوم : هو اسم من أسماء السورة ، مثل «حم» و «المص» و «ق» وما أشبه ذلك ، وهو الذي قلنا انه أقوى الأقوال.

وقال ابن عباس في رواية عنه : ان النون الحوت الذي عليه الأرضون. وفي رواية أخرى عنه : ان النون الدواة ، وهو قول الحسن وقتادة.

قوله (لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال الحسن : على دين عظيم وهو الإسلام. وقيل : أدب القرآن. وقال المؤرج : معناه على دين عظيم بلغة قريش. والخلق المرور في الفعل على عادة ، والخلق الكريم الصبر على الحق وسعة القول (١) وتدبير الأمور على مقتضى العقل ، وفي ذلك الرفق والاناة والحلم والمداراة.

قوله (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : بأي فرقكم المفتون بما يجري مجرى الجنون.

والثاني : أن يكون معنى (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) كما يقال : ليس له معقول ، أي : عقل فتقديره ستعلم ويعلمون بمن منكم الجنون. وقيل : معنى الباء «في» فكأنه قال : في أيكم الجنون.

والمفتون المبتلى بتخيل الرأي كالمجنون ، وذلك كما يبتلى بشدة الهوى للمحبوب ، فيقال : فتن فلان بفلانة على هذا المعنى. وقال ابن عباس : بأيكم الجنون.

__________________

(١). في التبيان : البذل.

٣٤٥

والهاء (١) في بصيرة مثل الهاء في علامة للمبالغة.

وقوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه ، فنهاه الله عن ذلك.

والتحريك تغيير الشيء من مكان الى مكان ، أو من جهة الى جهة بفعل الحركة فيه.

والعجلة طلب عمل الشيء قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه ونقيضه الإبطاء والسرعة عمل الشيء في أول وقته الذي هو له (٢) ، وضده الاناة.

وقوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال ابن عباس والضحاك : معناه ان علينا جمعه في صدرك وقراءته عليك حتى يمكنك تلاوته.

فصل : قوله (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ. وَقِيلَ مَنْ راقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) الآيات : ٢٦ ـ ٤٠.

قوله (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال ابن عباس ومجاهد : معناه التفت شدة أمر الاخرة بأمر الدنيا.

وقال الحسن : التفت حال الموت بحال الحياة ، ويقولون : قامت الحرب على ساق عند شدة الامر ، قال الشاعر :

فإذا شمرت لك عن ساقها

فويها ربيع ولا تسأم

وقوله (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) فالتمطي تمدد البدن من الكسل. والذم بكسل التثاقل عن الداعي الى الحق.

وقال مجاهد وقتادة : معنى (يَتَمَطَّى) يتختر. وقيل : نزلت الاية في أبي جهل.

__________________

(١). هنا سقط في النسخ راجع التبيان ١٠ / ٧٦ ـ ١٩٥.

(٢). هنا سقط في النسخ راجع التبيان ١٠ / ٧٦ ـ ١٩٥.

٣٤٦

وقوله (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قال قتادة : هو وعيد على وعيد وقيل : معنى (أَوْلى لَكَ) وليك الشر يا أبا جهل.

وقيل : معناه الذم أولى لك من تركه ، الا أنه حذف وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك.

سورة الإنسان

فصل : قوله (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً. إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) الآيات : ١ ـ ١٠.

قوله (هَلْ أَتى) قال الزجاج : معناه ألم يأت على الإنسان حين من الدهر وقد كان شيئا الا أنه لم يكن مذكورا ، لأنه كان ترابا وطينا.

وقال قوم (هَلْ) يحتمل معناه أمرين :

أحدهما : أن يكون بمعنى قد أتى.

والثاني : أن يكون معناها أتى على الإنسان ، والأغلب عليها الاستفهام.

والإنسان في اللغة حيوان على صورة الانسانية ، وقد تكون الصورة الانسانية ولا انسان ، وقد يكون حيوان ولا انسان ، فإذا حصل المعنيان صح انسان لا محالة.

والحين مدة من الزمان ، وقد يقع على الكثير والقليل ، قال الله تعالى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١) أي : وقت تمسون ووقت تصبحون ، وقال تعالى (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) (٢) يعني : كل ستة أشهر.

__________________

(١). سورة الروم : ١٧.

(٢). سورة ابراهيم : ٢٥.

٣٤٧

وفي الاية دلالة على ان المعدوم لا يسمى شيئا ، وانما سمى زلزلة الساعة شيئا مجازا ، والمعنى انها إذا وجدت كانت شيئا عظيما.

وقوله (أَمْشاجٍ) قال ابن عباس : أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة ، ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته به وهو ممشوج به ومشيج به أي مخلوط به ، قال رؤبة :

يطرحن كل معجل نشاج

لم تكس جلدا في دم أمشاج (١)

وقوله (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) معناه : انا أرشدناه الى سبيل الحق وبيناه له ودللناه عليه.

وقوله (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) قال الفراء : ان شكر وان كفر على الجزاء ، والمعنى اما أن يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحق. واما أن يكفر نعمه ويجحد إحسانه ، فيكون ضالا عن الصواب.

وليس المعنى أنه مخير في ذلك ، وانما خرج ذلك مخرج التهديد ، كما قال تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢) بدلالة قوله (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) وانما المراد البيان عن أنه قادر عليهما ، فأيهما اختار جوزي بحسبه.

وفي الاية دلالة على أنه قد هدى جميع المكلفين ، لأنه قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) عام في جميعهم ، وذلك يبطل قول المجبرة : ان الله لم يهد الكافر بنصب الدلالة له على طريق الحق واجتناب الباطل.

والكأس إناء الشراب إذا كان فيه ، ولا يسمى كأسا إذا لم يكن فيه شراب ، ذكره الزجاج.

وقوله (كانَ مِزاجُها كافُوراً) قيل : ما يشم من ريحها لا من جهة طعمها.

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ٢٧٩.

(٢). سورة الكهف : ٢٩.

٣٤٨

وقوله (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) نصب على البدل من كافورا. ويجوز أن يكون على تقدير ويشربون عينا. ويجوز أن يكون نصبا على الحال من مزاجها قال الفراء : يشربها ويشرب بها (١) سواء في المعنى.

والوفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه ، فالوفاء إمضاء العقد على الامر الذي يدعو اليه العقل ، ومنه قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٢) الصحيحة ، لأنه لا يلزم أحدا أن يفي بعقد فاسد ، وكل عقد صحيح يجب الوفاء به.

القمطرير الشديد في الشر ، وقد اقمطر اليوم ويوم قمطرير وقماطر كأنه قد التف شر بعضه على بعض ، قال الشاعر :

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوما قماطر

وقد روت الخاصة والعامة أن هذه الاية نزلت في علي وفاطمة والحسن وو الحسين عليهم‌السلام فإنهم آثروا المسكين واليتيم والأسير ثلاث ليال.

فصل : قوله (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) الآيات : ١١ ـ ١٩.

الزنجبيل ضرب من القرفة طيب الطعم لحدو (٣) اللسان ويربى بالعسل ، يستدفع به المضار ، وإذا مزج به الشراب فاق في الالذاذ ، والعرب تستطيب الزنجبيل جدا ، قال الشاعر :

كأن القرنفل والزنجبيل

باتا بفيها واريا مشورا (٤)

وقوله (عَيْناً) نصب على أنه بدل من الزنجبيل.

__________________

(١). في التبيان : شربها وشرب منها.

(٢). سورة المائدة : ١.

(٣). في التبيان : يلذع.

(٤). ديوان الأعشى ص ٨٥.

٣٤٩

وقوله (سَلْسَبِيلاً) فهو الشراب السهل اللذيذ. وقيل : سلسبيل معناه منقاد ماؤها حيث شاءوا ، عن قتادة. وقيل : شديد الجرية.

وقوله (مُخَلَّدُونَ) قال قتادة : لا يموتون. وقيل : مستورون بلغة حمير. وقال بعض شعرائهم :

ومخلدات باللجين كأنما

أعجاز هن اقاوز الكثبان (١)

فصل : قوله تعالى (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الآيات : ٢١ ـ ٣١.

السندس الديباج الرقيق الفاخر الحسن وهو فعلل. وقوله (خُضْرٌ) فمن جره جعله صفة لسندس خضر ، ووصف سندس بخضر وهو لفظ جمع ، لان سندسا اسم جنس يقع على الكثير والقليل. ومن رفعه جعله نعتا للثياب ، كأنه قال : ثياب خضر من سندس.

وقوله (إِسْتَبْرَقٌ) من رفعه عطفه على ثياب سندس ، فكأنه قال : عاليهم ثياب سندس وعاليهم إستبرق. ومن جره عطفه على سندس.

والإستبرق الديباج الغليظ الذي له بريق ، فهم يتصرفون في فاخر اللباس ، كما يتصرفون في لذيذ الطعام والشراب.

وقيل : الإستبرق له غلظ الصفاقة لا غلظ السلك ، لا غلظ الديبقي وان كان رقيق السلك.

السجود وضع الجبهة على الأرض على وجه الخضوع ، وأصله الانخفاض كما قال الشاعر :

ترى آلاءكم فيه سجدا للحوافر

والسجود من العبادة التي أكد الله الامر بها ، لما فيها من صلاح العباد.

__________________

(١). مقاييس اللغة ٢ / ٢٠٨.

٣٥٠

قوله (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قال ابن عباس : الأسر الخلق ، وهو من قولهم : أسر هذا الرجل فأحسن أسره ، أي : خلق فأحسن خلقه ، أي : شد بعضه على بعض أحسن الشد.

وقال ابن زيد : الأسر القوة ، وقوله «خد بأسره» أي : بشده قبل أن يحل ، ثم كثر حتى جاء بمعنى خذ جميعه ، قال الأخطل :

من كل مجتلب شديد أسره

سلس القياد تخاله مختالا

وأصل الأسر الشد ، ومنه قتب مأسور ، أي : مشدود ، ومنه الأسير ، لأنهم كانوا يشدونه بالقيد.

وقوله (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) معناه : من شاء اتخذ الى رضا ربه طريقا ، بأن يعمل بطاعته وينتهي عن معصيته ، وذلك يدل على أنه قادر على ذلك قبل أن يفعله ، بخلاف ما يقوله المجبرة.

وقوله (ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : وليس تشاؤون شيئا من العمل بطاعته وبما يرضاه ويوصلكم الى ثوابه الا والله يشاؤه ويريده ، لأنه يريد من عباده أن يطيعوه.

وليس المراد أن يشاء كل ما يشاؤه العبد من المعاصي والمباحات ، لان الحكيم لا يجوز أن يريد القبائح ولا المباحات ، لان ذلك صفة نقص ويتعالى الله عن ذلك ، وقد قال الله تعالى (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (١) والمعصية والكفر من أعظم العسر ، فكيف يكون الله تعالى شائيا (٢) له؟ وهل ذلك الا تناقض ظاهر.

__________________

(١). سورة البقرة : ١٨٥.

(٢). في التبيان : مشيئا.

٣٥١

سورة المرسلات

قوله تعالى (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ. فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ. وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) الآيات : ١ ـ ١٥.

قال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح : المرسلات هاهنا الرياح. وفي رواية اخرى عن ابن مسعود : انها الملائكة. وقال قوم : (الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) الأنبياء جاءت بالمعروف. وقوله (عُرْفاً) أي : متتابعة كعرف الفرس (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) يعني : الرياح الهابة بشدة.

فصل : قوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً) الآيات : ٢٥ ـ ٢٦.

نصب (كِفاتاً) على الحال ، وتقديره : ألم نجعل الأرض لكم ولهم كفاتا ، فالكفات الضمام قد جعل الله الأرض للعباد تكفتهم (أَحْياءً وَأَمْواتاً) أي : تضمهم في الحالين ، كفت الشيء يكفته كفتا وكفاتا ، أي : ضمه. وقيل : كفاتا وعاء هذا كفته أي وعاؤه.

وقال الشعبي ومجاهد : فظهرها للاحياء وبطنها للأموات ، وهو قول قتادة. ونصب أحياء وأمواتا على الحال ، ويجوز على المفعول به.

فصل : قوله تعالى (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) الآيات : ٣٠ ـ ٣٨.

قيل : معناه يتشعب من النار ثلاث شعب : شعبة فوقه ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن شماله ، فتحيط بالكافر.

قوله (لا ظَلِيلٍ) معناه : غير مانع من الأذى يستره عنه.

٣٥٢

وقوله (كَالْقَصْرِ) أي : ذلك الشرر كالقصر أي مثله في عظمه وتخويفه يتطائر على الكافرين من كل جهة ، نعوذ بالله منها. والقصر واحد القصور من البنيان ، في قول ابن عباس ومجاهد.

وقال قتادة والضحاك : والقصر أصول الشجر ، واحدته قصرة مثل جمرة وجمر ، والعرب تشبه الإبل بالقصور. قال الأخطل :

كأنه برج رومي بشيده

لز بجص وآجر وأحجار

والقصر في معنى الجمع الا أنه على طريق الجنس. ثم شبه القصر بالجمال فقال (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) قال الحسن وقتادة : كأنها أنيق سود لما يعتري سوادها من الصفرة.

وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : قلوس السفن. وجمالات جمع جمل ، كرجل ورجالات وبيت وبيوتات.

وقوله (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) اخبار من الله تعالى أن ذلك اليوم لا ينطق الكافر. وقيل : في معناه قولان :

أحدهما : أن ذلك اليوم مواطن ، فموطن لا ينطقون لأنهم يبلسون على هول ما يرونه ، وموطن يطلق فيه عن ألسنتهم فينطقون ، فلذلك حكى عنهم أنهم قالوا (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١)

والثاني : أنهم لا ينطقون بنطق ينتفعون به فكأنهم لم ينطقوا.

وقوله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) يعني يفصل بين الخلائق بالحكم لكل أحد بماله وعليه ، والفصل قطع علق الأمور بتوفية الحقوق ، وهذا الفصل الذي هو فصل القضاء يكون ذلك في الاخرة على ظاهر الامر وباطنه. وأما في الدنيا فهو على ظاهر الامر ، لان الحاكم لا يعرف البواطن.

__________________

(١). سورة غافر : ١١.

٣٥٣

فصل : قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ. وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الآيات : ٤١ ـ ٤٣.

فواكه وهي جمع فاكهة ، وهي ثمار الأشجار التي من شأنها أن تؤكل ، وقد يكون من الثمر ما ليس كذلك ، كثمر المر فانه ليس من الفاكهة.

ثم قال تعالى لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) صورته صورة الامر والمراد به الاباحة. وقال قوم : هو أمر على الحقيقة ، لان الله تعالى مريد منهم الاكل والشرب في الجنة ، وأنهم إذا عملوا ذلك زاد في سرورهم ، فلا تكون ارادته لذلك عبثا.

والهنيء هو الذي لا أذى فيه فيما بعد.

وقيل : الهنيء النفع الخالص من شائب الأذى ، والشهوة يعني في القلب إذا صادف المشتهي كان لذة ، وضده النفار إذا صادفه كان ألما.

سورة النبأ

قوله تعالى (عَمَّ يَتَساءَلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً) الآيات : ١ ـ ١٦.

معنى (كَلَّا) زجر وردع ، كأنه قال : ارتدعوا وانزجروا وليس الامر كما ظننتم. وقال قوم : معناه حقا ستعلمون عاقبة أمركم.

قوله (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي : أشكالا كل واحد بشكل (١) الاخر.

وقيل : معناه ذكرا وأنثى حتى يصح منكم التناسل.

__________________

(١). في التبيان : يشاكل.

٣٥٤

وقوله (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) قيل : معنى (سُباتاً) أي : نعاسا في أوله تطلب النفس الراحة به.

وقيل : معناه جعلنا نومكم راحة. وقيل : معناه جعلنا نومكم طويلا ممتدا تعظم به راحة أبدانكم ، ومنه سبت من الدهر ، أي : مدة طويلة ، والسبات قطع العمل للراحة.

وقوله (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي : متصرفا للعيش ، والعيش الانتعاش الذي تبقى معه الحياة على حال الصحة. والنهار اتساع الضياء في الآفاق ، وأصله من أنهر الدم إذا وسع مجراه ، ومنه النهر وهو المجرى الواسع من مجاري الماء ، والانتهار الاتساع في الاغلاظ.

وقوله (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يعني : سبع سماوات وانما جعلها سبع سماوات لما في ذلك من الاعتبار للملائكة ، ولما في تصور الطبقات من عظم القدرة وهول تلك الأمور.

وقوله (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) يعني : الشمس جعلها الله سراجا للعالم. الوهاج الوقاد وهو المشتعل بالنور.

وقوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني الرياح كأنها تعصر السحاب. وقيل : هي السحاب تتحلب بالمطر ، في قول الربيع.

وقوله (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي : بساتين ملتفة بالشجر يخرجها الله تعالى لعباده بالمطر.

والالفاف الاختلاط المتداخلة يدور بعضها على بعض واحدها لف ، والمعاني الملتفة المتداخلة باستتار بعضها ببعض حتى لا تبين الا في خفي. وقيل : واحده لف ولفيف.

فصل : قوله تعالى (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ

٣٥٥

أَفْواجاً. وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً. إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) الآيات : ١٧ ـ ٢٩.

الغساق صديد أهل النار ، في قول ابراهيم وقتادة وعكرمة وعطية. وقال أبو عبيدة : الغساق ماء وهو من الغسل أي سيال. وقال غيره : هو البارد. وقيل : المنتن.

والميقات منتهى المقدار المضروب لوقت حدوث أمر من الأمور ، وهو مأخوذ من الوقت ، كما أن الميعاد من الوعد.

وقوله تعالى (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) فالنفخ إخراج ريح الجوف من الفم ، ومنه نفخ الزق. والنفخ في البوق. والصور قرن ينفخ فيه. وقال الحسن : هو جمع صورة.

وقوله (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي : ماكثين فيها أزمانا كثيرة. وواحد الاحقاب حقب. وانما قال (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) مع أنهم مخلدون مؤبدون لامرين :

أحدهما : أحقابا لا انقضاء لها الا أنه حذف للعلم بحال أهل النار من الكفار بإجماع الامة عليه. وقال ابن عباس : الحقب ثمانون سنة. وقال الحسن : سبعون سنة.

وقوله (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) قال أبو عبيدة : البرد هاهنا النوم ، قال الكندي

فيصدني عنها وعن قبلتها البرد

أي : النوم ، فكأنهم لا ينامون من شدة ما هم فيه من العذاب.

وقال الحسن : الجنة والنار مخلوقتان في الأيام الستة الاول ، وهي الجنة التي سكنها آدم وهي الجنة التي يسكنها المتقون في الاخرة ، ثم يفنيها الله لهلاك الخلائق ، ثم يعيدها فلا يفنيها أبدا.

وقال قوم : هما مخلوقتان ولا يفنيهما الله. وقال آخرون : هما غير مخلوقتين ،

٣٥٦

والجنة التي كان فيها آدم جنة أخرى ليست جنة الخلد.

وقوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) معناه : وأحصينا كل شيء أحصيناه في كتاب ، فلما حذف حرف الجر نصبه. وقيل : انما نصبه لان في «أحصيناه» معنى كتبناه فكأنه قال : كتبناه كتابا.

والوجه في احصاء الأشياء في الكتاب ما فيه من الاعتبار للملائكة بموافقة ما يحدث لما يقوم به الإثبات ، مع أن تصور ذلك يقتضي الاستكثار من الخير والاجتهاد فيه ، كما يقتضي إذا قيل للإنسان ما تعمله فانه يكتب لك وعليك.

فصل : قوله تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً. حَدائِقَ وَأَعْناباً. وَكَواعِبَ أَتْراباً. وَكَأْساً دِهاقاً. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآيات : ٣١ ـ ٤٠.

الاتراب جمع ترب ، وهي اللذة التي تنشأ (١) على سن الصبي الذي يلعب بالتراب فكأنه قيل : هم على سن واحدة. قال قتادة : أترابا يعني في سن واحدة.

وقوله (وَكَأْساً دِهاقاً) الدهاق مليء بشدة الضغط ، والدهق شدة الضغط في الكأس ملي مترعة.

وقوله (عَطاءً حِساباً) أي : بحساب العمل كل انسان على قدر عمله ، معناه : عطاء كافيا من قولهم «أعطاني ما أحسبني» أي : ما كفاني ، وحسبك أي : اكتف ، وحسبي الله أي : كفاني الله.

(وَقالَ صَواباً) فالصواب موافقة الغرض الحكمي ، كأنه أصابه ذلك الغرض الذي تدعو اليه الحكمة ، ونقيضه الخطأ وهو مخالفة الغرض الحكمي.

(وَيَقُولُ الْكافِرُ) في ذلك اليوم (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي : يتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد ولا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم ، لأنه ليس معه شيء يرجوه

__________________

(١). في التبيان : وهي التي تنشأ مع لدتها.

٣٥٧

من الثواب.

وقيل : ان الله يحشر البهائم وينتصف للجماء من القرناء ، فإذا أنصف بينهما جعلهما ترابا ، فيتمنى الكافر عند ذلك ليت كان مثل ذلك ترابا.

سورة النازعات

قوله تعالى (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) الآيات : ١ ـ ٢٤.

معنى النازعات الملائكة تنزع الأرواح من الأبدان ، فالنازعات الجاذبات الشيء من أعماق ما هو فيه. وقال الحسن وقتادة : هي النجوم أي تنزع من أفق السماء الى أفق آخر.

(النَّاشِطاتِ نَشْطاً) قيل : هي الخارجات من بلد الى بلد بعيد الاقطار ، ينشاط (١) كما ينشط الوحش بالخروج من بلد الى بلد. وقال ابن عباس : هي الملائكة أي تنشط بأمر الله الى حيث كان.

وقال مجاهد : السابحات الملائكة ، لأنها تسبح في نزولها من الله تعالى ، كما يقال : الفرس يسبح في جريه إذا أسرع.

وقوله (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) قال ابن عباس والسدي : الحافرة الحياة الثانية. وقيل : الحافرة الأرض المحفورة ، أي ونرد في قبورنا بعد موتنا أحياءا ، قال الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من جهل وطيش

والحافرة الكائنة على حفر أول الكرة ، يقال : رجع في حافرته إذا رجع

__________________

(١). في التبيان : ينشط.

٣٥٨

من حيث جاء ، وذلك كرجوع القهقري ، فردوا في الحافرة ، أي : ردوا كما كانوا أول مرة ، ويقال : رجع فلان على حافرته ، أي : من حيث جاء. وقولهم النقد عند الحافرة ، معناه إذا قال : بعتك رجعت عليه بالثمن. وقال قوم : معناه النقد عند حافر الدابة.

وقوله (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ) فالنكال عقاب ينكل به عن الاقدام على سببه بشدته نكل به تنكيلا إذا شوه به في عقابه بما يكون زاجرا لغيره عن مثل جزائه أشد الزجر الذي يزعج النفس.

فصل : قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى. أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها) الآيات : ٢٦ ـ ٣٠.

قوله (وَأَخْرَجَ ضُحاها) قال مجاهد والضحاك : أخرج نورها.

وقوله تعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) قال مجاهد والسدي : معناه دجاها مع ذلك ، كما قال (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) (١) أي : مع ذلك. ومعنى (دَحاها) بسطها دحى يدحو دحوا ، قال أوس بن حجر :

ينفي الحصى عن حديد الأرض مبترك

كأنه فاحص أو لاعب داح (٢)

فصل : قوله تعالى (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى. يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى. فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) الآيات : ٣٤ ـ ٣٩.

المنذر النبي عليه‌السلام قال الله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٣) قال قوم

__________________

(١). سورة القلم : ١٣.

(٢). ديوان أوس ص ١٦.

(٣). سورة الرعد : ١٣.

٣٥٩

المنذر النبي عليه‌السلام والهادي علي عليه‌السلام. والطامة هي النفخة الثانية.

سورة عبس

قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) الآيات : ١ ـ ١٠.

يقول الله تعالى : انه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) معناه قبض وجهه وأعرض. والعبوس تقبض الوجه عن تكره.

وقوله (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) معناه : عبس لان جاءه الأعمى. وقال ابن خالويه : تقديره إذ جاءه الأعمى ، والأعمى المراد به عبد الله بن أم مكتوم ، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد.

واختلفوا في من وصفه الله تعالى بذلك ، فقال كثير من المفسرين وأهل الحشو : ان المراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالوا : وذاك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مع جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم قد خلا بهم ، فأقبل ابن أم مكتوم ليسلم فأعرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند كراهية أن تكره القوم إقباله عليه ، فعاتبه الله على ذلك.

وقيل : ان أم مكتوم كان مسلما ، وانما كان يخاطب النبي وهو لا يعلم أن رسول الله مشغول بكلام قوم ، فيقول : يا رسول الله ويكرر به.

وهذا فاسد ، لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أجل الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب من وصفه بأنه على خلق عظيم (١) ، وأنه لو كان فظا غليظا القلب لامضوا من حوله ، وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (٢) ومن عرف النبي عليه‌السلام

__________________

(١). في سورة القلم : ٤.

(٢). سورة الانعام : ٥٢.

٣٦٠