المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقال الزهري : لو لا الهدنة لم يرد الى المشركين صدقا كما كان يفعل قبل (١) نسخ رد المهور على الازواج من المشركين.

ثم قال تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) معاشر المؤمنين (أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) يعني : المهاجرات ، لأنهن بالإسلام قد بن من أزواجهن (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يعني : مهورهن التي يستحل به فروجهن.

وقوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فالكوافر جمع كافرة ، والعصمة سبب تمنع من المكروه ، وجمعه عصم. وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز العقد على الكافرة ، سواء كانت ذمية أو حربية أو عابدة وثن وعلى كل حال ، لأنه عام جميع ذلك ، وليس لاحد أن يخص الاية بعابدة الوثن لنزولها بسببهم ، لان المعتبر بعموم اللفظ لا بالسبب.

وقوله تعالى (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) يعني : إذا صارت المرأة المسلمة الى دار الحرب ، فسألوهم أن يردوا عليكم مهرهن ، كما سألوكم مهر نسائهم إذا هاجرن إليكم.

والمفسرون على أن حكم هذه الاية منسوخ ، وعندنا أن الاية غير منسوخة وفيها دلالة على المنع من تزوج المسلم اليهودية والنصرانية ، لأنهما كافرتان ، والاية على عمومها في المنع من التمسك بعصم الكوافر ، ولا نخصها الا بدليل.

فصل : قوله (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) الآيات : ١١ ـ ١٣.

ووجه بيعة النساء مع أنهن ليس من أهل النصرة بالمحاربة هو أخذ العهد عليهن بما يصلح شأنهن في الدين للأنفس والازواج ، وكان ذلك في صدر الإسلام

__________________

(١). في التبيان : يفعل قبل وقيل.

٣٢١

لئلا ينفتق بهن فتق لما صيغ من الأحكام ، فبايعهن النبي عليه‌السلام حسما لذلك. وقيل انه كان يبايعهن من وراء الثوب.

وروي أنه استدعى ماء فوضع يده فيه ، ثم أمر النساء أن يضعن أيديهن فيه فكان ذلك جاريا مجرى المصافحة بأخذ العهد (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) من الأصنام والأوثان ، (وَلا يَسْرِقْنَ) لا من أزواجهن ولا من غيرهم (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) يعني : بكذب (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ).

وقال ابن عباس : لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم.

وقال الفراء : كانت المرأة تلتقط فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى.

قوله (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال الحسن : الذين يئسوا من الاخرة اليهود ، أي : مع الاقامة على ما يغضب الله ، كما يئس كفار العرب أن يحيى (١) أهل القبور أبدا.

وقيل : هم أعداء المؤمنين من قريش قد يئسوا من خير الاخرة ، كما يئس سائر الكفار من العرب من النشأة الثانية.

سورة الصف

فصل : قوله (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) الآيات : ١ ـ ٥.

قيل : في معنى (مَرْصُوصٌ) قولان :

أحدهما كأنه بني بالرصاص لتلاؤمه وشدة اتصاله.

__________________

(١). في التبيان : يرجع.

٣٢٢

والثاني : كأنه حائط ممدود على رص البناء ، أي : أحكامه واتصاله واستقامته ، والمرصوص المتلائم الذي لا خلل فيه.

وقوله (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) فالزيغ الذهاب عن الشيء باسراع فيه ، والا ظهر فيه الذهاب عن الحق. والمعنى : انهم لما ذهبوا عن طريق الحق ومالوا الى طريق الباطل أزاغ الله قلوبهم ، بمعنى أنه حكم عليهم بالزيغ والميل عن الحق ولذلك قال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ومعناه : لا يحكم لهم بالهداية. وقيل : معناه فلما زاغوا عن الايمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب. ولا يجوز أن يكون المراد أزاغ الله قلوبهم عن الايمان ، لان الايمان لا يزيغ أحدا ولا يضله عن الايمان.

وأيضا فانه لا فائدة في الكلام على ما قالوه ، لأنهم إذا زاغوا عن الايمان فقد حصلوا كفارا ، فلا معنى لقوله (أَزاغَ اللهُ).

فصل : قوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الآيات : ٧ ـ ٩.

معناه : لا يحكم بهداية القوم الظالمين الذين هم الكفار.

وقيل : معناه لا يهدي الكفار الى الثواب ، لأنهم كفار ظالمون لنفوسهم (١) بفعل الكفر والمعاصي التي يستحق بها العقاب ، فكل كافر ظالم لأنه أضر بنفسه بفعل معصية استحق بها العقاب من الله تعالى ، وكفره ضرر قبيح.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الآيات : ١٠ ـ ١١.

انما قال (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) مع أن تركه قبيح ومعصية لله ، لان المعنى ذلكم خير لكم من رفعه عنكم ، لان ما أدى الى الثواب خير من رفعه الى نعيم ليس بثواب

__________________

(١). في التبيان : لأنفسهم

٣٢٣

من الله تعالى ، والتكليف خير من رفعه الى الابتداء بالنعيم لكل من عمل بموجبه (١).

سورة الجمعة

فصل : قوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) الآيات : ١ ـ ٥.

القدوس المستحق للتعظيم بتطهير صفاته عن كل صفة نقص.

قال قتادة ومجاهد : الأميون العرب. وقال قوم : هم أهل مكة لأنها تسمى أم القرى. والامي منسوب الى أنه ولد في أمة لا يحسنون (٢) الكتابة ، ووجه النعمة في جعل النبوة في أمي قوله لما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة ، ولما فيه من أنه أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة.

(رَسُولاً) مفعول أرسله (مِنْهُمْ) يعني من نسب الأميين ومن جملتهم.

قوله (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) قال ابن عباس : الاسفار الكتب واحدها سفر ، لأنها تكشف عن المعنى بإظهاره له ، يقال : سفر الرجل عن عمامته إذا كشف ، لان الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يدري ما فيها ولا يحس بها ، كمثل من يحفظ الكتاب ولم يعمل به ، مثل من لا يعلم ما فيما يحمله.

وعلى هذا من تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عن ذلك اعراض من لا يحتاج اليه كان هذا المثل لاحقا به ، وان حفظ وهو طالب لمعناه وقد قدم حفظه فليس من أهل هذا المثل.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا

__________________

(١). الى هنا تم المقابلة مع المجلد التاسع من كتاب التبيان.

(٢). في التبيان : لا يحسن.

٣٢٤

إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) الآيات : ٩ ـ ١١.

معناه : إذا سمعتم أذان يوم الجمعة فامضوا الى الصلاة.

قال قتادة : امضوا الى الصلاة مسرعين غير متثاقلين ، وبه قال ابن زيد والضحاك وقال الزجاج : فامضوا الى السعي الذي هو الاسراع ، قال : وقرأ ابن مسعود فامضوا الى ذكر الله. ثم قال : لو علمت الاسراع لأسرعت حتى يقع ردائي من كتفي.

وفرض الجمعة لازم جميع المكلفين ، الا صاحب العذر من سفر أو مرض أو عمى أو عرج أو آفة وغير ذلك. وعند اجتماع شروطه بكون سلطان عادل أو من نصبه السلطان للصلاة ، وبتكامل العدد عندنا سبعة ، وعند قوم أربعين وعند آخرين أربعة وثلاثة ، وقد بينا الخلاف في ذلك في اختلاف الفقهاء.

وظاهر الاية متوجه الى المؤمنين ، وانما يدخل فيه الفاسق على التغليب ، كما يغلب المذكر على المؤنث ، هذا على قول من يقول : ان الفاسق ليس بمؤمن ، فأما من قال : انه مؤمن مع كونه فاسقا ، فالآية متوجهة اليهم كلهم.

وقال مجاهد وسعيد بن المسيب المراد بالذكر موعظة الامام في خطبه.

وقال غيرهما : يعني الصلاة التي فيها ذكر الله.

وقوله (وَذَرُوا الْبَيْعَ) معناه : إذا دخل وقت الصلاة اتركوا البيع والشراء.

قال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء.

وقال الحسن : كل بيع يفوت فيه الصلاة يوم الجمعة ، فانه بيع حرام لا يجوز ، وهو الذي يقتضيه ظاهر مذهبنا ، لان النهي يدل على فساد المنهي عنه.

قوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) قال جابر بن عبد الله والحسن : قدم عير لدحية الكلبي فيها طعام المدينة بعد ما أصابتهم مجاعة ، فاستقبلوه باللهو والمزامير والطبول ، في قول جابر بن عبد الله ومجاهد ، فكانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في

٣٢٥

الصلاة ، فلما سمعوا صوت الطبول والمزامير.

(انْفَضُّوا) أي : تفرقوا الى العير يبصرونه ، وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائما وحده.

فقال الله لنبيه (قُلْ) يا محمد (ما عِنْدَ اللهِ) من الثواب على سماع الخطبة وحضور الموعظة (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) وأنفع وأحمد عافية (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي : ليس يفوتهم بترك البيع شيء من رزق الله.

والتقدير : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا اليها ، أي : اليه ، وانما قال «اليها» لأنها كانت أهم اليهم ، ذكره الفراء.

وقيل : تقديره وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفضوا اليها ، فرد الضمير الى أقرب المذكورين ، لأنه كان أهم اليهم ، وكذلك قرأ ابن مسعود في مصحفه.

سورة المنافقين

قوله (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) الآيات : ١ ـ ٤.

قال زيد بن أرقم : نزلت الاية في عبد الله بن أبي [بن] (١) سلول ، لما قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وقال (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) فلما وقف على ذلك جحده أنه ما قاله حتى نزلت السورة.

وقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا) بألسنتهم عند الإقرار ب «لا اله الا الله محمد رسول الله» (ثُمَّ كَفَرُوا) بقلوبهم لما كذبوا بهذا ، وهو قول قتادة (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : ختم عليها بسمة تميز الملائكة بينهم وبين المؤمنين على الحقيقة (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ذلك بجحدهم توحيد الله.

قوله (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) فشبههم الله بالخشبة المسندة ، قيل : انهم شبهوا

__________________

(١). الزيادة من التبيان.

٣٢٦

بخشب نخرة متأكلة لا خير فيها الا أنها مسندة بخشب من رآها أنها صحيحة سليمة.

فصل : قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) الآيات : ٦ ـ ٧.

بين أنه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين الى طريق الجنة ، فلهذا يجب أن يئسوا من العفو بالاستغفار.

وقال الحسن : أخبر الله تعالى أنهم يموتون على النفاق فلم يستغفر لهم بعد.

وقيل : المعنى لا يحكم الله بهدايتهم ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يستغفر لهم على ظاهر الحال بشرط حصول التوبة ، وأن يكون باطنهم مثل ظاهرهم ، فبين بها أن ذلك لا ينفع مع ابطانهم الكفر والنفاق.

ومعنى (يَنْفَضُّوا) حتى يتفرقوا عنه لفقرهم وحاجتهم ، فالانفضاض التفرق وفض الكتاب إذا فرقه ونشره ، وسميت الفضة لتفرقها في أثمان الأشياء المشتراة.

سورة التغابن

قوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) الآيات : ١ ـ ٥.

قد فسرنا معنى قوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وأن المراد بها ما في خلق السماوات والأرض وما فيهما من الادلة الدالة على توحيده وصفاته التي باين بها خلقه ، وأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وأنه منزه عن القبائح وصفات النقص ، فعبر عن ذلك بالتسبيح من حيث كان معنى التسبيح التنزيه لله عما لا يليق به.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعني : مما يصح أن يكون مقدورا له ، فلا يدخل في ذلك مقدورات العباد ، لأنه يستحيل أن يكون مقدورا لله.

٣٢٧

فصل : قوله (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) الآيات : ٧ ـ ٩.

قال المؤرج : (زَعَمَ) معناه كذب (الَّذِينَ) جحدوا لغة حمير. وقال شريح : زعم كنية الكذب ، والحدة كنية الجهل (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي : لا يحشرهم الله في المستقبل للحساب.

والتغابن هو التفاوت في أخذ الشيء بدون القيمة ، فالذين اشتروا الدنيا بالاخرة بهذه الصفة في أنهم أخذوا الشيء بدون القيمة فقد غبنوا أنفسهم.

فصل : قوله (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآيات : ١١ ـ ١٥.

يقول الله تعالى مخاطبا لخلقه : انه ليس يصيبكم مصيبة الا بإذن الله. والمصيبة المضرة التي تلحق صاحبها ، كالرمية التي تصيبه.

قوله (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ففي المصائب ما هو ظلم والله لا يأذن في الظلم ، لأنه لا يحسن في الحكمة. ألا ترى أنه ليس منها الا ما أذن الله في وقوعه أو التمكين منه ، وذلك اذن للملك الموكل به ، كأنه قيل له : لا تمنع من وقوع هذه المصيبة ، وقد يكون ذلك بفعل التمكين من الله ، كأنه يأذن له أن يكون.

وقال البلخي : معناه الا بتخلية الله بينكم وبين من يريد فعلها.

وقال قوم : هو خاص فيما يفعله الله أو يأمر به. ويجوز أن يكون المراد بالاذن هاهنا العلم ، وكأنه قال : لا يصيبكم مصيبة الا والله تعالى عالم بها.

وقوله (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال ابن عباس نزلت الاية في قوم أسلموا بمكة وأرادوا الهجرة فمنعوهم من ذلك.

وقال عطاء بن يسار : نزلت الاية في قوم أرادوا الغزو فمنعهم هؤلاء.

وقال مجاهد : هي في قوم إذا أرادوا طاعة الله منعهم أزواجهم وأولادهم ،

٣٢٨

فبين الله تعالى أن في هذا (١) من هو عدو لكم في الدين فاحذروهم فيه.

فصل : قوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الآيات : ١٦ ـ ١٧.

كل ما يأمر الله به فلا بد أن يكون مشروطا بالاستطاعة ، فان كانت الاستطاعة غير باقية على مذهب من يقول بذلك ، فالأمر بما يفعل في الثالث وما بعده مشروط بأن يفعل له استطاعة قبل الفعل بوقت ، والا لا يكون مأمورا بالفعل.

وان كانت باقية ، فالأمر على صفة الاستطاعة ، لأنه لا يصح الشرط بالموجود لان الشرط يحدث ، فليس يخلو من أن يكون على شريطة وقوع القدرة ، أو على صفة وجود القدرة.

وقال قتادة : قوله (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ناسخ لقوله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٢) كأنه يذهب الى أن فيه رخصة كحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة وان كانت معه القدرة على الحقيقة.

وقال غيره : ليس بناسخ وانما هو مبين لا مكان العمل بها ، وهو الصحيح لان تقديره : اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم.

قوله (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) فالقرض أخذ قطعة من المال بتمليك الأخذ له على رد مثله ، وأصله القطع من قرض الشيء يقرضه قرضا إذا قطع منه قطعة وذكر القرض في صفة الله تلطفا في الاستدعاء الى الإنفاق في سبيل ، فهو كالقرض في مثله مع أضعافه.

سورة الطلاق

فصل : قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ

__________________

(١). في التبيان : هؤلاء.

(٢). سورة آل عمران : ١٠٢.

٣٢٩

وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) الآيات : ١ ـ ٥.

يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه والمراد به أمته : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ومعناه : إذا أردتم طلاق النساء كما قال (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١) وروي عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جاره. فيكون الخطاب للنبي والمراد به الامة من ذلك.

وقال قوم : تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء ، فعلى قول هذا القول النبي يكون خارجا من الحكم.

وقال آخرون : هو على خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الاتباع ، فعلى هذا حكم النبي حكم أمته في هذا الحكم. وأجمعت الامة على أن حكم النبي عليه‌السلام حكم أمته في الطلاق.

والطلاق في الشرع عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح ، بأن يقول : أنت طالق يخاطبها ، أو يقول : هذه طالق ويشير اليها ، أو فلانة طالق بنت فلان.

وعندنا لا يقع الطلاق الا بهذا اللفظ المخصوص ، ولا يقع بشيء من الكنايات طلاق ، أراد به الطلاق أو لم يرد ، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.

وأما الفراق ، فقد يحصل بغير طلاق ، كالارتداد واللعان والخلع عند كثير من أصحابنا ، وان لم يسم ذلك طلاقا. وأما فسخ النكاح والرد بالعيب فقد يحصل بأشياء لا يسمى طلاقا.

ومن شرط وقوع الطلاق عندنا أن تكون المرأة طاهرا طهرا لم يقربها فيه

__________________

(١). سورة المائدة : ٧.

٣٣٠

بجماع بمحضر من شاهدين ، ويقصد به إيقاع الطلاق ويتلفظ بما قدمناه ، فحينئذ يقع تطليقة واحدة ، وهو أملك برجعتها ما لم تخرج من العدة ، فان خرجت قبل أن يراجعها كان كواحد من الخطاب.

ومتى تلفظ بثلاث تطليقات ، فان كانت المرأة طاهرا مع باقي الشروط وقعت واحدة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : يقع الثلاث.

ثم اختلفوا فقال الشافعي ومن وافقه : يكون ذلك مسنونا.

وقال أهل العراق : المسنون أن يطلقها واحدة بلفظ واحد ، ومتى أوقع ثنتين أو ثلاثا وقع. وأما غير المدخول بها ، فعند جميعهم يقع الثلاث ولا عدة عليها. وعندنا لا يقع الا واحدة ، وفي أصحابنا من يقول : متى تلفظ بالثلاث لا يقع شيء والاعتماد على ما قلناه أولا.

ومتى طلقها ثلاثا أو واحدة وهي حائض وكان دخل بها ولا يكون غائبا عنها شهرا فصاعدا لا يقع عندنا شيء أصلا. وقال جميع الفقهاء : هو بدعة وتبين المرأة بذلك.

وقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) معناه : أن يطلقها وهي طاهر من غير جماع ، ويستوفي باقي الشروط.

وقال ابن عباس : هو أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، وبه قال مجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي ، فعلى هذا متى طلقها في الحيض فلا يقع طلاقها ، لأنه خلاف المأمور به ، وهو منهي عنه والنهي يدل على فساد المنهي عنه وعند الفقهاء أنه يقع الطلاق وان كان بدعة.

ثم قال (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) فالعدة قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة. وعدة المرأة على ضروب :

أحدها : عدة التي لم تبلغ المحيض ، ومثلها لا تحيض وهي التي لم تبلغ تسع

٣٣١

سنين ، فهذه لا عدة عليها عند أكثر أصحابنا ، وفيهم من قال : عدتها بالشهور ، وبه قال باقي الفقهاء.

وعدة التي تحيض مثلها ثلاثة أشهر بلا خلاف. وعدة التي تحيض ثلاثة أقراء ، وهي الاطهار عندنا وعند كثير من الفقهاء ، وعند قوم أنها الحيض.

وعدة التي ارتفع حيضها ومثلها تحيض ثلاثة أشهر بلا خلاف ، وقد حد ذلك أصحابنا بأن يكون سنها أقل من خمسين سنة.

وعدة الآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض فلا عدة عليها عند أكثر أصحابنا وقال بعضهم : عدتها بالأشهر ، وهو مذهب جميع الفقهاء ، وحد ذلك أصحابنا بأن يزيد سنها على خمسين سنة. والقرشية حدوها بستين سنة فصاعدا.

وعدة الحامل وضع ما في بطنها إذا كانت عدة الطلاق ، فان كانت عدة الوفاة فأبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة أشهر وعشرة أيام ، وهو مذهب علي عليه‌السلام وابن عباس. وقال الفقهاء : عدة المتوفى وضع ما في بطنها.

وقوله تعالى (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) يعني : مدة زمان العدة.

ثم قال (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) بارتكاب (١) المعاصي (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) هن يعني زمان العدة ، لأنه لا يجوز إخراجها من بيتها ، وعندنا وعند جميع الفقهاء يجب عليه السكنى والنفقة والكسوة إذا كانت تطليقة رجعية فان كانت بائنة فلا نفقة لها ولا سكنى. وقال الشافعي : لا نفقة لها ولا السكنى إذا كانت بائنا. وقال أهل العراق : لها السكنى والنفقة.

وقوله (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) من فتح الياء أراد فاحشة أظهرت ، ومن خفض الياء أراد بفاحشة ظاهرة. وقال عطاء والضحاك وقتادة : لا يجوز أن يخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها الا عند الفاحشة.

__________________

(١). في التبيان : بأن لا ترتكبوا.

٣٣٢

وقال الحسن وعامر الشعبي ومجاهد وابن زيد : الفاحشة هاهنا الزنا تخرج لاقامة الحد.

وقال ابن عباس : الفاحشة النداء على أهلها ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقال قتادة : الفاحشة هو النشوز.

وقوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني : ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق والعدة وترك إخراجها عن بيتها الا عند الفاحشة حدود الله ، فالحدود نهايات تمنع أن يدخل في الشيء ما ليس منه ، أو يخرج عنه ما هو منه ، فقد بين الله بالأمر والنهي الحدود في الطاعة والمعصية بما ليس لاحد أن يدخل في شيء من ذلك ما ليس منه ، أو يخرج عنه ما هو منه.

وقوله (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) قال قوم : معناه لا تدري لعل الله يغير رأي الزوج في محبة الطلاق ، فيكون بتطليقه على ما أمر الله به ، ويملك الرجعة فيما بين الواحدة والثانية ، وما بين الثانية والثالثة.

وقال الضحاك والسدي وابن زيد : لعل الله يحدث بعد ذلك أمر الرجعة في العدة. وقيل : معناه لعل الله يحدث بعد ذلك شهوة المراجعة.

وقوله (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) معناه : إذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج من عدتهن ، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن ، لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها وقد ملكت نفسها وبانت منه بواحدة ، ثم يتزوج من شاءت هو أو غيره.

وانما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن فأمسكوهن أن يراجعهن (١) بمعروف بما يجب لها من النفقة والكسوة والسكنى وحسن الصحبة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة.

__________________

(١). في التبيان : تراجعوهن.

٣٣٣

وقوله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فعند أصحابنا أن الاشهاد شرط في وقوع الطلاق ، لان ظاهر الامر بذلك يقتضيه ، والامر عندنا على الوجوب. وقال قوم : ان ذلك راجع الى الرجعة ، وتقديره : واشهد على الإمساك ان أمسكتم ذوي عدل منكم وهي الرجعة في قول ابن عباس.

وقال الشافعي : الاشهاد على الرجعة أولى ، ويجوز عند أكثرهم بغير إشهاد ، وانما ذكر الله الاشهاد كما ذكر في قوله (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (١) وهو على الندب وهذا (٢) ترك الظاهر. ومتى حملنا الاشهاد على الفراق وهو الطلاق حملناه على ظاهره من الوجوب ، وجعلناه شرطا في وقوع الطلاق.

ثم قال (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) إذا طولبتم بإقامتها «ذلكم» معاشر المكلفين (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) والوعظ معنى يدعو الى الحق بالترغيب والترهيب.

ثم بين كيفية العدد باختلاف أحوال النساء ، فقال (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) يعني : ان الآيسة من المحيض إذا كانت ترتاب بنفسها ولا تدري أرتفع حيضها لكبر أو لعارض (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وهي التي قلنا ان مثلها تحيض ، لأنها لو كانت في سن من لا تحيض لم يكن لريبتها معنى.

وقال الزهري وعكرمة وقتادة : ان ارتبتم فلم تدروا للكبر أم لدم الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.

وقال قوم : ان ارتبتم فلم تدروا الحكم في ذلك فعدتهن ثلاثة أشهر.

وقوله (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) تقديره : واللائي لم يحضن ان ارتبتم فعدتهن

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٨٢.

(٢). في «ن» : وهو.

٣٣٤

ثلاثة أشهر ، فحذف لدلالة الكلام الاول عليه ، والكلام فيه كالكلام في الآئسة. وقال قتادة : اللائي يئسن الكبار واللائي لم يحضن الصغار.

ثم قال (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) بين أن عدة الحامل من الطلاق وضع الحمل التي (١) معها ، فان وضعت عقيب الطلاق فقد ملكت نفسها.

ويجوز لها أن تعقد لغيره على نفسها ، غير أنه لا يجوز له وطؤها ، لان نفاسها كالحيض سواء ، فإذا طهرت من نفاسها حل له ذلك.

فان كانت حاملا باثنين ووضعت واحدا ، لم تحل للأزواج حتى تضع جميع الحمل ، لقوله (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فأما انقطاع الرجعة ، فقد روى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الاول ، ولا يجوز لها العقد لغيره حتى تضع الاخر.

فأما إذا توفى عنها زوجها ، فعدتها عندنا أبعد الأجلين ، ان وضعت قبل الاربعة الأشهر استوفت أربعة أشهر وعشرة أيام ، وان مضت منها أربعة أشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل.

وقال ابن عباس : الاية في المطلقة خاصة كما قلناه. وقال ابن مسعود وأبي ابن كعب وقتادة والسدي وأكثر الفقهاء : ان حكم المطلقة والمتوفى عنها زوجها واحد في أنها متى وضعت حلت للأزواج والذي اخترناه هو مذهب علي عليه‌السلام. وقد بينا أن السكنى والنفقة يجب للرجعية بلا خلاف. فأما المبتوتة (٢) فلا سكنى لها ولا نفقة عندنا.

وقوله (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال السدي : من ملككم. وقال ابن زيد : هو إذا قال صاحب المسكن : لا أترك هذه في بيتي فليس من وجده ، ويجوز له حينئذ أن

__________________

(١). كذا وفي التبيان : الذي.

(٢). وفي التبيان : البائنة.

٣٣٥

ينقلها الى غيره.

والوجد ملك ما يجده المالك له ، وذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه ، وقد يملك ما هو حاضر له فذلك وجده.

فصل : قوله (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) الآيات : ٦ ـ ١٠.

قوله (وَإِنْ كُنَّ) يعني النساء المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) أمر من الله تعالى بالإنفاق على الحامل المطلقة ، سواء كانت رجعية أو مبتوتة ، ولا خلاف في ذلك. وانما يجب أن ينفق عليها بسبب ما في بطنها ، وانما تسقط نفقتها بالوضع. والحمل بفتح الحاء ما يكون في البطن ، ويقال للعدل الحمل بالكسر.

وقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أمر من الله تعالى ، بأن الام المطلقة متى ولدت ورغبت في رضاع ولدها ، كان على الأب أجرة الرضاع أجرة المثل فان رضيت الاجنبية بشيء معلوم لاجرة الرضاع ورضيت بمثله الام كانت الام أولى ، وان لم ترض الام بذلك القدر كان للأب تسليمه الى الاجنبية. وان كان الولد لا يقبل الا لبن الام أجبرت عليه ، والا أدى الى هلاك الولد.

والرضاع سقي المرأة من لبنها للولد ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. يعني ان المرضعة تصير بمنزلة الام ، وأمها بمنزلة الجدة ، وأختها خالة ، وبنتها أختا ، وابنها أخا ، وهكذا سائر المحرمات.

وقوله (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) خطاب للرجل وزوجته المطلقة أنهما متى اختلفا في رضاع الصبي أرضعته امرأة اخرى.

٣٣٦

فصل : قوله تعالى (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الآيتان : ١١ ـ ١٢.

قوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) اخبار من الله تعالى أنه الذي أنشأ سبع سماوات (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي : وخلق من الأرض مثلهن في العدد لا في الكيفية ، لان كيفية السماء مخالفة لكيفية الأرض. والمثل ما سد مسد غيره فيما يرجع الى ذاته. وليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع غير هذه الاية ، ذكره الجبائي.

سورة التحريم

قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) الآيات : ١ ـ ٥.

هذا خطاب من الله تعالى للنبي عليه‌السلام وعتاب له على تحريمه على نفسه ما أباحه الله له وأحله له ، ولا يدل ذلك على أنه وقعت منه معصية ، لان العتاب قد يكون على أمر يكون الاولى خلافه ، كما يكون على ترك الواجب.

وقيل : في سبب نزول قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) قولان :

أحدهما قال زيد بن أسلم ومسروق وقتادة والشعبي وابن زيد والضحاك : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حرم على نفسه مارية القبطية بيمين أنه لا يقربها طلبا لمرضاة حفصة زوجته ، لأنها غارت عليه من أجلها.

وقال الحسن : حرم رسول الله أم ولده ابراهيم وهي مارية القبطية على نفسه

٣٣٧

وأسر بذلك الى زوجته حفصة والى (١) عائشة ، وكانت حفصة بنت عمر قد زارت عائشة فخلى بيتها ، فوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى مارية ، فكانت معه ، فجاءت حفصة فأسر اليها التحريم.

وعندنا أنه لا يلزم بقوله أنت حرام علي شيء ووجوده كعدمه ، وهو مذهب مسروق من الفقهاء ، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف. وانما أوجب الله الكفارة لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان حلف أن لا يقرب جاريته.

وقوله (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي : قدر الله تعالى ما تحلون به يمينكم إذا فعلتموه ، وذلك يدل على أنه عليه‌السلام كان حلف دون أن يكون قال هي علي حرام ، لان ذلك ليس بيمين عند أكثر الفقهاء.

وتحلة اليمين هو فعل ما يسقط تبعة اليمين : اما بكفارة ، أو تناول شيء من المحلوف عليه ، فمن حلف أن لا يأكل من هذا الطعام ، فمتى أكل حنث ولزمته كفارة وينحل اليمين بها ، ومن حلف أنه يأكل من هذا الطعام وأكل منه شيئا قليلا فقد انحلت يمينه ، فلذلك سمي تحلة اليمين.

وقوله (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) معناه : والله ناصركم وهو أولى بكم منكم بأنفسكم ومن كل أحد ، وهو العليم بجميع الأشياء الحكيم في جميع أفعاله.

وقوله تعالى (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ) معناه : واذكروا حين أسر النبي (إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) فالاسرار إلقاء المعنى الى نفس المحدث على وجه الإخفاء عن غيره ، يقال : أسر اليه كذا وكذا اسرارا والاسرار نقيض الإعلان.

وقيل : انه كان أسر الى حفصة أن لا تخبر عائشة بكونه مع مارية في يوم عائشة. وقيل : انه حرمها على نفسه فاطلعت عليه عائشة فاستكتمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخبرت حفصة بذلك ، فانتشر الخبر ، فعاتبهما الله على ذلك. وقال الزجاج والفراء : أسر

__________________

(١). في التبيان : فأفضت به الى.

٣٣٨

اليها بأنه سيلي الامر بعده أبو بكر وعمر وعثمان ، فتباشرا بذلك فانتشر الخبر.

وروى أصحابنا أنه أسر الى عائشة بما يكون بعده من قيام من يقوم بالأمر ودفع علي عليه‌السلام عن مقامه ، فبشرت بذلك أباها ، فعاتبها (١) الله على ذلك.

وقوله تعالى (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) معناه : لما أخبرت التي أسر اليها بما خبرها به الى غيرها وأعلم الله تعالى نبيه ذلك فأظهره له (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).

وقوله (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) مع أن لهما قلبين ، لان كل ما تثبت الاضافة فيه معنى التثنية ، فلفظ الجمع أحق به ، لأنه أمكن وأخف باعراب الواحد وقلة الزائد ، وذلك في كل شيئين من شيئين ، ويجوز التثنية لأنها الأصل ، كما قال الراجز :

ظهراهما مثل ظهور الترسين

فجمع المذهبين.

وقوله (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) معناه : وان تعاونا على خلافه (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) يعني الله هو الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته (وَجِبْرِيلُ) أيضا معين له وناصره (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) قال الضحاك : يعني خيار المؤمنين.

وقال قتادة : يعني الأتقياء.

وقال الزجاج : صالح المؤمنين واحد في موضع الجمع.

وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني : هو صالح المؤمنين على الجمع ، غير أنه حذفت الواو للاضافة. وهذا غلط ، لان النون سقطت للاضافة ، فكان يجب أن يثبت الواو في الخط ، وفي المصاحف بلا واو.

وروت الخاصة والعامة أن المراد ب «صالح المؤمنين» علي عليه‌السلام ، وذلك

__________________

(١). في التبيان : فعاتبهم.

٣٣٩

يدل على أنه أفضلهم ، لان القائل إذا قال : فلان فارس قومه ، أو شجاع قبيلته أو صالحهم ، فانه يفهم من جميع ذلك أنه أفرسهم وأشجعهم وأصلحهم.

وقوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) معناه : معين له ، فالظهير المعين.

ومعنى (خَيْراً مِنْكُنَّ) أي : أفضل منكن وأصلح له.

ثم وصفهن فقال (مُسْلِماتٍ) وهن اللواتي يظهرن الإسلام والشهادتين مستسلمات لما أمر الله به (مُؤْمِناتٍ) اي : مصدقات بتوحيد الله واخلاص العبادة له ، مقرات بنبوة نبيه عليه‌السلام.

وقيل : معناه مصدقات في قولهن وفعلهن (قانِتاتٍ) أي : خاضعات متذللات لله تعالى.

وقيل : معنى (قانِتاتٍ) راجعات الى الله بفعل ما يجب له عزوجل.

(سائِحاتٍ) معناه : ماضيات في طاعة الله. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : معنى (سائِحاتٍ) صائمات. وقال زيد بن أسلم : معنى (سائِحاتٍ) مهاجرات ، وهو اختيار الجبائي. وقيل للصائم سائح ، لأنه يستمر به في الإمساك عن الطعام ، كما يستمر السائح في الأرض.

وقوله (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) مروهم بطاعة الله وانهوهم عن معصيته.

ثم وصف الله تعالى النار التي حذرهم منها ، فقال (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قيل : حطب تلك النار الناس والحجارة ، يعني حجارة الكبريت ، وهو أشد ما يكون من العذاب.

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) ومعناه : غلاظ في الأخلاق وان كانوا رقاق الأجسام ، لان الظاهر من حال الملك أنه روحاني ، فخروجه عن الروحانية كخروجه عن صورة الملائكة ، شداد في القوى لا يعصون الله ما أمرهم به.

وفي ذلك دلالة على أن الملائكة الموكلين بالنار وبعقاب العصاة معصومون

٣٤٠