المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

والإستبرق الغليظ من الديباج في قول عكرمة. وقيل : ثمارها دانية لا يرد يده عنها بعد ولا شوك في قول قتادة. وقيل : الظواهر من سندس وهو الديباج الرقيق.

فصل : قوله (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) الآيات : ٥٦ ـ ٥٧.

القاصر المانع من ذهاب الشيء الى جهة من الجهات ، والحور قاصرات الطرف من غير أزواجهن.

وقوله (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : قال مجاهد وابن زيد وعكرمة : لم يمسسهن بجماع من قولهم «ما طمث هذا البعير حبل» (١) أي : ما مسه حبل (٢).

الثاني : قال ابن عباس : لم يدمهن نكاح من قولهم «امرأة طامث» أي : حائض كأنه قال : هن أبكار.

فصل : قوله (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) الآيات : ٦٦ ـ ٧٦.

وصفهما بأنهما نضاختان فوارتان بالماء. وقيل : نضاختان بكل خير.

والنضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء لان النضح غير المعجمة الرش ، وبالخاء كالبرك والفوارة التي يرمى بالماء صعدا.

وانما أفرد النخل والرمان من الفاكهة وان كانا من جملتها ، تنبيها على فضلهما وجلالة النعمة بهما ، كما أفرد ذكر جبرئيل وميكائيل في قوله (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٣).

__________________

(١ ـ ٢) في التبيان : جمل.

(٣). سورة البقرة : ٩٨.

٣٠١

وقوله (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) الحور البيض الحسان. وقوله (مَقْصُوراتٌ) أي : قصرت على أزواجهن فلا يردن بدلا منهم. وقال أبو عبيدة : مقصورات أي : مخدورات.

وقوله (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) الرفارف جمع رفرف وهي المجالس ، في قول ابن عباس وقتادة والضحاك. وقيل : الرفرف هو فصول المجالس للفرش. وقال الحسن : هي المرافق.

والعبقري الزرابي ، في قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ، وهي الطنافس وقال مجاهد : هو الديباج. وقيل : عبقر اسم بلد ينسج به ضرب من الوشي.

سورة الواقعة

فصل : قوله (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ. خافِضَةٌ رافِعَةٌ) الآيات : ١ ـ ١٣.

قوله (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) معناه ليس لها مردودة ولا رد قاله الفراء. وقيل : ليس لوقعتها قضية كاذبة فيها ، لأخبار الله تعالى بها ودلالة العقل عليها.

ومعنى (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قيل : تخفض قوما بالمعصية ، وترفع قوما بالطاعة.

وقوله (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) معناه فتتت فتا ، في قول ابن عباس ومجاهد ، وهو كما يبس السويق ، أي : بلت ، قال لص من غطفان :

لا تخبز خبزا وبسا بسا

ملسا الحلسي ملسا (١)

والهباء غبار كالشعاع في الرقة كثيرا ما يخرج مع شعاع الشمس من الكوة النافذة.

وقوله (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) يعني : أصحاب اليمن والبركة (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ)

__________________

(١). في التبيان المقطع الثاني كذا : ولا تطيلا مناخ حبسا.

٣٠٢

معناه الشوم والنكد.

وقيل : أصحاب اليمين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ، وأصحاب الشمال هم الذين يأخذون كتبهم بشمالهم.

وقوله (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) معناه الذين سبقوا الى اتباع الأنبياء فصاروا أئمة في الهدى.

وقيل : السابقون الى طاعة الله. والسابق الى الخير انما كان أفضل ، لأنه يقتدى به في الخير ، ويسبق الى أعلى المراتب قبل من يجيء بعد ، فلهذا تميزوا من التابعين.

وقوله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) فالثلة الجماعة وأصله القطعة من قولهم ثل عرشه إذا قطع ملكه.

فصل : قوله (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الآيات : ١٧ ـ ١٩.

(مُخَلَّدُونَ) قال مجاهد : معناه باقون لا يموتون. وقال الحسن : معناه أنهم على حالة واحدة لا يهرمون ، يقال : رجل مخلد أي باق زمانا أسود اللحية لا يشيب.

وقال الفراء : معناه مقرطون والخلد القرط ، والأكواب جمع كوب وهي أباريق واسعة الرؤوس بلا خراطيم.

(لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) أي : لا يلحقهم الصداع من شربها (وَلا يُنْزِفُونَ) أي : لا تنزف عقولهم ، بمعنى لا تذهب بالسكر ، في قول مجاهد وقتادة والضحاك ومن قرأ (يُنْزِفُونَ) بالكسر وهو حمزة والكسائي وخلف ، حمله على أنه لا تفنى خمرهم ، قال الشاعر :

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم

لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

فصل : قوله (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ. ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ.

٣٠٣

وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ) الآيات : ٢٧ ـ ٣٧.

وقوله (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وابن زيد : الطلح شجر الموز.

وقال أبو عبيدة : كل شجر عظيم كثير الشوك.

وقال الزجاج : شجر أم غيلان ، فقد يكون على أحسن حال. والمنضود هو الذي نضد بعضه على بعض من الموز ، ذكره ابن عباس.

وقوله (عُرُباً أَتْراباً) فالعرب العواشق لأزواجهن المتحببات اليهم ، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، قال لبيد :

وفي الحدوج عروب غير فاحشة

ريا الروادف يعشى دونها البصر (١)

والاتراب جمع ترب ، وهو الذي ينشأ مع مثله في حال الصبا ، وهو مأخوذ من لعب الصبيان بالتراب ، أي : هم كالصبيان الذين على سن واحد ، قال عمر ابن أبي ربيعة :

أبرزوها مثل المهاة تهادي

بين عشر كواعب أتراب

فصل : قوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الآيات : ٥١ ـ ٥٣.

الزقوم ما يبتلع بتصعب ، يقال : تزقم هذا الطعام تزقما إذا ابتلعه بتصعب وقيل : هو طعام خشن مر كريه يعسر نزوله في الحلق.

فصل : قوله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى. فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) الآيات : ٦٢ ـ ٧٠.

قوله (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) المغرم الذي ذهب ماله بغير عوض منه ، وأصله ذهاب المال بغير عوض ، فمنه الغريم لذهاب ماله بالاحتباس على المدين من غير عوض في

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ٢٥١.

٣٠٤

الاحتباس.

والغارم الذي عليه الدين الذي يطالبه به الغريم ، ومنه قوله (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) (١) أي : ملحا دائما كالحاح الغريم. وقال الحسن : هو من الغرم. وقال قتادة : معنى (لَمُغْرَمُونَ) لمعذبون قال الأعشى :

ان يعاقب يكن غراما

وان يعط فانه لا يبالى

قوله (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) قال الفراء : الأجاج المر الشديد المرارة من الماء. وقال قوم : الأجاج الذي اشتدت ملوحته.

فصل : قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) الآيات : ٧١ ـ ٨٠.

العرب تقدح بالزند والزندة ، وهو خشب معروف يحك بعضه ببعض فيخرج منه النار ، ذكره الزجاج وغيره. وفي المثل «كل شجر فيه نار واستمجد المرخ والعفار».

فان قيل : لم لا يكون نار الشجر بطبع الشجر لا من قادر عليه؟ قيل : الطبع غير معقول ، فلا يجوز أن يسند اليه الافعال ، ولو جاز ذلك للزم في جميع أفعال الله تعالى ، وذلك باطل ، ولو كان معقولا لكان ذلك الطبع لا بد أن يكون في الشجر والله تعالى الذي أنشأ الشجرة وما فيها ، فقد رجع الى قادر عليه وان كان بواسطة.

ولو جاز أن يكون النار من غير قادر عليها ، لجاز أن يكون من عاجز ، لأنه إذا امتنع الفعل ممن ليس بقادر عليه منا ، لأنه فعل وكل فعل ممتنع ممن ليس بقادر عليه.

وقوله (مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) يعني ينتفع بها المسافرون الذين نزلوا الأرض القي ، قال الراجز :

__________________

(١). سورة الفرقان : ٦٥.

٣٠٥

قي يناصيها بلادقي

وقيل : هو من أقوت الدار إذا دخلت من أهلها ، قال الشاعر :

أقوى وأقفر من نعم وغيرها

هوج الرياح بها في الترب موار

قال أبو علي الجبائي : القسم في كل ما ذكر في القرآن من المخلوقات انما هو قسم بربه.

وهذا ترك الظاهر من غير دليل ، لأنه قد يجوز ذلك على جهة التنبيه على ما في الأشياء من العبرة والمنفعة ، وقد روينا أنه لا ينبغي لاحد أن يقسم الا بالله ، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه ، فعلى هذا كل من أقسم بغير الله ، أو بشيء من صفاته من جميع المخلوقات أو الطلاق أو العتاق لا يكون ذلك يمينا منعقدة ، بل يكون كلاما لغوا.

قوله (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) قيل : هو اللوح المحفوظ أثبت الله فيه القرآن. والمكنون المصون.

وقوله (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لا يمس الكتاب الذي في السماء الا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة ، في قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وجابر بن زيد وأبي نهيك ومجاهد. وقيل : لا يمسه الا المطهرون في حكم الله.

وقد استدل بهذه الاية على أنه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث أن يمسوا القرآن ، ولا المكتوب في الكتاب أو اللوح.

وقال قوم : انه لا يجوز أن يمسوا الكتاب الذي فيه ولا أطراف أوراقه. وحملوا الضمير على أنه راجع الى الكتاب ، وهو كل كتاب فيه القرآن.

وعندنا أن الضمير راجع الى القرآن ، وان قلنا ان الكتاب هو اللوح المحفوظ فلذلك وصفه بأنه مصون ويبين ما قلناه قوله (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) يعني هذا

٣٠٦

القرآن تنزيل من رب العالمين أنزله الله الذي خلق الخلائق ودبرهم على ما أراد.

فصل : قوله تعالى (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) الآيات : ٨١ ـ ٨٩.

قال ابن عباس : معنى (مُدْهِنُونَ) مكذبون. وقال مجاهد : معناه تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا اليهم ، لأنه جريان معهم في باطلهم.

وقيل : معناه منافقون في التصديق بهذا الحديث ، وسماه الله تعالى حديثا ، كما قال (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً) (١) ومعناه الحدوث شيئا بعد شيء ، ونقيض حديث قديم.

والمدهن الذي يجري في الباطن على خلاف الظاهر ، كالدهن في سهولة ذلك عليه.

وقوله (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) معناه : هلا ان كنتم غير مجزيين بثواب أو عقاب على ما تدعونه من انكار البعث والنشور.

وقوله (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) اخبار من الله تعالى بما يستحقه المكلفون من كان منهم سابقا الى الخيرات والى أفعال الطاعات فله روح وريحان وهو الهواء الذي يلذ النفس ويزيل عنها الهم.

وقيل : الروح الراحة والريحان المشموم.

سورة الحديد

فصل : قوله (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآيات : ١ ـ ٤.

__________________

(١). سورة الزمر : ٢٣.

٣٠٧

قد بينا في غير موضع معنى التسبيح ، وأنه التنزيه له عن الصفات التي لا تليق به ، فمن كان من العقلاء عارفا به ، فانه يسبحه لفظا ومعنى. وما ليس بعاقل من سائر الحيوانات (١) والجمادات ، فتسبيحها ما فيها من الادلة الدالة على وحدانيته وعلى الصفات التي باين بها جميع خلقه وما قبلها (٢) من الحجج على انه لا يشبه خلقه ، وأن خلقه لا يشبهه ، فعبر عن ذلك بالتسبيح.

وقوله (هُوَ الْأَوَّلُ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما ـ قال البلخي : انه كقول القائل : فلان أول هذا الامر وآخره وظاهره وباطنه ، أي : عليه يدور الامر وبه يتم.

الثاني : قال قوم : هو أول الموجودات لأنه قد سابق لجميع الموجودات وما عداه محدث (٣) ، والقديم يسبق المحدث بما لا يتناهى من تقدير الأوقات ، والاخر بعد فناء كل شيء ، لأنه تعالى يفني الأجسام كلها وما قبلها من الاعراض ويبقى وحده ففي الاية دلالة على فناء الأجسام.

وقوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) لما في ذلك من اعتبار الملائكة لظهور شيء بعد شيء من جهته (٤) ، ولما في الاخبار به من المصلحة للمكلفين ، ولو لا ذلك لكان يخلقهما في لحظة واحدة ، لأنه قادر على ذلك من حيث هو قادر لنفسه.

وقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي : استولى عليه بالتدبير ، قال البعيث :

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

__________________

(١). في التبيان : الحيوان.

(٢). في التبيان : فيها.

(٣). الى هنا انتهى نسخة «ق» وهي نسخة مكتبة الاستان قدس الرضوى عليه‌السلام

(٤). في التبيان : جهة.

٣٠٨

وهو بشر بن مروان لما ولاه أخوه عبد الملك بن مروان.

وقيل : معناه ثم عمد وقصد الى خلق العرش ، وقد بينا ذلك فيما تقدم.

فصل : قوله (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الآيات : ٦ ـ ١٠.

قوله (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) معناه : انه لما ذكر تعالى دعاء الرسول الى الايمان بين أنه قد أخذ ميثاقكم أيضا به.

ومعنى (أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) نصب لكم الادلة الموصلة الى الايمان بالله ورسوله ورغبكم فيه وحثكم عليه وزهدكم في خلافه.

وقوله (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) بين تعالى أن الإنفاق قبل الفتح في سبيل الله إذا انضم اليه الجهاد في سبيله كان أكثر ثوابا عند الله. والمراد بالفتح فتح مكة.

وليس في الاية دلالة على فضل انسان بعينه ممن يدعى له الفضل ، لأنه يحتاج الى أن يثبت أن له الإنفاق قبل الفتح ، وذلك غير ثابت ، ويثبت أن له القتال بعده ولما يثبت ذلك أيضا فكيف يستدل به على فضله.

فصل : قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ. يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) الآيات : ١١ ـ ١٥.

قوله (نَقْتَبِسْ) أي : نأخذ قبسا من نوركم وهو جذوة منه.

وقوله (لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) لان فيه الجنة (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني من قبل المنافقين العذاب لكون جهنم هناك.

قوله (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) يعني : الشيطان ، وسمي بذلك لكثرة ما يغر الناس ، وقرئ بالضم وهو كل ما غر من متاع الدنيا ، ذكره الزجاج. والغرور

٣٠٩

بضم العين المصدر.

ومعنى قوله (النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) أي : هي أولى بكم. قال لبيد :

قعدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

أي : تحسب ان كليهما أولى بالمخافة.

فصل : قوله (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآيات : ١٦ ـ ٢١.

قوله (جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في السعة. وقال الحسن : ان الله تعالى يفني الجنة ويعيدها على ما وصفه في طولها وعرضها ، فبذلك صح وصفها بأن عرضها كعرض السماء والأرض.

وقال غيره : ان الله تعالى قال : عرضها كعرض السماء الدنيا والأرض والجنة المخلوقة في السماء السابعة ، فلا تنافي بين ذلك. وإذا كان العرض بهذه السعة ، فالطول أكثر منه أو مثله.

فصل : قوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) الاية : ٢٣.

أي : كل متبختر متجبر (فَخُورٍ) على غيره على وجه التكبر عليه ، فان من هذه صفته لا يحبه الله ، وفرح البطر مذموم ، وفرح الاغتباط بنعم الله محمود ، كما قال تعالى (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١) والبخل هو منع الواجب.

فصل : قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ. ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الآيات : ٢٦ ـ ٢٨.

التقفيه جعل شيء في أثر شيء على الاستمرار فيه ، ولهذا قيل لمقاطع الشعر قوافي ، إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه ، فكأنه قال :

__________________

(١). سورة آل عمران : ١٧٠.

٣١٠

وأنفذنا بعدهم بالرسل رسولا بعد رسول.

قوله (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال ابن عباس : معناه يعطكم أجرين : أجرا لايمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأجرا لايمانكم بمن تقدم من الرسل.

وأصل الكفل الحظ في قول الفراء ، ومنه الكفل الذي يكتفل به الراكب وهو كساء ونحوه.

سورة المجادلة

فصل : قوله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) الآيات : ١ ـ ٥.

الظهار قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي. وكان أهل الجاهلية إذا قال الرجل منهم لامرأته هذا بانت منه وطلقت ، وفي الشرع لا تبين المرأة الا أنه لا يجوز له وطؤها الا بعد أن يكفر.

وعندنا أن شروط الظهار هي شروط الطلاق ، سواء من كون المرأة طاهرا طهرا لم يقر بها فيه بجماع ، ويحضره شاهدين ويقصد التحريم ، فان اختل شيء من ذلك لم يقع به ظهار.

قيل : ان هذه الاية نزلت في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ، في قول قتادة. ولا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر ، وان نزلت الاية على سبب خاص.

والجدال والمجادلة المخاصمة ، وقد يقال للمراجعة والمقابلة للمعنى ما يخالفه مجادلة ، ومن قابل المعنى بخلافه طلبا للفائدة فليس بمجادل ، فمجادلة

٣١١

المرأة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مراجعتها إياه في أمر زوجها.

والتجاور التراجع وهو المحاورة ، تقول : تحاورا تحاورا وحاوره محاورة أي راجعه في الكلام ، قال عنترة :

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلمي

قوله (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) اختلفوا في معنى العود ، فقال قتادة : العود هو العزم على وطأها.

وقال قوم : العود الإمساك عزم أو لم يعزم. وقال الشافعي : هو أن يمسكها بالعقد ولا يتبع الظهار بطلاق.

وقال قوم : معناه : ثم يعودون لنقض ما قالوا وارتفاع حكمه.

وقال قوم : لا تجب عليه الكفارة حتى يعود للقول (١) ثانية ، وهو خلاف أكثر أهل العلم.

والذي هو مذهبنا أن العود المراد به ارادة الوطء أو نقض القول الذي قاله ، فانه لا يجوز له الوطء الا بعد الكفارة ، ولا يبطل حكم قول الاول الا بعد أن يكفر.

وقال الفراء : يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون الى ما قالوا وفيما قالوا وفي نقض ما قالوا ، أي : يرجعون عما قالوا. ويجوز في العربية أن تقول : ان عاد لما فعل

تريد أن يفعله مرة أخرى ، ويجوز ان عاد لما فعل ، أي : نقض ما فعل ، كما تقول : حلف أن يضربك ، بمعنى حلف ألا يضربك.

وقوله (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) بيان لكيفية الكفارة ، فان أول ما يلزمه من الكفارة عتق رقبة ، والتحرير هو أن يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق ، بأن يقول : انه حر.

__________________

(١). في التبيان : يعاود القول.

٣١٢

والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة ، سواء كانت ذكرا أو أنثى ، صغيرة أو كبيرة إذا كانت صحيحة الأعضاء ، فان الإجماع واقع على أنه يقع الاجزاء بها.

وقال الحسن وكثير من الفقهاء : ان كانت كافرة أجزأت ، وفيه خلاف وتفاصيل ذكرناه في كتب الفقه.

وتحرير الرقبة واجب قبل المجامعة ، لظاهر قوله (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي : من قبل أن يجامعها فيتماسا ، وهو قول ابن عباس ، وكان الحسن لا يرى بأسا أن يغشى المظاهر دون الفرج ، وفي رواية أخرى أنه يكره للمظاهر أن يقبل. والذي يقتضيه الظاهر أن لا يقربها بجماع على حال ولا مماسة شهوة.

والإطعام لا يجوز الا للمسلمين دون أهل الذمة ، وفيه خلاف. ومسائل الظهار وفروعها ذكرناها في كتب الفقه.

ثم قال (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) والمحادة المخالفة في الحدود أي : من خالف الله ورسوله فيما ذكراه من الحدود (كُبِتُوا) أي : أخذوا في قول قتادة. وقال غيره : أذلوا.

فصل : قوله (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الآيات : ٦ ـ ٨.

قوله (نُهُوا عَنِ النَّجْوى) قال مجاهد : كان النبي عليه‌السلام نهى اليهود عن النجوى بينهم ، لأنهم كانوا لا يتناجون الا بما يسوء المؤمنين.

وقال الفراء : نزلت في المنافقين واليهود ، ونهوا أن يتناجوا إذا اجتمعوا مع المسلمين في موضع واحد. والنجوى هو السرار ، والنجوة الارتفاع من الأرض وهو الأصل ، ومنه النجاء الارتفاع في السير ، والنجاة الارتفاع من البلاد.

قوله (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال قتادة ومجاهد وهو المروي عن عائشة : انه كانت تحيتهم السام عليك يا أبا القاسم. وقال ابن عباس : كان المنافقون

٣١٣

يقولون ذلك.

وقيل : كان النبي يرد على من قال ذلك فيقول : وعليك.

وقال ابن زيد : السام الموت. وقال الحسن : كانت اليهود يقول : السام عليكم أي : انكم ستسأمون دينكم هذا ، أي : تملونه وتدعونه ، فهذا من سئمت الامر اسأمه سأما وسأما.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الآيات : ١١ ـ ١٣.

ورفع الذين أوتوا العلم درجات ، لأنهم أحق بالرفعة. وفي ذلك دلالة على أن فعل العالم أكثر ثوابا من فعل من ليس بعالم.

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) أي : ساررتموه (١) (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال الزجاج : كان سبب نزول هذه الاية أن الأغنياء كان يستخلون النبي عليه‌السلام فيسارونه (٢) بما يريدون ، والفقراء لا يتمكنون من النبي تمكنهم.

ففرض الله عليهم الصدقة قبل النجوى ليمتنعوا من ذلك ، وتعبدهم بأن لا يناجي أحد رسول الله الا بعد أن يتصدق بشيء ما قل أم كثر ، فلم يفعل أحد ذلك على ما روي ، فاستقرض أمير المؤمنين علي عليه‌السلام دينارا وتصدق به ثم ناجى النبي عليه‌السلام فنسخ الله تعالى ذلك الحكم بالاية التي بعدها.

فصل : قوله (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) الآيات : ١٩ ـ ٢٢.

معناه : استولى عليهم ، فالاستحواذ الاستيلاء على الشيء بالاقتطاع ، وأصله من حاذه يحوذه حوذا ، مثل جازه يجوزه جوزا.

وقوله (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)

__________________

(١). في التبيان : شاورتموه.

(٢). في التبيان : فيشاورونه.

٣١٤

معناه : ان المؤمن لا يكون مؤمنا كامل الايمان ، والثواب يواد من خالف حدود الله ويشاقه ويشاق رسوله.

معنى «يواده» يواله وان كان الذي يواده أباه أو أمه أو أخاه أو عشيرته ، فمن خالف ذلك ووالى من ذكرناه كان فاسقا ولا يكون كافرا ، وكل كافر فهو محاد لله ورسوله.

سورة الحشر

فصل : قوله (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الآيات : ١ ـ ٥.

قوله (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) قال قوم : أول الحشر هو حشر اليهود من بني النضير الى أرض الشام ، وثاني الحشر حشر الناس يوم القيامة الى أرض الشام أيضا.

وقال البلخي : يريد أول الجلاء ، لان بني النضير أول من أجلى من أرض العرب. والحشر جمع الناس من كل ناحية ، ومنه الحاشر الذي يجمع الناس الى ديوان الخراج.

قوله (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) معناه : انهم كانوا يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهربوا ويخرب المؤمنون من خارج ، على ما ذكره الحسن.

ثم قال (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) معناه : اتعظوا وفكروا فلا تغفلوا كما فعل هؤلاء ، فيحل بكم ما حل بهم. والحصون جمع حصن ، وهو البناء العالي المنيع.

ومن استدل بهذه الاية على صحة القياس في الشريعة فقد أبعد ، لان الاعتبار ليس من القياس في شيء ، وانما معناه الاتعاظ على ما بيناه ، ولا يليق بهذا الموضع قياس الشرع ، لأنه لو قال بعد قوله (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)

٣١٥

فقيسوا الارز على الحنطة ، لما كان كلاما صحيحا ولا لائقا (١) بما تقدم ، وانما يليق بما تقدم الاتعاظ والانزجار عن مثل أفعال القوم من الكفر بالله.

وقوله (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) فاللينة كل نخلة لينة سوى العجوة ، في قول ابن عباس وقتادة ، وهي لغة أهل المدينة.

وقال بعضهم : الا البرني والعجوة. وقال باقي المفسرين : اللينة النخلة ولم يستثنوا ، قال ذو الرمة :

طراق الخوافي واقع فوق لينة (٢)

ندى ليلة في ريشة يترقرق

فصل : قوله (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الآيات : ٦ ـ ١٠.

الفيء رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم ذلك على ما شرطه فيه ، يقال : فاء يفيء فيئا إذا رجع. وقال عمر بن الخطاب ومعمر : مال الفيء هو مال الجزية والخراج.

والفيء كل ما رجع من أموال الكافرين الى المؤمنين ، فمنه غنيمة وغير غنيمة ، فالغنيمة ما أخذ بالسيف ، فأربعة أخماسه للمقاتلة ، وخمسه للذين ذكرهم الله في قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) (٣) الاية.

وقال كثير من العلماء أن الفيء المذكور في هذه الاية هو الغنيمة.

وقال قوم : مال الفيء خلاف مال الصدقات ، لان مال الفيء أوسع ، فانه يجوز أن يصرف في مصالح المسلمين ، ومال الصدقات انما هو الأصناف الثمانية.

وقال قوم : مال الفيء يأخذ منه الفقراء من قرابة رسول الله بإجماع الصحابة

__________________

(١). في التبيان : ولا يليق.

(٢). في التبيان : طراق الخوافي مشرق فوق ريعة.

(٣). سورة الانفال : ٤١.

٣١٦

في زمن عمر ، ولم يخالف فيه أحد الا الشافعي ، فانه قال : يأخذ منه الفقراء والأغنياء وانما ذكروا في الاية لأنهم منعوا الصدقة ، فبين الله أن لهم في مال الفيء حقا.

والذي نذهب اليه أن مال الفيء غير مال الغنيمة ، فالغنيمة كل ما أخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله الى دار الإسلام ، وما لا يمكن نقله الى دار الإسلام ، فهو لجميع المسلمين ينظر فيه الامام ، ويصرف ارتفاعه الى بيت المال لمصالح المسلمين.

والفيء كل ما أخذ من الكفار بغير قتال أو انجلى أهلها ، وكان ذلك للنبي عليه‌السلام خاصة يضعه في المذكورين في هذه الاية ، وهو لمن قام مقامه من الائمة الراشدين ، وقد بين الله تعالى ذلك ومال بني النظير كان للنبي خاصة وقد بينه الله «وما أفاء الله» يعني : ما رجعه الله ورده على رسوله «منهم» يعني من بني النظير.

ثم بين فقال تعالى (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي : لم توجفوا على ذلك بخيل ولا ركاب. والإيجاف الإيقاع ، وهو تسيير الخيل أو الركاب والركاب الإبل.

ثم قال مبينا من استحق ذلك ، فقال (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعني : قرى بني النظير «فلله وللرسول ولذي القربى» يعني : أهل بيت رسول الله (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) من أهل بيت رسول الله لان تقديره : ولذي قرباه ويتامى أهل بيته وابن سبيلهم ، لان الالف واللام يعاقب الضمير ، وظاهره يقتضي أنه لهؤلاء سواء كانوا أغنياء أو فقراء.

ثم بين لم فعل ذلك ، فقال (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) فالدولة بضم الدال نقلة النعمة من قوم الى قوم. وبفتح الدال المرة من الاستيلاء والغلبة.

وقوله (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الذين هاجروا من مكة الى المدينة ، أو هاجروا من دار الحرب الى دار الإسلام (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) الذي كان

٣١٧

لهم بمكة فأخرجوا منها قسمة الغنيمة عندنا للفارس سهمان ، وللراجل سهم.

وقال قوم : للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم الا ما كان من الأرض والأشجار فانه للإمام أن يقسمها ان شاء ، وله أن يجعلها أرض الخراج ويردها الى من كانت في أيديهم قبل على هذا الوصف بحسب ما يرى ، كما فعل عمر بأرض السواد.

وقيل : ان النبي عليه‌السلام فتح مكة عنوة ولم يقسم أرضها بين المقاتلة.

وقال قوم : فتحها سلما وقسم كثيرا من غنائم حنين في المؤلفة قلوبهم.

فصل : قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) الآيات : ١١ ـ ١٥.

قوله تعالى (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي : أنتم أشد خوفا في قلوب هؤلاء المنافقين يخافونكم ما لا يخافون الله ، لأنهم قوم لا يفقهون الحق ولا يعرفونه ولا يعرفون معاني صفات الله ، فالفقه العلم بمفهوم الكلام في ظاهره ومتضمنه عند إدراكه وبتفاصيل أحوال الناس فيه.

وقوله (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي : من وراء الحيطان ، فالجدار الحائط. فمن قرأ على التوحيد ، فلانه اسم جنس يقع على القليل والكثير ، ومن قرأ على الجمع فلاختلاف الجدران.

فصل : قوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ) الآيات : ٢٢ ـ ٢٣.

قال الحسن : الغيب ما أخفاه العباد ، والشهادة ما أعلنوه ، ففي الوصف بهاتين كونه عالما بجميع المعلومات ، لأنها لا تعدو هذين القسمين.

«هو الرحمن» يعني المنعم على جميع خلقه «الرحيم» بالمؤمنين ، ولا يوصف بالرحمن سوى الله تعالى. فأما الرحيم ، فانه يوصف به غيره تعالى.

٣١٨

«القدوس» معناه المطهر فتطهر صفاته عن أن يدخل فيها صفة نقص.

«السلام» وهو الذي يسلم عباده من ظلمة «المؤمن» الذي أمن العباد من ظلمه لهم ، إذ قال (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (١).

«المهيمن» قال ابن عباس : معناه الأمين. وقال قوم : معناه المؤمن الا أنه مبالغة في الصفة ، لأنه جاء على الأصل في المؤيمن ، فقلبت الهمزة هاءا وفخم اللفظ به لتفخيم المعنى. وقال قتادة : معناه الشهيد.

سورة الممتحنة

سميت هذه السورة بالممتحنة باسم امرأة التي جاءت تشكو الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرها ، وهي ثلاثة عشر آية.

فصل : قوله (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) الآيات : ٤.

قوله (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) استثناء لقول ابراهيم لأبيه (لَأَسْتَغْفِرَنَّ) أي : فلا تقتدوا به فيه ، فان ابراهيم عليه‌السلام انما استغفر لأبيه لموعدة وعدها إياه لان أباه كان وعده بالايمان ، فوعده ابراهيم بالاستغفار ، فلما أظهر له الايمان استغفر له ابراهيم في الظاهر.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) وعرف ذلك من جهته «تبرأ منه» وقال الحسن : انما تبين ذلك عند موت أبيه ، ولو لم يستثن ذلك لظن انه يجوز الاستغفار للكفار مطلقا من غير موعدة بالايمان منهم. وقد قيل : ان الاستثناء راجع الى قوله (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً).

__________________

(١). سورة النساء : ٣٩.

٣١٩

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) الاية : ١٠.

قيل : في كيفية الامتحان أربعة أقوال :

قال ابن عباس : كانت امتحان (١) رسول الله اياهن أن يحلفن بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرضى ، وبالله ما خرجت في التماس دينا ، وبالله ما خرجت الا حبا لله ولرسوله.

وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال : كان امتحانه أن يشهدن أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وروي عن عائشة أنه كان امتحانهن بما في الاية التي بعدها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ) الاية.

ثم قال تعالى (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) يعني في الظاهر (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي : لا تردوهن اليهم (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) قال ابن زيد : وفرق بينهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وان لم يطلق المشرك.

وقيل : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان شرط لهم رد الرجال دون النساء ، فعلى هذا لا نسخ في الاية. ومن قال : كان شرط رد النساء والرجال قال : نسخ الله حكم رد النساء.

وقوله تعالى (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد : أعطوا رجالهن (٢) ما أنفقوا من الصداق.

__________________

(١). في «ن» و «م» : محبة.

(٢). في التبيان : رجالهم.

٣٢٠