المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

التعليق من الجزء التاسع من التبيان

يشتمل على بقية الذاريات والطور والنجم والقمر والرحمن

والواقعة الحديد المجادلة الحشر الممتحنة الصف الجمعة

المنافقين التغابن الطلاق التحريم تبارك نون الحاقة سأل سائل

نوح الجن المزمل المدثر القيامة هل أتى المفصل.

بسم الله الرحمن الرحيم

فصل : قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) الآيات : ١٥ ـ ١٧.

قرأ حمزة والكسائي وخلف وأبو بكر عن عاصم «لحق مثل» بالرفع على أنه صفة للحق ، الباقون بالنصب.

ويحتمل نصبه وجهين :

أحدهما : قول الجرمي أن يكون نصبا على الحال ، كأنه قيل حق مشبها لنطقكم في الثبوت.

الثاني : قال المازني : أن يبني لأنه مبهم أضيف الى مبني ، كما قال الشاعر :

٢٨١

لم يمنع الشرب منها غير ان نطقت

حمامة في غصون ذات او قال

فجعل مثل مع ما كالامر الواحد ، كما قال (لا رَيْبَ فِيهِ) وقوله «خمسة عشر» فيكون على هذا «ما» زائدة ، وأضاف مثل الى (أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فبناه على الفتح حين أضافه الى المبني ، ولو كان مضافا الى معرب لم يجز البناء ، نحو مثل زيد ، ومثل يجوز أن يكون نصبا على المصدر ، كأنه قال : انه لحق حقا كنطقكم.

قوله (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي : كان هجوعهم قليلا ، في قول الزهري وابراهيم.

وقال الحسن : «ما» صلة وتقديره كانوا قليلا من الليل يهجعون.

وقال قتادة : لا ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها ، كأنه قال : هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة والعبادة.

وقال الضحاك : تقديره كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا.

ثم ابتدأ فقال (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) وتكون (ما) بمعنى النفي. والمعنى انهم كانوا يحيون الليل بالقيام في الصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك.

فصل : قوله (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الآيات : ١٩ ـ ٢٢.

فالسائل هو الذي يسأل الناس ، والمحروم هو المحارف ، في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك.

وقال قتادة والزهري : المحروم هو المتعفف الذي لا يسأل. وقال ابراهيم : المحروم الذي لا يسهم له في الغنيمة.

وقيل : المحروم الممنوع الرزق بترك السؤال ، أو ذهاب مال ، أو سقوط سهم في الغنيمة ، أو خراب ضيعة إذا صار فقيرا من هذه الجهة.

وقوله (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) معناه : في أنفسكم أفلا تتفكرون ، بأن

٢٨٢

تجدوها مصرفة من حال الى حال ، ومنتقلة من صفة الى اخرى ، فكنتم نطفا فصرتم أحياء ، ثم كنتم أطفالا فصرتم شبانا ، ثم صرتم كهولا ، وكنتم ضعفا فصرتم أقوياء ، فهلا لكم ذلك على أن لها صانعا صنعها ، ومدبرا يصرفها على ما تقتضيه الحكمة ويدبرها بحسب ما توجبه المصلحة.

وقيل : المعنى أفلا تبصرون بقلوبكم نظر من كأنه يرى الحق بعينه.

وقوله (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) ينزله الله إليكم بأن يرسل عليكم الغيث والمطر فيخرج به من الأرض أنواع ما تقتاتونه وتلبسونه وتنتفعون به «وما توعدون» به من العذاب ، ينزله الله عليكم إذا استحققتموه.

وقال الضحاك : وفي السماء رزقكم يعني المطر الذي هو سبب كل خير ، وهو من الرزق الذي قسمه الله وكتبه للعبد في السماء.

فصل : قوله (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) الآيات : ٢٤ ـ ٣٧.

قوله (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي : أنتم قوم منكرون ، والإنكار نفي صحة الامر ونقيضه الإقرار ، ومثله الاعتراف. وانما قال (مُنْكَرُونَ) لأنه لم يكن يعرف مثلهم في أضيافه. ومعنى (سَلاماً) أي : أسلم سلاما.

وقوله (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي : ذهب اليهم خفيا ، فالروغ الذهاب في خفي. والعجل مأخوذ من تعجيل أمره لقرب ميلاده ، وهو واحد البقر الصغير. والإيجاس الاحساس بالشيء خفيا.

وقوله (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي : يكون عالما إذا كبر وبلغ. وقال مجاهد : المبشر به إسماعيل. وقال غيره : هو إسحاق.

وقوله (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) يعني في ضجة ، في قول ابن عباس ومجاهد (فَصَكَّتْ

٢٨٣

وَجْهَها) قال ابن عباس : لطمت وجهها.

وقال السدي : ضربت وجهها تعجبا ، وهو قول مجاهد وسفيان. والصك الضرب باعتماد شديد.

والعقيم الممتنعة من الولادة لكبر أو آفة. وقال الحسن : العقيم العاقر والملك عقيم يقطع الولاء ، لان الابن يقتل أباه على الملك.

والخطب هو الامر الجليل ، فكأنه قال : قد جئتم لأمر جليل ومنه الخطبة ، لأنها كلام بليغ لعقد أمر جليل يستفتح بالتحميد والتمجيد.

والمسومة المعلمة بعلامات ظاهرة للحاسة ، لان السوم كالسيماء في أنه يرجع الى العلامة الظاهرة والمجرم القاطع للواجب بالباطل.

وقوله (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) أي : أصلها الطين لا حجارة البرد التي أصلها الماء والمسومة المعلمة بعلامة يعرفها بها الملائكة أنها مما ينبغي أن يرمى بها الكفرة عند أمر الله تعالى بذلك.

قوله (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) فالترك في الأصل ضد الفعل ينافي الأخذ في محل القدرة عليه والقدرة عليه قدرة على الأخذ ، والمعنى في الاية أبقينا فيها آية.

فصل : قوله (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) الآيات : ٣٨ ـ ٤١.

معنى (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة ظاهرة.

وقوله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : معناه بقوته ، والركن الجانب الذي يعتمد عليه ، والمعنى ان فرعون أعرض عن حجة موسى ولم ينظر فيها بقوته في نفسه.

وقوله (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) هي التي عقمت عن أن تأتي بخير من تنشئه سحاب أو تلقيح شجر ، أو يذربه طعام أو نفع حيوان.

٢٨٤

فصل : قوله (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) الاية : ٥٤.

أي : أعرض عنهم يا محمد في قول مجاهد (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) في كفرهم وجحودهم بل اللائمة عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم اليه ، وليس المراد أعرض عن تذكيرهم ووعظهم وانما أراد أعرض عن مكافأتهم ومقابلتهم ومباراتهم وما أنت في ذلك بملوم.

فصل : قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الآيات : ٥٦ ـ ٥٨.

من خفض (الْمَتِينُ) وهو يحيى بن وثاب جعله صفة للقوة ، وذكره لأنه ذهب الى الحبل ، أو الشيء المفتول يريد القوة ، قال الشاعر :

لكل دهر قد لبست أثوبا

من ريطة واليمنة المعصبا

فذكر لان اليمنة ضرب من الثياب وصنف منها. والذنوب النصيب ، وأصله الدلو الممتلئ ماء ، كما قال الراجز :

لنا ذنوب ولكم ذنوب

فان أبيتم فلنا القليب

وانما قيل للدلو ذنوب ، لأنها في طرف الحبل كأنها في الذنب.

سورة الطور

فصل : قوله (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) الآيات : ١ ـ ٦.

قوله (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) قيل : هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة ، روي ذلك عن علي عليه‌السلام وابن عباس ومجاهد وقال الحسن : البيت المعمور البيت الحرام.

قوله (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المسجور المملوء ، ومنه سجرت التنور إذا ملأته

٢٨٥

نارا وعين سجراء ممتلئة فيها حمرة ، كأنها احمرت مما هو لها كسجار التنور ، قال لبيد :

فتوسطا عرض السري وصدعا

مسجورة متجاوز أقلامها

فصل : قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) الآيات : ١٧ ـ ١٨.

معنى (فاكِهِينَ) أي : متنعمين بما أعطاهم ربهم من أنواع النعيم. وقال الزجاج :

معنى (فاكِهِينَ) معجبين. وقال الفراء مثل ذلك.

فصل : قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) الاية : ٢١.

قال ابن عباس والضحاك وابن زيد : ألحقوا الأولاد بالاباء إذا آمنوا من أجل ايمان الاباء. وفي رواية أخرى عن ابن عباس ان البالغين (١) ألحقوا بدرجة آبائهم وان قصرت أعمالهم تكرمة لآبائهم. والاول هو الوجه.

وانما وجب بالايمان الحاق الذرية بهم مع أنه قد يكون ليس له ذرية ، لأنه انما يستحق ذلك السرور على ما يصح ويجوز ، مع أنه إذا انتهى الذرية على ما أمر الله به استحق الجزاء فيه ، فان أبطلته الذرية عند البلوغ بسوء عمل وفى سروره في أمر آخر ، كما أن أهل الجنة من سرورهم ما ينزل بأعدائهم في النار ، فلو عفى عنهم لوفوا سرورهم بأمر آخر.

وقوله (وَما أَلَتْناهُمْ) معناه ما نقصناهم ، قال الشاعر :

ابلغ بني ثعل عني مغلغلة

جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا

فصل : قوله (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) الاية : ٢٦.

الأهل هو المختص بغيره من جهة ما هو أولى به ، وكل ما كان أولى به فهو أحق

__________________

(١). في التبيان : التابعين.

٢٨٦

بأنه أهله ، فمن ذلك أهل الجنة وأهل النار ، ومن ذلك أهل الجود والكرم ، وفلان من أهل القرآن ومن أهل العلم ومن أهل الكوفة. ومن هذا قيل لزوجة الرجل أهله ، لأنها مختصة به من جهة هي أولى به من غيره.

فصل : قوله (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الآيات : ٣٥ ـ ٤٠.

معناه : أخلقوا من غير خالق (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) لنفوسهم ، فلا يأتمرون لأمر الله ولا ينتهون عما نهاهم عنه. وقيل : المعنى أخلقوا من غير شيء ، معناه أخلقوا لغير شيء ، أي : أخلقوا باطلا لا لغرض.

وقولهم (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) فالمغرم الزام الغرم في المال على غير طريق الابذال ، والمغرم الملزم انفاق المال من غير ابذال ، وأصله المطالبة بإلحاح ، فمنه الغريم لأنه الطالب بالدين بإلحاح ، ومنه (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) (١) أي : ملحا دائما.

فصل : قوله (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) الاية : ٤٦.

الفرق بين الغنى بالشيء والغنى عنه أن ما أغنى عنه يوجب أن وجوده وعدمه سواء في أن الموصوف غني ، وليس كذلك الغنى به ، لأنه يبطل أن يكون الموصوف غنيا. والغني هو الحي الذي ليس بمحتاج ، وليس بهذه الصفة الا الله تعالى.

قوله (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بمرأى منا ندركك ولا يخفى علينا شيء من أمرك ، نحفظك لئلا يصلوا الى شيء من مكروهك.

سورة النجم

فصل : قوله (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) الآيات : ١ ـ ١٠.

__________________

(١). سورة الفرقان : ٦٥.

٢٨٧

والنجم قسم من الله تعالى ، وقد بينا أن الله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ، وليس للعباد أن يحلفوا الا به.

وقال قوم : معناه ورب النجم ، فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه.

وقيل : في معنى النجم هاهنا ثلاثة أقوال :

أحدها ـ قال مجاهد : المراد به الثريا إذا سقطت مع الفجر.

الثاني : قال الحسن : معناه جماعة النجوم «إذا هوى» إذا سقط يوم القيامة ، كقوله عزوجل (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (١) وقيل : النجم الجمع على طريق الجنس ، كما قال الراعي :

وبات بعد النجم في مستحيرة

سريع بأيدي الآكلين جمودها (٢)

وقوله (فَاسْتَوى) معناه استولى بعظم القوة ، فكأنه استوت له الأمور بالقوة على التدبير ، ومنه قوله (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٣) أي : استولى عليه بالسلطان والقهر.

قال الزجاج : معنى «دنى» وتدلى واحد ، لان المعنى أنه قرب وتدلى زاد في القرب ، كما يقال : دنى فلان وقرب ، والمعنى ثم دنى جبرئيل الى محمد فتدلى اليه من السماء.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) معناه كان بينه وبين جبرئيل مقدار قوسين من القسي العربية ، أو أقرب أي بل أقرب منه. وقيل : معنى «أو» في الاية معنى الواو ، كقوله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (٤) ومعناه ويزيدون.

__________________

(١). سورة الانفطار : ٢.

(٢). مجاز القرآن ٢ / ٢٣٥.

(٣). سورة الاعراف : ٥٣ وغيرها.

(٤). سورة الصافات : ١٤٧.

٢٨٨

وقال الحسن : عرج بروح محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الى السماء وجسده في الأرض.

وقال أكثر المفسرين وهو الظاهر من مذهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم : ان الله تعالى صعد بجسمه حيا سليما حتى رأى ملكوت السماوات وما ذكره الله بعيني رأسه ، ولم يكن ذلك في المنام بل كان في اليقظة ، وقد بيناه في سورة بني إسرائيل.

فصل : قوله (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) الآيات : ١٣ ـ ٢٠.

قيل : ان سدرة المنتهى في السماء السادسة اليها ينتهي ما يعرج الى السماء.

وقيل : لأنه ينتهى اليها أرواح الشهداء.

وقوله (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) معناه : يغشى السدرة من النور والبهاء والحسن والصفاء الذي يروق الأبصار ما ليس لوصفه منتهى.

وقوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أسماء أصنام كانت العرب تعبدها.

والعزى كانت تعهدها غطفان ، وهي شجرة سمرة عظيمة.

واللات صنم كانت ثقيف تعبده.

ومناة كانت صخرة عظيمة لهذيل وخزاعة كانوا يعبدونها.

فصل : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) الآيات : ٢١ ـ ٢٢.

هذا الكلام على جهة الإنكار ، فقد أخطأتم في ذلك من وجهين :

أحدهما : أنكم أضفتم اليه ما يستحيل عليه ولا يليق به ، فهو قسم فاسد غير جائز.

الثاني : أنكم أضفتم اليه ما لا ترضونه لأنفسكم وكيف ترضونه لله تعالى. وقيل : انما فضل الذكر على الأنثى ، لان الذكر يصلح لما لا تصلح له الأنثى ،

٢٨٩

وينتفع به فيما لا ينتفع به الأنثى ، ولهذا لم يبعث الله نبيا من الإناث.

وقوله (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي : تلك قسمة فاسدة غير جائزة ، بأن تجعلوا لأنفسكم الأفضل ولربكم الأدون ، ولو كان ممن يجوز عليه الولد لما اختار الأدون على الأفضل ، كما قال (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) (١) فهذا على تقدير الجواز لا على صحة الجواز. والضيزى الجائرة الفاسدة.

فصل : قوله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) الآيات : ٢٦ ـ ٣٠.

لا ينافي ذلك ما نذهب اليه من ان النبي عليه‌السلام والائمة والمؤمنين يشفعون في كثير من أصحاب المعاصي ، فيسقط عقابهم لمكان شفاعتهم ، لان هؤلاء عندنا لا يشفعون الا بإذن من الله ورضاه ، ومع ذلك يجوز أن يشفعوا فيه ، فالزجر واقع موقعه.

ثم أخبر تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي : لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب ولا بالعقاب (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) قال الحسن : كانوا يسمون الملائكة بنات الله.

ثم قال (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي : ما لهم بما يقولونه ويسمونه من علم ، أي : ليسوا عالمين بذلك (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أي : ليسوا (٢) يتبعون في قولهم ذلك الا الظن الذي يجوز أن يخطئ ويصيب وليس معهم شيء من العلم.

وقوله (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) معناه : ان الظن لا يغني من العلم ، لأنه لا بد من علم بحسن الفعل حتى يجوز أن يفعل ، وان كان الظن في بعض الأشياء

__________________

(١). سورة الزمر : ٤.

(٢). في التبيان : ليس.

٢٩٠

علامة للحسن ، فما أغنى عن العلم.

فصل : قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) الآيات : ٣١ ـ ٣٤.

(كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي : عظائم الذنوب (وَالْفَواحِشَ) والمعاصي عندنا كلها كبائر ، غير أن بعضها أكبر من بعض ، فقد تكون المعصية كبيرة بالاضافة الى ما دونها وتكون صغيرة بالاضافة الى ما هو أكبر منها.

والفواحش جمع فاحشة ، وهي أقبح الذنوب وأفحشها. والاساءة مضرة يستحق بها الذم ، ولا يستحق الذم الا مسيء ، وذم من ليس بمسيء في القبح كذم المحسن في القبح. والإحسان فعل ما هو يقع في نفسه ، أو هو سبب النفع يستحق به الحمد ، ولا يستحق الحمد الا محسن.

والكبير من الذنوب هو الذي يعظم به الزجر الى حد يكفره الا التوبة منه عند من لم يجز إسقاط العقاب تفضلا. والصغير هو الذي يجب فيه الزجر الى حد يصح تكفيره من غير توبة عند من قال بالصغائر.

وقوله (إِلَّا اللَّمَمَ) قال قوم : هو الهم بالمعصية من جهة مقاربتها وحديث النفس بها من غير مواقعتها ولا عزم عليها ، لان العزم على الكبير كبيرة ، ولكن يقرب من مكانها لشهوته لها من غير عزم عليها.

وقيل : اللمم مقاربة الشيء من غير دخول فيه ، يقال : ألم بالشيء يلم الماما إذا قاربه. وقيل : اللمم الصغير من الذنوب ، كما قال (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١) ذهب اليه ابن عباس وابن مسعود.

وقيل : اللمم إتيان الشيء من غير اقامة عليه.

__________________

(١). سورة النساء : ٣٠.

٢٩١

وقوله (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) قال مجاهد : نزلت في الوليد بن المغيرة. وقيل : أعطى قليلا وأكدى هو المنافق الذي يعطي قليلا في المعونة على الجهاد ثم يمنع.

وقال ابن عباس ومجاهد : معنى (وَأَكْدى) قطع العطاء كما يقطع البئر الماء واشتقاق أكدى من كدية الركية ، وهي صلابة تمنع الماء إذا بلغ الحافر اليها يئس من الماء ، فيقول : بلغنا كديتها أي صلابتها التي تؤيس من الماء ، يقال : اكدى يكدي اكداءا إذا منع الخير.

وقيل : الكدية صخرة يبلغ اليها حافر البئر فلا يمكنه الحفر.

فصل : قوله (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى. وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) الآيات : ٣٦ ـ ٤٣.

قوله (إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي : وفى بما يجب عليه لله عزوجل واستحق أن يمدح بهذا المدح.

وقوله (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ليس له من الجزاء الا جزاء ما عمل دون ما عمله غيره ، ومتى دعا الى الايمان من أجاب اليه فهو محمود عليه على طريق التبع ، وكأنه من أجل عمله صار له الحمد على هذا ، ولو لم يعمل شيئا ما استحق جزاء ولا ثوابا ولا عقابا.

وقوله (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) معناه : أن ما يفعله الإنسان ويسعى فيه لا بد أن يرى فيما بعد ، بمعنى أنه يجازى عليه : اما من ثواب ، أو عقاب.

وقوله (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) معناه : وأن الى ثواب ربك وعقابه آخر الأمور.

وقوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) قيل : أضحك بأن فعل سبب ذلك من

٢٩٢

السرور والحزن ، كما يقال : أضحكني فلان وأبكاني إذا سبب ذلك بما يقع عنده ضحكي وبكائي ، فعلى هذا الضحك والبكاء من فعل الإنسان.

وقد قال الله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (١) ولو لم يكن من فعلنا لما حسن ذلك ، وقال تعالى (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ) (٢) وقال (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣) فنسب الضحك اليهم.

فصل : قوله (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) الآيات : ٤٧ ـ ٥٥.

معناه : انه أغنى بالمال وأقنى بأصول الأموال. وقال مجاهد : أقنى أي أخدم. وقال الزجاج : معناه أغنى بعد الفقر ، وأقنى بالمال الذي يقتني. وقيل : معنى أقنى أنه جعل له أصل مال ، وهو القنية التي يجعله الله للعبد. وأصل أقنى الاقتناء ، وهو جعل الشيء للنفس على اللزوم.

وقوله (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) يعني : المتقلبة ، وهي التي صار أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ، ائتفكت بهم يأتفك ائتفاكا ، ومنه الافك الكذب ، لأنه قلب المعنى عن وجهه.

ومعنى (أَهْوى) أنزل بها في الهواء.

والسامد اللاهي ، يقال : دع عنك سمودك أي أمرك فكأنه المستمر في اللهو يقال : سمد يسمد سمودا فهو سامد ، قال الشاعر :

قيل قم فانظر اليهم

ثم دع عنك السمودا (٤)

__________________

(١). سورة التوبة : ٨٣.

(٢). سورة النجم : ٦٠.

(٣). سورة المطففين : ٣٤.

(٤). اللسان «سمد».

٢٩٣

سورة القمر

فصل : قوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) الآيات : ١ ـ ٨.

معنى (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) يشبه بعضه بعضا. وقيل : سحر مستمر من الأرض الى السماء. وقال مجاهد وقتادة : معناه ذاهب مضمحل وقال قوم : معناه شديد من إمرار الحبل وهو شدة فتله.

وقوله (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) قال الفراء : مهطعين الى الداعي ناظرين قبل الداعي.

وقال أبو عبيدة : مسرعين. وقال قتادة : معناه عامدين. والإهطاع الاسراع في المشي ، يقال : أهطع يهطع اهطاعا فهو مهطع.

فصل : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) الآيات : ١١ ـ ١٤.

انما قال (فَالْتَقَى الْماءُ) والمراد به ماء السماء وماء الأرض ، ولم يثن لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) فيه هلاك القوم في اللوح المحفوظ.

وقيل : معناه انه كان قدر ماء السماء مثل قدر ماء الأرض.

وقوله (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) وهي المسامير التي تشد بها السفينة ، في قول ابن عباس وقتادة وابن زيد ، وأحدها دسار.

فصل : قوله (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) الآيات : ٢٧ ـ ٢٨.

٢٩٤

بيّن تعالى أنه أرسل الناقة وبعثها ، بأن أنشأها معجزة لصالح ، لأنه أخرجها من الجبل الأصم يتبعها ولدها.

ومعنى (فِتْنَةً) ابتلاء لكم ومحنة ، لأنه تعالى نهاهم أن ينالوها بسوء مع تضيق الشرب عليهم ، بأن لها شرب يوم ولهم شرب يوم آخر.

والشرب بكسر الشين الحظ من الماء وبضم الشين فعل الشارب.

ثم حكى تعالى ما قال لصالح ، فانه تعالى قال له (وَاصْطَبِرْ) أي : اصبر على أذاهم.

وقوله (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي : كل قسمة يحضره من هوله.

قال الضحاك : هشيم المحتظر هو الحظيرة تتخذ للغنم تيبس فتصير رميما.

وقيل : الهشيم حشيش يابس متفتت يجمعه المحتظر لمواشيه.

فصل : قوله (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) الاية : ٤٣.

يعني : كفار قريش وأهل مكة خير من أولئكم الكفار ، والمعنى أنهم ليسوا بخير من كفار قوم نوح وعاد وثمود.

وقوله (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) معناه ألكم براءة في الكتب المنزلة من عذاب الله.

سورة الرحمن

فصل : قوله (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) الآيات : ١ ـ ١٣.

معنى حسبان مصدر حسبته أحسبه حسبانا. وقيل : هو جمع حساب كشهاب وشهبان.

وقوله (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فالنجم من النبات ما طلع يقال : نجم

٢٩٥

ينجم إذا طلع ، ونجم القرن والنبات (١) إذا طلع ، وبه سمي نجم السماء ، وهو الكوكب لطلوعه.

والنجم هاهنا النبت الطالع من الأرض ، وهو النبات الذي ليس له ساق ، في قول ابن عباس وسعيد. والشجر النبات الذي له ساق ، في قول ابن عباس وقتادة وسعيد وسفيان. والشجر عند أهل اللغة النبات الذي له ساق وورق وأغصان يبقى ساقه على دور الحول من الزمان ، وأكثره مما له ثمار يجتنى.

قوله (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) قال ابن عباس : الأنام كل شيء فيه روح. وقال الحسن : الأنام الانس والجن. وقال قتادة : الأنام الخلق.

وقوله (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) قال ابن عباس وقتادة وابن زيد : العصف التبن ، لان الرياح تعصفه أي تطيره بشدة هبوبها. والحب حب الحنطة والشعير ونحوهما.

والريحان الرزق في قول ابن عباس والضحاك ومجاهد.

وقال الحسن وابن زيد : الريحان هو الذي يشم ، والعرب تقول : خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه.

فصل : قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الآيات : ١٤ ـ ٢١.

الصلصال : الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، في قول قتادة (كَالْفَخَّارِ) أي : مثل الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفا.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) فالمارج هو المختلط الأحمر (٢). قال الحسن : إبليس أبو الجن ، وهو مخلوق من لهب النار ، كما أن آدم أبو البشر مخلوق

__________________

(١). في النسخ : الناب.

(٢). في التبيان : الاجزاء.

٢٩٦

من طين.

انما كررت هذه الاية في هذه السورة يعني قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لأنه تقدم (١) بالنعمة عند ذكرها على التفصيل نعمة نعمة ، كأنه قال : بأي هذه الآلاء تكذبان.

قوله (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) البرزخ الحاجز بين الشيئين ، ومنه البرزخ الحاجز بين الدنيا والاخرة. وقال قتادة : البرزخ الحاجز أن يبغي الملح على العذب أو العذب على الملح. وقال مجاهد : معنى «لا يبغيان» لا يختلطان.

وقوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) فاللؤلؤ معروف ، ويقع على الصغار والكبار. والمرجان ضرب من الجوهر ، كالقضبان يخرج من البحر.

وقال ابن عباس : اللؤلؤ كبار الدر ، والمرجان صغاره ، وبه قال الحسن وقتادة والضحاك ، وسمي المرجان بذلك لأنه حب من الجوهر كبير مختلط من مرجت أي خلطت.

وانما جاز أن يقول (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وهو يخرج من الملح دون العذاب ، لان العذب والملح يلتقيان ، فيكون العذب كاللقاح للملح ، كما قال : يخرج الولد من الذكر والأنثى ، وانما تلده الأنثى.

وقال قوم : لا يخرج اللؤلؤ الا من الموضع الذي يلتقى فيه العذب والملح ، وذلك معروف عند الغواصين.

وقوله (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) اخبار من الله تعالى أن جميع من على وجه الأرض من العقلاء يفنون ويخرجون من الوجود الى العدم.

وإذا ثبت ذلك وكانت الجواهر لا تفنى الا بفناء يضادها على الوجود ، فإذا وجد الفناء انتفت الجواهر كلها ، لأنه لا اختصاص لها بجوهر دون جوهر ، فالآية دالة على عدم جميع الأجسام على ما قلناه ، ولأنه إذا ثبت عدم العقلاء بالاية ثبت عدم غيرهم ،

__________________

(١). في التبيان : تقرير.

٢٩٧

لان أحدا من الامة لا يفرق بين الموضعين.

وقوله (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) معناه : ويبقى ربك الظاهر بأدلته ، كظهور الإنسان بوجهه ، فالوجه يذكر على وجهين :

أحدهما : بعض الشيء كوجه الإنسان.

الثاني : بمعنى الشيء المعظم في الذكر ، كقولهم هذا وجه الرأي ، وهذا وجه التدبير ، أي : هو التدبير وهو الرأي.

ومعنى قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ان كل يوم الله تعالى في شأن ، ويقال : لا يشغله شأن عن شأن ، والمعنى أن كل يوم الله تعالى في شأن من احياء قوم واماتة آخرين ، وعافية قوم ومرض غيرهم ، ونجاة وإهلاك ورزق وحرمان ، وغير ذلك من الأمور والنعمة.

فصل : قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) الآيات : ٣١ ـ ٣٦.

معنى قوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) من أبلغ الوعيد وأعظم التهديد. وقيل : في معناه قولان :

أحدهما : سنفرع لكم من الوعيد وينقضي ويأتيكم المتوعد به ، فشبه ذلك بمن فرغ من شيء وأخذ في غيره.

الثاني : انا سنعمد عمد (١) من يتفرغ للعمل ، لتجويده من غير تضجيع فيه ، كما يقول القائل : سأتفرغ لك ، والله تعالى لا يشغله شيء عن شيء ، لأنه من صفات الأجسام ، وهو من أبلغ الوعيد ، لأنه يقتضي أنه يجازي بصغير ذنبه وكبيره إذا كان مستحقا لسخط الله.

وقوله (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) خطاب للجن والانس ، وانما سميا ثقلين لعظم شأنهما بالاضافة الى ما في الأرض من غيرهما ، فهما أثقل وزنا لعظم الشأن بالعقل والتمكين

__________________

(١). في التبيان : سنعمل عمل.

٢٩٨

بالتكليف لأداء الواجب في الحقوق.

ومنه قول النبي عليه‌السلام : اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي (١). يريد عظيمي المقدار ، فلذلك وصفهما بأنهما ثقلان.

وقوله (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) فالشواظ لهب النار ، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، ومنه قول رؤبة :

ان لهم من وقعنا إيقاظا

ونار حرب تسعر الشواظا (٢)

والنحاس : الصفر المذاب للعذاب ، في قول ابن عباس ومجاهد ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد : النحاس الدخان. قال النابغة الجعدي :

يضيء كضوء سراج السليط

لم يجعل الله فيه نحاسا (٣)

أي : دخانا.

فصل : قوله (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) الآيات : ٣٧ ـ ٤١.

قال الفراء : الدهان الأديم الأحمر. وقال الزجاج : يتلون كما يتلون الدهان المختلفة ، أي : فكان كلون فرس ورده ، وهو الكميت ، فيتلون في الشتاء لونه بخلاف لونه في الصيف ، وكذلك في الفصول سبحان خالقها.

والوردة واحدة الورد. وانما تصير السماء كالوردة في الاحمرار ثم تجري كالدهان وهو جمع دهن.

وقوله (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) معناه : لا يسأل في ذلك الموطن لما يلحقه من الدهش والذهول الذي تحار له العقول ، وان وقعت المسألة في وقت

__________________

(١). حديث متواتر رواه جمهور الفريقين في كتبهم.

(٢). مجاز القرآن ٢ / ٢٤٤.

(٣). ديوان الجعدي ص ٧٥.

٢٩٩

غيره ، بدلالة قوله (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١).

وقال قتادة : تكون المسألة قبل ثم يختم على الأفواه عند الحجة (٢) فتنطق الجوارح.

وقيل : ان معناه ان يومئذ لا يسأل عن ذنبه انس ولا جان ، ليعرف المذنب من المؤمن المخلص ، لان الله تعالى جعل عليهم علامة كسواد الوجوه وقبح الخلق ، ولم يدخل في ذلك سؤال المحاسبة للتوبيخ والتقريع ، لأنه تعالى قال (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ).

وقيل : يجوز أن يكون المراد لا يسأل أحد من انس ولا جان عن ذنب غيره ، وانما قيل هي سؤال توبيخ عن فعل نفسه.

وقوله (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) معناه : ان الله تعالى يجعل للكفار والعصاة علامات تعرفهم بها الملائكة ، فالسيماء العلامة ، ومنه قوله (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (٣) وهو مشتق من السوم ، وهو رفع الثمن عن مقداره.

وقوله (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) فالناصية شعر مقدم الرأس ، ومنه ناصية الفرس وأصله الاتصال ، من قول الشاعر :

قي يناصيها بلاد قي

فصل : قوله (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. ذَواتا أَفْنانٍ) الآيات : ٤٦ ـ ٥٥.

المعنى : لمن خاف المقام الذي يقفه فيه ربه للمسألة عما عمل فيما يجب عليه المقام الموضع الذي يصلح للقيام فيه. وبضم الميم الموضع الذي يصلح للاقامة فيه.

__________________

(١). سورة الصافات : ٢٤.

(٢). في التبيان : الجحد.

(٣). سورة الفتح : ٢٩.

٣٠٠