المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

من واجب أو ندب.

فصل : قوله (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) الاية : ٢١.

قال ابن عباس : الأحقاف هو واد بين عمان ومهوة. وقال ابن إسحاق : الأحقاف الرمل فيما بين عمان الى حضرموت. وقال قتادة : الأحقاف رمال مشرفة.

فصل : قوله (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ) الاية : ٣٥.

قال قوم : أولوا العزم هم الذين يثبتون على عقد القيام بالواجب واجتناب المحارم ، فعلى هذا الأنبياء كلهم أولوا العزم. ومن قال : ذلك جعل «من» هاهنا للتبيين لا للتبعيض.

ومن قال : ان أولي العزم طائفة من الرسل وهم قوم مخصوصون قال (مِنَ) هاهنا للتبعيض ، وهو الظاهر في روايات أصحابنا وأقوال المفسرين ، ويريدون بأولى العزم من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدم من الأنبياء قالوا : وهم خمسة أولهم نوح ، ثم ابراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى ، ثم محمد عليهم‌السلام.

سورة محمد «ص»

قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الآيات : ١ ـ ٥.

معناه : حكم الله على أعمالهم بالضلال عن الحق والعدول عن الاستقامة ، وسماها بذلك لأنها عملت على غير هدى وغير رشاد.

ومعنى التكفير في السيئات هو الحكم بإسقاط المستحق عليها من العقاب ، فأخبر تعالى أنه متى فعل المكلف الايمان بالله والتصديق لنبيه ، أسقط عقاب معاصيه حتى يصير بمنزلة ما لم يفعل.

قوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) قال قتادة وابن جريح : الاية منسوخة بقوله

٢٦١

(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١).

وقوله (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) (٢) وقال قوم : ليست منسوخة والامام مخير بين الفداء والمن والقتل بدلالة الآيات الاخر.

والذي رواه أصحابنا أن الأسير إذا أخذ قبل انقضاء الحرب والقتال والحرب قائمة ، فالإمام مخير بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويتركهم حتى ينزفوا ، وليس له المن ولا الفداء.

وان كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب ، كان مخيرا بين المن والفداء : اما بالمال أو النفس ، وبين الاسترقاق. فان أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وصار حكمه حكم المسلم.

فصل : قوله (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) الاية : ٩.

أي : حكم ببطلانها ، لأنها وقعت على خلاف الوجه المأمور به.

فصل : قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) الاية : ١٦.

قرأ ابن كثير أنفا على وزن فعل ، الباقون آنفا بالمد على وزن فاعل حكى الله تعالى لنبيه أن من الكفار من إذا جاء الى النبي عليه‌السلام واستمع لقراءة القرآن ، فلا يصغى اليه ولا ينتفع به حتى إذا خرج من عنده لم يدر ما سمعه ولا فهمه ، ويسألون أهل العلم الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين.

(ما ذا قالَ آنِفاً) أي : أي شيء قاله الساعة وقيل : معناه قريبا. وقيل : مبتديا.

والانف الجاني يأول المعنى ومنه الاستئناف ، وهو استقبال الامر بأول المعنى ، ومنه الانف لأنه أول ما يبدو من صاحبه.

__________________

(١). سورة التوبة : ٦.

(٢). سورة الانفال : ٥٨.

٢٦٢

فصل : قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ») الاية : ١٩.

الخطاب له والمراد به الامة ، لأنه عليه‌السلام لا ذنب له يستغفر منه ، ويجوز أن يكون ذلك على وجه الانقطاع اليه.

ثم قال (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي : الموضع الذي تتقلبون فيه ، وكيف تتقلبون وموضع استقراركم ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم طاعة كانت أو معصية.

فصل : قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) الاية : ٢٣ ـ ٢٤.

أي : سماهم عميا وصما وحكم عليهم بذلك ، لأنهم بمنزلة الصم والعمي من حيث لم يهتدوا الى الحق ولا أبصروا الرشد ، ولم يرد الاصمام في الجارحة والاعماء في العين ، لأنهم كانوا بخلافه صحيحي العين صحيحي السمع.

ثم قال موبخا لهم (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) معناه : أفلا يتدبرون القرآن بأن يتفكروا فيه ويعتبروا به أم على قلوب (١) قفل يمنعهم من ذلك تنبيها لهم على أن الامر بخلافه ، وليس عليها ما يمنع من التدبر والتفكر والتدبر والنظر في موجب الامر وعاقبته ، وعلى هذا دعاهم الى تدبر القرآن.

وفي ذلك حجة على بطلان قول من يقول : لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن الا بخبر وسمع.

وفيه تنبيه على بطلان قول الجهال من أصحاب الحديث أنه ينبغي أن يروى الحديث على ما جاء ، وان كان مختلا في المعنى ، لان الله تعالى دعا الى التدبر والتفقه ، وذلك مناف للتعامي والتجاهل.

ثم قال (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي : رجعوا عن الحق والايمان

__________________

(١). في التبيان : قلوبهم.

٢٦٣

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي : ظهر لهم الطريق الواضح المفضي الى الجنة.

وليس في ذلك ما يدل على أن المؤمن على الحقيقة يجوز أن يكفر (١) ، لأنه لا يمتنع أن يكون المراد من رجع عن اظهار الايمان بعد وضوح الامر فيه وقيام الحجة بصحته.

فصل : قوله (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) الاية : ٣٠.

أي : في فحوى القول ومتضمنه ، ومنه قوله عليه‌السلام «ولعل بعضكم ألحن بحجته» أي : أذهب بها في الجهات ، لقوته على تصريف الكلام. واللحن الذهاب عن الصواب في الاعراب. واللحن ذهاب بالكلام الى خلاف جهته.

فصل : قوله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) الاية : ٣٥.

أي : لن ينقصكم أجور أعمالكم ، يقال : وتره يتره وترا إذا نقصه ، وهو قول مجاهد ، وأصله القطع فمنه البتر القطع بالقتل ، ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره.

سورة الفتح

فصل : قوله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) الاية : ١ ـ ٢.

قد بينا أن شيئا من القبائح لا يجوز على الأنبياء بحال ، على أن الصغائر تقع مكفرة محبطة لا يثبت عقابها ، فكيف يمتن الله تعالى على النبي بأنه يغفر هاله وهو تعالى لو واخذه بها لكان ظالما ، وانما يصح التمدح بماله المؤاخذة وله العفو ، فإذا غفر استحق بذلك الشكر.

وللاية وجهان من التأويل :

__________________

(١). في التبيان : يرتد.

٢٦٤

أحدهما : ليغفر لك ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر بشفاعتك ولمكانك ، وأضاف الذنب الى النبي وأراد به أمته ، كما قال (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه ، وذلك جائز لقيام الدلالة ، عليه ، كما قال (وَجاءَ رَبُّكَ) (٢) والمراد جاء أمر ربك.

الثاني : أراد يغفر ما أذنبه قومك اليك من صدهم لك عن الدخول الى مكة سنة الحديبية.

فصل : قوله (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) الآيات : ٨ ـ ١٠.

معنى (تُعَزِّرُوهُ) أي : تنصروه ، فالهاء راجعة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقال المبرد : معنى (تُعَزِّرُوهُ) تعظموه.

وقوله (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) دلالة على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يريد من الكفار الكفر ، لأنه تعالى بين أنه أراد من جميع المكلفين الطاعة ولم يرد أن يعصوا.

ثم قال (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) فالمراد بالبيعة المذكورة هاهنا بيعة الحديبية ، وهي بيعة الرضوان ، والمبايعة معاقدة على السمع والطاعة كالمعاقدة في البيع والشراء.

وقوله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : عقد الله في هذه البيعة فوق عقدهم ، لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه.

والاخر : قوة الله في نصرة نبيه فوق نصرهم.

فصل : قوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا) الاية : ١١.

الاعراب الجماعة من عرب البادية ، وعرب الحاضرة ليسوا بأعراب ،

__________________

(١). سورة يوسف : ٨٢.

(٢). سورة الفجر : ٢٢.

٢٦٥

ففرقوا بينهما وان كان اللسان واحدا.

وقوله (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) البور الفاسد. وقال مجاهد : البور الهالكون.

فصل : قوله (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) الآيات : ١٦ ـ ٢٠.

يقول الله تعالى لنبيه قل لهؤلاء المخلفين الذين تخلفوا عنك من الخروج الى الحديبية (سَتُدْعَوْنَ) فيما بعد (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وقال ابن عباس : أولوا البأس الشديد أهل فارس. وقال ابن أبي ليلى والحسن : هم الروم.

وقال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة : هم هوازن بحنين.

وقال الزهري : هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب وكانوا بهذه الصفة.

واستدل جماعة من المخالفين بهذه الاية على امامة أبي بكر من حيث أن أبا بكر دعاهم الى قتال بني حنيفة ، وعمر دعاهم الى قتال فارس والروم ، وكانوا قد حرموا القتال مع النبي عليه‌السلام ، بدليل قوله (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).

وهذا الذي ذكروه غير صحيح من وجهين :

أحدهما : أنه غلط في التاريخ ووقت نزول الاية.

والثاني : أنه غلط في التأويل ، ونحن نبين فساد ذلك أجمع ، ولنا في الكلام في تأويل الاية وجهان :

أحدهما : أن ينازع في اقتضائها داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي ويبين أن الداعي لهم فيما بعد كان النبي عليه‌السلام ، على ما حكيناه عن قتادة وسعيد بن جبير

٢٦٦

في أن الاية نزلت في أهل حنين (١) ، وكان النبي عليه‌السلام هو الداعي الى ذلك.

والاخر : أن يسلم أن الداعي غيره ، ونبين أنه لم يكن أبا بكر ولا عمر ، بل كان أمير المؤمنين.

فأما الوجه الاول فظاهر ، لان قوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الى قوله (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) قد بينا أنه أراد به الذين تخلفوا عن الحديبية بإجماع المفسرين.

ثم قال (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) الى آخر الاية ، بين أن هؤلاء المخلفين سألوا أن يخرجوا الى غنيمة خيبر ، فمنعهم الله ذلك وأمر نبيه بأن يقول لهم «قل لن تتبعونا» الى هذه الغزاة (٢) ، لأنه تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، وأنه لاحظ فيها لمن لم يشهدها ، وهذا هو معنى قوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وقوله (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ).

ثم قال (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وانما أراد أن الرسول سيدعونهم فيما بعد الى قتال بهذه الصفة ، وقد دعاهم بعد ذلك الى غزوات كثيرة.

وقال قوم : أولي بأس شديد ، كمؤتة وحنين وتبوك وغيرها ، فمن أين يجب أن يكون الداعي لهم غير النبي عليه‌السلام.

فأما قولهم ان معنى (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) هو أنه أراد قوله (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فهو الغلط (٣) الفاحش في التاريخ.

__________________

(١). في التبيان : خيبر.

(٢). في التبيان : القرية.

(٣). في التبيان : مملؤ بالغلط.

٢٦٧

لأنا قد بينا أن هذه الاية التي في التوبة نزلت بتبوك سنة تسع ، وآية سورة الفتح نزلت سنة ست ، فكيف تكون قبلها ، وينبغي لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع الى التاريخ ، ويراعي أسباب نزول الاية على ما روي ، ولا يقول على الآراء والشهوات.

وتبين أيضا أن هؤلاء المخلفين غير أولئك ، وان لم يرجع الى تاريخ ونقول قوله (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) فلم يقطع فيهم على طاعة ولا معصية ، بل ذكر الوعد والوعيد على ما يتعلق به من طاعة أو معصية ، وحكم المذكورين في سورة التوبة بخلافه ، لأنه تعالى قال بعد قوله (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) الى قوله (وَهُمْ كافِرُونَ) (١).

واختلاف أحكامهم تدل على اختلافهم ، وقد حكينا عن سعيد بن جبير أنه قال : هذه الاية نزلت في هوازن يوم حنين. وقال الضحاك : هم ثقيف.

وأما الوجه الذي يسلم معه أن الداعي غير النبي عليه‌السلام ، فهو أن نقول : الداعي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنه قاتل بعده أهل الجمل وصفين وأهل النهروان ، وبشره النبي عليه‌السلام بقتالهم وكانوا أولي بأس شديد.

فان قالوا : من قاتلهم علي عليه‌السلام كانوا مسلمين. وفي الاية قال : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) كيف تتناولهم الاية؟

قلنا : أول ما نقوله : انهم غير مسلمين عندنا ولا عند جميع من خالفنا من المعتزلة لان عندهم صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا مسلم.

وأما مذهبنا في تكفير من قاتل عليا عليه‌السلام معروف ، وقد ذكرناه في كتب الامامة لقوله عليه‌السلام : حربك يا علي حربي. وغير ذلك من الاخبار والادلة التي ذكرناها في غير

__________________

(١). سورة التوبة : ٨٤ ـ ٨٦.

٢٦٨

موضع ، واستوفينا ما يتعلق بذلك في كتاب الامامة.

ويمكن على تسليم أن الداعي أبو بكر وعمر أن يقال : ليس في الاية ما يدل على مدح الداعي ولا على إمامته ، لأنه قد يدعو الى الحق من ليس عليه ، ويجب ذلك من حيث كان واجبا لا من أجل دعاء الداعي ، وأبو بكر دعاهم الى الدفاع عن الإسلام ، وهذا واجب على كل أحد بلا دعاء داع.

ويمكن أن يكون المراد بقوله (سَتُدْعَوْنَ) دعاء الله لهم بإيجاب القتال عليهم ، لأنه إذا دلهم على وجوب القتال للمرتدين ودفعهم عن بيضة الإسلام فقد دعاهم الى القتال ووجبت عليهم طاعته.

والكلام في هذه الاية كالكلام في التي قبلها في أنا إذا قلنا لا تدل على امامة الرجلين لا نكون طاعنين ، بل لا يمتنع أن يثبت فضلهما وإمامتهما بدليل غير الاية ، لان المحصلين من العلماء يذهبون الى إمامتهما من جهة الاختيار (١) لا من جهة الاية.

وقوله (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) سميت بيعة الرضوان لقول الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : كان سبب بيعة الرضوان بالحديبية تأخر عثمان حين بعثه النبي عليه‌السلام الى قريش أنهم قتلوه ، فبايعهم على قتال قريش.

وهو اخبار من الله تعالى أنه رضي عن الذين بايعوا تحت الشجرة النبي عليه‌السلام ، وكانوا مؤمنين في الوقت الذي بايعوه «فعلم ما في قلوبهم» من ايمان ونفاق ، فرضي عن المؤمنين وسخط على المنافقين.

وقيل : معناه فعلم ما في قلوبهم من صدق النية في القتال وكراهته له ، لأنه بايعهم على القتال ، ذكره مقاتل.

__________________

(١). في التبيان : الاخبار.

٢٦٩

(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) يعني : على المؤمنين ، والسكينة الصبر لقوة البصيرة.

والشجرة التي بايعوا تحتها هي السمرة.

واستدل بهذه الاية جماعة على فضل أبي بكر ، فانه لا خلاف أنه كان من المبايعين تحت الشجرة ، وقد ذكر الله أنه رضي عنهم وأنه أنزل السكينة عليهم ، وأنه علم ما في قلوبهم من الايمان وأثابهم فتحا قريبا.

والكلام على ذلك مبني على القول بالعموم ، وفي أصحابنا من قال : لا صيغة للعموم ينفرد بها ، وبه قال كثير من المخالفين.

فمن قال بذلك كانت الاية عنده مجملة لا يعلم المعنى بها ، وقد بايع النبي عليه‌السلام جماعة من المنافقين بلا خلاف ، فلا بد من تخصيص الاية على كل حال ، على أنه تعالى وصف من بايع تحت الشجرة بأوصاف قد علمنا أنها لم تحصل في جميع المبايعين ، فوجب أن يختص الرضا بمن جمع الصفات ، لأنه قال (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً).

ولا خلاف بين أهل النقل أن الفتح الذي كان بعد بيعة الرضوان بلا فصل هو فتح خيبر ، وأن رسول الله بعث أبا بكر ثم عمر ، فرجع كل واحد منهما منهزما ، فقال النبي عليه‌السلام عند ذلك «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه» فدعا عليا فأعطاه الراية ، وكان الفتح على يده ، فوجب أن يكون هو المخصوص بحكم الاية ، ومن كان معه في ذلك الفتح ، لتكامل الصفات فيهم.

على أن في من بايع بيعة الرضوان طلحة والزبير وقد وقع منهما من قتال علي عليه‌السلام ما خرجا به عن الايمان ، وفسقا عند جميع المعتزلة ومن جرى مجراهم ، ولم يمنع وقوع الرضا في تلك الحال من مواقعة المعصية فيما بعد ، فما الذي يمنع من مثل ذلك في غيره.

وليس إذا قلنا ان الاية لا تختص بالرجلين كان طعنا عليهما ، بل إذا حملناها

٢٧٠

على العموم دخلا وكل متابع مؤمن فيها ، فكان ذلك أولى.

فصل : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الاية : ٢٩.

قال ابن عباس : أثر صلاتهم يظهر في وجوههم. وقال الحسن : هو السمت الحسن. وقال قوم : هو ما يظهر في وجوههم من السهر بالليل. وقال مجاهد : معناه علامتهم في الدنيا من أثر الخشوع.

وقوله (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) شبههم بالزرع الذي ينبت حواليه نبات ويلحق به. فالشط فراخ الزرع الذي يخرج في جوانبه ، ومنه شاطئ النهر جانبه.

(فَآزَرَهُ) أي : عاونه فشد فراخ الزرع لأصول النبت وقواها. وقال أبو عبيدة آزره ساواه فصار مثل الام.

سورة الحجرات

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) الآيات : ١ ـ ٢.

أمرهم أن يتقوا الله بأن يجتنبوا معاصيه ويفعلوا طاعاته ، ثم أمرهم ثانيا بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي على وجه الاستخفاف به عليه‌السلام. فان مجاهدا وقتادة قالا : جاء أعراب أجلاف من بني تميم ، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد أخرج إلينا.

ولو أن إنسانا رفع صوته على صوت النبي عليه‌السلام على وجه التعظيم له والاجابة لقوله لم يكن مأثوما ، وقد فسر ذلك بقوله (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) فان العادة جارية أن من كلم غيره فرفع صوته فوق صوته أن ذلك دال

٢٧١

على وجه الاستخفاف به ، فلذلك نهاهم عنه.

وجهر الصوت أشد من الهمس ، ويكون شديدا وضعيفا ووسطا. والجهر ظهور الصوت بقوة الاعتماد ، ومنه الجهارة في المنطق.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) الاية : ٦.

قال ابن عباس ومجاهد ويزيد بن رومان وقتادة وابن أبي ليلى : نزلت الاية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله في صدقات بني المصطلق ، خرجوا يتلقونه فرحا به وإكراما له ، فظن أنهم هموا بقتله ، فرجع الى النبي عليه‌السلام فقال : انهم منعوا صدقاتهم وكان الامر بخلافه.

وفي الاية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل ، لان المعنى ان جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقفوا فيه.

وهذا التعليل موجود في خبر العدل ، لان العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره ، فالأمان غير حاصل في العمل بخبره.

وفي الناس من استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا ، من حيث أنه أوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق ، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه.

وهذا الذي ذكروه غير صحيح ، لأنه استدلال بدليل الخطاب ، ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء. ولو كان صحيحا ، فليست الاية بأن يستدل بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا ، بأولى من أن يستدل بتعليلها في رفع الامان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على أن خبر العدل مثله ، على أنه لا يجب العمل بخبر الواحد وان كان راويه عدلا.

فان قيل : هذا يؤدي الى أن لا فائدة في إيجاب التوقف في خبر الفاسق إذا

٢٧٢

كان خبر العدل مثله في الفائدة.

قلنا : والقول بوجوب العمل بخبر العدل (١) يوجب أن لا فائدة في تعليل الاية في خبر الفاسق الذي يشاركه العدل فيه ، فإذا تقابلا سقط الاستدلال على كل حال وبقي الأصل في أنه لا يجوز العمل بخبر الواحد الا بدليل.

فصل : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآيات : ١٢ ـ ١٥.

قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) فاللمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز أن يؤذي بذكره ، وهو المنهي عنه فأما ذكر عيبه فليس بلمز ، وروي أنه عليه‌السلام قال : قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس.

وقال ابن عباس وقتادة : لا يطعن بعضكم على بعض ، كما قال (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) لان المؤمنين كنفس واحدة ، فكأنه بقتله أخاه قاتل نفسه.

وقوله (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قال أبو عبيدة : الانباز والألقاب واحد ، فالنبز القذف باللقب ، نهاهم الله أن يلقب بعضهم بعضا. وقال الضحاك : معناه كل اسم أو صفة يكره الإنسان أن يدعى به فلا يدع به ، وانما يدعى بأحب أسمائه اليه.

وقوله (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) لا يدل على أن المؤمن لا يكون فاسقا ، لان الايمان والفسوق بعد الايمان لا يجتمعان ، لان ذلك يجري مجرى أن يقال : بئس الحال الفسوق بعد الشيب.

والمعنى بئس الاسم الفسوق مع الايمان ، كما أن المعنى بئس الحال الفسوق مع الشيب ، على أن الظاهر يقتضي أن الفسق الذي يتعقب الايمان بئس الاسم. وذلك لا يكون الا كفرا وهو بئس الاسم.

__________________

(١). في التبيان : الواحد.

(٢). سورة النساء : ٢٨.

٢٧٣

ثم خاطبهم أيضا فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) وانما قال «كثيرا» لان في جملته ما يجب العمل عليه ولا يجوز مخالفته.

وقوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فالظن الذي يكون اثما هو ما يفعله صاحبه ، وله طريق الى العلم بدلا منه مما يعمل عليه ، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله. فأما ما لا سبيل له الى دفعه بالعلم بدلا منه فليس بإثم ، فلذلك كان بعض الظن اثما دون جميعه.

والظن المحمود قد بينه الله ودل عليه في قوله (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) (١) وقيل : يعني للمؤمن (٢) أن يحسن الظن به ، ولا يسيء الظن في شيء يجد له تأويلا جميلا ، وان كان ظاهره القبيح ، ومتى فعل ذلك كان ظنه قبيحا.

وقوله (وَلا تَجَسَّسُوا) أي : لا تتبعوا عثرات المؤمن ، في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقيل : يجب على المؤمن أن يتجنب ذكر المستور عند الناس بقبيح ، لان عليهم أن يكذبوه ويردوا عليه ، وان كان صادقا عند الله ، الا أن الله ستره عند الناس.

وانما دعى الله تعالى المؤمن الى حسن الظن في بعضهم ببعض ، للالفة والتناصر على الحق ، ونهوا عن سوء الظن لما في ذلك من التقاطع والتدابر.

وقوله (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) معناه : ان من دعي الى أكل لحم أخيه فعافته نفسه ، فكرهه من جهة طبعه ، فانه ينبغي إذا دعي الى غيبة (٣) أخيه ، فعافته نفسه من جهة عقله (٤) ، فانه ينبغي أن يكرهه ، لان داعي العقل

__________________

(١). سورة النور : ١٢.

(٢). في التبيان : يلزم المؤمن.

(٣). في التبيان : عيب.

(٤). في التبيان : طبعه.

٢٧٤

أحق بأن يتبع من داعي الطبع ، لان داعي الطبع أعمى وداعي العقل بصير ، وكلاهما في صفة الناصح ، وهذا من أحسن ما يدل به على ما ينبغي أن يتجنب.

ومعنى قوله (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم من حقكم شيئا ، ومنه قوله (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) أي : ما نقصناهم.

فصل : قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) الاية : ١٧.

المن القطع بإيصال النفع الموجب للحق ، ومنه قوله «لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (٢) أي : غير مقطوع ومنه قولهم : المنة تكدر الصنيعة.

وقيل : إذا كفرت النعمة حسنت المنة ، ومن لا أحد الا وهو محتاج اليه فليس في منه تكدير النعمة ، لان الحاجة اليه لازمة ، لامتناع أن يستغنى عنه بغيره.

سورة ق

فصل : قوله (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) الاية : ٥.

أي : مختلط ملتبس ، وأصله إرسال الشيء مع غيره في المرج ، من قولهم : مرج الخيل الذكور مع الإناث ، وهو مرج الخيل أي المسرح الذي يمرج فيه ومرج البحرين أرسلهما في مسرح (٣) يلتقيان ولا يختلطان.

وقوله (مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي : مرسلة الشعاع بانتشاره ، قال الشاعر :

فجالت فالتمست به حشاها

فخر كأنه غصن مريج

أي : قد التبس بكثرة شعبه.

فصل : قوله (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ

__________________

(١). سورة هود : ٣٨.

(٢). سورة التين : ٦.

(٣). في التبيان : مرج.

٢٧٥

فُرُوجٍ) الآيات : ٦ ـ ١١.

أي : ليس فيها فتوق يمكن السلوك فيها ، وانما يسلكها الملائكة بأن يفتح لها أبواب السماء إذا عرجت اليها.

وقوله (رِزْقاً لِلْعِبادِ) الرزق هو ما للحي الانتفاع به على وجه ليس لغيره منعه منه ، والحرام ليس برزق ، لان الله تعالى منع منه بالنهي والحظر ، وكل رزق فهو من الله تعالى ، اما بأن يفعله أو يفعل سببه ، لأنه مما قد يريده وقد يرزق الواحد منا غيره ، كما يقال : رزق السلطان الجند.

فصل : قوله (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ) الآيات : ١٢ ـ ١٥.

أصحاب الرس هم أصحاب البئر الذين قتلوا نبيهم ورسوه فيها ، في قول عكرمة. وقال الضحاك : الرس بئر قتل فيها صاحب ياسين.

وقوله : (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم قوم شعيب ، والايكة الغيظة.

وقوله (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) يقال : عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه ، وأعييت إذا تعبت ، وكل ذلك من التعب في الطلب.

فصل : قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) الآيات : ١٦ ـ ١٧.

قال ابن عباس ومجاهد : الوريد عرق في الحلق ، وهما وريدان في العنق عن يمين وشمال. وقال الحسن : الوريد الوتين ، وهو عرق معلق به القلب ، فالله أقرب الى المؤمن (١) من قلبه.

وقوله (يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) يعني الملكين الموكلين بالإنسان عن يمينه وشماله قعيد. وانما وحد (قَعِيدٌ) لاحد أمرين :

أحدهما : أنه حذف من الاول لدلالة الثاني عليه ، كما قال الشاعر :

__________________

(١). في التبيان : المرء.

٢٧٦

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

الثاني : أن يكون القيد على لفظ الواحد ، ويصلح للاثنين والجمع كالرسول لأنه من صفات المبالغة وفيه معنى المصدر.

فصل : قوله (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) الآيات : ٢٢ ـ ٢٥.

أي : أزلنا الغطاء عنك حتى ظهر لك الامر ، وانما تظهر الأمور في الاخرة بما يخلق الله فيهم من العلوم الضرورية ، فيصير بمنزلة كشف الغطاء عما يرى ، والمراد به جميع المكلفين برهم وفاجرهم ، لان معارف الجميع ضرورية.

وقوله (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) معناه : ان عينيك حادة النظر ، لا يدخل عليها شك ولا شبهة. وقيل : المعنى فعلمك بما كنت فيه من أحوال الدنيا نافذ ، ليس يراد به بصر العين ، كما يقال : فلان بصير بالنحو أو بالفقه.

وقوله (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) انما قيل (أَلْقِيا) لان المأمور بإلقاء كل كافر في النار اثنان من الملائكة. وقيل : يجوز أن يكون على لفظ الاثنين والمأمور واحد ، لأنه بمنزلة إلقاء اثنين في شدته.

وحكى الزجاج عن بعض النحويين ان العرب يأمر الواحد بلفظ الاثنين ، فتقول : قوما واقعدا. قال الحجاج : يا حرسي اضربا عنقه. وانما قالوا ذلك لان اكثر ما يتكلم به العرب ممن يأمره بلفظ الاثنين.

نحو خليلي مرابي على أم جندب

وقوله «» (١) وقال المبرد : هذا فعل مبني للتأكيد كأنه قال : ألق ألق.

فصل : قوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) الاية : ٣٠.

قال قوم وهو أظهر الأقوال : ان الكلام خرج مخرج المثل ، أي : ان جهنم

__________________

(١). بياض في الأصل وكذا في التبيان.

٢٧٧

من سعتها وعظمها فيما يظهر من حالها بمنزلة الناطقة التي إذا قيل لها هل امتلأت فتقول : هل من مزيد ، أي : لم أمتل وبقي في سعة كثيرة ، ومثله قول الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملات بطني

والحوض لم يقل شيئا ، وانما أخبر عن امتلائها وأنها لو كانت ممن ينطق لقالت : قطني مهلا قد ملات بطني ، فكذلك القول في الاية.

وقال الحسن وعمرو بن عبيد وواصل : معنى هل من مزيد ما من مزيد ، وأنه بمعنى لا مزيد ، وأنكروا أن يكون طلبا للزيادة ، لقوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١).

وقال بعضهم : هذا ليس بمنكر من وجهين : أحدهما ـ أن يكون ذلك حكاية عن الحال التي هي قبل دخول جميع أهل النار فيها ، وهي لم يمتل بعد وان امتلأت فيها بعد. والاخر : أن يكون طلب الزيادة بشرط أن يزاد في سعتها.

وقال قوم : هل من مزيد بمنزلة قول النبي عليه‌السلام يوم فتح مكة وقد قيل له : ألا تترك دارك. فقال : وهل ترك لنا عقيل من ربع ، لأنه كان باع دور بني هاشم لما خرجوا الى المدينة ، وانما أراد لم يترك لنا دارا.

فصل : قوله (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) الاية : ٣١.

الازلاف التقريب الى الخير ، ومنه الزلفة والزلفى ويقولون : ازدلف اليه أي اقترب ، والمزدلفة منزلة قريبة من الموقف وهو المشعر وجمع ، ومنه قول الراجز :

ناج طواه الأين مفما وجفا

طي الليالي زلفا فزلفا

فصل : قوله (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) الآيات : ٣٦ ـ ٣٨.

أي : فتحوا المسالك في البلاد لشدة بطشهم ، فالتنقيب التفتيح لما يصلح للسلوك من نقص البنية ، فالنقب نقض موضع بما يصلح للسلوك. وقال مجاهد :

__________________

(١). سورة هود : ١١٩.

٢٧٨

نقبوا في البلاد ضربوا في الأرض ، قال امرؤ القيس :

لقد نقبت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب (١)

وقوله (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أى : هل من محيد ، وهو الذهاب في ناحية عن الامر للهرب.

وقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي : من نصب وتعب ، في قول ابن عباس ومجاهد. واللغوب الاعياء. قال قتادة : أكذب الله بذلك اليهود قالوا : استراح الله يوم السبت ، فهو عندهم يوم الراحة.

وقيل : انما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام مع قدرته على أن يخلقهما في وقت واحد ، لان في ذلك لطفا للملائكة حين شاهدوه يظهر حالا بعد حال.

وقيل : لان في الخبر بذلك لطفا للمكلفين فيما بعد إذا تصوروا أن ذلك يوجد شيئا بعد شيء مع أدب النفس به في ترك الاستعجال ، إذ جرى في فعل الله لضرب من التدبير.

سورة الذاريات

فصل : قوله (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الآيات : ١ ـ ١٠.

روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وابن عباس رحمة الله عليه ومجاهد أن الذاريات الرياح.

وسأل ابن الكواء أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يخطب على المنبر : ما الحاملات

__________________

(١). ديوان امرئ القيس ص ٤٨.

٢٧٩

وقرا؟ فقال : السحاب. فقال : ما الجاريات يسرا؟ قال : السفن. والمعنى : انها تجري سهلا ، فقال : ما المقسمات أمرا؟ فقال : الملائكة. وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن ، وهذا قسم من الله تعالى بهذه الأشياء.

وقال قوم : التقدير القسم برب هذه الأشياء ، لأنه لا يجوز القسم الا بالله ، والله تعالى يقسم بما شاء من خلقه.

وقوله (ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الزينة بالنجوم والصنعة والطرائق. وقيل : الحبك النسج الحسن ، يقال ثوب محبوك.

وقوله (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) معناه : انكم في الحق لفي قول مختلف لا يصح الا واحد منه ، وهو أمر النبي عليه‌السلام وما دعا اليه ، وهو تكذيب فريق به وتصديق فريق ، ودليل الحق ظاهر ، وفائدته أن أحد الفريقين في هذا الاختلاف مبطل ، لأنه اختلاف تناقض ، فاطلبوا الحق منه بدليله والا هلكتم.

وقوله (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) معناه : يصرف عنه من صرف ، ومنه قوله (أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) (١) أي : لتصرفنا وتصدنا.

وقوله (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) معناه لعن الكذابون ، ومثله (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (٢) والخراص الكذاب ، وأصله الخرص وهو القطع ، من قولهم خرص فلان كلاما واخترصه إذا افتراه ، لأنه اقتطعه من غير أصل يصح ، والخرص الحرز في العدد والكيل ، ومنه خارص النحل وهو حارزه ، وجمعه خراص.

تم التعليق من الجزء الثامن من كتاب التبيان في تفسير القرآن ، ولله المنة والحمد ، وكتب محمد بن إدريس مصليا حامدا.

__________________

(١). سورة الأحقاف : ٢٢.

(٢). سورة عبس : ٧.

٢٨٠