المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

قوله (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الالف ألف استفهام ومعناها الإنكار ، ووجه التوبيخ أنه كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده ، فإنهم كانوا الذين ينحرون الأصنام بأيديهم ، فكيف تصح عبادة من هذه حاله ، مضافا الى كونها جمادا.

ثم نبههم فقال (وَاللهُ) تعالى هو الذي (خَلَقَكُمْ) وخلق الذي (تَعْمَلُونَ) فيه من الأصنام ، لأنها أجسام والله تعالى هو المحدث لها ، وليس للمجبر أن يتعلق بقوله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فيقول : ذلك يدل على أن الله خالق لأفعالنا لأمور :

أحدها : أن موضوع كلام ابراهيم مبني على التقريع لهم لعبادتهم الأصنام فلو كان ذلك من فعله تعالى لما توجه عليهم العتب ، بل كان لهم أن يقولوا : ولم يوبخنا على عبادتنا للأصنام والله الفاعل لذلك ، وكانت تكون الحجة لهم لا عليهم.

الثاني : أنه قال لهم (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ونحن نعلم أنهم لم يكونوا يعبدون نحتهم الذي هو فعلهم ، وانما كانوا يعبدون الأصنام التي هي الأجسام ، وهي فعل الله بلا شك ، فقال لهم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) وخلق هذه الأجسام.

ومثله قوله (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (١) ومثله قوله (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) (٢) وعصى موسى لم يكن تلقف إفكهم ، وانما كانت تلقف الأجسام التي هي العصى والحبال.

ومنها أن (ما) في قوله (وَما تَعْمَلُونَ) لا يخلو أن يكون بمعنى «الذي» أو مع ما بعدها بمنزلة المصدر ، فان كانت بمعنى الذي فيعملون صلتها ، ولا بد لها من عائد يعود اليها ، وليس لهم أن يقدروا فيها ضمير الهاء ليصح ما قالوه ، لان لنا أن نقدر ضميرا فيه فيصح ما نقوله.

__________________

(١). سورة الاعراف : ١١٦.

(٢). سورة طه : ٦٩.

٢٢١

ويكون التقدير : وما يعملون فيه. والذي يعملون فيه هي الأجسام وان كانت مصدرية ، فانه يكون تقديره : والله خلقكم وعملكم ، ونفس العمل يعبر به عن المعمول فيه ، بل لا يفهم في العرف الا ذلك ، يقولون : فلان يعمل الخوص وفلان يعمل السروج ، وهذا الباب من عمل النجار ، والخاتم من عمل الصائغ ، ويريدون بذلك كله ما يعملون فيه.

فعلى هذا يكون الأوثان عملا لهم بما يحدثون فيها من النحت والنجر ، على أنه تعالى أضاف العمل اليهم بقوله (وَما تَعْمَلُونَ) فكيف يكون ما هو مضاف اليهم مضافا الى الله تعالى ، وهل يكون ذلك الا متناقضا.

ومنها أن الخلق في أصل اللغة هو التقدير للشيء وترتيبه ، فعلى هذا لا يمتنع أن يقول : ان الله خالق أفعالنا ، بمعنى أنه قدر لها الثواب والعقاب ، فلا تعلق للقوم على حال.

فصل : قوله (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) الآيات : ١٠٢ ـ ١١١.

(فَلَمَّا بَلَغَ) مع أبيه (السَّعْيَ) يعني في طاعة الله. قال الحسن سعى للعمل الذي تقوم به الحجة.

وقال مجاهد : بلغ معه السعي معناه أطاق أن يسعى معه ويعينه على أموره وهو قول الفراء. وقال ابن زيد : السعي في العبادة.

(قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) وكان الله تعالى أوحى الى ابراهيم في حال اليقظة وتعبده أن يمضي ما يأمره به في حال نومه من حيث أن منامات الأنبياء لا تكون الا صحيحة ، ولو لم يأمره به في اليقظة لما جاز أن يعمل على المنامات أحب أن يعلم ابنه في صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته ، فلذلك قال له «ما ذا ترى» والا فلا يجوز أن يؤامر في المضي في أمر الله ابنه ، لأنه واجب على كل حال ، ولا يمتنع أن يكون فعل ذلك بأمر الله

٢٢٢

أيضا ، فوجده عند ذلك صابرا مسلما لأمر الله.

(فَلَمَّا أَسْلَما) يعني : ابراهيم وابنه أي استسلما لأمر الله ورضيا به أخذ أبيه (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) معنى تله صرعه ، والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها ، وللوجه جبينان الجبهة بينهما. وقال الحسن : معنى تله أضجعه.

واختلفوا في الذبيح ، فقال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب القرطي وسعيد بن المسيب والحسن في احدى الروايتين عنه والشعبي : انه كان إسماعيل وهو الظاهر في روايات أصحابنا ، ويقويه قوله بعد هذه القصة وتمامها (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فدل على أن الذبيح كان إسماعيل.

ومن قال : انه يشير بنبوة إسحاق دون مولده فقد ترك الظاهر ، لان الظاهر يقتضي البشارة بإسحاق دون نبوته.

ويدل عليه أيضا قوله (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) ولم يذكر إسماعيل ، فدل على أنه كان مولودا قبله. وأيضا فانه بشره بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ، فكيف يأمره بذبحه مع ذلك. وأجابوا عن ذلك بأن الله لم يقل ان يعقوب يكون من ولد إسحاق. وقالوا أيضا : يجوز أن يكون أمره بذبحه بعد ولادة يعقوب.

والاول هو الأقوى على ما بيناه. وقد روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : أنا ابن الذبيحين. ولا خلاف أنه كان من ولد إسماعيل ، والذبيح الاخر عبد الله أبوه.

وفي الناس من استدل بهذه الاية على جواز النسخ قبل وقت فعله ، من حيث أن الله تعالى كان أمره بذبح ولده ، ثم نسخ عنه قبل أن يفعله.

ولا يمكننا أن نقول : ان الوقت كان قد مضى ، لأنه لو أخره عن الوقت الذي أمره به فيه لكان عاصيا ، ولا خلاف أن ابراهيم لم يعص بذلك ، فدل على أنه نسخ عنه قبل وقت فعله.

ومن لم يجز النسخ قبل وقت فعله ، أجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة :

٢٢٣

أحدها : أن الله أمر ابراهيم أن يقعد منه مقعد الذابح ويشد يديه ورجليه ويأخذ المدية ويتركها على حلقه ، وينتظر الامر بإمضاء الذبح على ما رأى في منامه ، وكل ذلك فعله ولم يكن أمرا بالذبح ، وان سمي مقدمات الذبح بالذبح لقربه منه ، وغلبة الظن أنه سيؤمر بذلك على ضرب من المجاز.

الثاني : أنه أمره بالذبح وذبح وكلما فرى جزء من حلقه وصله الله بلا فصل حتى انتهى الى آخره ، فاتصل به وصل الله تعالى قدر فعل ما أمره به ولم يبن الرأس ولا انتفى الروح.

الثالث : أنه أمر بالذبح بشرط التخلية والتمكين ، فكان كما روي أنه كلما اعتمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفيحة من نحاس.

وهذا الوجه ضعيف ، لان الله تعالى لا يجوز أن يأمر بشرط ، لأنه عالم بالعواقب وانما يأمر الواحد منا بشرط ذلك ، لأنه لا يعلم العواقب ، ولان فيه أنه أمر بما منع وهذا عبث.

وأما شبهة من قال : انه فداه بذبح ، فدل ذلك على أنه كان مأمورا بالذبح على الحقيقة ، اعتراضا على الوجه الاول ، لان من شأن الفداء أن يكون من جنس المفدي.

فليس بشيء ، لأنه لا يلزم ذلك. ألا ترى أن من حلق رأسه وهو محرم يلزمه دم وكذلك إذا لبس ثوبا مخيطا أو شم طيبا أو جامع ، وان لم يكن جميع ذلك من جنس المفدي.

وقوله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي : الإحسان (١) الظاهر. وقيل : هو النعمة الظاهرة ، وتسمى النعمة بلاء والنقمة أيضا بلاء ، من حيث أنها سميت بسببها المؤدي اليها ، كما يقال لاسباب الموت هو الموت بعينه.

__________________

(١). في التبيان : الاختبار.

٢٢٤

والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه ، ومنه فداء المسكين بالمشركين لدفع ضرر الأسر عنهم. فكذلك فدى الله ابراهيم بالكبش ليدفع ضرر الذبح عنه.

وقوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) يعني : على ابراهيم (فِي الْآخِرِينَ) يعني : أثنينا عليه الثناء الحسن في أمة محمد لأنهم آخر الأمم بأن قلنا (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ).

فصل : قوله (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآيات : ١٢٣ ـ ١٢٥.

من أضاف أراد به على آل محمد عليهم‌السلام ، لان «يس» اسم من أسماء محمد على ما حكيناه.

وقال بعضهم : أراد آل الياس عليه‌السلام. وقال الجبائي : أراد أهل القرآن. ومن لم يضف أراد الياس ، وقال : الياسين ، لان العرب تغير الأسماء الاعجمية بالزيادة كما يقولون : ميكائيل وميكائين وفي إسماعيل اسمعين ، قال الشاعر :

يقول أهل السوق لما جينا

هذا ورب البيت اسرائينا

أي : إسرائيل.

قوله (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) قال الحسن والضحاك وأبو زيد : المراد بالبعل هاهنا صنم كانوا يعبدونه.

والبعل في لغة أهل اليمن هو الرب ، يقولون : من فعل هذا الثوب ، أي من ربه ، وزوج المرأة بعلها ، والنخل والزرع إذا استغنى (١) بماء السماء فهو بعل وهو العذي.

فصل : قوله (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الآيات : ١٤٠ ـ ١٤٨.

معناه : حين هرب الى السفن المملوءة ، فالآبق الفار الى حيث لا يهتدي اليه طالبه ، يقال : أبق العبد يأبق اباقا فهو آبق إذا فر من مولاه. والآبق والهارب والفار واحد.

__________________

(١). في التبيان : استقي.

٢٢٥

وقوله (فَساهَمَ) قال ابن عباس : معناه قارع ، وهو قول السدي (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) قال مجاهد : يعني من المسهومين ، والمساهمة المقارعة. فلما ساهم يونس قومه وقع السهم عليه ، فألقي في البحر فالتقمه الحوت فكان من المدحضين قال الحسن : كان من المقروعين.

قيل : انما ساهموا لأنهم أشرفوا على الغرق ، فرأوا ان طرح واحد أيسر من غرق الجميع.

وقيل : لا بل رأوا الحوت قد تعرضت لهم ، قالوا : فينا مذنب مطلوب فتقارعوا فلما خرج على يونس رموا به في البحر.

«فالتقمه الحوت» ومعناه ابتلعه.

وقوله (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) معناه : تكنه من حر الشمس ، واليقطين كل شجرة ليس لها ساق يبقى من الشتاء الى الصيف فهي يقطين. وقال ابن عباس وقتادة : هو القرع.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : كل شجر لا يقوم على ساق كالبطيخ والدبا وهو القرع ، فهو يقطين وهو تفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به اقامة زائل لا اقامة راسخ ، كالنخل والزيتون ونحوه.

والقطان من الحبوب التي يقوم في البيت ، مثل العدس والحلز والحمص واحدها قطنية وقطنية وقطنية ، سميت بذلك لقطونها البيت.

وقوله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قيل : ان قوم يونس لما رأوا أمارات العذاب ، ولم يكونوا قد بلغوا حد الإلجاء واليأس من البقاء آمنوا وقبل الله ايمانهم ، لأنه لو كانوا حصلوا في العذاب لكانوا ملجئين ، ولما صح ايمانهم على وجه يستحق به الثواب.

وقوله (أَوْ يَزِيدُونَ) قيل : في معنى (أَوْ) ثلاثة أقوال :

٢٢٦

أحدها : أن يكون بمعنى الواو ، وتقديره الى مائة ألف وزيادة عليهم.

الثاني : أن يكون بمعنى «بل» على ما قال ابن عباس.

الثالث : أن يكون بمعنى الإبهام على المخاطبين ، كأنه قال : أرسلناه الى احدى العدتين.

سورة ص

فصل : قوله (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) الاية : ٣.

الشقاق الخلاف.

ومعنى (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) حين فرار من العقاب وقيل : المناص المنجاة.

فصل : قوله (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) الاية : ٦.

معناه هذا الذي يدعيه محمد ويدعونا اليه لشيء يراد به أمر ما من الاستعلاء علينا والرئاسة فينا والقهر لنا.

فصل : قوله (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ) الاية : ١١.

والجند جمع معد للحرب ، وجمعه أجناد وجنود وجند الأجناد ، أي : جيش الجيوش ، ومثله قوله «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

فصل : قوله (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) الاية : ١٦.

يقول الله تعالى مخبرا عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأنهم يقولون على وجه الاستهزاء بعذاب الله : «يا (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا)» أي قدم لنا نصيبنا من العذاب.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : طلبوا حظهم من العذاب تهزئا بخبر الله وشكا فيه.

وقيل : انما سألوا أن يعجل كتبهم التي يقرءونها في الاخرة استهزاءا منهم

٢٢٧

بهذا الوعيد والقط الكتاب ، قال الأعشى :

ولا الملك النعمان يوم لقيته

بنعمته (١) يعطي القطوط ويأفق (٢)

فصل : قوله (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) الآيات : ٢١ ـ ٢٥.

يعني : حين صعدوا المحراب.

والخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق المنازع له فيه ، ويعبر به عن الواحد والاثنين والجماعة بلفظ واحد ، لان أصله المصدر ، ولذلك قال (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) لأنه أراد المدعي والمدعى عليه ومن تبعهما ، فلا يمكن أن يتعلق به في أن أقل الجمع اثنان.

والتسور الإتيان من جهة السور ، يقال : تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها ، وكانوا أتوه من أعلى المحراب ، فلذلك فزع منهم.

والمحراب مجلس الاشراف الذي يحارب دونه لشرف صاحبه ، ومنه سمي المصلي محرابا ، وموضع القبلة أيضا محراب.

وقوله (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) لأنهما كانا ملكين ولم يكونا خصمين ولا بغى أحدهما على الاخر ، وانما هو على المثل.

(فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) معناه : ولا تجاوز الحق. وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصبهاني : الخصمان من ولد آدم ولم يكونا ملكين.

وقوله فقال (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) قال وهب بن منبه : يعني أخي في ديني. وقال أكثر المفسرين : انه كنى بالنعاج عن تسع وتسعين امرأة كانت له ، وأن الاخر له نعجة واحدة يعني امرأة واحدة. وقال الحسن : لم يكن له تسع وتسعون امرأة وانما هو على وجه المثل.

__________________

(١). في التبيان : بأمته.

(٢). ديوان الأعشى ص ١١٧.

٢٢٨

وقال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني : أراد النعاج بأعيانها ، وهو الظاهر غير أنه خلاف أقوال المفسرين وقال : هما خصمان من ولد آدم ولم يكونا ملكين وانما فزع منهما ، لأنهما دخلا عليه في غير الوقت المعتاد ، وهو الظاهر ، غير أنه خلاف أقوال المفسرين على ما بيناه.

وقوله تعالى (أَكْفِلْنِيها) معناه اجعلني كفيلا بها ، أي ضامنا لأمرها ، ومنه قوله (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) (١) وقال أبو عبيدة : معناه ضمها اليه. وقال ابن عباس وابن مسعود معنى (أَكْفِلْنِيها) أنزل لي عنها (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي : غلبني.

فقال له داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ومعناه : ان كان الامر على ما تدعيه لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه ، فأضاف السؤال الى المفعول به وهي النعجة وأن يضيف اليها.

ثم أخبر أن كثيرا من الشركاء والخلطاء ليبغي بعضهم على بعض فيظلمه.

وقال أصحابنا : كان موضع الخطيئة أن قال للخصم : لقد ظلمك من غير أن يسأل خصمه عن دعواه ، وفي أدب القضاء : ألا يحكم بشيء ولا يقول حتى يسأل خصمه عن دعوى خصمه ، فما أجاب به حكم به. وهذا ترك الندب في ذلك.

وفي الناس من قال : ان ذلك كانت صغيرة منه وقعت مكفرة. والشرط الذي ذكرناه لا بد فيه ، لأنه لا يجوز أن يخبر النبي أن الخصم ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع ، وانما يجوز مع تقدير الشرط الذي ذكرناه.

فصل : قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ) الآيات : ٣١ ـ ٣٦.

(بِالْعَشِيِّ) يعني : آخر النهار. قال ابن زيد : صفن الخيل قيامها على ثلاث مع رفع رجل واحدة يكون طرف الحافر على الأرض ، قال الشاعر :

ألف الصفون فما يزال كأنه

مما يقوم على الثلاث كسيرا

__________________

(١). سورة آل عمران : ٣٧.

٢٢٩

قوله (لا يَنْبَغِي) قال أبو عبيدة : معنى لا ينبغي لا يكون وأنشد :

في رأس خلقاء من عنقاء مشرفة

لا ينبغي دونها سهل ولا جبل

قال أبو عبيدة : أي لا يكون فوقها سهل ولا جبل أخشن (١) منها.

وقوله (رُخاءً) قال قتادة : معناه طيبة سريعة. وقال ابن زيد : لينة. وقال ابن عباس مطيعة ، وبه قال الضحاك والسدي.

والرخاء الريح اللينة ، وهو رخاوة المر وسهولته.

ومعنى قوله (حَيْثُ أَصابَ) قال ابن عباس ومجاهد السدي والضحاك : معناه حيث أراد يقول القائل : أصاب الله بك الرشاد ، أي أراد الله.

فصل : قوله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) الاية : ٤٤.

فالضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ وما أشبه ذلك ، قال عوف بن الجزع :

وأسفل منى فهدة قدر بطنها

وألقيت ضغثا من خلا متطيب

فصل : قوله (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) الآيات : ٤٨ ـ ٥٢.

قيل : ذو الكفل ذو الضعف من الثواب. وقيل : كان اسمه ذلك. وقيل : سمي بذلك لأنه يكفل بأمر أنبياء خلصهم من القتل. وقيل : تكفل بعمل صالح فسمي به.

قوله (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) يعني : قصرن طرفهن على أزواجهن فما لهن في غير بغية ، فالقاصر نقيض الماد ، يقال : هو قاصر طرفه عن فلان وماد عينه الى فلان ، قال امرؤ القيس :

من القاصرات الطرف لو دب محول

من الذر فوق الاتب منها لاثرا (٢)

والاتراب الاقران على سن واحد ليس منهن هرمة ولا عجوز. قال الفراء :

__________________

(١). في التبيان : أحصن.

(٢). ديوان امرئ القيس ص ٩١.

٢٣٠

لا يقال الاتراب الا في الإناث ولا يقال في الذكران ، قال ابن أبي ربيعة :

أبرزوها مثل المهاة تهادى

بين عشر كواعب أتراب (١)

وهو مأخوذ من اللعب بالتراب. وقيل : أتراب على مقدار سن الازواج من غير زيادة ولا نقصان.

فصل : قوله (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) الاية : ٥٧ ـ ٥٨.

الحميم الحار الشديد الحرارة ، ومنه الحمى لشدة حرارتها ، وحم الشيء إذا دنا وأحمه لهذا أي أدناه ، قال الشاعر :

أحم الله ذلك من لقاء

أحاد أحاد في الشهر الحلال (٢)

والغساق ما يسيل من صديد أهل النار ، وقال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل اليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية. وقيل : هو قيح شديد النتن.

ثم قال (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) معناه : أنواع آخر من شكل العذاب (أَزْواجٌ) أي : أمثال.

الشكل بفتح الشين الضرب المتشابه. والشكل بكسر الشين النظير في الحسن وهو الدل.

فصل : قوله (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) الاية : ٧٥.

انما قال «بيدي» على وجه تحقيق الاضافة لخلقه اليه تعالى ، لأنه أمر به أو كان عن سبب أدى اليه ، والتثنية أشد مبالغة ، ومثله قولهم «هذا ما كسبت يداك» أي : ما كسبته أنت ، وقال الشاعر :

أيها المبتغي فناء قريش

بيد الله عمرها والفناء

ويحتمل أن يكون على اليمين ، كأنه أقسم فقال : بنعمتي الدينية والدنياوية.

__________________

(١). ديوانه ص ٥٩.

(٢). اللسان «حمم».

٢٣١

فصل : قوله (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الآيات : ٧٧ ـ ٨٣.

أصل الرجيم المرجوم ، وهو المرمي بالحجر (وَإِنَّ عَلَيْكَ) يا إبليس (لَعْنَتِي) يعني ابعادي لك من رحمتي (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) يعني يوم القيامة الذي هو يوم الجزاء ، فقال إبليس عند ذلك يا (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أى : أخرني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أى : يوم يحشرون للحساب ، وهو يوم القيامة.

فقال له الله تعالى (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي : من المؤخرين (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي : اليوم الذي قدر الله فيه اماتتك ، فعلى هذا لا يلزم إبليس أن يكون مغرا بالقبائح لعلمه بأنه يبقى ، لأنه لا وقت الا وهو يجوز أن يخترم فيه ولا يقدر على التوبة ، فالزجر حاصل له.

ومن قال : انه اجابه الى يوم القيامة يقول : كما أعلمه أنه يبقيه الى يوم يبعثون أعلمه أيضا أنه من أهل النار لا محالة ، وأنه لا يتوب وصح مع ذلك تكليفه ، لأنه يلزمه بحكم العقل أن لا يفعل القبيح من حيث أنه متى فعله زاد عقابه ، ويضاعف على ما يستحق له ، وتخفيف العقاب عن النفس واجب بحكم العقل ، كما يجب إسقاط العقاب جملة.

ثم حكى تعالى ما قال إبليس ، فانه أقسم و (قالَ فَبِعِزَّتِكَ) يا الهي (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فالعزة القدرة التي يقهر بها غيره من القادرين.

والإغواء التخييب ، فإبليس يغوي الخلق بأن يزين لهم القبيح ويرغبهم فيه والغي خلاف الرشد وهو الخيبة.

٢٣٢

سورة الزمر

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) الآيات : ٣ ـ ٤.

معناه : أنه تعالى لا يهدي الى طريق الجنة ، أو لا يحكم بهدايته الى الحق من هو كاذب على الله في أنه أمره باتخاذ الأصنام ، كافر بما أنعم عليه ، جاحد لا خلاص العبادة ، ولم يرد الهداية الى الايمان ، لأنه قال (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (١).

ثم قال تعالى (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) على ما يقول هؤلاء من أن الملائكة بنات الله ، أو على ما يقوله النصارى من أن عيسى ابن الله ، أو يقوله اليهود ان عزير ابن الله «لاصطفى» أي : لاختار مما يخلق ما يشاء.

فصل : قوله (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) الاية : ٧.

وفي ذلك دلالة على أن الكفر ليس من فعل الله ولا بإرادته ، لأنه لو كان مريدا له لكان راضيا به ، لان الرضا هي الارادة إذا وقعت على وجه.

وقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) معناه : لا يؤاخذ بالذنب الا من يفعله ويرتكبه ولا يؤاخذ به غيره وذلك نهاية العدل.

وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة في أن الله يعذب أطفال الكفر بكفر آبائهم.

فصل : قوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) الاية : ٢٣.

معناه : متشابها في الحكم التي فيه من الحجج والمواعظ والأحكام التي يعمل عليها في الدين وصلاح التدبير ، فيشبه بعضه بعضا لا تناقض فيه.

(مَثانِيَ) أى : يثنى فيه الحكم والوعد والوعيد بتصريفها في ضروب البيان ويثنى أيضا في التلاوة ، فلا يمل بحسن مسموعه في القراءة (٢).

__________________

(١). سورة فصلت : ٧.

(٢). في التبيان : القرآن.

٢٣٣

فصل : قوله (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الاية : ٣٣.

قال قتادة وأبو زيد : الذي جاء بالصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدق به المؤمنون.

وقال السدي : الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون جاءوا بالصدق الذي هو القرآن وصدقوا به ، وهو حجتهم في الدنيا والاخرة.

وقال الزجاج : الذي هاهنا والذين بمعنى واحد يراد به الجميع.

والصحيح أن قوله (وَصَدَّقَ بِهِ) من صفة الذي جاء بالصدق ، لأنه لو كان غيره لقال : والذي جاء بالصدق والذي صدق به.

وقوله (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) يعني من جاء بالصدق وصدق به هم المتقون.

فصل : قوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الاية : ٣٦.

يحتمل معناه شيئين :

أحدهما : أن من أضله الله عن طريق الجنة بكفره ومعاصيه فليس له هاد يهديه اليها.

والثاني : من حكم الله بضلاله وسماه ضالا إذا ضل هو عن الحق ، فليس له من يحكم بهدايته ويسميه هاديا.

ثم بين عكس ذلك فقال (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) وهو يحتمل أيضا الامرين :

أحدهما : من يهديه الله الى طريق الجنة فلا أحد يضله عنها.

والثاني : من يحكم بهدايته ويسميه هاديا ، فلا أحد يمكنه أن يحكم بضلاله على الحقيقة.

فصل : قوله (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) الاية : ٤١.

معناه : أنزلنا على أنه حق بأنه حق ، فهذه فائدة الباء. وفي ذلك حجة على

٢٣٤

من زعم أنه تعالى يريد بانزاله إضلال الكافرين عن الايمان ، لأنه لو كان كذلك لم يكن منزلا بالحق ، وإذا كان منزلا على أنه حق ، وجب النظر في موجبه ومقتضاه فما رغب فيه وجب العمل به ، وبما حذر منه وجب اجتنابه ، وما صححه وجب تصحيحه ، وما أفسده وجب إفساده ، وما دعى اليه فهو الرشد ، وما صرف عنه فهو الضلال.

ثم قال (فَمَنِ اهْتَدى) يعني بما فيه من الادلة (فَلِنَفْسِهِ) لان منفعة عاقبته من الثواب تعود عليه.

(وَمَنْ ضَلَّ) عنه وجاز (١) (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) يعني على نفسه ، لان وخيم عاقبته من العقاب تعود عليه.

فصل : قوله (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) الآيات : ٥٣ ـ ٥٥.

معناه : قل لهم يا محمد (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بارتكاب المعاصي (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) اي : لا تيأسوا من رحمته ، يقال : قنط يقنط قنوطا إذا يئس (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) انه هو الغفور الرحيم.

وفي ذلك دلالة واضحة على أنه يجوز أن يغفر الله بلا توبة تفضلا منه ، وبشفاعة النبي عليه‌السلام ، لأنه لم يشترط التوبة بل أطلقه. وروي عن فاطمة عليها‌السلام أنها قالت ان الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي.

وروي عن علي عليه‌السلام وعن ابن عباس أنهما قالا : أرجى آية في كتاب الله قوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٢) فقال عبد الله بن عمرو بن العاص بل أرجى آية في كتاب الله قوله (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وهو المروي

__________________

(١). في التبيان : وحاد.

(٢). سورة الرعد : ٧.

٢٣٥

عن علي عليه‌السلام أيضا.

وقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) وانما قال (أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ) لأنه أراد بذلك الواجبات والنفل التي هي الطاعات دون المباحات والمقبحات التي لا يأمر بها.

وقال قوم : (أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يريد به الناسخ دون المنسوخ وهذا خطأ ، لان المنسوخ لا يجوز العمل به بعد النسخ وهو قبيح ، ولا يكون الحسن أحسن من قبيح.

وقال الحسن : أحسنه أن يأخذوا بما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه.

فصل : قوله (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) الآيات : ٥٦ ـ ٥٩.

النفس نفس الإنسان. والفرق بين النفس والروح أن النفس من النفاسة والروح من الريح ، فأنفس ما في الحيوان نفسه ، وهو جسم رقيق روحاني من الريح ، ونفس الشيء هو الشيء بعينه.

والتفريط إهمال ما يجب أن يتقدم فيه حتى يفوت وقته ، ومثله التقصير ، وضده الأخذ بالحزم ، يقال : فلان حازم وفلان مفرط.

وقوله (فِي جَنْبِ اللهِ) معناه : فرطت في طاعة الله ، أو في أمر الله الا أنه ذكر الجنب ، كما يقال : هذا صغير في جنب ذلك الماضي ، أي : في أمره وفي جهته ، وإذا ذكر هذا دل على الاختصاص به من وجه قريب من معنى صفته (١).

وقوله (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) قال قتادة والسدي : معناه المستهزئين بالنبي والكتاب الذي معه. وقيل : معناه كنت ممن يسخر بمن يدعوني الى الايمان.

وقوله (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلى

__________________

(١). في التبيان : جنبه.

٢٣٦

قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ).

وفي ذلك دليل على بطلان مذهب المجبرة في أن الكافر لا يقدر على الايمان لأنه لو كان إذا رد لا يقدر على الايمان لم يكن لتمنيه معنى.

فصل : قوله (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآيات : ٦٣ ـ ٦٦.

المقاليد المفاتيح واحده مقليد ، كقولك منديل ومناديل ، ويقال في واحده أيضا إقليد وجمعه أقاليد ، وهو من التقليد والمعنى : له مفاتيح خزائن السماوات والأرض يفتح الرزق على من يشاء ويغلقه على من يشاء.

وقوله (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآيات. ليس في ذلك ما يدل على صحة الإحباط على ما يقوله أصحاب الوعيد لان المعنى في ذلك لئن أشركت بعبادة الله غيره من الأصنام أوقعت عبادتك على وجه لا يستحق عليها الثواب.

ولو كانت العبادة خالصة لوجهه لاستحق عليها الثواب ، فلذلك وصفها بأنها محبطة ، وبين ذلك بقوله (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي وجه عبادتك اليه تعالى وحده دون الأصنام.

فصل : قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الاية : ٦٧.

يقول الله تعالى مخبرا عن حال الكفار انهم ما عظموه حق عظمته إذ دعوك الى عبادة غيره.

ومعنى الاية أن الأرض بأجمعها في مقدوره ، كما يقبض عليه القابض فيكون في قبضته. وكذلك قوله (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) معناه أي في مقدوره طيها ، وذكرت اليمين مبالغة في الاقتدار والتحقيق للملك. وقيل : اليمين القوة ، قال الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

٢٣٧

فصل : قوله (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) الآيات : ٧١ ـ ٧٥.

الزمر جمع زمرة ، وهي الجماعات لها صوت كصوت المزمار ، ومنه مزامير داود عليه‌السلام ، يعني أصوات كانت له مستحسنة.

وقوله (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

وقيل : تسبيحهم ذلك الوقت على سبيل التنعم والتلذذ ثوابا لهم على أعمالهم لا على وجه التعبد ، لأنه ليس هناك تكليف.

وقيل : الوجه في ذلك تشبيه حال الاخرة بحال الدنيا ، فان السلطان الأعظم إذا أراد الجلوس للمظالم والقضاء بين الخلق قعد على سريره وأقام حشمه وجنده قدامه وحوله تعظيما لأمره ، فلذلك عظم الله أمر القضاء في الاخرة بنصب العرش وقيام الملائكة حوله معظمين له تعالى مسبحين وان لم يكن تعالى على العرش ، لان ذلك يستحيل عليه ، لكونه غير جسم ، والجلوس على العرش من صفات الأجسام.

سورة غافر

فصل : قوله (حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ) الآيات : ١ ـ ٣.

قال قتادة والحسن : حم اسم السورة. وقال شريح بن أو في العبسي :

يذكرني حم والرمح شاجر (١)

فهلا تلا حم قبل التقدم

وقوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) معنى (قابِلِ التَّوْبِ) أنه يقبل توبة من تاب اليه من المعاصي ، بأن يثيب عليها ويسقط عقاب معاصي ما تقدمها تفضلا منه ولذلك كان صفة مدح. ولو كان سقوط العقاب عندها واجبا لما كان فيه مدح.

والتوب يحتمل وجهين : أحدهما ـ أن يكون جمع توبة ، كدوم ودومة وعموم وعومة. والثاني : أن يكون مصدر تاب يتوب توبا.

__________________

(١). في التبيان : شاهر.

٢٣٨

فصل : قوله (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الآيات : ١١ ـ ١٥.

قال السدي : الاماتة الاولى في الدنيا ، والثانية في البرزخ إذا أحيى للمسائلة قبل البعث يوم القيامة ، وهو اختيار الجبائي والبلخي.

والعلي القادر الذي ليس فوقه من هو أقدر منه ولا من هو مساو له في مقدوره وجاز وصفه تعالى بالعلي لان الصفة بذلك تقلب من علو المكان الى علو الشأن ، يقال : استعلى عليه بالقوة واستعلى عليه بالحجة.

وقوله (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) معناه : رفيع طبقات الثواب الذي يعطيها الأنبياء والمؤمنين في الجنة.

وقوله (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) قيل : الروح القرآن.

وقيل : معنى الروح هاهنا الوحي ، لأنه يحيى به القلب بالخروج من الحياة (١) الى المعرفة.

فصل : قوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) الاية : ١٦.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أنه تعالى يقرر عباده فيقول (لِمَنِ الْمُلْكُ) فيقول المؤمنون والكفار بأنه (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

والثاني : أنه القائل لذلك وهو المجيب لنفسه ، ويكون في الاخبار بذلك مصلحة للعباد في دار التكليف.

قوله (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : لا يشغله محاسبة واحد عن محاسبة غيره فحساب جميعهم على حد واحد.

فصل : قوله (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) الاية : ١٨.

نفي من الله أن يكون للظالمين شفيع يطاع.

__________________

(١). في التبيان : الجهالة.

٢٣٩

ويحتمل أن يكون المراد بالظالمين الكفار ، فهؤلاء لا يلحقهم شفاعة شافع أصلا. وان حملنا على عموم كل ظالم من كافر ومؤمن ، جاز أن يكون انما أراد نفي شفيع يطاع ، وليس في ذلك نفي شفيع يجاب.

ويكون المعنى ان الذين يشفعون يوم القيامة من الأنبياء والملائكة والمؤمنين انما يشفعون على وجه المسألة اليه والاستكانة اليه ، ولذلك قال النبي عليه‌السلام لبريرة انما أنا شافع ، فكونه فوقها في الرتبة لم يمنع من اطلاق اسم الشفاعة على سؤاله.

فصل : قوله (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ. وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) الآيات : ٣١ ـ ٣٣.

أخبر أنه تعالى لا يريد ظلما لعباده ولا يؤثره لهم ، وذلك دال على فساد قول المجبرة الذين يقولون ان كل ظلم في العالم بارادة الله.

و «يوم التناد» قيل : هو اليوم الذي ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور ، لما يرى من سوء عاقبة الكفر والمعصية له.

وقيل : انه اليوم الذي ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) (١) وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) (٢).

فصل : قوله (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) الآيات : ٣٦ ـ ٣٧.

قيل : ان هارون أول من طبخ الأجر لبناء الصرح ، والصرح البناء العالي الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وان بعد ، وهو من التصريح بالأمر ، وهو إظهاره بأتم الاظهار.

__________________

(١). سورة الاعراف : ٤٣.

(٢). سورة الاعراف : ٤٩.

٢٤٠