المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وغير ذلك من الحقوق.

فصل : قوله (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) الآيات : ٥١ ـ ٥٥.

قال ابن عباس : خيره الله بين طلاقهن وإمساكهن.

وقال قوم : معناه تترك نكاح من شئت وتنكح من تشاء من نساء أمتك.

وقال مجاهد : معناه تعزل من شئت من نسائك ، فلا تأتيها وتأتي من شئت من نسائك ، فلا تقسم لها.

فعلى هذا يكون القسم ساقطا عنه ، فكان ممن أرجى ميمونة وأم حبيبة وجويرية وصفية وسودة. فكان يقسم من نفسه وماله ما شاء ، وكان ممن يأوي عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ، فكان يقسم بينهن نفسه وماله بالسوية.

وقال زيد بن أسلم : نزلت في اللاتي وهبن أنفسهن ، فقال الله له : تزوج من شئت منهن وتترك من شئت ، وهو اختيار الطبري ، وهو أليق بما تقدم.

والارجاء هو التأخير ، وهو من تبعيد وقت الشيء عن وقت غيره ، ومنه الارجاء في فساق أهل الصلاة ، وهو تأخير حكمهم بالعقاب الى الله.

«وتؤوي منهن من تشاء» فالايواء ضم القادر غيره من الأحياء الذين من جنس ما يعقل الى ناحيته ، تقول : آويت الإنسان آويه ايواءا ، وأوى هو يأوي أويا إذا انضم الى مأواه.

وقوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) قال ابن عباس والحسن : يعني بعد التسع اللاتي كن عنده واخترنه مكافاة لهن على اختيارهن الله ورسوله.

وقال أبي بن كعب : لا يحل لك من بعد ، أي حرم عليك ما عدا اللواتي ذكرت بالتحليل في «انا أحللنا لك» الاية ، وهو ست أجناس النساء اللاتي هاجرن معه واعطائهن مهورهن وبنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه ، ومن وهبت نفسها له بجميع ما شاء من العدد لا يحل له من غيرهن من النساء.

٢٠١

وقال مجاهد : لا يحل لك النساء من أهل الكتاب ويحل لك المسلمات.

وروي أن حكم هذه الاية نسخ وأبيح له من النساء ما شاء أي جنس أراد وكم أراد فروي عن عائشة أنها قالت : لم يخرج النبي عليه‌السلام من دار الدنيا حتى حلل له ما أراد من النساء ، وهو مذهب أكثر الفقهاء ، وهو المروي عن أصحابنا في أخبارنا.

(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) قال ابن زيد : معناه أن تعطي زوجتك لغيرك وتأخذ زوجته ، لان أهل الجاهلية كانوا يتبادلون الزوجات.

ثم قال «ولا» يحل لكم أيضا «أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا» لأنهن صرن بمنزلة أمهاتكم في التحريم.

وقال السدي : لما نزل الحجاب قال رجل من بني تيم أنحجب من بنات عمنا فان مات عرسنا بهن ، فنزل قوله (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) الاية ان ذلك ان فعلتم كان عند الله عظيما.

ثم استثنى لازواج النبي عليه‌السلام من يجوز لها محادثتهم ومكالمتهم ، فقال (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ).

ولم يذكر العم والخال ، لأنه مفهوم من الكلام ، لان قرباهم واحدة ، لأنهن لا يحلان (١) لواحد من المذكورين بعقد نكاح على وجه ، فهن محرم لهم ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن.

قال قوم : من النساء والرجال وقال آخرون : من النساء خاصة. وهو الأصح.

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآيات : ٥٦ ـ ٦٠.

يقول الله تعالى مخبرا أنه يصلي وملائكته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصلاة الله تعالى

__________________

(١). في التبيان : لا يحللن.

٢٠٢

عليه هو ما يفعل به من كراماته وتفضيله وأعلى درجاته ورفع منازله وثنائه عليه ، وغير ذلك من أنواع إكرامه. وصلاة الملائكة مسألتهم الله تعالى أن يفعل به عليه‌السلام مثل ذلك.

وزعم بعضهم أن يصلون فيه ضمير الملائكة دون اسم الله ، مع افراده (١) بأن الله يصلي على النبي ، لكنه يذهب في ذلك الى أن في افراده بالذكر تعظيما ، ذكره الجبائي.

ثم أمر تعالى المؤمنين المصدقين بوحدانية المقرين بنبوة نبيه أن يصلوا أيضا عليه ، وهو أن يقولوا : اللهم صل على محمد وآل محمد ، كما صليت على ابراهيم وآل ابراهيم. في قول ابن عباس.

ثم أمر المؤمنين أيضا بأن يسلموا لأمره تعالى وأمر رسوله تسليما في جميع ما يأمرهم به. والتسليم هو الدعاء بالسلامة ، كقولهم : سلمك الله ، والسلام عليك ورحمة الله. وكقولك : السلام عليك يا رسول الله.

والجلابيب جمع جلباب ، وهو خمار المرأة ، وهي المقنعة تغطي جبينها ورأسها إذا خرجت لحاجة ، بخلاف خروج الإماء اللاتي يخرجن مكشفات الرؤوس والجباه في قول ابن عباس ومجاهد.

وقال الحسن : الجلابيب الملاحف تدينها المرأة على وجهها «ذلك أدنى أن يعرفن» من الإماء ومن أهل الريبة «فلا يؤذين».

«والمرجفون في المدينة» فالارجاف اشاعة الباطل للاغتمام به ، فالمرجفون هم الذين كانوا يطرحون الاخبار الكاذبة بما يشتغلون به قلوب المؤمنين.

فصل : قوله (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) الاية : ٦٧.

__________________

(١). في التبيان : إقراره.

٢٠٣

فالسادة جمع سيد ، وهو المالك (١) المعظم الذي يملك تدبير السواد الأعظم ويقال للجمع الأكثر السواد الأعظم ، يراد به السواد المنافي لشدة البياض والضياء الأعظم.

فصل : قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الاية : ٧٢.

الامانة هي العقد الذي يلزم الوفاء به مما من شأنه أن يؤتمن على صاحبه ، وقد عظم الله شأن الامانة في هذه الاية وأمر بالوفاء بها ، وهو الذي أمر به في سورة المائدة ، وعناه بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وقيل : في قوله (عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) مع أن هذه الأشياء كمالات لا يصح تكليفها أقوال :

أحدها : أن المراد عرضنا على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال.

وثانيها : أن المعنى في ذلك تفخيم شأن الامانة وتعظيم حقها ، وأن من عظم منزلتها أنها لو عرضت على الجبال والسماوات مع عظمها ، وكانت تعلم بأمرها لا شفقت منها ، غير أنه خرج مخرج الواقع ، لأنه أبلغ من المقدر.

وقيل : الامانة ما خلق الله تعالى في هذه الأشياء من الدلائل على ربوبيته ، فظهور ذلك منها كأنهم أظهروها ، والإنسان جحد ذلك وكفر به.

وانما قال (فَأَبَيْنَ) ولم يقل فأبوا حملا على اللفظ ، ولم يرده الى معنى الآدميين ، كما قال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٣) حملا على المعنى دون اللفظ.

__________________

(١). في التبيان : الملك.

(٢). سورة يوسف : ٤.

(٣). سورة الشعراء : ٤.

٢٠٤

سورة سبأ

فصل : قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) الاية : ١.

الحمد هو الشكر ، والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. والحمد هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم. ونقيضه الذم ، وهو الوصف بالقبيح على جهة التحقير ، ولا يستحق الحمد الأعلى الإحسان.

فلما كان احسان الله لا يوازيه احسان أحد من المخلوقين ، فكذلك لا يستحق الحمد أحد من المخلوقين مثل ما يستحقه. وكذلك يبلغ شكره الى حد العبادة ، ولا يستحق العبادة سوى الله تعالى ، وان استحق بعضنا على بعض الشكر والحمد.

(وَلَهُ الْحَمْدُ) في الاولى يعني في الدنيا بما أنعم على خلقه من فنون الإحسان «وفي الاخرة» يفعل بهم من الثواب والعوض وضروب التفضل.

والاخرة وان كانت ليست دار تكليف فلا يسقط فيها الحمد والاعتراف بنعم الله تعالى ، بل العباد ملجؤون الى فعل ذلك ، لمعرفتهم الضرورية بنعم الله تعالى عليهم.

وما يفعل من العقاب بالمستحقين فيه أيضا احسان ، لما للمكلفين به في دار الدنيا من الالطاف والزجر عن المعاصي ، يفعل الله تعالى لكونه مستحقا على معاصيه في دار الدنيا.

ومن حمد أهل الجنة قولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) وقولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا).

وقيل : انما يحمده أهل الاخرة من غير تكليف على وجه السرور به.

فصل : قوله (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) الاية : ١٢.

٢٠٥

قال قتادة : كان مسيرها به الى انتصاف النهار في مقدار مسير شهر ، ورواحها شهر من انتصاف النهار الى الليل في مقدار مسير شهر.

وقال الحسن : كان يغدو من الشام الى بيت المقدس ، فيقيل بإصطخر من ارض أصبهان ، ويروح منها فيكون بكابل.

«وأسلنا له عين القطر» قال ابن عباس وقتادة : أذبنا له النحاس. والقطر النحاس.

فصل : قوله (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ) الاية : ١٦.

لما أخبر الله تعالى عن سبأ ، وهي القبيلة من اليمن أنه أنعم عليهم بالجنتين وبالبلدة الطيبة ، وأمرهم بشكر نعمه (فَأَعْرَضُوا) عن ذلك ، جازاهم الله على ذلك بأن أرسل عليهم سيل العرم ، وسلبهم تلك النعمة ، وأنزل بهم البلية.

والسيل الماء الكثير الذي لا يمكن ضبطه ولا دفعه.

وقيل : العرم ماء كثير أرسله الله في السد ، فشقه وهدمه ، قال الراجز :

أقبل سيل جاء من أمر الله

يحرد حرد الجنة المغلة (١)

وقيل : ان العرم المسناة التي تحبس الماء واحدها عرمة ، وهو مأخوذ من عرامة الماء ، وهو ذهابه كل مذهب ، قال الأعشى :

ففي ذلك للمؤتسي اسوة

ومأرب قفى عليه العرم

رجام بنته له حمية

إذا جاء ماؤهم لم ترم

وقيل : كان سببه زيادة الماء حتى غرقوا به. وقيل : كان سببه نقب جرذ نقب عليهم السكر. وقيل : العرم السكر.

وقيل. المطر الشديد. وقيل : هو اسم واد. وقيل : هو الجرذ الذي نقب

__________________

(١). اللسان «غلل».

٢٠٦

السكر.

والاكل جنا الثمار الذي يؤكل. والخمط كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله ، في قول الزجاج. وقال أبو عبيدة : هو كل شجر ذي شوك. وقال ابن عباس والحسن : هو شجر الأراك وهو معروف.

والأثل الطرفا. قال قتادة : بدلوا بخير الشجر شر الشجر ، فالخمط شجر له ثمر مر ، والأثل ضرب من الخشب مثل الطرفا الا أنه أكبر.

فصل : قوله (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الاية : ٢٣ ـ ٢٤.

قوله (الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي : الله المستعلى على الأشياء بقدرته ، لا من علو المكان «الكبير» في أوصافه دون ذاته ، لان كبر الذات من صفات الأجسام.

ثم قال (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وقيل : انما قال (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) على وجه الانصاف في الحجاج دون الشك ، كما يقول القائل لغيره : أحدنا كاذب وان كان هو عالما بالكاذب. وعلى هذا قال أبو الأسود الدؤلي يمدح أهل البيت :

يقول الأرذلون بنو قشير

طول الدهر ما تنسى عليا

بنو عم النبي وأقربوه

أحب الناس كلهم اليا

فان يك حبهم رشدا أصبه

ولست بمخطئ ان كان غيا

ولم يقل هذا مع أنه كان شاكا في محبتهم ، وأنه هدى وطاعة.

وقال أكثر المفسرين : ان معناه انا لعلى هدى وإياكم لعلى ضلال.

وقال ابو عبيدة : أو بمعنى الواو ، كما قال الأعشى :

٢٠٧

أتغلبه الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهية والحشايا (١)

فصل : قوله (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) الاية : ٥٠.

أي : ان عدلت عن الحق (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) لان ضرره يعود علي ، لاني أؤاخذ به دون غيري (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) الى الحق (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي : يسمع دعاء من يدعوه قريب الى اجابته.

وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة ، لأنه قال (إِنْ ضَلَلْتُ) فأضاف الضلال الى نفسه ولم يقل فبقضاء ربي وارادته.

سورة الملائكة

فصل : قوله (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) الاية : ١١.

هذا خطاب من الله تعالى لجميع الخلق من البشر أنه خلقهم من تراب ويريد أن آدم الذي هو أبوهم ، ومنه انتسلوا خلقه من تراب ، ومنه توالدوا.

وقيل : ان المراد به جميع الخلق ، لأنهم إذا خلقهم من نطفة ، والنطفة تستحيل من الغذاء ، والغذاء يستحيل من التراب ، فكأنه خلقهم من تراب ، ثم جعل التراب نطفة بتدريج.

وعلى الاول يكون قوله (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) معناه ثم خلق أولاد آدم من نطفة الا من استثناه من عيسى في قوله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) (٢).

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ١٤٨.

(٢). سورة آل عمران : ٥٩.

٢٠٨

وقوله (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي : أشكالا ، لان الزوج هو الذي معه آخر من شكله ، فالاثنان زوجان.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) معناه : ليس تحمل الأنثى من حمل بولد ، ولا تضعه لتمام أو لغير تمام الا والله تعالى عالم به ، لا أن علمه آلة في ذلك ولا يدل ذلك على أن له علما يعلم به ، لان المراد ما ذكرناه ، من أنه لا يحصل شيء من ذلك الا وهو عالم به.

وقوله (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) فالعمر مدة الأجل للحياة ، وهو تفضل من الله تعالى على خلقه ، يختلف مقداره بحسب ما يعلم من مصالح خلقه ، كما يختلف الغنى والفقر والقوة والضعف.

فصل : قوله (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) الاية : ١٩.

معناه : لا يتساوى الأعمى عن طريق الحق والعادل عنها. والبصير الذي يهتدي اليها قط ، لان الاول يستحق العقاب ، والثاني يستحق الثواب.

فصل : قوله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الاية : ٣٢.

الاصطفاء الاختيار بإخراج الصفوة من العباد.

ومعنى الاية أن الله تعالى أورث علم الكتاب الذي هو القرآن الذين اصطفاهم واجتباهم واختارهم على جميع الخلق من الأنبياء المعصومين ، والائمة المجتبين الذين لا يجوز عليهم الخطأ ولا فعل القبيح لا صغيرا ولا كبيرا ، ويكون قوله (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) راجعا الى عباده.

وتقديره : فمن عبادنا ظالم لنفسه ، ومن عبادنا مقتصد ، ومن عبادنا سابق بالخيرات لان من اصطفاه الله تعالى لا يكون ظالما لنفسه. ولا يجوز أن يرجع الكناية الى الذين اصطفينا.

٢٠٩

وقال ابن عباس : الذين أورثهم الله الكتاب هم أمة محمد ورثهم الله كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسبهم حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخلون الجنة بغير حساب ، وبه قال ابن مسعود وكعب الأحبار. ومعنى الإرث انتهاء الحكم اليهم.

سورة يس

فصل : قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) الآيات : ٦ ـ ٨.

معناه : أنه أنزل القرآن ليخوف به من معاصي الله قوما لم ينذر آباؤهم. قيل : أراد به قريشا أنذروا بنبوة محمد.

وقيل : في معناه قولان :

أحدهما : قال عكرمة : معناه لتنذر قوما مثل الذي أنذر آباؤهم.

الثاني : قال قتادة : معناه لتنذر قوما لم تنذر آباؤهم قبلهم ، يعني في زمان الفترة بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام (فَهُمْ غافِلُونَ) عما تضمنه القرآن وعما أنذر الله به من نزول العذاب.

ومثل الغفلة السهو ، وهو ذهاب المعنى عن النفس ، ومثله النسيان ، وهو ذهاب الشيء عن النفس بعد حضوره فيها.

وقوله (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) فالمقمح الغاض بصره بعد رفع رأسه.

وقيل : هو المقنع ، وهو الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع والقمح من هذا رفع الشيء الى الفم ، والبعير القامح هو الذي إذا أورد الماء في الشتاء رفع رأسه وشال به نصبا لشدة البرد ، قال الشاعر :

ونحن على جوانبها قعود

نغض الطرف كالإبل القماح (١)

__________________

(١). اللسان «قمح».

٢١٠

فصل : قوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) الاية : ١٢.

معناه : أحصينا كل شيء أحصيناه في كتاب ظاهر ، وهو اللوح المحفوظ.

والوجه في احصاء ذلك في امام مبين اعتبار الملائكة به إذا قابلوا به ما يحدث من الأمور ، وكان فيه دليل على معلومات الله على التفصيل.

فصل : قوله (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الاية : ٤٠.

يعني : الشمس والقمر والكواكب يسبحون في الفلك. وانما جمعه بالواو والنون لما أضاف اليها أفعال الآدميين.

وقيل : الفلك مواضع النجوم من الهواء الذي يجري فيه ومعنى (يَسْبَحُونَ) يسيرون فيه بانبساط ، وكل ما انبسط في شيء فقد سبح ، ومنه السباحة في الماء.

فصل : قوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) الآيات : ٥١ ـ ٥٢.

قيل : ان الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل ، فيخرج من جوفه صوت عظيم تميل العباد اليه ، لأنه كالداعي لهم الى نفسه.

وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة مثل بسرة وبسر ، وهو مشتق من الميل صاره يصوره صورا إذا أماله ، ومنه قوله (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) (١) أي : أملهن اليك ومنه الصورة لأنها تميل الى مثلها بالمشاكلة.

ثم حكى ما يقول الخلائق إذا حشروا ، فإنهم يقولون (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) أي : من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما ، ثم يقولون (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فيما أخبرونا عن هذا المقام وعن البعث.

فان قيل : هذا ينافي قول المسلمين الذين يقولون : الكافر يعذب في قبره ، لأنه لو كان معذبا لما كان في المنام.

قيل : يحتمل أن يكون العذاب في القبر ، ويتصل الى يوم البعث ، فتكون

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٦٠.

٢١١

الموتة (١) بين الحالين.

ويحتمل لو كان متصلا أن يكون ذلك عبارة عن عظم ما يشاهدونه ويحصلون (٢) فيه يوم القيامة : فكأنهم كانوا قبل ذلك في مرقد ، وان كانوا في عذاب لما كان قليلا بالاضافة الى الحاصل.

فصل : قوله (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) الآيات : ٦٢ ـ ٦٥.

يعني : أضل عن الدين الشيطان (مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي : خلقا كثيرا ، وإضلاله إياهم هو اغواؤه لهم ، كما أضل السامري قوم موسى لما دعاهم الى عبادة العجل فكان الإضلال على هذا الوجه قبيحا.

فأما إضلال الله تعالى للكفار عن طريق الجنة الى طريق النار ، أو اضلالهم بمعنى الحكم عليهم بالضلال ، فهو حسن. وأمر الشيطان بالضلال الذي يقع معه القبول إضلال ، كما يسمى الامر بالاهتداء الذي يقع عنده القبول هدى.

وفي الاية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في ارادة الله تعالى اضلالهم ، لان ذلك أضر عليهم من ارادة الشيطان وأشد عليهم في إيجاب العداوة.

ثم أخبر تعالى بأنه يختم على أفواه الكفار يوم القيامة ، فلا يقدرون على الكلام والنطق (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وقيل : في معنى شهادة الأيدي قولان :

أحدهما : أن الله تعالى يخلقها خلقة يمكنها أن تتكلم وتنطق وتعترف بذنوبها.

والثاني : أن يجعل الله فيها كلاما ونسبه اليها لما ظهر من جهتها.

وقال قوم : انه يظهر فيها من الامارات ما يدل على أن أصحابنا عصوا بها وجنوا بها أقبح الجنايات ، فسمى ذلك شهادة ، كما يقول القائل : عيناك تشهد

__________________

(١). في التبيان : النومة.

(٢). في التبيان : ويحضرون.

٢١٢

بسهرك ، قال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

وكل ذلك جائز.

فصل : قوله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) الآيات : ٦٩ ـ ٧٠.

معناه : ما علمناه الشعر ، لأنا لو علمناه لدخلت به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن وأنه قدر على ذلك بما طبعه في الفطنة للشعر.

وقوله (مَنْ كانَ حَيًّا) قيل : معناه من كان مؤمنا ، لان الكافر شبهه ومثله بالأموات في قوله (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) (١).

فصل : قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) الاية : ٨٠.

فبين أن من قدر على أن يجعل في الشجر الأخضر الذي هو في غاية الرطوبة نارا حاميا مع تضاد النار للرطوبة حتى إذا احتاج الإنسان حك بعضه ببعض وهو المزح والعفار فمن قدر على ذلك لا يقدر على الاعادة.

ثم قال تعالى (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) والمعنى بذلك الاخبار عن تسهل الفعل عليه ، وأنه إذا أراد فعل شيء فعله ، بمنزلة ما يقول للشيء (كُنْ فَيَكُونُ) في الحال ، وهو مثل قول الشاعر :

وقالت له العينان سمعا وطاعة

وحدرتا بالدر لما يثقب

وانما أخبر عن سرعة دمعه دون أن يكون قولا على الحقيقة.

سورة الصافات

فصل : قوله (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الآيات

__________________

(١). سورة النحل : ٢١.

٢١٣

١ ـ ٣.

وقال مسروق وقتادة والسدي : ان الصافات صفا هي الملائكة صفوف (١) في السماء.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) قال السدي ومجاهد. هم الملائكة يزجرون الخلق عن المعاصي زجرا يوصل الله مفهومه الى قلوب العباد ، كما يوصل مفهوم إغواء الشيطان الى قلوبهم ليصح التكليف. وقيل : انها تزجر السحاب في سوقه.

وقوله (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قيل : فيه ثلاثة أقوال : أحدهما ـ قال مجاهد والسدي هم الملائكة تقرأ كتب الله تعالى.

فصل : قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) الاية : ٩.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد : معناه أن لهم مع ذلك أيضا عذاب دائم (٢) يوم القيامة ، ومنه قوله (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) (٣) أي : دائما ، قال أبو الأسود :

لا اشتري (٤) الحمد القليل بقاؤه

يوما بذم الدهر أجمع واصبا

فصل : قوله (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) الاية : ١١.

والمراد أن خلق آدم من طين ، وأن هؤلاء نسله وذريته ، فكأنهم خلقوا من الطين.

ومعنى (لازِبٍ) لازم. وقال ابن عباس : اللازب الملتصق من الطين الحر الجيد. وقال قتادة : هو الذي يلتزق باليد.

ومن قال معنى (لازِبٍ) لازم قال : أبدلت من الميم الباء ، لأنها مخرجها

__________________

(١). في التبيان : مصطفون.

(٢). في التبيان : عذابا دائما.

(٣). سورة النحل : ٥٢.

(٤). في التبيان : لا ابتغى.

٢١٤

يقولون : طين لازم وطين لازب ، قال النابغة :

ولا يحسبون الخير لا شر بعده

ولا يحسبون الشر ضربة لازب (١)

فصل : قوله (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) الاية : ٢٨.

حكاية ما يقول الكفار لمن قبلوا منهم : انكم كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمين والبركة ، فلذلك اغتررنا بكم ، والعرب تتيمن بما جاء من جهة اليمين.

وقال الفراء : معناه انكم كنتم تأتوننا من قبل اليمين ، فتخدعونا من أقوى الوجوه. واليمين القوة ، ومنه قوله (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) (٢) أي : بالقوة.

فصل : قوله (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) الاية : ٣١.

أخبروا أيضا وقالوا (فَحَقَّ عَلَيْنا) أيضا ، أي : وجب علينا (قَوْلُ رَبِّنا) فانا لا نؤمن ونموت على الكفر ، أو وجب علينا قول ربنا ، فالعذاب الذي يستحق على الكفر والإغواء.

(إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب ، بمعنى انا ندركه كما ندرك المطعوم بالذوق.

فصل : قوله (لا فِيها غَوْلٌ) الاية : ٤٧.

معناه : لا يكون في ذلك الشراب (غَوْلٌ) أي : فساد يلحق العقل خفيا ، يقال : اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره ، ومنه الغيلة وهي القتل سرا.

وقال ابن عباس (لا فِيها غَوْلٌ) معناه لا يكون فيها صداع ولا أذى ، كما يكون في خمر الدنيا قال الشاعر :

وما زالت الكأس تغتالنا

ونذهب بالأول الاول (٣)

فهذا من الغيلة ، أي : نصرع واحد بعد واحد (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي :

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ١٦٧.

(٢). سورة الصافات : ٩٣.

(٣). مجاز القرآن ٢ / ١٦٩.

٢١٥

ولا يسكرون. والنزيف السكران لأنه ينزف عقله.

فصل : قوله (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) الاية : ٥٣.

معناه : لمجزيون مشتق من قولهم «كما تدين تدان» أي : كما تجزي تجزى ، والدين الحساب ، ومنه الدين لان جزاءه القضاء.

وقال ابن عباس : القرين الذي كان شريكا له كان من الناس. وقال مجاهد : كان شيطانا.

فصل : قوله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) الآيات : ٦١ ـ ٧٠.

يقول الله تعالى ثم تمام الحكاية عن قول المؤمن للكافر (لِمِثْلِ هذا) يعني لمثل ثواب الجنة ونعيمها (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) في دار التكليف ، ويحسن من العامل أن يعمل العمل للثواب إذا أوقعه على الوجه الذي تدعو اليه الحكمة من وجوب أو ندب.

قال الرماني : ألا ترى أنه لو عمل القبيح ليثاب على ما تدعو اليه الحكمة لاستحق الثواب إذا خلص من الإحباط.

وهذا الذي ذكره غير صحيح ، لان القبيح لا يجوز أن يستحق عليه الثواب على وجه ، فان عرض في القبيح وجوه كثيرة من وجوه الحسن ، فانه لا يعتد بها.

فان علمنا فيما ظاهره القبح أنه وقع على وجه يستحق به الثواب علمنا أنه خرج من كونه قبيحا ، ومثال ذلك اظهار كلمة الكفر عند الإكراه عليها ، أو الإنكار لكون نبي بحضرته لمن يطلبه ليقتله ، فان هذا وان كان كذبا في الظاهر ، فلا بد أن يؤري المظهر بما يخرجه عن كونه كاذبا ، ومتى لم يحسن التورية منع الله من اكراهه عليه.

وفي الناس من يقول : يجب عليه الصبر على القتل ولا يحسن منه الكذب ، ومتى كان ممن يحسن التورية ولم يور كان القول منه كذبا وقبيحا ولا يستحق به الثواب.

٢١٦

فأما الإكراه على أخذ مال الغير ، أو إدخال ضرر عليه دون القتل ، فمتى علمنا بالشرع وجوب فعل ذلك عند الإكراه أو حسنه ، علمنا أنه خرج بذلك من كونه قبيحا ، وأن الله ضمن من العوض عليه ما يخرجه عن كونه قبيحا ، كما نقول في ذبح البهائم. ومتى لم يعلم بالشرع ذلك ، فانه يقبح إدخال الضرر على الغير وأخذ ماله.

فأما إدخال الضرر على نفسه ببذل مال ، أو عمل جراح ليدفع بذلك عن نفسه ضررا أعظم منه ، فانه يحسن. لأنه وجه يقع عليه الألم ، فيصير حسنا. وهذا باب أحكمناه في كتاب الأصول ، لا يحتمل هذا الموضع أكثر منه.

وقوله (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) انما جاز ذلك مع أنه لا خير في الزقوم لامرين :

أحدهما : على الحذف ، بتقدير أسبب هذا الذي أدى اليه خير أم سبب ذلك النار ، كأنهم قالوا فيه خير لما عملوا ما أدى اليه.

والنزل الفضل طعام له نزل ونزل ، أي فضل ريع.

والزقوم قيل : هو ثمر شجرة منكرة جدا من قولهم «يزقم هذا الطعام» إذا تناوله على تكره ومشقة شديدة. وقيل : شجرة الزقوم ثمرة مرة خشنة منتنة الرائحة.

وقوله (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) قيل : في تشبيه ذلك برءوس الشياطين مع أن رؤوس الشياطين لم تر قط ثلاثة أقوال :

أحدها : أن قبح صورة الشيطان متصور في النفس ، ولذلك يقولون لشيء يستقبحونه جدا كأنه شيطان ، وقال امرؤ القيس :

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

فشبه بأنياب أغوال وهي لم تر ، ويقولون : كأنه رأس شيطان وانقلب علي

__________________

(١). ديوان امرئ القيس ص ١٦٢.

٢١٧

كأنه شيطان.

والثاني : أنه شبه برأس حية تسميها العرب شيطانا.

الثالث : أنه شبه بنبت معروف برءوس الشياطين.

فصل : قوله (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ. وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الآيات : ٧٥ ـ ٧٦.

فالنجاة هو الرفع من الهلاك ، وأصله الرفع ، فمنه النجوة المرتفع من المكان ، ومنه النجي النجي كقولهم الوحى الوحى ، والاستنجاء رفع الحدث.

والكرب الحر (١) الثقيل على القلب ، والكرب (٢) تحرير الأرض بإصلاحها للزراعة ، والكرب هو الذي يحمي قلب النخلة باحاطته بها وصيانته لها.

فصل : قوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الآيات : ٨١ ـ ٨٣.

الشيعة الجماعة التابعة لرئيس لهم ، وصار بالعرف عبارة عن شيعة علي عليه‌السلام الذين معه على أعدائه.

وقيل : من شيعة نوح ابراهيم ، يعني انه على منهاجه وسنته في التوحيد والعدل واتباع الحق.

فصل : قوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) الآيات : ٨٨ ـ ٨٩.

قيل : معناه (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أنه استدل بها على وقت حمى كانت تعتاده (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ومن اشرف على شيء جاز أن يقال : انه فيه ، كما قال تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣) ولم يكن نظره في النجوم على حسب نظر

__________________

(١). في التبيان : الحزن.

(٢). في النسخ : والكراب.

(٣). سورة الزمر : ٣٠.

٢١٨

المنجمين طلبا للاحكام ، لان ذلك فاسد ، ومثله قول الشاعر :

أسهري ما سهرت أم حكيم

واقعدي مرة لذاك وقومي

وافتحي الباب وانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

وقال الزجاج : نظر في النجوم كنظرهم ، لأنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فتوهمهم (١) أنه يقول مثل قولهم ، فقال عند ذلك (إِنِّي سَقِيمٌ) فتركوه ظنا منهم أن نجمه يدل على سقمه.

وقال أبو مسلم : معناه أنه نظر فيها نظر مفكر ، فاستدل بها على أنها ليست آلهة له ، كما قال تعالى في سورة الانعام (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (٢) تمام الآيات ، وكان هذا منه في زمان مهلة النظر.

وهذا الذي ذكره يمنع منه سياق الاية ، لان الله تعالى حكى عن ابراهيم أنه جاء ربه بقلب سليم ، يعني سليم من الشرك ، وذلك لا يليق بزمان مهلة النظر.

ثم انه قال لقومه على وجه التقبيح لفعلهم (ما ذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا كلام عارف بالله مستبصر ، فكيف يحمل على زمان مهلة النظر.

وقيل : في معنى قوله «اني سقيم» أي : سقيم القلب فيما أرى من أحوالكم القبيحة من عبادة غير الله وعدو لكم عن عبادته ، مع وضوح الدلالة الدالة على توحيده واستحقاقه للعبادة منفردا بها. وقيل : معناه أي سأسقم في المستقبل.

فأما من قال : انه لم يكن سقيما وانما كذب فيه ليتأخر عن الخروج معهم الى عيدهم ليكسر أصنامهم ، وأنه يجوز الكذب في المكيدة والتقية ، فقوله باطل لان الكذب قبيح لا يحسن على وجه.

__________________

(١). في التبيان : فتوهموا هم.

(٢). سورة الانعام : ٧٦.

٢١٩

فأما ما يروونه من أن النبي عليه‌السلام قال : ما كذب أبي ابراهيم الا ثلاث كذبات يحاجز بها عن ربه : قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) ولم يكن كذلك ، وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وقوله في سارة انها اختي وكانت زوجته.

فأول ما فيه أنه خبر واحد لا يعول على مثله ، والنبي عليه‌السلام أعرف بما يجوز على الأنبياء وما لا يجوز من كل أحد. وقد دلت الادلة العقلية على أن الأنبياء لا يجوز أن يكذبوا فيما يؤدونه عن الله ، من حيث أنه كان يؤدي الى أن لا يثق بشيء من أخبارهم ، والى أن لا تنزاح علة المكلفين ، ولا في غير ما يؤدونه عن الله ، من حيث أن تجويز ذلك ينفر عن قبول قولهم ، فاذن يجب أن يقطع على أن الخبر لا أصل له.

ولو سلم لجاز أن يكون المعنى ما ظاهره الكذب ، وان لم يكن في الحقيقة كذبا ، لان قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) قد بينا الوجه فيه. وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) بيناه في موضعه.

وقوله في سارة انها أختي معناه انها اختي في الدين وقد قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١) فجعلهم اخوة وان لم يكونوا بني أب واحد.

فصل : قوله (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) الآيات : ٩٣ ـ ١٠١.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أنه مال عليهم بيده اليمنى ، لأنها أقوى على العمل من الشمال.

الثاني : بالقسم ليكسرنها ، لأنه كان قال (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) (٢).

وقال الفراء : اليمين القوة. ومنه قول الشاعر :

تلقاها عرابة باليمين

__________________

(١). سورة الحجرات : ١٠.

(٢). سورة الأنبياء : ٥٧.

٢٢٠