المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

في النظر المؤدي الى معرفته.

ولا يناقض قوله (لا يَعْلَمُونَ) لقوله (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) لان ذلك ورد مورد المبالغة لهم بالذم ، لتضييعهم علم (١) ما يلزمهم من أمر الله ، كأنهم لا يعلمون شيئا. ثم بين حالهم فيما عقلوا عنه وما علموه.

ومعنى (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : عمران الدنيا متى يزرعون؟ ومتى يحصدون؟ وكيف يبنون؟ ومن أين يعيشون؟ وهم جهال بحال الاخرة وله مضيعون ، ذكره ابن عباس. أي : عمروا الدنيا وأخربوا الاخرة.

والغفلة ذهاب المعنى عن النفس كحال النائم ، ونقيضه اليقظة وهي حضور المعنى للنفس كحال المنتبه ، ونقيضه السهو.

ثم قال (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بأن يهلكهم من غير استحقاق ابتداء.

وفي ذلك بطلان قول المجبرة : ان الله يبتدأ خلقه بالهلاك.

ثم قال (وَلكِنْ كانُوا) هم (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بأن جحدوا نعم الله.

ثم أخبر تعالى أنه الذي (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) قال ابن عباس وابن مسعود : معناه يخرج الإنسان وهو الحي من النطفة وهي الميتة ، ويخرج الميتة وهي النطفة من الإنسان وهي حي.

وقال قتادة : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن.

فصل : قوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) الاية : ٢١.

قال قتادة : المعنى هاهنا أنه خلقت حواء من ضلع آدم. وقال غيره : المعنى خلق لكم من شكل أنفسكم أزواجا. وقال الجبائي : المعنى خلق أزواجكم من نطفكم.

__________________

(١). في التبيان : على.

١٨١

قوله (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) فالالسنة جمع لسان ، واختلافها ما بناها الله تعالى وهيأها مختلفة في الشكل والهيئة ، وتأتي الحروف بها واختلاف مخارجها.

وقال قوم : المراد بالالسنة اختلاف اللغات.

وهذا جواب من يقول : ان اللغات أصلها من فعل الله دون المواضعة ، فأما من يقول : اللغات مواضعة ، فان تلك المواضعة من فعلهم.

فصل : قوله (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الاية : ٢٧.

حكى ابن عباس أنه قال : المعنى وهو أهون عليه عندكم ، لأنكم أقررتم بأنه بدأ الخلق ، فاعادة الشيء عند المخلوقين أهون من ابتدائه. وروي عن ابن عباس أيضا أن معناه وهو هين عليه ، قال الشاعر :

لعمرك ما أدري واني لا وجل

على أينا تعدو المنية أول

أي : اني لو اجل والله أكبر بمعنى كبير.

ثم قال (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال مجاهد : فطرة الله الإسلام.

وقيل : فطر الناس عليها ولها وبها بمعنى واحد ، كما يقول القائل لرسوله : بعثتك على هذا ولهذا وبهذا بمعنى واحد. ونصب (فِطْرَتَ اللهِ) على المصدر.

وقيل : تقديره اتبع فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لان الله تعالى خلق الخلق للايمان ، ومنه قوله «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ومعنى الفطر الشق ابتداء يقولون : انا فطرت هذا الشيء ، أي : أنا ابتدأته. والمعنى خلق خلق الله للتوحيد والإسلام.

فصل : قوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) الاية : ٣٦.

انما قال (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ولم يقل بما قدموا على التغليب للاكثر الأظهر لان أكثر العمل وأظهره لليدين ، والعمل بالقلب وان كان كثيرا فهو أخفى وانما

١٨٢

يغلب الأظهر.

قوله (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) قال الجبائي : وما آتيتم من ربا لتربوا بذلك أموالكم (فَلا يَرْبُوا) لأنه لا يملكه الرابي بل هو لصاحبه ولا يربو عند الله ، لأنه يستحق به العقاب.

فصل : قوله (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) الاية : ٤١.

قيل : فساد البر هو ما يحصل فيها من المخاوف المانعة من سلوكه ، وفساد البحر اضطراب أمره حتى لا يكون للعباد متصرف فيه.

وقال قتادة : المعنى ظهر الفساد في أهل البر والبحر ، فأهل البر أهل البادية ، وأهل البحر أهل القرى الذين على الأنهار العظيمة.

فصل : قوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) الاية : ٥٥.

قيل : في قسمهم بذلك مع أن معارفهم ضرورية قولان :

أحدهما : قال أبو بكر بن الاخشاذ ذلك يقع منهم قبل إكمال عقولهم ، ويجوز قبل الإلجاء أن يقع منهم قبيح.

والثاني : قال الجبائي : ان المراد أنه منذ ما يقطع عنا عذاب القبر.

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي : يكذبون ، لأنه اخبار عن غالب الظن بما لا يعلمون ، قال : ولا يجوز ان يقع منهم القبيح في الاخرة ، لان معارفهم ضرورية.

سورة لقمان

فصل : قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الاية : ٦.

قيل : في معناه قولان :

١٨٣

أحدهما : أنه يشتري كتابا فيه لهو الحديث.

الثاني : أنه يشتري لهو الحديث بحق (١) الحديث.

واللهو الأخذ فيما يصرف الهم من غير الحق. واللهو واللعب والهزل نظائر.

وقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد : لهو الحديث الغناء ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

فصل : قوله (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) الاية : ١٦.

تقديره : ان تلك الحبة لو كانت في جوف صخرة وهي الحجرة العظيمة ، أو تكون في السماوات أو في الأرض يأت بها ويحاسب عليها ويجازي عليه ، لأنه لا يخفى عليه شيء منها ولا يتعذر عليه الإتيان بها أي موضع كانت ، لأنه قادر لنفسه.

انما أنت (مِثْقالَ حَبَّةٍ) لأنه مضاف الى مؤنث وهي الحبة ، كما : قيل ذهبت بعض أصابعه ، وكما قيل :

كما شرقت صدر القناة من الدم (٢)

والصخرة وان كانت في الأرض أو في السماء ، فذكر السماوات والأرض بعدها مبالغة ، كقوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ).

والمثقال مقدار يساوي غيره في الوزن ، فمقدار الحبة مقدار حبة في الوزن ، وقد صار بالعرف عبارة عن وزن الدينار. فإذا قيل : مثقال كافور أو عنبر ، فمعناه مقدار الدينار الوازن (٣).

قوله (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) معناه : لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا ، ذكره ابن

__________________

(١). في التبيان : عن.

(٢). ديوان الأعشى ص ١٨٣.

(٣). في التبيان : بالوزن.

١٨٤

عباس. وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها حتى تلتفت أعناقها ، فتشبه به الرجل المتكبر على الناس ، قال الشاعر وهو الفرزدق :

وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من مثله فتقوما

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي : مختالا متكبرا.

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) فالاختيال مشية البطر. وقال مجاهد : المختال المتكبر ، والفخر ذكر المناقب للتطاول بها على السامع ، يقال : فخر يفخر فخرا وفاخره مفاخرة ثم أخبر (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) قال الفراء : معناه ان أشد الأصوات. وقال غيره : أقبح الأصوات ، في قول مجاهد.

فصل : قوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) الاية : ٣١.

معناه : ألم تعلم أن الفلك وهي السفن تجري في البحر بنعمة الله عليكم ليريكم بعض أدلته الدالة على وحدانيته.

ووجه الدلالة في ذلك : أن الله تعالى يجري الفلك بالرياح التي يرسلها في الوجوه التي تريدون المسير فيها.

ولو اجتمع جميع الخلق أن يجروا الفلك في بعض الجهات مخالفا لجهة الرياح لما قدروا عليه ، وفي ذلك أعظم دلالة على أن المجري لها بالرياح هو القادر الذي لا يعجزه شيء ، وذلك بعض أدلته التي تدل على وحدانيته.

قوله (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال قتادة : يعني منهم مقتصد في قوله مضمر لكفره. وقال الحسن : المقتصد المؤمن.

وقوله (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) فالختار الغدار بعهده أقبح الغدر وهو صاحب ختل وختر ، أي غدر ، وقال عمرو بن معدي كرب :

فإنك لو رأيت أبا عميرة

ملات يديك من غدر وختر

١٨٥

التعليق من الجزء الثامن من التبيان في تفسير القرآن يشتمل

على سورة السجدة ، والأحزاب ، وسبأ ، والملائكة ، ويس ،

والصافات ، وص ، والزمر ، والمؤمن ، وحم السجدة ، وحمعسق

والزخرف ، وحم الدخان ، والجاثية ، الأحقاف ، سورة محمد

عليه‌السلام ، الفتح ، الحجرات ، ق ، وبعض الذاريات

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة السجدة

فصل : قوله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاية : ٤.

أي : اخترعهما وأنشأهما ، وخلق ما بينهما في ستة أيام ، أي : فيما قدره ستة أيام ، لأنه قبل خلق الشمس لم يكن ليل ولا نهار.

وقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي : استولى علية بالقهر والاستعلاء ، وقد فسرناه فيما مضى ودخلت (ثُمَّ) على (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وان كان مستعليا على الأشياء قبلها ، كما دخلت «حتى» في قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ

١٨٦

وَالصَّابِرِينَ) (١).

وتقديره : ثم صح معنى استولى على العرش باحداثه ، وكذلك حتى يصح معنى «نعلم المجاهدين» أي : معنى وصفهم بهذا ، وذلك لا يكون الا بعد وجود الجهاد من جهتهم.

وقوله (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) نفي منه تعالى أن يكون للخلق ناصر ينصرهم من دون الله ، أو شفيع يشفع لهم ، كما كانوا يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى).

ثم قال (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فيما قلناه وتعتبرون به ، فتعلموا صحة ما بيناه لكم.

وقوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) معناه : أن الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في هذه المدة يدبر الأمور كلها ويقدرها على حسب ارادته مما بين السماء والأرض ، وينزله مع الملك الى الأرض.

(ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) يعني : الملك يصعد الى المكان الذي أمره الله تعالى أن يعرج اليه ، كما قال ابراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) (٢) أي : أرض الشام التي أمرني ربي ، ولم يكن الله بأرض الشام ، ومثله قوله (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) (٣) يريد الى المدينة ولم يكن الله في المدينة.

وقوله (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال ابن عباس والضحاك : معناه في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة مما يعده البشر.

وقيل : معناه خمسمائة عام نزول وخمسمائة عام صعود فذلك ألف سنة.

وقيل : ان معناه ان كل يوم من الأيام الستة التي خلق فيها السماوات ، كألف

__________________

(١). سورة محمد : ٣١.

(٢). سورة الصافات : ٩٩.

(٣). سورة النساء : ١٠٠.

١٨٧

سنة من أيام الدنيا.

فصل : قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) الاية : ٧ ـ ٩.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بإسكان اللام ، الباقون بفتحها ، من سكن اللام فعلى تقدير الذي أحسن خلق كل شيء ، أي : جعلهم يحسنونه ، والمعنى أنه ألهمهم جميع ما يحتاجون اليه.

ومن فتح اللام جعله فعلا ماضيا ، ومعناه : أحسن الله كل شيء خلقه على ارادته ومشيئته وأحسن الإنسان وخلقه في أحسن صورة.

ومعنى ذلك في جميع ما خلقه الله تعالى وأوجده فيه وجه من وجوه الحكمة وليس فيه وجه من وجوه القبح ، وذلك يدل على أن الكفر والضلال وسائر القبائح ليست من خلقه.

ولفظة «كل» وان كانت شاملة للأشياء كلها ، فالمراد به الخصوص هاهنا ، لأنه أراد ما خلقه تعالى من مقدوراته دون مقدور غيره ، ونصب قوله «خلقه» بالبدل من قوله (كُلَّ شَيْءٍ) كما قال الشاعر :

وظعني اليك الليل حضنيه انني

لتلك إذا هاب الهدان فعول (١)

وقوله (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) يعني : نسل الإنسان الذي هو آدم وولده «من سلالة» وهي الصفوة التي تنسل من غيرها خارجة ، قال الشاعر :

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا

سلالة فرج كان غير حصين

فصل : قوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) الاية : ١١.

أي : يقبض أرواحكم. قال قتادة : يتوفاكم ومعه أعوان من الملائكة. والتوفي

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ١٣٠.

١٨٨

أخذ الشيء على تمام ، قال الراجز :

ان بني أدرم ليسوا من أحد

ولا توفاهم قريش في العدد

ويقال : استوفى الدين إذا قبضه على كماله.

وقوله (يَتَوَفَّاكُمْ) يقتضي أن روح الإنسان هي الإنسان.

وقوله (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : بما فعلتم من نسي لقاء جزاء هذا اليوم ، فتركتم ما أمركم الله به وعصيتموه (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي : فعلنا معكم جزاء على ذلك فعل من نسيكم من ثوابه ، وترككم من نعيمه. والنسيان الترك ومنه قوله (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) (١).

فصل : قوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الاية : ١٧.

قولهم «قرت عيناه» أي : فرحها الله ، لان المستبشر الضاحك يخرج من عينه ماء بارد من شئونه ، والباكي جزعا يخرج من عينيه ماء سخن من الكبد ، ومنه قولهم «سخنت عينه» بكسر الخاء (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعات.

فصل : قوله (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الاية : ٢١.

قيل : العذاب الأدنى هو العذاب الأصغر ، وهو عذاب الدنيا بالقتل ، والسبي والقحط ، والفقر ، والمرض ، والسقم ، وما جرى هذا المجرى. وقيل : هو الحدود. وقيل : عذاب القبر.

وعن جعفر بن محمد عليهما‌السلام : ان العذاب الأدنى هو القحط والأكبر خروج المهدي بالسيف.

والعذاب الأكبر عند المفسرين هو عذاب الاخرة بالنار التي يستفرغ الإنسان

__________________

(١). سورة طه : ١١٥.

١٨٩

بالآلام.

وقوله (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) اخبار منه تعالى أنه يفعل بهم ما ذكره من العذاب الأدنى ، ليرجعوا عن معاصي الله الى طاعاته ويتوبوا منها ، وهو قول عبد الله وأبي العالية.

ثم أخبر تعالى فقال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني : التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ) في شك (مِنْ لِقائِهِ) يعني لقاء موسى ليلة الاسراء بك الى السماء ، على ما ذكره ابن عباس.

وقيل : فلا تكن في مرية من لقاء موسى في الاخرة.

فصل : قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) الاية : ٢٧.

الأرض الجرز هي الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات ، انقطع ذلك لانقطاع الأمطار ، وهو مشتق من قولهم «سيف جراز» أي : قطاع لا يلقي شيئا الا قطعه ، وناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء ، لأنها لا تبقي شيئا الا قطعته بفيها.

سورة الأحزاب

فصل : قوله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ) الاية : ٤.

قال ابن عباس : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله.

وقال مجاهد وقتادة وفي رواية عن ابن عباس : انه كان رجل من قريش يدعى ذا القلبين من دهائه ، وهو أبو معمر جميل بن أسد ، فنزلت الاية فيه.

وقال الحسن : كان رجل يقول : لي نفس تأمرني ونفس تنهاني ، فأنزل الله فيه هذه الاية.

وقال الزهري : في ان هذا ممتنع كامتناع أن يكون ابن غيرك ابنك.

١٩٠

وروي عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه قال : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه يحب بهذا قوما ويحب بهذا أعداءهم.

ولا يمكن أن يكون لإنسان واحد قلبان في جوفه ، لأنه كان يمكن أن يوصل انسانان فيجعلان إنسانا واحدا.

وقد يمكن أن يوصلا بما لا يخرجهما عن أن يكونا إنسانين ، وليس ذلك الا من جهة القلب أو القلبين ، لأنه إذا جعل قلبان يريد أحدهما بقلبه ما لا يريد الاخر ويشتهي ما لا يشتهي الاخر ، ويعلم ما لا يعلم الاخر ، فهما حيان لا محالة وليسا حيا واحدا.

وقوله (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي : ليس نساؤكم وأزواجكم إذا قلتم لهن : أنتن علي كظهر أمي يصرن أمهاتكم على الحقيقة ، لان أمهاتكم على الحقيقة هن اللائي ولدنكم أو أرضعنكم.

وقال قتادة : إذا قال لزوجته أنت علي كظهر أمي ، فهو مظاهر وعليه الكفارة وعندنا أن الظهار لا يقع الا أن تكون المرأة طاهرا ولم يقربها بجماع ، ويحضر شاهدان رجلان مسلمان ، ثم يقول لها : أنت علي كظهر أمي ويقصد التحريم فإذا قال ذلك حرم عليه وطأها حتى يكفر ، وان اختل شيء من شرائطه فلا يقع ظهار أصلا.

وقوله (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) قال قتادة ومجاهد وابن زيد : نزلت في زيد بن حارثة ، فانه كان يدعى ابن رسول الله.

والأدعياء جمع دعي ، وهو الذي تبينا به الإنسان ، وبين الله تعالى أن ذلك ليس بابن على الحقيقة ، ولذلك قال في آية أخرى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) الاية.

فصل : قوله (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا

١٩١

الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) الآيات : ٦ ـ ١٠.

أخبر تعالى أن النبي أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، بمعنى أحق بتدبيرهم ، وبأن يختاروا ما دعاهم اليه ، وأحق بأن يحكم فيهم بما لا يحكم به في نفسه ، لوجوب طاعته التي هي مقرونة بطاعة الله ، وهو أولى في ذلك وأحق من نفس الإنسان لأنها ربما دعته الى اتباع الهوى ، ولان النبي عليه‌السلام لا يدعو الا الى طاعة الله ، وطاعة الله أولى أن يختار على طاعة غيره.

وواحد الأنفس نفس ، وهي خاصة الحيوان الحساسة التي هي أنفس ما فيه ويحتمل أن يكون اشتقاقه من التنفس وهو التروح ، لان من شأنها التنفس. ويحتمل أن يكون مأخوذا من النفاسة ، لأنها أجل ما فيه وأكرمه.

ثم قال (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) والمعنى أنهن كالأمهات في وجوب الحرمة وتحريم العقد عليهن.

ثم قال (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) فأولوا الأرحام أولوا الأنساب ، لما ذكر الله أن أزواجه أمهاتهم في الحكم من جهة عظم الحرمة ، قال (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي : الا ما بين الله في كتابه مما يجوز (١) لازواج النبي عليه‌السلام أن يدعين أمهات المؤمنين.

وقال قتادة : كان الناس يتوارثون بالهجرة ، فلا يرث الاعرابي المسلم من المهاجر حتى نزلت الاية.

وقيل : انهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الاولة ، ثم نسخ ذلك فبين الله تعالى أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض ، أي : من كان قرباه أقرب ، فهو أحق بالميراث من الأبعد.

وظاهر ذلك يمنع أن يرث مع البنت والام أحد من الاخوة والأخوات ، لان

__________________

(١). في التبيان : لا يجوز.

١٩٢

البنت والام أقرب من الاخوة والأخوات وكذلك يمنع أن يرث مع الاخت أحد من العمومة وأولادهم لأنها أقرب.

والخبر المروي في هذا الباب «ان ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر» خبر واحد مطعون على سنده لا يترك لأجله ظاهر القرآن الذي بين فيه أن أولي الأرحام الأقرب منهم أولى من الأبعد في كتاب الله من المؤمنين.

قوله (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) قال مجاهد : معناه فعل ذلك ليسأل الأنبياء المرسلين ما الذي أجاب به أممكم.

ويجوز أن يحمل على عمومه في كل صادق ويكون فيه تهديد للكاذب ، فان الصادق إذا سئل عن صدقه على أي وجه فيجازي بحسبه ، فكيف يكون صورة الكاذب.

وقوله (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي : نبت (١) عن أماكنها من الخوف والحناجر جمع حنجرة وهي الحلق ، لان الرية عند الخوف تصعد حتى تلحق بالحلق.

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) قال الحسن : كانت الظنون مختلفة ، فظن المنافقون أنه يستأصل ، وظن المؤمنون أنه سينصر.

فصل : قوله (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) الاية : ١١.

لما وصف الله تعالى شدة الامر يوم الخندق وخوف الناس ، وأن القلوب بلغت الحناجر من الرعب قال (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي : اختبروا ليظهر بذلك حسن ايمانهم وصبرهم على ما أمرهم الله به من جهاد أعدائه ، و «هنا» للقريب من المكان و «هنالك» للوسط بين القريب والبعيد ، وسبيله سبيل ذا وذاك.

وقوله (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) معناه : وحركوا بهذا الامتحان تحريكا عظيما والشدة قوة تدرك بالحاسة ، لان القوة التي هي القدرة لا تدرك بالحاسة وانما تعلم بالدلالة ، فلذلك يوصف تعالى بأنه قوي ولا يوصف بأنه شديد.

__________________

(١). في التبيان : نأت.

١٩٣

فصل : قوله (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) الاية : ١٦.

الفرار الذهاب عن الشيء خوفا منه. وانما فرق الله بين الموت والقتل لان القتل غير الموت ، والقتل نقض بنية الحيوانية ، والموت ضد الحياة عند من أثبته معنى ، والقتل يقدر عليه غير الله ، والموت لا يقدر عليه غيره.

فصل : قوله (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : الآيات : ٢١ ـ ٢٥.

أي : اقتداء حسن في جميع ما يقوله ويفعله متى فعلتم مثله كان ذلك حسنا والمراد بذلك الحث على الجهاد والصبر عليه في حروبه والتسلية لهم مما ينالهم من المصائب ، فان النبي عليه‌السلام شج رأسه وكسرت رباعيته في يوم أحد وقتل عمه حمزة ، فالتأسي به في الصبر على جميع ذلك من الاسوة الحسنة.

وذلك يدل على أن الاقتداء بجميع أفعال النبي عليه‌السلام حسن جائز ، الا ما قام الدليل على خلافه ، ولا يدل على وجوب الاقتداء به في أفعاله ، وانما يعلم ذلك بدليل آخر.

فالاسوة حال لصاحبها يقتدي بها غيره فيما يقول به ، فالاسوة تكون في انسان وهي أسوة لغيره ، فمن تأسى بالحسن ففعله حسن.

وقوله (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي : منهم من صبر حتى قتل في سبيل الله وخرج الى ثواب ربه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ذلك (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) أي : لم يبدلوا الايمان بالنفاق ولا العهد بالحنث.

وروي أن الاية نزلت في حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب وعلي ابن أبي طالب ، والذي قضى نحبه حمزة وجعفر ، والذي ينتظر علي عليه‌السلام.

قوله (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) لا يدل على أن ما يجب غفرانه من الكبائر عند التوبة يجوز تعليقه بالمشيئة ، لان على مذهبنا انما جاز ذلك لأنه لا يجب إسقاط العقاب بالتوبة عقلا ، وانما علمنا ذلك بالسمع ، وأن الله يتفضل بذلك.

١٩٤

وقوله (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) معناه : ان شاء قبل توبتهم وأسقط عقابهم إذا تابوا وان شاء لم يقبل ، وذلك اخبار عن مقتضى العقل ، واما مع ورود السمع ، وهو قوله (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (١) فنقطع على أنه تعالى يغفر مع حصول التوبة.

وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يؤكد ذلك لأنه انما يكون فيه مدح إذا غفر ما له المؤاخذة به ، ويرحم من يستحق العقاب ، فأما من يجب غفرانه وتجب رحمته فلا مدح في ذلك.

والنحب النذر ، أي : قضى نذره الذي كان نذره فيما عاهد الله عليه. وقال مجاهد : «قضى نحبه» أي : عهده. وقيل : ان المؤمنين كانوا نذروا إذا لقوا حربا مع رسول الله أن يثبتوا ولا ينهزموا. وقال الحسن : قضى نحبه أي مات على ما عاهدوا. النحب الموت كقول ذي الرمة :

قضى نحبه في ملتقى الموت هو بر (٢)

أي : منيته ، وهو بر اسم رجل.

وقوله (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة. وقيل : وكفى الله المؤمنين القتال بعلي عليه‌السلام ، وهي قراءة ابن مسعود ، وكذلك هو في مصحفه في قتله عمرو بن عبد ود ، وكان ذلك سبب هزيمة القوم.

فصل : قوله (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) الآيات ٢٦ ـ ٣٣.

الصياصي الحصون التي يمتنع بها واحدها صيصية ، ويقال : جذ الله صيصية فلان ، أي : حصنه الذي يمتنع به ، والصيصية قرن البقرة ، وهي شوكة الديك

__________________

(١). سورة الشورى : ٢٥.

(٢). مجاز القرآن ٢ / ١٣٦.

١٩٥

أيضا ، وهي شوكة الحائك أيضا ، قال الشاعر :

كوقع الصياصي في النسيج الممدد (١)

كأن الحسن لا يرى التخيير شيئا ، وقال : انما خيرن بين الدنيا والاخرة لا في الطلاق ، وكذلك عندنا أن الخيار ليس بشيء ، غير أن أصحابنا قالوا : انما كان ذلك للنبي عليه‌السلام خاصة ، ولما خيرهن لو اخترن أنفسهن لبن ، فأما غيره فلا يجوز له ذلك.

ثم قال (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) انما قال (كَأَحَدٍ) ولم يقل كواحدة ، لان أحدا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة ، أي : لا يشبهكن أحد من النساء في جلالة القدر وعظم المنزلة ، ولمكانكن من رسول الله ، بشرط أن تتقين عقاب الله واجتناب معاصيه وامتثال أوامره.

وانما شرط ذلك بالاتقاء لئلا يعولن على ذلك ، فيرتكبن المعاصي ، ولو لا الشرط كان يكون إغراء لهن بالمعاصي ، وذلك لا يجوز على الله تعالى.

وقوله (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) قال قتادة : التبرج التبختر والتكبر.

وقال غيره : هو اظهار المحاسن للرجال.

ومعنى الجاهلية الاولى ، وهو ما كان قبل الإسلام. وقيل : ما كان بين آدم ونوح. وقيل : ما كان بين موسى وعيسى. وقيل : ما كان بين عيسى ومحمد.

وقيل : ما كان يفعله أهل الجاهلية ، لأنهم كانوا يجوزون لامرأة واحدة رجل وحلم (٢) ، فللزوج النصف السفلاني وللحلم الفوقاني من التقبيل والمعانقة ، فنهى الله تعالى عن ذلك أزواج النبي عليه‌السلام. وأما الجاهلية الاخرى ، فهو ما يعمل بعد الإسلام بعمل أولئك.

__________________

(١). مجاز القرآن ٢ / ١٦١.

(٢). في التبيان : رجلا وخلا.

١٩٦

ثم قال (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) روى أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأم سلمة وواثلة بن الأسقع أن الاية نزلت في النبي عليه‌السلام وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

واستدل أصحابنا بهذه الاية على أن في جملة أهل البيت معصوما لا يجوز عليه الغلط ، وأن إجماعهم لا يكون الا صوابا ، بأن قالوا : ليس يخلو ارادة الله لاذهاب الرجس عن أهل البيت من أن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصي ، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفا اختاروا عنده الامتناع من القبائح.

والاول لا يجوز أن يكون مرادا ، لان هذه الارادة حاصلة مع جميع المكلفين فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الاية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ، ويخرج الاية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم.

على أن لفظة «انما» تجرى مجرى ليس ، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم ، وحكيناه عن جماعة من أهل اللغة كالزجاج وغيره.

فيكون تلخيص الكلام ليس يريد الله اذهاب الرجس على هذا الحد الا عن أهل البيت ، فدل ذلك على أن اذهاب الرجس قد حصل فيهم. وذلك يدل على عصمتهم ، وإذا ثبت عصمتهم ثبت ما أردناه.

وقال عكرمة : هي أزواج النبي خاصة. وهذا غلط ، لأنه لو كانت الاية فيهن خاصة لكنى عنهن بكناية المؤنث ، كما فعل في جميع ما تقدم من الآيات ، نحو قوله (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ) فذكر جميع ذلك بكناية المؤنث ، فكان يجب أن يقول : انما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركن. فلما كنى بكناية المذكر دل على أن النساء لا مدخل

١٩٧

لهن فيها.

وفي الناس من حمل الاية على النساء ، ومن ذكرناه من أهل البيت هربا مما قلناه ، وقال : إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، فكنى عنهم بكناية المذكر.

وهذا يبطل بما بيناه من الرواية عن أم سلمة وما يقتضيه من كون من تناولته معصوما ، فالنساء خارجات عن ذلك ، وقد استوفينا الكلام في هذه الاية في كتاب الامامة ، من أراده وقف عليه من هناك.

فصل : قوله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الآيات : ٣٦ ـ ٤٠.

بين الله تعالى في الاية أنه لم يكن (لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) بمعنى إلزاما وحكما به (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي : ليس لهم أن يتخيروا مع أمر رسول الله بشيء يدرك ما أمره به الى ما لم يأذن فيه. والخيرة ارادة اختيار الشيء على غيره.

وفي ذلك دلالة على فساد مذهب المجبرة في القضاء والقدر ، لأنه لو كان الله تعالى قضى المعاصي لم يكن لاحد الخيرة ولوجب عليه الوفاء به ، ومن خالف في ذلك كان عاصيا ، وذلك خلاف الإجماع.

ثم خاطب النبي عليه‌السلام فقال واذكر يا محمد حين (تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) يعني : بالهداية الى الايمان (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أي : احبسها ولا تطلقها ، لان زيدا جاء الى النبي عليه‌السلام مخاصما زوجته بنت جحش على أن يطلقها.

فوعظه النبي عليه‌السلام فقال له : لا تطلقها وأمسكها (وَاتَّقِ اللهَ) في مفارقتها (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) فالذي أخفي في نفسه أنه ان طلقها زيد تزوجها ، وخشي من اظهار هذا للناس.

١٩٨

وكان الله تعالى أمره يتزوجها إذا طلقها زيد ، فقال الله تعالى له : ان تركت اظهار هذا خشية الناس ، فترك إضماره خشية الله أحق وأولى.

وقال الحسن : معناه وتخشى عيب الناس. وروي عن عائشة أنها قالت : لو كتم رسول الله شيئا من الوحي لكتم (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ).

وقيل : ان زيدا لما جاء مخاصما زوجته ، فرآها النبي عليه‌السلام فاستحسنها وتمنى أن يفارقها زيد حتى يتزوجها فكتم.

قال البلخي : وهذا جائز ، لان التمني هو ما طبع عليه البشر ، فلا شيء على أحد إذا تمنى شيئا استحسنه.

ثم قال (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) نزلت في زيد بن حارثة ، لأنهم كانوا يسمونه زيد بن محمد ، فبين الله تعالى أن النبي عليه‌السلام ليس بأبي أحد منهم من الرجال ، وانما هو أبو القاسم والطيب والمطهر وابراهيم ، وكلهم درجوا في الصغر ، ذكره قتادة.

ثم قال (وَلكِنْ) هو (رَسُولَ اللهِ) ومن استدل بقوله (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) على أنه لم يكن الحسن والحسين عليهما‌السلام أبناءه فقد أبعد ، لان الحسن والحسين كانا طفلين ، كما أنه كان أبا ابراهيم عليه‌السلام وانما نفى أن يكون أبا للرجال البالغين.

فصل : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) الآيات : ٤٩ ـ ٥٠.

خاطب الله تعالى بالاية المؤمنين المصدقين بوحدانيته المقرين بنبوة نبيه بأنه إذا نكح واحد منهم مؤمنة نكاحا صحيحا ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، بمعنى قبل

١٩٩

أن يدخل بها بأنه لا عدة عليها منه ، ويجوز لها أن تتزوج بغيره في الحال ، وأمرهم أن يمتعوها ويسرحوها سراحا جميلا الى بيت أهلها.

وهذه المتعة واجبة ان كان لم يسم لها مهرا ، وان كان سمى مهرا لزمه نصفه ويستحب المتعة مع ذلك ، وفيه خلاف.

وقال ابن عباس : ان كان سمى لها صداقا فليس لها الا نصف المهر ، وان لم يكن سمى لها صداقا متعها على قدر عسره أو يسره ، وهو السراح الجميل ، وهذا مثل قولنا سواء.

ثم قال (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ) فروي عن ابن عباس أنه لا تحل امرأة بغير مهر ، وان وهبت نفسها الا للنبي عليه‌السلام وانما كان ذلك للنبي عليه‌السلام خاصة.

وقال قوم : يصح غير أنه يلزم المهر إذا دخل بها ، وانما جاز بلا مهر للنبي خاصة.

والذي تبين صحة ما قلناه قوله (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فبين أن هذا الضرب من النكاح خاص له دون غيره من المؤمنين.

وقوله (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) يعني : على المؤمنين (فِي أَزْواجِهِمْ) قال قتادة : معناه أي لا نكاح الا بولي وشاهدين وصداق وألا يتجاوز الأربع.

وقال مجاهد : ما فرضنا عليهم ألا يتزوجوا بأكثر من أربعة.

وقال قوم : ما فرضنا عليهم في أزواجهم من النفقة والقسمة وغير ذلك. وعندنا أن الشاهدين ليسا من شرط صحة انعقاد العقد ، ولا الولي إذا كانت المرأة بالغة رشيدة لأنها ولية نفسها.

والمعنى على مذهبنا : انا قد علمنا ما فرضنا على الازواج من مهرهن ونفقتهن

٢٠٠