المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : ان عمر قال لابي بكرة : ان تبت قبلت شهادتك ، فأبى أبو بكرة أن يكذب نفسه ، وهو قول مسروق والزهري والشعبي وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والضحاك ، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام ، وبه قال الشافعي من الفقهاء وأصحابه وهو مذهبنا.

وقال الزجاج : يكون تقديره : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا الا الذين تابوا.

ثم وصفهم بقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) وقال شريح وسعيد بن المسيب والحسن وابراهيم : الاستثناء من الفاسقين دون قوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً).

وبه قال أهل العراق ، قالوا : فلا يجوز قبول شهادة القاذف أبدا ، ولا خلاف في أنه إذا لم يجد بأن تموت المقذوفة ولم يكن هناك مطالب ثم تاب أنه يجوز قبول شهادته ، وهذا يقتضي من المعنيين على تقدير (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) في قذفهم مع امتناع قبول شهادتهم الا التائبين منهم. والحد حق للمقذوفة لا يزول بالتوبة.

وقال قوم : توبته متعلقة باكذابه نفسه ، وهو المروي في أخبارنا ، وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة : ومتى كان القاذف عبدا أو أمة ، فعليه أربعون جلدة.

وقد روى أصحابنا أن الحد ثمانون في الحر والعبد ، فظاهر العموم يقتضي ذلك ، وبه قال عمر بن عبد العزيز والقاسم بن عبد الرحمن.

فصل : قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الاية : ٦ ـ ٩.

معنى الاية : ان من قذف محصنة حرة مسلمة بفاحشة من الزنا ولم يأت بأربعة شهداء جلد ثمانين ، ومن رمى زوجته بالزنا تلاعنا.

١٤١

والملاعنة أن يبدأ الرجل فيحلف بالله الذي لا اله الا هو أنه صادق فيما رماها به ، ويحتاج أن يقول : أشهد بالله أني صادق ، لان شهادته أربع مرات يقوم مقام أربعة شهود في دفع الحد عنه ، ثم تشهد الخامسة أن لعنة الله عليه ان كان من الكاذبين فيما رماها به.

وإذا جحدت المرأة ذلك شهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماها به ، وتشهد الخامسة أن غضب الله عليها ان كان من الصادقين ، ثم يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ، كما فرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هلال بن أمية وزوجته ، وقضى أن الولد لها ولا يدعى لاب ، ولا ترمى هي ولا يرمى ولدها.

وقال ابن عباس : متى لم تحلف رجمت ، وان لم يكن دخل بها جلدت الحد ولا ترجم إذا لم تلتعن ، وعند أصحابنا أنه لا لعان بينهما ما لم يدخل بها ، فمتى رماها قبل الدخول وجب عليه حد القاذف ولا لعان بينهما.

وفرقة اللعان تحصل عندنا بتمام اللعان من غير حكم الحاكم ، وتمام اللعان انما يكون إذا تلاعن الرجل والمرأة معا. وقال قوم : تحصل بلعان الزوج الفرقة. وقال أهل العراق : لا تقع الفرقة الا بتفريق الحاكم بينهما.

ومتى رجمت عند النكول ورثها الزوج ، لان زناها لا يوجب التفرقة بينهما ، وإذا جلدت إذا لم يكن دخل بها فهما على الزوجية ، وذلك يدل على أن الفرقة انما يقع بلعان الرجل والمرأة معا.

قال الحسن : وان تمت الملاعنة بينهما ولم يكن دخل بها ، فلها نصف الصداق لان الفرقة جاءت من قبله ، وإذا تم اللعان اعتدت عدة المطلقة عند جميع الفقهاء ولا يتزوجها أبدا بلا خلاف.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الاية : ١٩.

١٤٢

أخبر الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) ويؤثرون «أن تشيع الفاحشة» أي : تظهر الافعال القبيحة (فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : موجع جزاء على ذلك «في الدنيا» باقامة الحد عليه «و» في «الاخرة» بعذاب النار «والله يعلم» ذلك وغيره «وأنتم لا تعلمون» ان الله تعالى يعلم ذلك.

وفي الاية دلالة على أن العزم على الفسق فسق ، لأنه إذا ألزمه الوعيد على محبته بشياع الفاحشة من غيره ، فإذا أحبها من نفسه وأرادها كان أعظم.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الاية : ٢٣.

قال قوم : هي في عائشة خاصة لما رأوها نزلت فيها توهموا أن الوعيد خاص في من قذفها.

وهذا ليس بصحيح ، وذلك أن عند أكثر العلماء المحصلين أن الاية إذا نزلت على سبب لا يجب قصرها عليه ، كآية اللعان وآية القذف ، وآية الظهار وغير ذلك ومتى حملت على العموم دخل من قذف عائشة في جملتها.

فصل : قوله (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) الاية : ٢٦.

قيل في معنى الاية أربعة أقوال :

أحدها : قال ابن عباس ومجاهد والحسن والضحاك : معناه الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال ، أي : صادرة منهم.

الثاني : في رواية أخرى عن ابن عباس : أن الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال.

الثالث : قال ابن زيد : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، كأنه ذهب الى اجتماعهما للمشاكلة بينهما.

١٤٣

الرابع : قال الجبائي : الخبيثات من النساء للزواني الخبيثين من الرجال الزناة على التعبد الاول.

والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات عكس ذلك على السواء في الأقوال الاربعة.

والخبيث الفاسد الذي يتزائد في الفساد تزائد النامي في النبات ، ونقيضه الطيب ، والحرام كله خبيث ، والحلال كله طيب.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) الاية : ٢٧.

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين ينهاهم أن يدخلوا بيوتا لا يملكونها وهي ملك غيرهم الا بعد أن يستأنسوا. ومعناه يستأذنوا.

وقال مجاهد : حتى تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستئذان.

وقوله (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) يعني ان لم تعلموا في البيوت أحدا يأذن لكم في الدخول «فلا تدخلوها» لأنه ربما كان فيها ما لا يجوز أن تطلعوا عليه ، الا بعد أن يأذن أربابها في ذلك.

وقوله (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) أي : لا تدخلوا إذا قيل لكم لا تدخلوا.

ثم قال (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي : حرج واثم «أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم» أي : منافع.

وقيل : في معنى هذه البيوت أربعة أقوال :

أحدها : قال قتادة : هي الخانات ، فان فيها استمتاعا لكم من جهة نزولها ، لا من جهة الأثاث الذي لكم فيها.

وقال محمد بن الحنفية : هي الخانات التي تكون في الطريق مسبلة. ومعنى «غير مسكونة» أي : لا ساكن لها معروف.

وقال عطاء هي الخرابات للغائط والبول.

١٤٤

وقال قوم : هو جميع ذلك حمله على عمومه ، لان الاستئذان انما جاء لئلا يهجم على ما لا يجوز من العورة ، وهو الأقوى لأنه أعم فائدة.

فصل : قوله (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ) الاية : ٣١.

لما أمر الله الرجال المؤمنين في الاية الاولى بغض أبصارهم من عورات النساء وأمرهم بحفظ فروجهم عن ارتكاب الحرام ، أمر المؤمنات في هذه الاية أيضا من النساء بغض أبصارهن عن عورات الرجال وما لا يحل النظر اليه ، وأمرهن أن يحفظن فروجهن الامن أزواجهن على ما أباحه الله لهم ، ويحفظن أيضا إظهارها بحيث ينظر اليها ، ونهى (١) عن إبداء زينتهن.

«الا ما ظهر منها» قال ابن عباس : يعني القرطين والقلادة والسوار والخلخال والمعضد والمنحر ، فانه يجوز لها اظهار ذلك لغير الزوج. فأما الشعر فلا يجوز أن تبديه الا لزوجها.

فالزينة المنهي عن ابدائها زينتان : فالظاهرة الثياب ، والخفية الخلخالان والقرطان والسواران ، في قول ابن مسعود.

وقال ابراهيم : الظاهر الذي أبيح الثياب فقط ، وعن ابن عباس في رواية أخرى أن الذي أبيح الكحل والخاتم والحذاء والخضاب في الكف. وقال قتادة الكحل (٢) والسوار والخاتم. وقال عطاء : الكفان والوجه. وقال الحسن : الوجه والثياب.

وقال قوم : كل ما ليس بعورة يجوز إظهاره ، وأجمعوا أن الوجه والكفين

__________________

(١). في التبيان : ونهاهن.

(٢). في التبيان : الحذاء.

١٤٥

ليسا من العورة ، لجواز إظهاره في الصلاة ، والأحوط قول ابن مسعود والحسن وبعده قول ابراهيم.

وقوله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ) فالخمار غطاء رأس المرأة المنسبل على جبينها وجمعه خمر.

ثم كرر النهي عن اظهار الزينة تأكيدا وتغليظا ، واستثنى من ذلك الازواج وآباء النساء وان علو او آباء الازواج وأبناءهم أو اخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن يعني نساء المؤمنين دون نساء الكافرين ، الا إذا كانت أمة وهو معنى قوله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) أي : من الإماء في قول ابن جريح ، فانه لا بأس بإظهار الزينة لهؤلاء المذكورين لأنهم محارم.

وقوله (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) قال ابن عباس : هو الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء وهو الأبله. وقال قوم : هو الطفل الذي لا ارب له في النساء لصغره.

وقيل : هو العنين ، ذكره عكرمة والشعبي. وقيل : هو المجبوب.

وقيل : هو الشيخ الهم. والاربة الحاجة ، وهي فعلة من الارب كالمشية من المشي ، والجلسة من الجلوس ، وقد أربت لكذا آرب له أربا إذا احتجت اليه.

فصل : قوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) الاية : ٣٢.

هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الرجال يأمرهم الله تعالى أن يزوجوا الأيامى اللواتي لهم عليهن ولاية ، وأن يزوجوا الصالحين المستورين الذين يفعلون الطاعات من المماليك والإماء إذا كانوا ملكا لهم.

والأيامى جمع أيم ، وهي المرأة التي لا زوج لها ، سواء كانت بكرا أو ثيبا

١٤٦

ويقال للرجل الذي لا زوجة له : أيم أيضا. ووزن أيم فعيل بمعنى فعيلة فجمعت كجمع يتيمة ويتامى ، وقال جميل :

أحب الأيامى إذ بثينة أيم

وأحببت لما أن غنيت الغوانيا (١)

وقال قوم : الأيم التي مات زوجها ، ومنه قوله عليه‌السلام «والأيم أحق بنفسها» يعني الثيب ومعنى «أنكحوا» زوجوا ، يقال : نكح إذا تزوج ، وأنكح غيره إذا زوجه.

وقيل : ان الامر بتزويج الأيامى إذا أردن ذلك أمر فرض ، والامر بتزويج الامة إذا أرادت ندب ، وكذلك العبد.

وقوله (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) معناه : لا تمتنعوا من إنكاح المرأة أو الرجل إذا كانا صالحين لأجل فقرهما وقلة ذات أيديهم ، فإنهم وان كانوا كذلك ، فان الله يغنيهم من فضله ، فان الله واسع المقدور كثير الفضل عليم بأحوالهم.

وقال قوم معناه : ان يكونوا فقراء الى النكاح يغنهم الله بذلك عن الحرام ، فعلى الاول تكون الاية خاصة في الأحرار ، وعلى الثاني عامة في الأحرار والمماليك.

وقوله (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أمر من الله تعالى لمن لا يجد السبيل الى أن يتزوج بأن لا يجد طولا له من المهر ، ولا يقدر على القيام بما يلزمه (٢) من النفقة والكسوة أن يتعفف ولا يدخل في الفاحشة ويصبر حتى يغنيه الله من فضله.

وقوله (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) معناه : ان الإنسان إذا كانت له أمة أو عبد يطلب المكاتبة ، وهي أن يقوم على نفسه وينجم عليه ليؤدي قيمة نفسه الى سيده ، فانه يستحب للسيد أن يجيبه الى ذلك ويساعده عليه ، لدلالة

__________________

(١). ديوان جميل ص ٤٨.

(٢). في التبيان : يلزمها.

١٤٧

قوله (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) وهذا أمر ترغيب ، بلا خلاف عند الفقهاء. وقال عمرو بن دينار وعطاء والطبري : هو واجب عليه إذا طلب.

وصورة المكاتبة أن يقول الإنسان لعبده أو أمته : قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا دينارا أو درهما في نجوم معلومة ، على أنك إذا أديت ذلك فأنت حر فيرضى العبد بذلك ويكاتبه عليه ، ويشهد بذلك على نفسه. فمتى أدى مال الكتابة في النجوم التي سماها صار حرا ، وان عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يرده في الرق.

وعندنا ينعتق منه بحساب ما أدى ، ويبقى مملوكا بحساب ما بقي عليه إذا كانت الكتابة مطلقة ، فان كانت مشروطة فانه متى عجز رده في الرق ، فمتى عجز جاز له رده في الرق.

والخير الذي يعلم منه هو القوة على التكسب وتحصيل ما يؤدي به مال الكتابة.

واختلفوا في الامر بالكتابة مع طلب المملوك لذلك وعلم مولاه أن فيه خيرا فقال عطاء : هو على الفرض.

وقال مالك والثوري وابن زيد : هو على الندب ، وهو مذهبنا.

فصل : قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الاية : ٣٥.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما : الله هادي أهل السماوات والأرض ، ذكره ابن عباس في رواية وأنس.

والثاني : أنه منور السماوات والأرض بنجومها وشمسها وقمرها.

ضرب الله المثل لنوره الذي هو هدايته في قلوب المؤمنين بالمشكاة ، وهي الكوة التي لا منفذ لها إذا كان فيها مصباح وهو السراج.

فقال (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي : يشتعل من دهن شجرة مباركة وهي

١٤٨

الزيتونة [الشامية] قيل : لان زيتون الشام أبرك. وقيل : وصفه بالبركة لان الزيتون يورق من أوله الى آخره.

وقوله (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال ابن عباس في رواية : معناه لا شرقية بشروق الشمس عليها فقط ، ولا غربية بغروبها عليها فقط ، بل هي شرقية وغربية يأخذ حظها من الامرين ، فهو أجود لزيتها. وقيل : معناه انها وسط الشجر (١). وقال قتادة : هي ضاحية للشمس.

فصل : قوله (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) الاية : ٣٧.

أي : يخافون أهوال يوم تتقلب فيه القلوب من عظم أهواله والأبصار من شدة ما يعاينه.

وقيل : تتقلب القلوب ببلوغها الحناجر ، وتتقلب الأبصار بالعمى بعد البصر.

وقال البلخي : معناه : ان القلوب تنتقل من الشك التي كانت عليه الى اليقين والايمان ، وأن الأبصار تتقلب عما كانت عليه لأنها تشاهد من أهوال ذلك اليوم ما لم تعرفه ، ومثله قوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) (٢) الاية.

ثم أخبر تعالى بأنه يرزق من يشاء بغير حساب أي : من كثرته لا يحسب ، ويجوز أن يكون المراد بغير مجازاة على عمل ، بل تفضل منه تعالى ، والثواب لا يكون الا بحساب ، والتفضل يكون بغير حساب.

وقوله (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : سريع المجازاة ، لان كل ما هو آت قريب سريع.

وقال الجبائي : لأنه يحاسب الجميع في وقت واحد ، وذلك يدل على أنه لا يتكلم بآلة وأنه ليس بجسم ، لأنه لو كان متكلما بآلة لما يأتي ذلك الا في أزمان كثيرة ثم شبه تعالى أفعال الكافر بمثال آخر ، فقال «أو كظلمات في بحر لجي».

__________________

(١). في التبيان : البحر.

(٢). سورة ق : ٢٢.

١٤٩

فصل : قوله (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) الاية : ٤٣.

معنى «من» الاولى لابتداء الغاية ، لان السماء ابتداء الانزال بالمطر ، والثانية للتبعيض ، لان البرد بعض الجبال التي في السماء ، والثالثة لتبيين الجنس ، لان جنس الجبال جنس البرد.

وقيل : في السماء جبال برد مخلوقة في السماء.

وقال البلخي : يجوز أن يكون البرد يجتمع في السحاب كالجبال ثم ينزل منها.

فصل : قوله (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الاية : ٤٥.

أخبر الله تعالى أنه خالق كل شيء يدب من الحيوان من ماء ثم فصله ، فقال (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحياة والسمك والدود وغير ذلك.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالطير وابن آدم وغير ذلك (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالبهائم والسباع وغير ذلك ، ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في مرأى العين ، فترك ذكره لان العبرة تكفي بذكر الأربع.

وقال البلخي : لان عند الفلاسفة أن ما زاد على الأربع لا يعتمد عليها ، واعتماده على أربع فقط. وانما قال «من ماء» لان أصل الخلق من ماء ، ثم قلب الى النار فخلق الجن منها ، والى الريح فخلقت الملائكة منها ، ثم الى الطين فخلق آدم عليه‌السلام منه.

ودليل أن أصل الحيوان كله الماء قوله (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (١) وانما قال «منهم» تغليبا لما يعقل على ما لا يعقل. وقيل : «من ماء» أي من نطفة.

فصل : قوله (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ

__________________

(١). سورة الأنبياء : ٣٠.

١٥٠

ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ. أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) الآيات : ٤٧ ـ ٥٠.

فهؤلاء المنافقون دعوا الى رسول الله ليحكم الله بينهم في شيء اختلفوا فيه فامتنعوا ظلما لأنفسهم وكفرا بنبيهم ، ففضحهم الله بما أظهر من جهلهم ونفاقهم.

وقيل : انها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين رجل من اليهود حكومة فدعاه اليهودي الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعاه المنافق الى كعب الأشرف.

وقيل : انها نزلت في علي عليه‌السلام ورجل من بني أمية ، دعاه علي الى رسول الله ودعاه الاموي الى اليهودي ، وكان بينهما منازعة في ماء وأرض.

وحكى البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب ، فلم يأخذها ، فقال : بيني وبينك رسول الله ، فقال الحكم بن أبي العاص : ان حاكمته الى ابن عمه حكم له ، فلا تحاكمه اليه ، فأنزل الله الاية.

فصل : قوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) الاية : ٥٥.

استدل الجبائي ومن تابعه على امامة الخلفاء الاربعة بهذه الاية ، بأن قال : الاستخلاف المذكور في الاية لم يكن الا لهؤلاء ، لان التمكين المذكور في الاية انما حصل في أيام أبي بكر وعمر ، لان الفتوح كانت في أيامهم ، فأبو بكر فتح بلاد العرب وطرفا من بلاد العجم ، وعمر فتح مدائن كسرى الى حد خراسان وسجستان وغيرها.

وإذا كان التمكين والاستخلاف هاهنا ليس هو الا لهؤلاء الائمة وأصحابهم ،

١٥١

علمنا أنهم محقون.

والكلام على ذلك من وجوه :

أحدها : أن الاستخلاف هاهنا ليس هو الامارة والخلافة ، بل المعنى هو ابقاؤهم في أثر من مضى من القرون ، وجعلهم عوضا منهم وخلفا ، كما قال (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) (١) وقال (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢) وقال (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) (٣).

وإذا ثبت ذلك فالاستخلاف والتمكين الذي ذكره الله في الاية كانا في أيام النبي عليه‌السلام حين قمع الله أعداءه وأعلى كلمته ونشر ولايته وأظهر دعوته وأكمل دينه ونعوذ بالله أن نقول : لم يمكن الله دينه لنبيه في حياته حتى تلافى ذلك متلاف بعده.

وليس كل التمكين كثرة الفتوح والغلبة على البلدان ، لان ذلك يوجب أن دين الله لم يتمكن بعد الى يومنا ، هذا لعلمنا ببقاء ممالك للكفر كثيرة لم يفتتحها بعد المسلمون ، ويلزم على ذلك امامة معاوية وبني أمية ، لأنهم تمكنوا أكثر من تمكن أبي بكر وعمر ، وفتحوا بلادا لم يفتحوها.

ولو سلمنا أن المراد بالاستخلاف الامامة ، للزم أن يكون منصوصا عليهم ، وذلك ليس بمذهب أكثر مخالفينا ، وان استدلوا بذلك على صحة إمامتهم ، احتاجوا أن يدلوا على ثبوت إمامتهم بغير الاية ، وأنهم خلفاء للرسول حتى تتناولهم الاية.

فان قالوا : المفسرون ذكروا ذلك.

قلنا : لم يذكر جميع المفسرين ذلك ، فان مجاهدا قال : هم أمة محمد عليه‌السلام

__________________

(١). سورة فاطر : ٣٩.

(٢). سورة الاعراف : ١٢٨.

(٣). سورة الانعام : ١٣٣.

١٥٢

وعن ابن عباس وغيره قريب من ذلك.

وقال أهل البيت عليهم‌السلام : ان المراد بذلك المهدي عليه‌السلام ، لأنه يظهر بعد الخوف ويتمكن بعد أن كان مغلوبا ، وليس في ذلك اجماع المفسرين.

وقد استوفينا ما يتعلق بالاية في كتاب الامامة ، فلا نطول بذكره هاهنا.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ) الاية : ٥٨.

يقول الله تعالى : مروا عبيدكم وإماءكم أن يستأذنوا عليكم إذا أرادوا الدخول الى مواضع خلواتكم.

وقال ابن عباس وأبو عبد الرحمن : الاية في النساء والرجال من العبيد. وقال ابن عمر : هي في الرجال خاصة.

وقال الجبائي : الاستئذان واجب على كل بالغ في كل حال ، ويجب على الأطفال في هذه الأوقات الثلاثة بظاهر هذه الاية.

ثم قال (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) يعنى المسنات من النساء اللاتي قعدن عن التزويج ، لأنه لا يرغب في تزويجهن. وقيل : هن اللاتي ارتفع حيضهن وقعدن عن ذلك لا يطمعن في النكاح ، أي : لا يطمعن في جماعهن لكبرهم.

(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ) وقيل : هو القناع الذي فوق الخمار ، وهو الجلباب والرداء. وقوله (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي : لا يقصدن بوضع الجلباب اظهار محاسنها وما ينبغي أن تستره.

فصل : قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) الاية : ٦١.

١٥٣

قال الجبائي : الاية منسوخة بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) (١) وبقول النبي عليه‌السلام «لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه» والذي روي عن أهل البيت عليهم‌السلام أنه لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره (٢) الله بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف.

وقوله (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) قال الفراء : لما نزل قوله (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) (٣) ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير ممن أذن الله في الاكل معه ، فقال : وليس عليكم في أنفسكم وفي عيالكم أن تأكلوا منهم ومعهم ـ الى قوله (أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي : بيوت صديقكم (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي : بيوت عبيدكم وأموالهم.

وقال ابن عباس : معنى (ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) هو الوكيل ومن جرى مجراه.

وقوله (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) قال الحسن : معناه ليسلم بعضهم على بعض.

وقال ابراهيم : إذا دخلتم بيتا ليس فيه أحد نقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وقال قوم : أراد بالبيوت المساجد.

والاولى حمله على عمومه ، فأما رد السلام فهو واجب على المسلمين.

وقال الحسن : يجب الرد على المعاهد ولا يقول ورحمة الله.

فصل : قوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) الاية : ٦٣.

__________________

(١). سورة الأحزاب : ٥٣.

(٢). في التبيان : ذكرهم.

(٣). سورة النساء : ٢٨.

١٥٤

قيل : في معناه قولان : أحدهما ـ احذروا دعاءه عليكم إذا أسخطتموه ، فان دعاءه موجب ليس كدعاء غيره ، ذكره ابن عباس.

وقال مجاهد وقتادة : ادعوه بالخضوع والتعظيم وقولوا يا رسول الله يا نبي الله ولا تقولوا يا محمد ، كما يقول بعضكم لبعض.

وقوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) معناه : انه إذا تسلل واحد منكم من عند النبي عليه‌السلام فان الله عالم به. وقال الحسن : معنى (لِواذاً) فرارا من الجهاد.

ثم حذرهم من مخالفة رسوله بقوله (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وانما دخلت (عَنْ) في قوله (عَنْ أَمْرِهِ) لان المعنى يعرضون عن أمره.

وفي ذلك دلالة على أن أوامر النبي عليه‌السلام على الإيجاب ، لأنها لو لم تكن كذلك لما حذر من مخالفته ، وليس المخالفة هو أن يفعل خلاف ما أمره ، لان ذلك ضرب من المخالفة ، وقد يكون مخالفا بأن لا يفعل ما أمره به ، ولو كان الامر على الندب لجاز تركه وفعل خلافه.

وقوله (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي : بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق. والفتنة شدة في الدين تخرج ما في الضمير.

سورة الفرقان

فصل : قوله (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) الاية : ١.

معنى «تبارك» تقدس وجل بما لم يزل عليه من الصفات ، ولا يزال كذلك ولا يشاركه فيها غيره. وأصله من بروك الطير على الماء ، فكأنه قال : ثبت فيما لم يزل ولا يزال الذي نزل الفرقان.

وقال ابن عباس : تبارك تفاعل من البركة ، فكأنه قال : ثبت بكل بركة أوحل

١٥٥

بكل بركة.

وقال الحسن : معناه الذي تجيء البركة من قبله ، والبركة الخير الكثير. والفرقان هو القرآن ، يسمى فرقانا لأنه يفرق بين الصواب والخطأ والحق والباطل بما فيه.

فصل : قوله (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) الاية : ١٨.

أي : هلكى فاسدين. والبور الفاسد ، يقال : بارت السلعة تبور بورا إذا بقيت لا تشترى بقاء الفاسد الذي لا يراد.

والبائر الباقي على هذه الصفة. والبور مصدر كالزور لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. وقيل : هو جمع بائر ، قال ابن الزبعري :

يا رسول الله المليك ان لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور

ونعوذ بالله من بوار الإثم.

فصل : قوله (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) الآيات : ٢٢ ـ ٢٤.

أي : حراما محرما ، وأصل الحجر الضيق ، يقال : حجر عليه يحجر حجرا أي ضيق ، والحجر الحرام لضيقه بالنهي عنه ، قال المتلمس :

حنت الى النخلة القصوى فقلت لها

حجر حرام ألا تلك الدهاريس

ومنه حجر القاضي عليه يحجر ، وحجر فلان على أهله ، ومنه حجر الكعبة لأنه لا يدخل اليه في الطواف ، وانما يطاف من ورائه لتضيقه بالنهي عنه. وقوله (لِذِي حِجْرٍ) (١) أي : لذي عقل لما فيه من التضييق في القبيح.

__________________

(١). سورة الفجر : ٥.

١٥٦

ومعنى (وَقَدِمْنا) قال البلخي : قدم أحكامنا بذلك. وقال مجاهد : معنى (قَدِمْنا) عمدنا.

والهباء غبار كالشعاع لا يمكن القبض عليه. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة : هو غبار يدخل الكوة في شعاع الشمس.

وقوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) معناه : ان الذين يحصلون في الجنة مثابين منعمين في ذلك اليوم مستقرهم خير من مستقر الكفار في الدنيا والاخرة.

وقيل : انما قال ذلك على وجه المظاهرة ، بمعنى أنه لو كان لهم مستقر خير ومنفعة لكان هذا خيرا منه.

(وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) معناه : أحسن موضع قائله وان لم يكن في الجنة نوم الا أنه من تمهيده يصلح للنوم ، لأنهم خوطبوا بما يعرفون ، كما قال (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١) على ما اعتادوه.

وقال البلخي : معنى (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أنه خير في نفسه وحسن في نفسه لا أنه أفضل من غيره ، كما قال (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٢) أي : هو هين عليه.

فصل : قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الاية : ٣١.

قيل : فيه قولان :

أحدهما : قال ابن عباس : جعل لمحمد عليه‌السلام عدوا من المجرمين ، كما جعل لمن قبله.

والثاني : كما جعلنا النبي يعادي المجرم مدحا له وتعظيما ، كذلك جعلنا المجرم يعادي النبي ذما له وتحقيرا. والمعنى ان الله تعالى حكم بأنه على هذه الصفة.

__________________

(١). سورة مريم : ٦٢.

(٢). سورة الروم : ٢٧.

١٥٧

وقيل : جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين ببياننا أنهم أعداء ، وهو كما يقال جعله لصا أو خائنا.

وقوله (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) فالترتيل التبيين في تثبت وترسل.

فصل : قوله (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) الاية : ٣٨.

معناه : وأهلكنا هؤلاء ايضا ، يقال : هم القوم الذين بعث الله اليهم هودا وثمود هم الذين بعث الله اليهم صالحا.

وأصحاب الرس قال عكرمة : الرس هو بئر رسوا فيها نبيهم ، أي : ألقوه فيها.

وقال قتادة : هي قرية باليمامة ، يقال لها : فلج ، وقال أبو عبيد : هو المعدن قال الشاعر :

سبقت الى فرط باهل

تنابلة يحفرون الرساسا

أي : المعادن. وقيل : الرس البئر التي لم تطو بحجارة ولا غيرها. وقيل أصحاب الرس أصحاب ياسين بانطاكية الشام ، ذكره النقاش.

وقال الكلبي : هم قوم بعث الله اليهم نبيا فأكلوه وهم أول من عمل نساؤهم السحر ، وعن أهل البيت انهم قوم كانت نساؤهم سحاقات.

فصل : قوله (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) الاية : ٤٥.

قال أبو عبيدة : الظل بالغداة والفيء بالعشي ، لأنه يرجع بعد زوال الشمس.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) الاية : ٤٧.

أي : جعل نومكم ممتدا طويلا تكثر به راحتكم وهدوؤكم.

وقيل : انه أراد جعله قاطعا للأعمال التي يتصرف فيها. والسبات قطع العمل ومنه يوم السبت وهو يوم ينقطع العمل.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) الاية : ٥٣.

١٥٨

معناه : أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج فهما يلتقيان ، فلا ينبغي الملح على العذب ، ولا العذب على الملح بقدرة الله.

والعذب الفرات وهو الشديد العذوبة.

والملح الأجاج يعني : المر.

وقوله (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) يعني حاجزا يمنع كل واحد منهما من تغيير الاخر.

فصل : قوله (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) الاية : ٦٣.

وإذا خاطبهم الجاهلون بما يكرهونه أو يثقل عليهم قالوا في جوابه (سَلاماً) أي : سدادا من القول ، ذكره مجاهد.

وقيل : معناه انهم قالوا قولا يسلمون من المعصية لله.

فصل : قوله (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) الاية : ٦٧.

قال ابن عباس : الإسراف الإنفاق في معصية الله قل أو كثر. والإقتار منع حق الله من المال.

وقال ابراهيم : السرف مجاوزة الحد في النفقة. والإقتار التقصير عما لا بد منه.

والقوام بفتح القاف العدل وبكسرها السداد.

سورة الشعراء

فصل : قوله (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الاية : ٣.

قال ابن عباس وقتادة : لعلك قاتل نفسك.

وقال ابن زيد : مخرج نفسك من جسدك. والبخع القتل ، قال ذو الرمة :

ألا أيها الباخع الوجد نفسه

لشيء نحته عن يديه المقادير

فصل : قوله (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. قالَ فَعَلْتُها إِذاً

١٥٩

وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) الاية : ١٩ ـ ٢٠.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما ـ قال ابن زيد : أنت من الجاحدين لنعمتنا.

الثاني : قال السدي : أراد كنت على ديننا هذا الذي تعيبه كافرا بالله. وقال الحسن : وأنت من الكافرين بي انى إلهك. وقيل : من الكافرين لحق تربيتي.

فقال له موسى في الجواب عن ذلك (فَعَلْتُها) يعني قتل القبطي «وأنا من الضالين» قال قوم : يعني من الضالين أي الجاهلين بأنها تبلغ القتل.

وقال الجبائي : وأنا من الضالين عن العلم بأن ذلك يؤدي الى قتله.

وقال قوم : معناه وأنا من الضالين عن طريق الصواب لاني ما تعمدته ، وانما وقع مني خطأ ، كما يرمي انسان طائرا فيصيب إنسانا.

فصل : قوله (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الاية : ٢٢.

قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : ان اتخاذك بني إسرائيل عبيدا قد أحبط ذلك وان كانت نعمة علي.

الثاني : انك لما ظلمت بني إسرائيل ولم تظلمني اعتددت بها نعمة علي.

الثالث : انه لا يوثق بأنها نعمة منك مع ظلمك بني إسرائيل في تعبيدهم وفي كل ذلك دلالة وحجة عليه وتقريع له.

فصل : قوله (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الاية : ٣٢ ـ ٣٦.

وصفه تعالى للعصى هاهنا بأنه صار مثل الثعبان لا ينافي قوله (كَأَنَّها جَانٌّ) من وجوه :

أحدها : أنه تعالى لم يقل فإذا هي جان كما وصفها بأنها ثعبان ، وانما يشبهها

١٦٠