المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقال قوم : هو ميزان ذو كفتين توزن بها صحف الاعمال. وقال بعضهم : يكون في احدى الكفتين نور وفي الاخرى ظلمة ، فأيهما رجح علم به مقدار ما يستحقه ويكون الوجه (١) في ذلك ما فيه من اللطف والمصلحة في دار الدنيا.

فصل : قوله (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) الاية : ٦٣.

انما جاز أن يقول (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وما فعل شيئا لاحد أمرين :

أحدهما : أنه قيده بقوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فقد فعله كبيرهم ، وقوله (فَسْئَلُوهُمْ) اعتراض بين الكلامين كما يقول القائل : عليه الدراهم فاسأله ان أقر.

الثاني : انه خرج مخرج الخبر وليس بخبر ، وانما هو الزام يدل على تلك الحال ، كأنه قال : بل ما ينكرون فعله كبيرهم هذا ، والإلزام تارة يأتي بلفظ السؤال ، وتارة بلفظ الامر ، كقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (٢) وتارة بلفظ الخبر ، والمعنى فيه أنه من اعتقد كذا لزمه كذا.

ولا يجوز على الأنبياء القبائح ، ولا يجوز عليهم التعمية في الاخبار ، ولا التقية في أخبارهم ، لأنه يؤدي الى التشكيك في أخبارهم ، فلا يجوز ذلك عليهم على وجه.

فأما ما روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات كلها في الله. فانه خبر لا أصل له ، لان الكذب يشكك في اخبار الكاذب ، ولو حسن الكذب على وجه كما يتوهم بعض الجهال لجاز من القديم ذلك.

فصل : قوله (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) الاية : ٦٩.

قيل : فيه قولان :

أحدهما : أنه تعالى أحدث فيها بردا بدلا من شدة الحرارة التي فيها فلم تؤذه.

والثاني : أنه تعالى حال بينها وبين جسمه فلم تصل اليه ، ولو لم يقل وسلاما

__________________

(١). في التبيان : المعرفة.

(٢). سورة يونس : ٣٨.

١٢١

لاهلكه بردها ، ولم يكن هناك أمر على الحقيقة. والمعنى أنه فعل ذلك كما قال (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) أي : صيرهم كذلك من غير أن أمرهم بذلك.

فصل : قوله (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) الاية : ٧٢.

معنى (نافِلَةً) عطية زائدة على ما تقدم من النعمة ، في قول مجاهد وعطاء.

والنفل النفع الذي يجب الحمد مما زاد على حد الواجب ، ومنه صلاة النافلة ، أي : فضلا على الفريضة.

وقوله (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) يحتمل أمرين :

أحدهما : أنه جعلها بالتسمية على وجه المدح بالصلاح ، أي : سميناهم صالحين.

والثاني : انا فعلنا بهم من اللطف الذي صلحوا به.

وقوله (وَإِقامَ الصَّلاةِ) أي : وبأن يقيموا الصلاة بحدودها ، وانما قال (وَإِقامَ الصَّلاةِ) بلا هاء ، لان الاضافة عوض الهاء.

فصل : قوله (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) الاية : ٧٨.

النفش لا يكون الا ليلا على ما قاله شريح.

وقال الزهري : الهمل بالنهار. والحرث الذي حكما فيه.

قال قتادة : هو زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته.

وقيل : كرم قد نبتت عنا قيده ، في قول ابن مسعود وشريح.

وقيل : ان داود كان يحكم بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان غير هذا يا نبي الله ، قال : وما ذاك؟ قال : يدفع الكرم الى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم الى صاحب الكرم ، فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم

__________________

(١). سورة البقرة : ٦٥.

١٢٢

كما كان دفع كل واحد الى صاحبه ، ذكره ابن مسعود ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقال أبو علي الجبائي : أوحى الله الى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ، ولم يكن ذلك عن اجتهاد ، لان الاجتهاد لا يجوز أن يحكم به الأنبياء. وهذا هو الصحيح عندنا.

قال الجبائي : أكمل الله تعالى عقول الطيور حتى فهمت ما كان سليمان يأمرها به وينهاها عنه وما يتوعدها به متى خالفت.

قوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) انما جمعه في موضع التثنية لان داود وسليمان كان معهما المحكوم عليه ومن حكم له ، فلا يمكن الاستدلال به ، على أن أقل الجمع اثنان.

ومن قال : انه كناية عن الاثنين ، قال : هو يجري مجرى قوله (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) (١) في موضع فان كان له أخوان. وهذا ليس بشيء ، لان ذلك علمناه بدليل الإجماع ، ولذلك خالفا فيه ابن عباس ، فلم يحجب بأقل من ثلاثة.

وقوله (وَعَلَّمْناهُ) يعني داود (صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي : علمناه كيف يصنع الدرع. وقيل : ان اللبوس عند العرب هو السلاح كله ، درعا كان أو جوشنا.

فصل : قوله (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) الآيات : ٨٢ ـ ٨٥.

أي : وسخرنا لسليمان قوما من الشياطين يغوصون له في البحر.

«ويعملون عملا دون ذلك» قال الزجاج : معناه سوى ذلك.

«وكنا لهم حافظين» أي : يحفظهم الله من الإفساد لما عملوه. وقيل : كان يحفظهم لئلا يهربوا من العمل.

__________________

(١). سورة النساء : ١٠.

١٢٣

وقال الجبائي : كشف (١) الله أجسام الجن حتى تهيأ لهم تلك الاعمال معجزا لسليمان عليه‌السلام ، قال : لأنهم كانوا يبنون له البنيان والغوص في البحار ، وإخراج ما فيها من اللؤلؤ وغيره ، وذلك لا يتأتى مع رقة أجسامهم ، قال : وسخر له الطير بأن قوى أفهامها حتى صارت كصبياننا الذين يفهمون التخويف والترغيب.

اختلفوا في ذي الكفل ، فقال أبو موسى الاشعري وقتادة ومجاهد : كان رجلا صالحا كفل لنبي بصوم النهار وقيام الليل ، وألا يغضب ويقضي بالحق ، فوفى لله بذلك فأثنى الله عليه.

وقال قوم : كان نبيا كفل بأمر وفى به. وقال الحسن : هو نبي اسمه ذو الكفل. وقال الجبائي : هو نبي.

ومعنى وصفه بالكفل أنه ذو الضعف ، أي : ضعف ثواب غيره ممن في زمانه لشرف عمله.

فصل : قوله (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) الآيات : ٨٧ ـ ٩٠.

النون الحوت ، وصاحبها يونس بن متى ، غضب على قومه ، في قول ابن عباس والضحاك ، فذهب مغاضبا لهم ، فظن أن الله لا يطيق عليه ، لأنه كان ندبه الى الصبر عليهم والمقام فيهم ، من قوله (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) (٢) أي : ضيق ، وقوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٣) أي : يضيق ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وأكثر المفسرين.

ومن قال : ان يونس عليه‌السلام ظن أن الله لا يقدر عليه من القدرة فقد كفر. وقيل :

__________________

(١). في «ق» : كثف.

(٢). سورة الطلاق : ٧.

(٣). سورة الرعد : ٢٨.

١٢٤

انما عوتب على ذلك ، لأنه خرج مغاضبا لهم قبل أن يؤذن له ، فقال قوم : كانت خطيئة من جهة تأويله أنه يجوز له ذلك ، وقد قلنا : انه كان مندوبا الى المقام ، فلم يكن ذلك محظورا وانما كان ترك الاولى.

قوله (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قيل : انها ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ، على ما قاله ابن عباس وقتادة.

وقوله (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : كنت من الباخسين نفسي ثوابها لو أقمت ، لأنه كان مندوبا اليه ، ومن قال بجواز الصغائر على الأنبياء ، قال : كان ذلك صغيرة نقصت ثوابه.

فأما الظلم الذي هو كبيرة ، فلا يجوزها عليهم الا الحشوية الجهال الذين لا يعرفون مقادير الأنبياء الذين وصفهم الله بأنه اصطفاهم واختارهم.

فصل : قوله (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) الاية : ٩١.

الإحصان إحراز الشيء من الفساد ، فمريم أحصنت فرجها بمنعه من الفساد ، فأثنى الله عليها ورزقها ولدا عظيم الشأن.

وقوله (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) معناه أجرينا فيها روح المسيح ، كما يجري الهواء بالنفخ ، وأضاف الروح الى نفسه تعالى على وجه الملك تشريفا له في الاختصاص بالذكر.

وقيل : ان الله تعالى أمر جبرئيل بنفخ الروح في فرجها وخلق المسيح في رحمها.

وقوله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) معناه انا جعلنا مريم وابنها عيسى آية للعالمين. وانما قال (آيَةً) ولم يثن ، لأنه في موضع دلالة لهما ، فلا يحتاج أن يثني.

١٢٥

فصل : قوله (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) الاية : ١٠٤.

السجل الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة ، فشبه الله تعالى طي السماء يوم القيامة بطي الكتاب ، في قول ابن عباس ومجاهد.

وقال ابن عمرو السدي : السجل ملك يكتب أعمال العباد.

وقال ابن عباس : في رواية السجل كاتب كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

سورة الحج

فصل : قوله (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) الاية : ٢.

قال الفراء والكوفيون : يجوز أن يقال : مرضع بلا هاء ، لان ذلك لا يكون في الرجال فهو مثل حائض وطامث.

وقال الزجاج وغيره من البصريين : إذا أجريته على الفعل قلت أرضعت فهي مرضعة ، فإذا قالوا مرضع ، فالمعنى انها ذات رضاع. وقيل : في قولهم حائض وطامث معناه انها ذات حيض وطمث.

وقال قوم : إذا قلت مرضعة ، فانه يراد بها أم الصبي المرضع ، وإذا أسقطت الهاء فانه يراد بها المرأة التي معها صبي مرضعة لغيرها.

والمعنى : ان الزلزلة شيء عظيم في يوم ترون فيها الزلزلة على وجه (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) أي : يشغلها عن ولدها اشتغالا بنفسها وما يلحقها من الخوف.

وقال الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل لغير تمام.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) الاية : ٥.

قال الحسن : المعنى خلقنا آدم من تراب الذي هو أصلكم وأنتم نسله. وقال قوم : أراد به جميع الخلق ، لأنه أراد به خلقهم من نطفة ، والنطفة يجعلها الله من

١٢٦

الغذاء ، والغذاء ينبت من التراب ، فكان أصلهم كلهم التراب ، ثم أحالهم بالتدريج الى النطفة ، ثم أحال النطفة علقة ، وهي القطعة من الدم جامدة ، ثم أحال العلقة مضغة ، وهي شبه قطعة من اللحم ممضوغة ، والمضغة مقدار ما يمضغ من اللحم.

وقوله (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) قال قتادة : تامة الخلق وغير تامة وقيل : مصورة وغير مصورة ، وهي السقط ، في قول مجاهد.

وقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) قيل : معناه أهونه وأخسه عند أهله وقيل : أحقره. وقيل : هي حال الخرف ، وانما قيل أرذل العمر ، لان الإنسان لا يرجو بعده صحة وقوة ، وانما يترقب الموت والفناء ، بخلاف حال الطفولية.

وقوله (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) معناه : ان رددناه الى أرذل العمر لكيلا يعلم ، لأنه يزول عقله من بعد أن كان عاقلا عالما بكثير من الأشياء ينسى جميع ذلك.

فصل : قوله (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الاية : ١٠.

انما ذكره بلفظ المبالغة وان كان لا يفعل القليل من الظلم لامرين :

أحدهما : أنه خرج جوابا للمجبرة وردا عليهم ، لأنهم ينسبون كل ظلم في العالم اليه تعالى ، فبين أنه لو كان كما قالوا لكان ظلاما وليس بظالم.

الثاني : أنه لو فعل أقل قليل الظلم كان عظيما منه ، لأنه يفعله من غير حاجة اليه فهو أعظم من كل ظلم فعله فاعله لحاجته اليه.

فصل : قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الاية : ١١.

ان في الناس من يوجه عبادته الى الله على ضعف في العبادة ، كضعف القيام على حرف جرف ، وذلك من اضطرابه في استيفاء النظر المؤدي الى المعرفة ، فأدنى شبهة تعرض له ينقاد لها ولا يعمل في حلها.

والحرف والطرف والجانب نظائر ، والحرف منتهى الجسم ، ومنه الانحراف

١٢٧

والانعدال الى الجانب ، وقلم محرف قد عدل بقطته عن الاستواء الى جانب.

وقال مجاهد : معنى على حرف على شك. وقال الحسن : يعبد الله على حرف يعني المنافق يعبده بلسانه دون قبله.

وقيل : على حرف الطريقة لا يدخل فيه على تمكين.

وقوله (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) قال ابن عباس : كان بعضهم إذا قدم المدينة ، فان صح جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به واطمأن اليه ، وان أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة قال : ما أصبت منذ كنت على ديني هذا الا شرا وكل ذلك عدم البصيرة.

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) الاية : ١٧ ـ ١٨.

قوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : عالم بما من شأنه أن يشاهد ، فالله تعالى يعلمه قبل أن يكون ، لأنه علام الغيوب.

وقوله (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من العقلاء (وَ) يسجد له (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، فسجود الجماد هو ما فيه من ذلة الخضوع التي تدعو العارفين الى السجود سجود العبادة لله المالك للأمور ، وسجود العقلاء هو الخضوع له تعالى.

وقوله (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) وان كان ظاهره العموم فالمراد به الخصوص ، إذا حملنا السجود على العبادة والخضوع ، لأنا علمنا أن كثيرا من الخلق كافرون بالله تعالى ، ولذلك قال (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ

١٢٨

الْعَذابُ).

وقوله (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) فالصهر الاذابة ، والمعنى يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم ، قال الشاعر :

تروي لقى ألقى في صفصف

تصهره الشمس فما ينصهر (١)

فصل : قوله (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) الاية : ٢٥.

معناه : سواء فيه بالنزول فيه. وقال مجاهد : معناه انهم سواء في حرمته وحق الله عليهما فيه.

واستدل بذلك قوم على أن أجرة المنازل في أيام الموسم محرمة. وقال غيرهم : هذا ليس بصحيح ، لان المراد به سواء العاكف فيه والبادي فيما يلزمه من فرائض الله فيه ، فليس لهم أن يمنعوه من الدور والمنازل فهي لملاكها ، وهو قول الحسن.

فصل : قوله (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) الاية : ٢٦ ـ ٢٧.

قوله (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) يعني : من عبادة الأوثان. وقيل : من الأدناس. وقيل : من الدماء والفرث والأقذار التي كانت ترمى حول الكعبة ويلطخون به البيت إذا ذبحوا.

(لِلطَّائِفِينَ) يعني حول البيت (وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) يعني : طهر حول البيت للذين يقومون هناك للصلاة والركوع والسجود ، فقال عطاء : والقائمين في الصلاة ، وقال : إذا طاف فهو من الطائفين ، وإذا قعد فهو من العكف وإذا صلى فهو من الركع السجود.

__________________

(١). اللسان «صهر».

١٢٩

وفي الاية دلالة على جواز الصلاة في الكعبة.

قال الحسن وقتادة : الأيام المعلومات عشر ذي الحجة ، والأيام المعدودات أيام التشريق.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : الأيام المعلومات أيام التشريق والمعدودات العشر لان الذكر الذي هو التكبير في أيام التشريق ، وانما قيل لهذه الأيام معدودات لقلتها وقيل لتلك معلومات للحرص على عملها بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.

وقوله (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) يعني : مما يذبح من الهدي. وقال ابن عمر : الأيام المعلومات أيام التشريق ، لان الذبح فيها الذي قال تعالى (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).

وقوله (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) قال مجاهد وعطاء : أمر بأن يأكل من الهدي وليس بواجب ، وهو الصحيح غير أنه مندوب اليه.

وقوله (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) فالتفث مناسك الحج من الوقوف والطواف والسعي ورمي الجمار والحلق بعد الإحرام من الميقات.

وقال ابن عباس وابن عمر : التفث جميع المناسك. وقيل : التفث قشف الإحرام وقضاؤه بحلق الرأس والاغتسال ونحوه.

وقوله (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال ابن زيد : سمي البيت عتيقا ، لأنه أعتق من أن تملكه الجبابرة عن آدم. وقيل : لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان فغرقت الأرض كلها الا موضع البيت والطواف المأمور به وهو ركن بلا خلاف.

وروى أصحابنا أن المراد هاهنا طواف النساء الذي يستباح به وطئ النساء وهو زيادة على طواف الزيارة.

وقوله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني : الا ما يتلى عليكم في كتاب الله ، من الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل

١٣٠

السبع وما ذبح على النصب.

وقيل : وأحلت لكم الانعام من الإبل والبقر والغنم في حال إحرامكم الا ما يتلى عليكم من الصيد ، فانه يحرم على المحرم.

وقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) معنى «من» لتبيين الصفة ، والتقدير : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وروى أصحابنا أن المراد به اللعب بالشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يعني الكذب وروى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية بغير حق.

قوله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فالشعائر علامات مناسك الحج كلها ، منها رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة.

وقال مجاهد : هي البدن وتعظيمها استسمانها ، والشعيرة العلامة التي يشعر بما جعلت له وأشعرت البدن إذا علمتها بما يشعر أنها هدي.

ثم قال (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال ابن عباس ومجاهد : ذلك ما لم يسم هديا أو بدنا. وقال عطاء : ما لم يقلد. وقيل : منافعها ركوب ظهرها وشرب ألبانها إذا احتاج اليها ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام. وقوله (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال عطاء بن أبي رياح : الى أن تنحر.

وقوله (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) معناه : ان محل الهدي والبدن الكعبة وعند أصحابنا ان كان الهدي في الحج فمحله منى ، وان كان في العمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالحزورة. وقيل : الحرم كله محل لها ، والظاهر يقتضي أن المحل البيت العتيق.

قال الحسن : المنسك المنهاج جعله الله لكل أمة من الأمم السالفة «منسكا» أي : شريعة.

وقال مجاهد : منسكا يعني عبادة في الذبح ، والنسكة الذبيحة ، يقال : نسكت

١٣١

الشاة أي ذبحتها ، فكأنه المذبح ، وهو الموضع الذي تذبح فيه.

فصل : قوله (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الاية : ٣٦.

البدن جمع بدنة ، وهي الإبل المبدنة بالسمن.

قال الزجاج : يقولون بدنت الناقة إذا سمنتها ، ويقال لها بدنة من هذه الجهة.

وقيل : أصل البدن الضخم ، وكل ضخم بدن ، وبدن بدنا إذا ضخم ، وبدن تبدينا فهو ثقل لحمه للاسترخاء.

وقال عطاء : البدن البقرة والبعير.

وقيل : البدنة إذا نحرت عقلت يد واحدة ، فكانت على ثلاث فكذلك تنحر وعند أصحابنا تشد يداها الى إبطيها وتطلق رجلاها ، والبقر تشد يداها ورجلاها ويطلق ذنبها ، والغنم تشد ثلاثة أرجل منها وتطلق فرد رجل.

وقوله (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) فقال قوم : الاكل والإطعام واجبان وقال آخرون : الاكل مندوب والإطعام واجب.

وقال قوم : لو أكل جميعه جاز ، وعندنا يطعم ثلثه ويعطي ثلثه للقانع والمعتر ويهدي الثلث.

والقانع الذي يقنع بما أعطي أو بما عنده ولا يسأل. والمعتر الذي يتعرض لك أن تطعمه من اللحم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المعتر يسأل ، والقانع لا يسأل.

وقال الحسن وسعيد بن جبير : القانع الذي يسأل.

ثم قال «لن ينال الله لحومها» والمعنى لن يتقبل الله اللحوم ولا الدماء ، ولكن يتقبل التقوى فيها وفي غيرها ، بأن يوجب في مقابلتها الثواب.

فصل : قوله (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) الاية : ٤٥.

معناه : وكم من بئر معطلة أي لا أهل لها ، والتعطيل إبطال العمل بالشيء

١٣٢

ولذلك قيل للدهري : معطل ، لأنه أبطل العمل بالعلم على مقتضى الحكمة.

ومعنى «وقصر مشيد» أي : مجصص. والشيد الجص في قول عكرمة ومجاهد وقال قتادة : معناه رفيع وهو المرفوع بالشيد ، قال امرؤ القيس :

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أجما الا مشيدا بجندل

قوله (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) قال البلخي : يجوز أن يكون النبي سمع هاتين الكلمتين من قومه وحفظهما ، فلما قرأ النبي عليه‌السلام وسوس بهما اليه الشيطان وألقاهما في فكره ، فكاد أن يجريهما على لسانه ، فعصمه الله ونبهه ونسخ وسواس الشيطان وأحكم آياته ، بأن قرأها النبي عليه‌السلام محكمة سليمة مما أراد الشيطان وقال بعض المفسرين : ان المراد بالتمني في الاية تمني القلب.

والمعنى أنه ما من نبي ولا رسول الا وهو يتمني بقلبه ما يقربه الى الله من طاعاته ، وأن الشيطان يلقي في أمنيته بوسوسته واغوائه ما ينافي ذلك ، فينسخ الله ذلك عن قلبه ، بأن يلطف له ما يختار عنده ترك ما أغواه.

فصل : قوله (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الاية : ٧٤.

اختلقوا في معنى (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فقال الحسن : معناه ما عظموه حق عظمته إذ جعلوا له شريكا في عبادته ، وهو قول المبرد والفراء. وقال قوم : ما عرفوه حق معرفته.

سورة المؤمنون

فصل : قوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الاية ١ ـ ٢.

معنى خاشعين مقبلين على الصلاة بالخضوع والتذلل لربهم.

وقيل : معناه خائفون.

١٣٣

وقال مجاهد : هو غض الطرف وخفض الجناح. وقيل : أن ينظر الى موضع سجوده.

ثم قال (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي : يؤدون ما يجب عليهم في أموالهم من الصدقات ، وسمي زكاة لأنه يزكو بها المال عاجلا وآجلا.

ثم قال (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) قيل : عنى بالفروج هاهنا فروج الرجال خاصة ، بدلالة قوله (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).

ثم استثنى من الحافظين لفروجهم من لا يحفظ فرج زوجته ، أو ما تملك يمينه من الإماء على ما أباحه الله له ، لان التزويج ينبغي أن يكون على وجه اباحة الله تعالى.

وملك اليمين في الاية المراد به الإماء ، لان الذكور من المماليك لا خلاف في وجوب حفظ الفرج منهم ، ومن ملك الايمان من الإماء لا يجمع بين الأختين في الوطء ، ولا بين الام والبنت ، وكل ما لم يجز الجمع بينهم في العقد ، فلا يجوز الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين.

ولا يخرج من الاية وطئ المتمتع بها ، لأنها زوجة عندنا ، وان خالف حكمها حكم الزوجات في أحكام كثيرة ، كما أن حكم الزوجات مختلف في نفسه.

وانما قيل للجارية : ملك يمين ، ولم يقل في الدار ملك يمين ، لان ملك الجارية أخص من ملك الدار ، إذ له نقض بنية الدار ، وليس له نقض بنية الجارية وله عارية الدار وليس له عارية الجارية ، حتى توطئ بالعارية ، فلذلك خص الملك في الامة.

وانما قال «الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين» مع تحريم وطئها على وجوه ، كتحريم وطئ الزوجة ، والامة في حال الحيض ، ووطئ

١٣٤

الجارية إذا كان لها زوج ، أو كانت في عدة من زوج. وتحريم وطئ المظاهرة قبل الكفارة ، لان المراد بذلك على ما يصح ويجوز مما بينه الله وبينه رسوله في غير هذا الموضع وحذف لأنه معلوم.

فصل : قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الاية : ١٢.

قال ابن عباس ومجاهد : المراد بالإنسان كل انسان ، لأنه يرجع الى آدم الذي خلق من سلالة.

وقال قتادة : المراد بالإنسان آدم ، لأنه استل من أديم الأرض.

وقيل : استل من طين. والسلالة صفوة الشيء التي تخرج منه ، كأنها تستل منه.

وفي الاية دلالة على أن الإنسان هو هذا الجسم المشاهد ، لأنه المخلوق من نطفة والمستخرج من سلالة دون ما يذهب اليه قوم من أنه الجوهر البسيط أو شيء لا يصح التركيب والانقسام ، على ما يذهب اليه معمر وغيره.

فصل : قوله (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) الاية : ٢٠.

من كسر السين من سيناء ، فلقوله (طُورِ سِينِينَ) (١) والسيناء والسينين الحسن ، وكل جبل ينبت الثمار فهو سينين. ومن فتح السين فلانه لغتان ، وأصله سرياني.

وقوله (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي : وجعلناه مما يتأدم به الإنسان ويصطبحون به من الزيت والزيتون. والاصطباغ أن يغمز فيه ثم يخرجه ويأكله.

فصل : قوله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) الاية : ٢١.

قال بعضهم : سقيت وأسقيت لغتان ، والصحيح أن سقيت للشفه ، وأسقيت

__________________

(١). سورة التين : ٢.

١٣٥

للأنهار والانعام.

وانما قال هاهنا (مِمَّا فِي بُطُونِها) وفي النحل «بطونه» (١) لأنه إذا أنث فلا كلام لرجوع ذلك الى الانعام ، وإذا ذكر فلان النعم والانعام بمعنى واحد ، ولان التقدير : ونسقيكم من بعض ما في بطونه.

الانعام هي الماشية التي تمشي على نعمة في مشيها خلاف الحافر في وطئها وهي الإبل والبقر والغنم.

فصل : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) الاية : ٢٧.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما : بحيث نراها كما يراها الرائي من عبادنا بعينه ليتذكر أنه يصنعها والله عزوجل يراه.

الثاني : بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين ، فإنهم يحرسونك من منع مانع لك.

وقوله (وَوَحْيِنا) أي : باعلامنا إياك كيفية فعلها.

فصل : قوله (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) الاية : ٣٦.

ومعنى (هَيْهاتَ) بعد الامر جدا هو بمنزلة صه ومه.

وقال ابن عباس : معنى هيهات بعيد بعيد ، والعرب تقول : هيهات لما تبتغي وهيهات ما تبتغي ، قال جرير :

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات وصل بالعقيق نواصله (٢)

فصل : قوله (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) الاية : ٥١.

الربوة التي أويا اليها هي الرملة في قول أبي هريرة. وقال سعيد بن المسيب

__________________

(١). سورة النحل : ٦٦.

(٢). ديوان جرير ص ٣٨٥.

١٣٦

هي دمشق. وقال ابن زيد : هي مصر. وقال قتادة : هي بيت المقدس.

و «ذات قرار ومعين» أي : ماء جار طاهر.

سورة النور

فصل : قوله (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) الاية : ١.

السورة : المنزلة الشريفة ، قال الشاعر :

ألم تر أن الله أعطاك سورة

ترى كل ملك دونها يتذبذب (١)

فسميت السورة من القرآن بذلك لهذه العلة. والفرض هو التقدير في اللغة ، وفصل بينه وبين الواجب ، بأن الفرض واجب بجعل جاعل ، لأنه فرضه على صاحبه ، كما أنه أوجبه عليه.

والواجب قد يكون واجبا من غير جعل جاعل ، كوجوب شكر المنعم فجرى مجرى دلالة الفعل على الفاعل في أنه يدل من غير جعل جاعل له يدل ، كما تجعل العلامة الوضعية تدل ، الا أن الله تعالى لا يوجب على العبد الا ما له صفة الوجوب في نفسه ، كما لا يرغبه الا فيما هو مرغوب فيه في نفسه.

ومعنى الآيات الدلالات على ما يحتاج الى علمه مما قد بينه الله في هذه السورة.

فصل : قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) الاية : ٢.

أمر الله تعالى في هذه الاية أن يجلد الزاني والزانية إذا لم يكونا محصنين (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وإذا كانا محصنين أو أحدهما كان على المحصن الرجم بلا خلاف.

__________________

(١). ديوان الذبياني ص ١٨.

١٣٧

وعندنا أنه يجلد أولا مائة جلدة ثم يرجم ، وفي أصحابنا من خص ذلك بالشيخ والشيخة إذا زنيا وكانا محصنين ، فاما إذا كانا شابين محصنين لم يكن عليهما غير الرجم ، وهو قول مسروق ، وفي ذلك خلاف ذكرناه في الخلاف.

والإحصان الذي يوجب الرجم هو أن يكون له فرج (١) يغدو اليه ويروح على وجه الدوام وكان حرا ، فأما العبد فلا يكون محصنا ، وكذلك الامة لا تكون محصنة ، وانما عليهما نصف الحد خمسون جلدة.

والحر متى كان عنده زوجة حرة يتمكن من وطئها مخلى بينه وبينها ، سواء كانت حرة أو أمة ، أو كانت عنده أمة يطأها بملك اليمين ، فانه متى زنا وجب عليه الرجم.

ومتى كان غائبا عن زوجته شهرا فصاعدا ، أو كان محبوسا ، أو هي محبوسة هذه المدة ، فلا إحصان. ومن كان محصنا على ما قدمناه ، ثم ماتت زوجته أو طلقها ، بطل احصانه. وفي جميع ذلك خلاف بين الفقهاء ، ذكرناه في الخلاف.

والخطاب بهذه الاية وان كان متوجها الى الجماعة ، فالمراد به الائمة بلا خلاف ، لأنه لا خلاف أنه ليس لاحد اقامة الحدود الا للإمام ، أو من يوليه الامام ، ومن خالف فيه لا يعتد بخلافه.

والزنا هو وطئ المرأة في الفرج من غير عقد شرعي ولا شبهة عقد مع العلم بذلك أو غلبة الظن ، وليس كل وطئ حرام زنا ، لأنه قد يطأ في الحيض والنفاس وهو حرام ولا يكون زنا وكذلك لو وجد امرأة على فراشه ، فظنها زوجته أو أمته فوطأها لم يكن ذلك زنا لأنه شبهة.

وقوله (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) قال مجاهد وعطاه بن أبي رياح وسعيد بن جبير وابراهيم : معناه لا تمنعكم الرأفة والرحمة من اقامة الحد. وقال

__________________

(١). في التبيان : زوج.

١٣٨

الحسن وسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وحماد : لا يمنعكم ذلك من الجلد الشديد.

وقوله (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال مجاهد وابراهيم : الطائفة رجل واحد. وعن أبي جعفر عليه‌السلام أن أقله رجل واحد. وقال عكرمة : الطائفة رجلا فصاعدا. وقال قتادة والزهري : هم ثلاثة.

وقال الجبائي : من زعم أن الطائفة أقل من ثلاثة ، فقد غلط من جهة اللغة ، ومن جهة المراد بالاية من احتياطه بالشهادة.

وقوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) الاية. قيل : انها نزلت على سبب ، وذلك أنه استأذن رجل من المسلمين النبي عليه‌السلام أن يتزوج امرأة من أصحاب الرايات كانت تسافح ، فأنزل الله تعالى الاية.

وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وابن عباس وقال : حرم الله نكاحهن على المؤمنين ، فلا يتزوج بهن الا زان أو مشرك.

وقال مجاهد وقتادة والزهري والشعبي : ان التي استؤذن فيها مهزول.

وقيل : النكاح هاهنا المراد به الجماع ، والمعنى الاشتراك في فعل الزنا ، يعني أنهما يكونان جميعا زانيين ، ذكر ذلك عن ابن عباس ، وقد ضعف الطبري ذلك ، وقال : لا فائدة في ذلك ، ومن قال بالأول قال : الاية وان كان ظاهرها الخبر ، فالمراد به النهي.

وقال سعيد بن جبير : معناه أنها زانية مثله ، وهو قول الضحاك وابن زيد.

وقال سعيد بن المسيب : وكان هذا حكم كل زان وزانية ثم نسخ بقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ) (١) وبه قال أكثر الفقهاء.

وقال الرماني : وجه التأويل أنهما شريكان في الزنا ، لأنه لا خلاف أنه ليس

__________________

(١). سورة النور : ٣٢.

١٣٩

لاحد من أهل الصلاة أن ينكح زانية ، وأن الزانية من المسلمات حرام على كل مسلم من أهل الصلاة ، فعلى هذا له أن يتزوج بمن كان زنا بها.

وعن أبي جعفر : أن الاية نزلت في أصحاب الرايات ، وأما غيرهن فانه يجوز أن يتزوجها ، وان كان الأفضل غيرها ويمنعها من الفجور ، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء.

فصل : قوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآيتان : ٤ ـ ٥.

قال سعيد بن جبير : هذه الاية نزلت في عائشة. وقال الضحاك : هي في نساء المؤمنين ، وهو الاولى لأنه أعم فائدة ، وان كان يجوز أن يكون سبب نزولها في عائشة ، لكن لا تقصر الاية على سببها.

يقول الله تعالى إن (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي : يقذفون العفائف من النساء بالزنا والفجور ، وحذف قوله «بالزنا» لدلالة الكلام عليه ولم يقيموا على ذلك أربعة من الشهود ، فانه يجب على كل واحد منهم ثمانون جلدة. وقال الحسن : يجلد وعليه ثيابه ، وهو قول أبي جعفر عليه‌السلام.

ويجلد الرجل قائما والمرأة قاعدة. وقال ابراهيم : ترمى عنه ثيابه وعندنا ترمى عنه ثيابه في حد الزنا.

وقوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) نهي من الله تعالى عن قبول شهادة القاذف على التأبيد ، وحكم عليهم بأنهم فساق.

ثم استثنى من ذلك (الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) واختلفوا في الاستثناء الى من يرجع ، فقال قوم : انه من الفاسقين (١) ، فإذا تاب قبلت شهادته حدا ولم يحد ،

__________________

(١). في التبيان : الفساق.

١٤٠