المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

رجل ، ومنهم من قال بالنهطية.

وقال الحسن : هو جواب المشركين لما قالوا : انه شقي ، فقال الله تعالى : يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.

وقيل : ان «طه» بمعنى يا رجل لغة في عك ، وأنشد لمتمم بن نويرة :

فقلت (١) بطه في القتال فلم يجب

فخفت عليهم أن يكونوا موائلا

وقال آخر :

ان السفاهة طه من خلائقكم

لا بارك الله في القوم الملاعين

فصل : قوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) الاية : ٦ ـ ٧.

اجتزئ بذكر بعض الأشياء عن ذكر بعض لدلالته عليه ، كما قال (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) (٢) ولم يقل وعلى ظهورهم ، لان المفهوم أنهم يذكرون الله على كل حال.

ومثله قوله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٣) لما كان رضا أحدهما رضا الاخر ومثله قوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (٤) ولم يقل ولا ينفقونهما لدلالته على ذلك.

وقوله (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) معناه : وان تجهر بالقول فلحاجتك لا لتسمع الله بجهرك ، لأنه تعالى يعلم السر وأخفى من السر ، ولم يقل وأخفى منه لأنه دال عليه ، كما يقول القائل : فلان كالفيل أو أعظم ، وهذا كالحبة أو

__________________

(١). في التبيان : هتفت.

(٢). سورة آل عمران : ١٩١.

(٣). سورة التوبة : ٦٣.

(٤). سورة التوبة : ٣٥.

١٠١

أصغر.

والجهر رفع الصوت ، يقال : جهر يجهر جهرا فهو جاهر والصوت مجهور وضده المهموس. والسر ما حدث به الإنسان غيره في خفي ، وأخفى منه ما أضمره في نفسه مما لم يحدث به غيره ، هذا قول ابن عباس.

وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير : السر ما أضمره العبد في نفسه ، وأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد.

ومعنى «اني آنست نارا» أي : رأيت نارا. والإيناس وجدان الشيء الذي يؤنس به ، لأنه من الانس ، وكان موسى في شتاء وقد امتنع عليه القدح وضل عن الطريق ، فلذلك قال : «أو أجد على النار هدى».

والقبس الشعلة ، وهو نار في طرف عود أو قصبة ، أي : لعلي آتيكم بنار تصطلمون بها ، أو أجد من يدلني على الطريق الذي أضللناه ، أو ما استدل به عليه.

فصل : قوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) الاية : ١١ ـ ١٥.

قيل : في السبب الذي لأجله أمر بخلع النعلين قولان : أحدهما ليباشر بقدميه بركة الوادي المقدس ، في قول علي عليه‌السلام والحسن وابن جريح. وقال كعب وعكرمة : لأنهما كانا من جلد حمار ميت.

وحكى البلخي أنه أمر بذلك على وجه الخضوع والتواضع ، لان التحفي في مثل ذلك أعظم تواضعا وخضوعا.

والمقدس المبارك. وقيل : هو المطهر.

وقيل : في معنى «طوى» قولان : قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد : هو اسم

١٠٢

الوادي. وقال الحسن : لأنه طوى بالبركة مرتين.

«وأقم الصلاة لذكري» أي : لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم ، في قول الحسن ومجاهد.

وقيل : معناه لان أذكرك بالمدح والثناء.

وقيل : ان المعنى متى ذكرت ان عليك صلاة كنت في وقتها ، أو فات وقتها فأقمها.

فصل : قوله (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) الاية : ٢٢.

قيل : في معناه قولان : أحدهما ـ الى جنبك ، قال الراجز :

أضمه للصدر والجناح

الثاني : الى عضدك. وقال أبو عبيدة : الجناحان الناحيتان.

«تخرج بيضاء من غير سوء» أي : من غير برص.

ومعنى «اشرح لي صدري» أي : وسع لي صدري ، ومنه شرح المعنى ، أي بسط القول فيه.

فصل : قوله (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) الاية : ٣٩ ـ ٤٠.

معنى (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) معناه : اني جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون ، فسلمت من شره ، وأحبتك آسية بنت مزاحم فتبنتك.

وقوله (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) قال قتادة : معناه لتغتذي على محبتي وارادتي ، وتقديره وأنا أراك يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك ، كما يقول القائل لغيره : أنت مني بمرآى ومسمع أي : أنا مراع لا حوالك.

١٠٣

وقوله (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) قيل : ان موسى امتنع أن يقبل ثدي مرضعة الا ثدي أمه ، لما دلتهم عليها أخته ، فلذلك قال (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ).

وقوله (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ). وروي عن النبي أن قتله النفس كان خطئا. وقال جماعة من المعتزلة : انه كان صغيرة.

وقال أصحابنا : انه كان ترك مندوب اليه ، لان الله تعالى قد كان حكم بقتله ، لكن ندبه الى تأخير قتله الى مدة غير ذلك ، وانما نجاه من الفكر في قتله ، وكيف لم يؤخره الى الوقت الذي ندبه اليه.

وقال قوم : أراد نجيناك من القتل ، لأنهم طلبوه ليقتلوه بالقبطي.

وقوله (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي : اختبرناك اختبارا ، والمعنى انا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة.

فصل : قوله (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) الاية : ٤٧ ـ ٥٠.

قوله (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يعني السلامة والرحمة على من اتبع طريق الحق.

وقوله (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) وقيل : انه قال : فمن ربكما؟ على تغليب الخطاب والمعنى فمن ربك وربه يا موسى ، فقال موسى مجيبا له (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ومعناه : أعطى كل شيء حي صورته التي قدر له ، ثم هداه الى مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه ، الى غير ذلك من ضروب هدايته.

وقيل : معناه أعطى كل شيء مثل خلقه من روحه ، ثم هداه لمنكحه من غير ان رأى ذكرا أتى أنثى.

١٠٤

فصل : قوله (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى. قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) الاية : ٥١ ـ ٥٢.

قال الزجاج : القرن : أهل كل عصر فيهم نبي أو امام ، أو عالم يقتدى به ، وان لم يكن واحد منهم لم يسم قرنا.

حكى الله تعالى ما قال فرعون لموسى (فَما بالُ الْقُرُونِ) وهي الأمم الماضية وكان هذا السؤال منه معاياة لموسى ، فأجابه موسى بأن قال (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) لأنه لا يخفى عليه شيء من المعلومات.

وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي : ان في جميع ما عددناه دلالات لاولى العقول ، والنهى جمع نهية ، وانما خص أولي النهى لأنهم أولي الفكر والاعتبار وأهل التدبير والاتعاظ.

وقيل : لأنهم ينهون النفوس عن القبائح. وقيل : لأنه ينتهي الى رأيهم.

فصل : قوله (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) الاية : ٥٦.

تقديره : أريناه آياتنا التي أعطيناها موسى وأظهرناها عليه «كلها» لما يقتضيه حال موسى عليه‌السلام معه ، ولم يرد جميع آيات الله التي يقدر عليها ولا كل آية خلقها لان من المعلوم أنه لم يرد جميعها به.

والسحر حيلة يخفى سببها ويظن بها المعجزة ، ولذلك يكفر المصدق بالسحر لأنه لا يمكنه العلم بصحة النبوة ، فان الساحر يأتي بسحره.

وقوله (مَكاناً سُوىً) أي : عدنا مكانا يجتمع فيه ووقتا يأتى فيه مكانا سوى عدلا بيننا وبينك ، في قول قتادة والسدي ، ذكره ابن زيد ، وفيه إذا قصر لغتان : كسر السين وضمها ، وإذا فتحت السين مددته ، نحو قوله (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) (١).

__________________

(١). سورة آل عمران : ٦٤.

١٠٥

فصل : قوله (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) الاية : ٦١.

معناه : لا تكذبوا عليه كذبا بتكذيبي وتقولون : ان ما جئت به السحر.

والافتراء اقتطاع الخبر الباطل بإدخاله في جملة الحق ، وأصله القطع من فراه يفريه فريا وافترا افتراءا ، والافتراء والافتعال والاختلاف واحد.

وقوله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) قال قتادة وابن زيد والسدي : معناه فيستأصلكم بعذاب.

والسحت استقصاء الحلق سحته يسحته سحتا ، وأسحته اسحاتا لغتان ، قال الفرزدق :

وعض زمان يا بن مروان لم يدع

من المال الا مسحتا أو محلف

وقوله (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) معناه : قد فاز اليوم من علا على صاحبه بالغلبة ، انما أمرهم موسى بالإلقاء ، وهو كفر منهم ، لأنه ليس بأمر ، وانما هو تهديد ، ومعناه الخبر بأن من كان القاؤه منكم حجة عنده ابتداء بالإلقاء ، ذكره الجبائي.

وقال قوم : يجوز أن يكون ذلك أمرا على الحقيقة أمرهم بالإلقاء على وجه الاعتبار لا على وجه الكفر. وقيل : كان عدة السحرة سبعين ألفا.

فصل : قوله (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الاية : ٦٧.

قيل : في وجه خيفته قولان : أحدهما ـ قال الجبائي والبلخي : خاف أن يلتبس على الناس أمرهم ، فيتوهموا أنه بمنزلة ما كان من امر عصاه.

الثاني : انه خاف بطبع البشرية لما رأى من كثرة ما يخيل من الحيات العظام فقال الله تعالى (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي : انك أنت الغالب لهم والقاهر لامرهم.

١٠٦

فصل : قوله (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) الاية : ٧٤.

أي : لا يموت فيها فيستريح من العذاب ، ولا يحيى حياة فيها راحة ، بل هو معاقب بأنواع العقاب.

فصل : قوله (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الاية : ٧٨.

يعني : الذي غشيهم. وقيل : معناه تعظيم للأمر لان غشيهم قد دل على ما غشيهم وانما ذكره تعظيما ، وقيل : ذكره تأكيدا.

وقال قوم : معناه فغشيهم الذي عرفتموه ، كما قال أبو النجم :

أنا أبو النجم وشعري شعري (١)

وقال الزجاج : وغشيهم من اليم ما غرقهم.

وقوله (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) معناه : انه دعاهم الى الضلال وأغواهم فضلوا عنده فنسب اليه الضلال.

فصل : قوله (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الاية : ٨٢.

أخبر الله تعالى عن نفسه أنه غفار ، أي : ستار لمن تاب من المعاصي ، فأسقط وأستر معاصيه إذا أضاف الى إيمانه الاعمال الصالحات.

(ثُمَّ اهْتَدى) قال قتادة : معناه ثم لزم الايمان الى أن يموت ، كأنه قال : ثم استمر على الاستقامة ، وانما قال ذلك لئلا يتكل الإنسان على أنه قد كان أخلص الطاعة.

وفي تفسير أهل البيت ان معناه : ثم اهتدى الى ولاية أوليائه الذين أوجب الله طاعتهم والانقياد لامرهم. وقال ثابت البنائي : ثم اهتدى الى ولاية أهل بيت النبي عليه‌السلام.

قوله (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي : عاملناهم معاملة المختبر ، بأن شددنا

__________________

(١). أمالي الشريف المرتضى ١ / ٣٥٠.

١٠٧

عليهم في التعبد بأن ألزمناهم عند إخراج العجل أن يستدلوا على أنه لا يجوز أن يكون إلها ولا أن يحله الاله ، فحقيقة الفتنة تشديد العبادة.

وقوله (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) معناه أنه دعاهم الى عبادة العجل ، فضلوا عند ذلك فنسب الله الإضلال اليه لما ضلوا بدعائه.

فصل : قوله (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) الاية : ٨٦.

الغضب ضد الرضا ، وهو ما يدعو الى فعل العقاب. والاسف أشد الغضب وقال ابن عباس : معنى «أسفا» حزينا ، وبه قال قتادة والسدي.

والاسف يكون بمعنى الغضب ويكون بمعنى الحزن ، قال الله تعالى (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (١) أي : أغضبونا.

قوله فقالوا جوابا لموسى (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي : قال المؤمنون لم نملك أن نرد عن ذلك السفهاء. قال قتادة والسدي : معنى «بملكنا» بطاقتنا.

وقوله (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) معناه : انا حملنا أثقالا من حلي آل فرعون ، وذلك أن موسى أمرهم أن يستعيروا من حليهم ، في قول ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد.

وقيل : «أوزارا» أي : أثقالا من حلي آل فرعون لما قذفهم البحر أخذوها منهم.

فصل : قوله (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى. قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) الآيات : ٩١ ـ ٩٣.

العكوف لزوم الشيء مع القصد اليه على مرور الوقت ، ومنه الاعتكاف في المسجد قال موسى لهارون «ما منعك ألا تتبعني» قال ابن عباس : معناه بمن معك ممن أقام على إيمانه.

__________________

(١). سورة الزخرف : ٥٥.

١٠٨

ومعنى «ألا تتبعني» ما منعك أن تتبعني ، ف «لا» زائدة ، كما قال (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١).

قوله (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) قيل : في وجه ذلك قولان :

أحدهما : أن عادة ذلك الوقت أن الواحد إذا خاطب غيره قبض على لحيته كما يقبض على يده في عادتنا والعادات تختلف ، ولم يكن ذلك على وجه الاستخفاف به.

الثاني : أنه أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على لحيته.

فصل : قوله (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) الآيات : ٩٦ ـ ١٠٠.

فنبذتها في العجل على ما أطعمتني (٢) نفسي من انقلابه حيوانا.

وقال ابن زيد : معنى (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) حدثتني. وقيل : معناه زينت لي.

فان قيل : لم جاز انقلابه حيوانا مع أنه معجز لغير نبي؟

قلنا : في ذلك خلاف ، فمنهم من قال : انه كان معلوما معتادا في ذلك الوقت أنه من قبض من أثر الرسول قبضة فألقاها على جماد صار حيوانا ، ذكره أبو بكر ابن الاخشاذ ، فعلى هذا لا يكون خرق عادة بل كان معتادا. وقال الحسن : صار لحما ودما.

وقال الجبائي : المعنى أنه سولت له نفسه ما لا حقيقة له ، وانما جاز بحيلة جعلت فيه من خروق إذا دخلها الريح سمع له خوار منه.

فقال له موسى عند ذلك (فَاذْهَبْ) يا سامري (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) واختلفوا في معناه ، فقال قوم : معناه أن تقول لا أمس ولا أمس ، وكان

__________________

(١). سورة الاعراف : ١١.

(٢). كذا في النسخ الثلاث ، وفي التبيان : أطمعتنى.

١٠٩

موسى أمر بني إسرائيل أن لا يؤاكلوه ولا يخالطوه ولا يبايعوه فيما ذكر.

وقال الجبائي : معناه أنه لا مساس لاحد من الناس ، لأنه جعل يهيم في البرية مع الوحوش والسباع.

فصل : قوله (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٧.

قيل : معناه أنه أزرقت عيونهم من شدة العطش. وقيل : معناه عمياء كما قال (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً) (١) كأنها ترى زرقا ، وهي عمياء.

وقيل : المعنى في زرقا تشويه الخلق ووجوههم سوداء وأعينهم زرق.

ومعنى «يتخافتون بينهم» معناه : يتشاورون بينهم ، في قول ابن عباس ، ومنه قوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (٢) ومعناه لا تعلن صوتك بالقراءة في الصلاة كل الإعلان ولا تخفها كل الإخفاء وابتغ بين ذلك سبيلا.

قوله (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) قال الكلبي : الصفصف ما لا تراب فيه. قال ابن عباس : الصفصف الموضع المستوي الذي لا نبات فيه.

والقاع هو الأرض الملساء ، قال الشاعر :

كأن أيديهن بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق

(لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) يعني : واديا ولا رابية ، في قول ابن عباس ، يقال مد حبله حتى ما ترى فيه أمتا وملاء سقاه حتى ما ترك فيه أمتا أي انثناء قال الشاعر :

ما في انجذاب سيره من أمت

فصل : قوله (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) الآيات ١١١ ـ ١١٥.

أي : خضعت وذلت خضوع الأسير في يد القاهر له والعاني الأسير ، وقد

__________________

(١). سورة الاسراء : ٩٧.

(٢). سورة الاسراء : ١١٠.

١١٠

يكون العنوة عن تسليم وطاعة ، لأنه على طاعة الذليل للعزيز ، قال الشاعر :

هل أنت مطيعي أيها القلب عنوة

وقال آخر :

فما أخذوها عنوة عن مودة

ولكن بضرب المشرفي استقالها

والقيوم قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أنه العالم بما يستقيم به تدبير جميع الخلق ، فعلى هذا لم يزل قيوما.

الثاني : أنه القائم بتدبير جميع الخلق وهي مثل صفة حكيم.

وقال الجبائي : القيوم القائم بأنه دائم لا يبيد ولا يزول.

أصل الهضم النقص ، يقال : هضمني فلان حقي ، أي : نقصني ، وامرأة هضيم الحشا أي : ضامرة الكشحين ، ومنه هضمت المعدة الطعام ، أي : نقصته مع تغييرها له.

وقوله (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي : لا تسأل انزاله قبل أن يأتيك وحيه.

وقيل : معناه لا تلقه الى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله.

وقيل : لا تعجل بتلاوته قبل أن يفرغ جبرئيل من أدائه اليك.

وقوله (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قال ابن عباس ومجاهد : معناه عهد الله اليه بأن أمره به ووصاه به «فنسي» أي : ترك. وقيل : انما أخذ الإنسان من أنه عهد اليه فنسي ، في قول ابن عباس.

وقوله (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي : عقدا ثابتا.

وقال قتادة : يعني صبرا. والعزم الارادة المتقدمة لتوطين النفس على الفعل.

١١١

فصل : قوله (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى. فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ) الآيات : ١١٦ ـ ١٢٠.

قد بينا فيما تقدم أن أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم يدل على تفضيله عليهم وان كان السجود لله تعالى لا لآدم ، لان السجود عبادة لا يجوز أن يفعل الا لله تعالى فأما المخلوقات فلا يستحق شيئا من العبادة بحال ، لأنها تستحق بأصول النعم وبقدر من النعم لا يوازيها نعمة منعم. وقال قوم : ان سجود الملائكة لآدم كان كما يسجد الى الكعبة ، وهو قول الجبائي.

والصحيح الاول ، لان التعظيم الذي هو في أعلى المراتب حاصل لله لا لآدم بإسجاد الملائكة له ، ولو لم يكن الامر على ما قلناه من أن في ذلك تفضيلا لآدم عليهم لما كان لامتناع إبليس من السجود له وجه ، ولما كان لقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١) وجه.

فلما احتج إبليس بأنه أفضل من آدم وان أخطأ في الاحتجاج ، علمنا أن موضوع الامر بالسجود لآدم على جهة التفضيل ، والا كان يقول الله لإبليس : اني ما فضلته على من أمر به بالسجود لآدم وانما السجود لي ، وهو بمنزلة القبلة ، فلا ينبغي أن يأنف من ذلك.

وقدمنا أيضا أن الظاهر في روايات أصحابنا أن إبليس كان من جملة الملائكة وهو المشهور من قول ابن عباس ، وذكره البلخي ، فعلى هذا يكون استثناء إبليس من جملة الملائكة استثناء متصلا.

ومن قال : ان إبليس لم يكن من جملة الملائكة ، قال : هو استثناء منقطع.

قوله «فتشقى» قيل : معناه تشقى أي : تتعب بأن تأكل من كد يدك وما تكسبه لنفسك.

__________________

(١). سورة الاعراف : ١١.

١١٢

ومعنى «لا تضحى» أي : لا يصيبك حر الشمس ، وهو قول ابن عباس وسعيد ابن جبير وقتادة ، وقال عمر بن أبي ربيعة :

رأت رجلا اما إذا الشمس عارضت

فيضحى واما بالعشي فيخضر (١)

أي : يخضر من البرد. وقيل : ليس في الجنة شمس انما فيها نور وضياء وانما الشمس في سماء الدنيا خاصة.

وضحى الرجل يضحي ضحا إذا برز للشمس.

فصل : قوله (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) الآيات : ١٢١ ـ ١٢٥.

أخبر الله تعالى عن آدم وحواء أنهما أكلا من الشجرة التي نهى الله عن أكلها وعندنا أن النهي كان على وجه التنزيه والاولى ، وعلى جهة الندب دون نهي الحظر والتحريم ، لان الحرام لا يكون الا قبيحا ، والأنبياء لا يجوز عليهم شيء من القبائح لا كبيرها ولا صغيرها.

وقال الجبائي : لا تقع معاصي الأنبياء الا سهوا ، فأما العلم بأنها معاصي فلا تقع.

وقال قوم آخرون أيضا : انه وقع من آدم أكل الشجرة خطا ، لأنه كان نهى عن جنس الشجرة ، فظن أنه نهى عن شجرة بعينها ، فأخطأ في ذلك ، وهذا خطأ لأنه تنزيه له من وجه من المعصية.

ونسبه اليه من وجهين : أحدهما ـ أنه فعل القبيح. والثاني : أنه أخطأ في الاستدلال.

وقال قوم : انها وقعت منه عمدا وكانت صغيرة وقعت محبطة ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز عليهم عندنا بحال.

وقوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) معناه : خالف ما أمره الله به فخاب ثوابه

__________________

(١). ديوانه ص ١٢١.

١١٣

والمعصية مخالفة الامر ، سواء كان واجبا أو ندبا ، قال الشاعر :

أمرتك أمرا جازما فعصيتني

ويقال أيضا : أشرت عليك بكذا فعصيتني ، ويقال : غوى يغوي غواية وغيا إذا خاب ، قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي : من يخب. ومعنى «طفقا» يعني ظلا يفعلان وجعلا يفعلان.

وقوله (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما) قيل انهما كانا يطبقان ورق الجنة بعضه على بعض ويخيطان بعضه الى بعض ليسترا به سوآتهما.

وقوله (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قيل معناه نحشر يوم القيامة أعمى البصر وقيل : أعمى الحجة.

وقيل : أعمى من جهات الخير لا يهتدى اليها. والاول هو الظاهر إذا أطلق.

فصل : قوله (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) الآيات : ١٢٦ ـ ١٣٠.

(فَنَسِيتَها) أي : تركتها ولم تعتبر بها وفعلت معها ما يفعله الناسي الذي لم يذكرها أصلا ، ومثل ذلك اليوم تترك من ثواب الله ورحمته وتخلى (١) من نعمه ، وتصير بمنزلة من قد ترك في المنسي بعذاب لا يفنى.

ثم قال : ومثل ذلك «نجزي من أسرف» على نفسه بارتكاب المعاصي وترك الواجبات ولم يصدق بآيات ربه وحججه.

ثم قال «ولعذاب الاخرة» بالنار «أشد وأبقى» لأنه دائم وعذاب القبر ، وعذاب الدنيا يزول ، وهذا يقوي قول من قال : ان قوله (مَعِيشَةً ضَنْكاً) أراد به عذاب القبر.

__________________

(١). في التبيان : وتحرم.

١١٤

ولا يجوز أن يكون المراد بقوله «فنسيتها» النسيان الذي ينافي العلم ، لان ذلك من فعل الله لا يعاقب العبد عليه ، اللهم الا أن يراد أن الوعيد على التعرض لنسيان آيات الله ، فأجرى في الذكر على نسيان الآيات ، للتحذير من الوقوع فيه.

وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني : صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني : صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) يعني صلاة المغرب والعشاء (وَأَطْرافَ النَّهارِ) صلاة الظهر في قول قتادة ، وآناء الليل ساعات الليل واحدها اني ، وقال السعدي :

حلو ومر كعصف القدح مرته

بكل اني حذاه الليل ينتعل

سورة الأنبياء

فصل : قوله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) الآيات ١ ـ ٥.

قوله (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) فالغفلة السهو ، وهو ذهاب المعنى عن النفس ونقيضها اليقظة ، ونقيض السهو الذكر ، وهو حضور المعنى للنفس ، والنسيان فهو غروب المعنى عن النفس بعد حضوره.

وقوله (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) معناه : أي شيء من القرآن محدث بتنزيله سورة بعد سورة وآية بعد آية (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي : كل ما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل.

وفي هذه الاية دلالة على أن القرآن محدث ، لأنه تعالى أخبر أنه ليس يأتيهم ذكر محدث من ربهم الا استمعوه وهم لاعبون. والذكر هو القرآن ، قال الله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) وقال (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ

__________________

(١). سورة الحجر : ٩.

١١٥

لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (١) يعنى القرآن ، ويقويه في الاية قوله (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) والاستماع لا يكون الا في الكلام ، وقد وصفه بأنه محدث ، فيجب القول بحدوثه.

فصل : قوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الاية : ٧.

اختلفوا في المعنى بأهل الذكر ، فروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : نحن أهل الذكر ، ويشهد لذلك ان الله تعالى سمى نبيه ذكرا بقوله (ذِكْراً رَسُولاً) (٢).

وقال الحسن وقتادة : أهل التوراة والإنجيل. وقال ابن زيد : أراد أهل القرآن لان الله تعالى سمى القرآن ذكرا في قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

وقيل : في وجه الامر بسؤال الكفار عن ذلك قولان :

أحدهما : لأنه يقع العلم الضروري بخبرهم إذا كانوا متواترين ، وأخبروا عن مشاهدة ، هذا قول الجبائي.

والثاني : أن الجماعة الكثيرة إذا أخبرت عن مشاهدة حصل العلم بخبرها إذا كانوا بشروط المتواترين ، وان لم يوجب خبرهم العلم الضروري. وقال قوم : أراد من آمن منهم ولم يرد الامر بسؤالهم (٣).

فصل : قوله (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) الاية : ١٦ ـ ١٧.

اللعب الفعل الذي يدعو اليه الجهل بما فيه من النقص ، لان العلم يدعو الى أمر والجهل يدعو الى خلافه ، فالعلم يدعو الى الإحسان والجهل يدعو الى الاساءة لتعجيل الانتفاع.

__________________

(١). سورة النحل : ٤٤.

(٢). سورة الطلاق : ١٠ ـ ١١.

(٣). في التبيان : بسؤال غير المؤمن.

١١٦

واللعب يستحيل في صفة القديم تعالى ، لأنه عالم لنفسه بجميع المعلومات غنى عن جميع الأشياء ، ولا يمتنع وصفه بالقدرة عليه ، كما نقول في سائر القبائح وان كان المعلوم أنه لا يفعله لما قدمناه.

ثم قال تعالى (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) قال الحسن ومجاهد : اللهو المرأة. وقال قتادة : اللهو المرأة بلغة أهل اليمن.

ثم قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) معناه : انا نلقي الحق على الباطل فيهلكه. والمراد به أن حجج الله تعالى الدالة الحق تبطل شبهات الباطل ويقال : دمغ الرجل إذا شج شجة تبلغ أم الدماغ فلا يحيى صاحبها بعدها.

وقوله (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي : هالك مضمحل ، وهو قول قتادة ، زهق زهوقا إذا هلك.

فصل : قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) الاية : ٢٢.

يعني : في السماء والأرض (آلِهَةٌ) أي : من يحق له العبادة «غير الله لفسدتا» لأنه لو صح إلهان أو آلهة لصح بينهما التمانع ، فكان يؤدي ذلك إذا أراد أحدهما فعلا وأراد الاخر ضده ـ أما أن يقع مرادهما ، فيؤدي الى اجتماع الضدين ، أو لا يقع مرادهما فينقض كونهما قادرين ، أو يقع مراد أحدهما فيؤدي الى نقض كون الاخر قادرا ، وكل ذلك فاسد ، فاذن لا يجوز أن يكون الا له الا واحدا ، وهذا مشروح في كتب الأصول.

وقوله (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) وانما أضافه الى العرش ، لأنه أعظم المخلوقات ، ومن قدر على أعظم المخلوقات كان قادرا على ما دونه.

ثم قال تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) لأنه لا يفعل الا ما هو حكمة وصواب ، فلا يقال للحكيم : لم فعلت الصواب؟ وهم يسألون لأنه يجوز عليهم الخطأ.

١١٧

فصل : قوله (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الاية : ٢٨.

قال ابن عباس : معناه يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) قال : أهل الوعيد ، معناه لا يشفع هؤلاء الملائكة الا لمن ارتضى جميع عمله.

قالوا : وذلك يدل على أن أهل الكبائر لا يشفع فيهم ، لان أعمالهم ليست رضا الله ، وهذا الذي ذكروه ليس في الظاهر ، بل لا يمتنع أن يكون المراد لا يشفعون الا لمن رضي أن يشفع فيه ، كما قال تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١) والمراد أنهم لا يشفعون الا بعد اذن الله لهم في من يشفعون.

ولو سلمنا أن المراد الا لمن رضي عمله ، لجاز لنا أن نحمل على أنه رضي إيمانه وكثيرا من طاعاته ، فمن أين أنه أراد الا لمن رضي جميع أعماله.

ثم قال (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) وقيل : في معناه أقوال :

قال الحسن وقتادة : كانتا رتقا ، أي ملتزقتين (٢) ففصل الله بينهما بهذا الهواء.

وقيل : كانتا رتقا السماء لا تمطر والأرض لا تنبت ، ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات ، ذكره ابن زيد وعكرمة ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الاية : ٣٣.

أخبر أن جميع ذلك في فلك يسبحون ، فالفلك هو المجرى الذي تجري

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٥٥.

(٢). في التبيان : ملتصقتين.

١١٨

فيه الشمس والقمر بدورانهما عليه ، في قول الضحاك.

وقال قوم : هو موج مكفوف تجريان فيه.

وقال الحسن : الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل. والفلك في اللغة كل شيء دار وجمعه أفلاك ، قال الراجز :

باتت تناصي الفلك الدوارا

حتى الصباح تعمل الاقتارا

ومعنى «يسبحون» يجرون ، في قول ابن جريح. وانما قال «يسبحون» على فعل ما يعقل ، لأنه أضاف اليها الفعل الذي من العقلاء ، كما قال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١) وقال (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٢) وقال النابغة :

تمززتها والديك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا

وقوله (وَنَبْلُوكُمْ) أي : نختبركم معاشر العقلاء (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) يعني : بالمرض والصحة والرخص والغلاء ، وغير ذلك من أنواع الخير والشر (فِتْنَةً) أي : اختبارا مني لكم وتكليفا لكم.

ثم قال (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) يوم القيامة ، فيجازى كل انسان على قدر عمله.

فصل : قوله (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) الاية : ٣٧.

قال قتادة : معناه خلق الإنسان عجولا ، والمراد به جنس الإنسان. وقال السدي : المعنى به آدم عليه‌السلام.

وقال مجاهد : خلق على تعجيل قبل غروب الشمس يوم الجمعة.

وقال أبو عبيدة : معناه خلقت العجلة من الإنسان على القلب. وهذا ضعيف ، لأنه لا وجه لحمله على القلب لأجله.

وقال قوم : معناه على حب العجلة ، لأنه لم يخلقه من نطفة ومن علقة ، بل

__________________

(١). سورة يوسف : ٤.

(٢). سورة الأنبياء : ٦٥.

١١٩

خلقه دفعة واحدة ، والذي قاله قتادة أقوى الوجوه.

وقال قوم : العجل الطين الذي خلق آدم منه ، قال الشاعر :

والنبع ينبت بين الصخر ضاحية

والنخل ينبت بين الماء والعجل

والاستعجال طلب الشيء قبل وقته الذي حقه أن يكون فيه دون غيره. والعجلة تقديم الشيء قبل وقته ، وهو مذموم. والسرعة تقديم الشيء في أقرب أوقاته ، وهو محمود.

فصل : قوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الاية : ٤١.

معنى (فَحاقَ) أي : حل بهم عقوبة ما كانوا يسخرون منهم يحيق حيقا ، ومنه قوله (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١) أي : يحل وبال القبيح بأهله الذين يفعلونه.

والفرق بين الهزء والسخرية ، أن في السخرية معنى الذلة ، لان التسخير التذليل ، والهزء يقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول.

قوله (أَفَلا يَرَوْنَ) أي : ألا يعلمون (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) قيل : بخرابها. وقيل : بموت أهلها. وقيل : بموت العلماء.

فصل : قوله (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) الاية : ٤٧.

قال قتادة : معناه نضع العدل في المجازاة بالحق ، فكل أحد على قدر استحقاقه ، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه ، ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه.

وقال الحسن : هو ميزان له كفتان ولسان يذهب الى أنه علامة جعلها الله للعباد يعرفون بها مقادير الاستحقاق.

__________________

(١). سورة فاطر : ٤٣.

١٢٠