المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

لا يجوز أن يعمل في شيء من الدين الا على اليقين. فأما الظن فلا يجوز أن يتعلق به شيء من الأحكام ، فالآية تبطل قوله.

وقوله (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) يدل على أن النكاح بغير ولي جائز ، وأن المرأة يجوز لها العقد على نفسها ، لأنه أضاف العقد اليها دون وليها.

فصل : قوله (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الاية : ٢٣١.

معناه : انقضاء عدتهن بالأقراء أو الأشهر أو الوضع. والمعنى إذا بلغن قرب انقضاء عدتهن ، لان بعد انقضاء العدة ليس له إمساكها.

والإمساك هاهنا المراجعة قبل انقضاء العدة ، وبه قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وقد يقال لمن دنا من البلد : فلان قد بلغ البلد.

والمراد بالمعروف هنا الحق الذي يدعو اليه العقل أو الشرع للمعرفة بصحته لاحلاف (١) المنكر الذي يزجر عنه العقل أو السمع ، لاستحالة المعرفة بصحته.

فصل : قوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الاية : ٢٣٣.

قوله (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أمر ورد في صورة الخبر ، وانما قلنا ذلك لامرين :

أحدهما : أن تقديره : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين في حكم الله الذي أوجبه على عباده ، فحذف للدلالة عليه.

الثاني : لأنه وقع موقع ليصرف تصرفا (٢) في الكلام مع رفع الاشكال ، ولو كان خبرا لكان كذبا ، لوجود والدات يرضعن أكثر من حولين وأقل منهما.

__________________

(١). في التبيان : بخلاف.

(٢). في التبيان : موقع يرضعن صرفا.

٨١

وفي الاية بيان لامرين : أحدهما مندوب ، والثاني فرض. فالمندوب هو أن يجعل الرضاع تمام الحولين ، لان ما نقص عنه يدخل به الضرر على المرتضع ، والمفروض أن مدة الحولين هي التي تستحق المرضعة الأجر فيهما ولا تستحق فيما زاد عليه (١) ، وهو الذي بينه الله تعالى بقوله (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (٢) فتثبت المدة التي فيها تستحق [بها] الاجرة على ما أوجبه الله تعالى في هذه الاية.

وانما قال «كاملين» وان كانت التثنية تأتي على استيفاء العدة ، لرفع التوهم من أنه على طريقة التغليب ، كقولهم : سرنا يوم الجمعة ، وان كان السير في بعضه وقد يقال أقمنا حولين وان كانت الاقامة في حول وبعض آخر ، فهو أرفع (٣) لإيهام الذي يعرض في الكلام.

فان قيل : هل يلزم الحولين في كل مولود؟

قيل : فيه خلاف. قال ابن عباس : لا ، لأنه يعتبر ذلك بقوله (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٤) فان ولدت المرأة لستة أشهر فحولين كاملين ، وان ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون شهرا. وان ولدت لتسعة أشهر فأحد وعشرين شهرا ، تطلب بذلك التكملة لثلاثين شهرا في الحمل والفصال الذي سقط به الفرض ، وعلى هذا تدل أخبارنا ، لأنهم رووا أن ما نقص عن أحد وعشرين شهرا فهو جور على الصبي.

وقوله (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) معناه : انه يجب على الأب اطعام أم الولد وكسوتها ما دامت في الرضاعة اللازمة إذا كانت مطلقة ،

__________________

(١). في التبيان : عليهما.

(٢). سورة الطلاق : ٦.

(٣). في التبيان : لرفع.

(٤). سورة الأحقاف : ١٥.

٨٢

وبه قال الضحاك والثوري وأكثر المفسرين.

وقوله (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) يدل على فساد قول المجبرة في حسن تكليف ما لا يطاق ، لأنه انما لم يجز أن يكلف مع عدم الجدة لم يجز أن يكلف مع عدم القدرة ، لأنه انما لم يحسن في الاول من حيث أنه لا طريق له الى أداء ما كلف من غير جدة وكذلك لا سبيل له الى أداء ما كلف من الطاعة مع عدم القدرة ، ولا ينافي ذلك قوله (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (١) لأنه ليس المراد به نفي القدرة ، وانما معناه أن يثقل عليهن (٢) كما يقول القائل : لا أستطيع أنظر الى كذا ، معناه : أنه يثقل علي.

وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) أى : لا يترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها المرتضع (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) يعني : لا تمنع نفسها من الأب خوف الحمل ، فيضر ذلك بالأب.

وقوله (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) قال الحسن وقتادة والسدي : الوارث الولد. وقال قبيضة بن ذؤيب : هو الوالد. والاول أقوى.

فان قيل : أعلى كل وارث أم على بعضهم؟

قيل : ذكر أبو علي الجبائي أن على كل وارث نفقة الرضاع الأقرب فالأقرب يؤخذ به. وأما نفقة ما بعد الرضاع ، فاختلفوا فعندنا يلزم الوالدين وان عليا ، النفقة على الولد وان نزل ، ولا يلزم غيرهم. وقال قوم : يلزم العصبة دون الام والاخوة من الام ، ذهب اليه عمر والحسن.

وقيل : على الوارث من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، ذكره قتادة ، وعموم الاية يقتضيه ، غير أنا خصصناه بدليل.

__________________

(١). سورة الاسراء : ٤٨.

(٢). في التبيان : عليهم.

٨٣

فصل : قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الاية : ٢٣٤.

هذه الاية ناسخة لقوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ) (١) وان كانت مقدمة عليها (٢) في التلاوة.

وعدة كل متوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول ، حرة كانت أو أمة ، فان كانت حبلى فعدتها أبعد الأجلين ، من وضع الحمل أو مضي الاربعة أشهر وعشرة أيام ، وهو المروي عن علي عليه‌السلام ووافقنا في الامة الأصم ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وقالوا : عدتها نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام ، واليه ذهب قوم من أصحابنا ، وقالوا في عدة الحامل : انها بوضع الحمل ، وان كان بعد على المغتسل ، وعندنا أن وضع الحمل يختص بعدة المطلقة.

والذي يجب على المعتدة في عدة الوفاة اجتنابه ، في قول ابن عباس وابن شهاب : الزينة ، والكحل بالإثمد ، وترك النقلة عن المنزل. وقال الحسن : وفي احدى الروايتين عن ابن عباس أن الواجب عليها الامتناع من الزواج لا غير ، وعندنا أن جميع ذلك واجب.

فان قيل : كيف قال «وعشرا» بالتأنيث؟ وانما العدة على الأيام والليالي ، ولذلك لم يجز أن يقول : عندي عشر من الرجال والنساء.

قيل : لتغليب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره ، لان ابتداء شهور الاهلة منذ طلوع الهلال ، فلما كانت الأوائل غلبت ، لان الأوائل أقوى من

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٤٠.

(٢). في التبيان : عليه.

٨٤

الثواني ، وقال الشاعر :

أقامت ثلاثا بين يوم وليلة

وكان النكير أن تضيف وتجارا (١)

معنى تضيف تميل.

فصل : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) الاية : ٢٣٥.

قال ابن عباس : التعريض المباح في العدة هو قول الرجل : أريد التزويج وأحب امرأة من حالها ومن أمرها وشأنها ، فيذكر بعض الصفة التي هي عليها ، هذا قول ابن عباس.

الخطبة : الذكر الذي يستدعي به الى عقدة النكاح ، والخطبة : الوعظ المنسق على ضرب من التأليف.

وقوله (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) قال الحسن وابراهيم وابن مخلد (٢) : السر المنهي عنه هاهنا الزنا وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي : هو العهد على الامتناع من تزويج غيرك.

وقال مجاهد : هو أن يقول لها : لا تقربيني (٣) بنفسك فاني ناكحك. وقال ابن زيد : هو اسراره عقدة النكاح في العدة ، والسر في اللغة : الجماع في الفرج ، قال الشاعر :

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني

كبرت وألا يشهد السر أمثالي (٤)

__________________

(١). اللسان «ضيف» قائله النابغة الجعدي.

(٢). في التبيان : وأبو مجيلة.

(٣). في التبيان : لا تفوتني.

(٤). ديوان امرئ القيس ص ١٥٩.

٨٥

وقال الحطيئة :

ويحرم سر جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع (١)

وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) معناه : انقضاء العدة بلا خلاف ، والكتاب الذي يبلغ أجله هو القرآن ، ومعناه : فرض الكتاب أجله.

فصل : قوله (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) الاية : ٢٣٦.

المفروض صداقها داخلة في دلالة الاية وان لم يذكر ، لان التقدير ما لم تمسوهن ممن قد فرضتم لهن أو لم تفرضوا لهن فريضة ، لان «أو» تنبئ عن ذلك لان لو كان على الجمع لكان بالواو.

والفريضة المذكورة في الاية : الصداق بلا خلاف ، لأنه يجب بالعقد للمرأة فهو فرض لوجوبه بالعقد.

ومتعة التي لم يدخل بها ، ولا يسمى لها صداق على قدر الرجل والمرأة. قال ابن عباس والشعبي والربيع : خادم أو كسوة أو ثوب (٢) ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وفي وجوب المتعة لكل مطلقة خلاف ، قال الحسن وأبو العالية : المتعة لكل مطلقة الا المختلعة والمبارية والملاعنة. وقال سعيد بن المسيب : المتعة للتي لم يسم لها صداق خاصة ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

والمتوفى عنها زوجها إذا لم يفرض لها صداق عليها العدة بلا خلاف ، ولها الميراث اجماعا. وقال الحسن والضحاك وأكثر الفقهاء : لها صداق مثلها ، وحكى الجبائي عن بعض الفقهاء أنه لا مهر لها ، وهو الذي يليق بمذهبنا ، ولا نص لأصحابنا

__________________

(١). اللسان «أنف».

(٢). في التبيان : أو رزق.

٨٦

فيها.

ومن قرأ «تمسوهن» بلا ألف ، فلقوله تعالى (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) (١) فانه جاء على فعل ، وكذلك قوله (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (٢) ومن قرأ «تماسوهن» بألف فلان فاعل وفعل قد يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر ، نحو طارقت النعل وعاقبت اللص ، ولا يلزم على ذلك في آية الظهار من قبل أن يتماسا ، لان المماسة محرمة في الظهار على كل واحد من الزوجين للاخر ، فلذلك لم يجز الا قبل أن يتماسا.

وفي الاية دليل على أن العقد بغير مهر صحيح ، لأنه لو لم يصح لما جاز فيه الطلاق ولا وجبت المتعة.

فصل : قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) الاية : ٢٣٧.

قوله (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) معناه : من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى عليها لفساد عقلها ، فيترك ما يجب لها من نصف الصداق ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وجميع أهل العلم.

وقوله (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) قال مجاهد والحسن وعلقمة : انه الولي وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وغير أنه لا ولاية لاحد عندنا الا للأب والجد على البكر غير البالغ ، فأما من عداهما فلا ولاية له الا بتولية منهما.

وروي عن علي عليه‌السلام وسعيد بن المسيب وسريح وحماد وابراهيم وأبي حذيفة وابن شبرمة : انه الزوج ، وروي ذلك أيضا في أخبارنا ، غير أن الاول أظهر وهو المذهب ، وفيه خلاف بين الفقهاء.

__________________

(١). سورة آل عمران : ٤٧.

(٢). سورة الرحمن : ٧٤.

٨٧

ومن جعل العفو للزوج قال : له أن يعفو عن جميع نصفه ، ومن جعله للولي قال أصحابنا : له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه ، وان امتنعت المرأة من ذلك لم يكن لها ذلك إذا اقتضت المصلحة ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج ، قال : لأنه ليس للولي أن يهب مال المرأة.

وقوله (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) خطاب للزوج والمرأة جميعا ، في قول ابن عباس. وقيل : للزوج وحده عن الشعبي وانما جمع ، لأنه لكل زوج ، وقول ابن عباس أقوى ، لأنه على العموم.

وقوله (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الواو مضمومة لأنها واو الجمع.

والذي يوجب المهر كاملا الجماع ، وهو المراد بالمسيس ، وقال أهل العراق وهو الخلوة التامة إذا أغلق الباب وأرخى الستر ، وقد روى ذلك أصحابنا غير أن هذا يعتبر في حق (١) الثيب.

فصل : قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) الاية : ٢٣٨.

قوله (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) هي العصر فيما روي عن النبي عليه‌السلام وعلي عليه‌السلام وابن عباس والحسن. وقال زيد بن ثابت وابن عمر : انها الظهر ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقال قبيصة بن ذؤيب : هي المغرب. وقال جابر بن عبد الله : هي الغداة وفيها خلاف بين الفقهاء.

وقال الحسين بن علي المغربي : المعنى فيها هي صلاة الجماعة ، لان الوسط العدل ، فلما كانت صلاة الجماعة أفضلها خصت بالذكر.

__________________

(١). في «م» و «ن» : حيز.

٨٨

وهذا وجه مليح غير أنه لم يذهب اليه أحد من المفسرين ، فمن جعلها العصر قال : لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، وانما خص عليها لأنها وقت شغل الناس في غالب الامر. ومن قال : انها الظهر ، قال : لأنها وسط النهار. وقيل هي أول صلاة فرضت فلها بذلك فضل.

فصل : قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) الاية : ٢٣٩.

صلاة الخوف من العدو ركعتان كيف توجه يؤمئ إيماءا ، يجعل السجود أخفض من الركوع ، في قول ابراهيم والضحاك ، فان لم يستطع فليكبر تكبيرتين.

والذي نقوله : ان الخائف ان صلى منفردا صلاة شدة الخوف صلى ركعتين يؤمئ إيماءا ، ويكون سجوده أخفض من ركوعه ، فان لم يتمكن كبر عن كل ركعة تكبيرة ، وهكذا صلاة شدة الخوف إذا صلوها جماعة. وان صلوا جماعة غير صلاة شدة الخوف ، فقد بينا الخلاف فيه وكيفية فعلها في خلاف الفقهاء (١).

فصل : قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) الاية : ٢٤٠.

هذه الاية منسوخة الحكم بالاية المتقدمة ، وهي قوله (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (٢) بلا خلاف في نسخ العدة.

فصل : قوله (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الاية : ٢٤١.

__________________

(١). في المسألة الثالثة من كتاب صلاة الخوف.

(٢). سورة البقرة : ٢٣٤.

٨٩

قال سعيد بن المسيب : الاية منسوخة بقوله (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) (١) وعندنا أنها مخصوصة بتلك ان نزلا معا ، وان كانت تلك متأخرة ، فالأمر على ما قال سعيد بن المسيب : انها منسوخة ، لان عندنا لا تجب المتعة الا للتي لم يدخل بها ولم يسم لها مهرا إذا طلقها ، فأما إذا دخل بها فلها مهر مثلها ان لم يسم مهرا ، وان سمي لها مهرا فما سمى لها ، وان لم يدخل بها فان فرض لها مهرا كان لها نصف مهرها ولا متعة لها في الحالين ، فلا بد من تخصيص هذه الاية.

والمتعة في الموضع الذي يجب على قدر الرجل بظاهر الاية ، لأنه قال و (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).

وانما خص المتاع بالمتقين وان كان واجبا على الفاسقين ، تشريفا لهم بالذكر اختصاصا ، وجعل غيرهم على وجه التبع ، كما قال (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢).

والعقل مجموع علوم ضرورية يميز بها بين القبيح والحسن ، ويمكن معها الاستدلال بالشاهد على الغائب.

فصل : قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) الاية : ٢٤٥.

القرض : هو قطع جزء من المال بالإعطاء على أن يرد بدل منه.

وقوله (يُقْرِضُ اللهَ) مجاز في اللغة ، لان حقيقته أن يستعمل في الحاجة ، وفي هذا الموضع يستحيل ذلك ، فلذلك كان مجازا.

ومعنى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) التلطف في الاستدعاء الى أعمال البر والإنفاق في سبيل الخير.

وجهلت اليهود لما نزلت هذه الاية ، فقالوا : الله يستقرض منا ، فنحن أغنياء وهو فقير إلينا ، فأنزل الله تعالى (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٣٧.

(٢). سورة البقرة : ٢.

٩٠

أَغْنِياءُ) (١) ذكره الحسن.

وقوله (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) الحميل الغريب لأنه يحمل على القوم وليس منهم.

فصل : قوله (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) الاية : ٢٥٠.

البروز : الظهور للقتال ، ومنه البراز وهي الأرض الفضاء ، يقال برز يبرز بروزا وأبرز إبرازا ورجل برز وامرأة برزة ، أي : ذو عفة وفضل ، لظهور ذاك فيهما.

والجنود : الجموع التي تعد للقتال ، واحدها جند ، مأخوذ من الجند وهو الغلظ.

وقوله (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٢) معناه : سنعمد ، لأنه عمل (٣) مجرد من غير شاغل ، ومنه قوله (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) (٤) أي : خاليا من الصبر.

وطعنه فأثبت فيه الرمح ، أي : نفذ فيه ، لأنه يلزم فيه.

الفرق بين النصر واللطف ، أن كل نصر من الله فهو لطف ، وليس كل لطف نصرا ، لان اللطف يكون في أخذ طاعة (٥) بدلا من معصيته ، وقد يكون في فعل طاعة من النوافل. فأما العصمة فلا تكون الا من معصية.

فصل : قوله (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) الاية : ٢٥١.

قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك ، هذا قول علي عليه‌السلام ، وهو المروي

__________________

(١). سورة آل عمران : ١٨١.

(٢). سورة الرحمن : ٣١.

(٣). في «ن» : عمد.

(٤). سورة القصص : ١٠.

(٥). في التبيان : في احدى طاعاته.

٩١

عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام ، وبه قال مجاهد.

الثاني : يدفع باللطف للمؤمن والرعب في قلب الفاجر أن يعم الأرض الفساد.

الثالث : قال الحسن والبلخي : يزغ الله بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن ، لأنه يغنيه على دفع الأشرار عن ظلم الناس ، لأنه يريد منه المنع من الظلم والفساد ، مؤمنا كان أو فاسقا.

قوله (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) الاية. الحق هو وقوع الشيء موقعه الذي هو له من غير تغيير عنه لما لا يجوز فيه. والتلاوة ذكر الكلمة بعد الكلمة من غير فاصلة.

فصل : قوله (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) الاية : ٢٥٣.

انما ذكر الله تفضيل الرسل بعضهم على بعض لأمور :

منها أن لا يغلط غالط منهم ، فيستوى بينهم في الفضل كما استووا في الرسالة.

وثانيها : أن يبين أن تفضيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كتفضيل من مضى من الأنبياء بعضهم على بعض.

وثالثها : أن الفضيلة قد تكون بعد أداء الفريضة والمراد الفضيلة المذكورة هاهنا ما خص كل واحد منهم من المنازل الجليلة التي هي أعلى من منزلة غيره.

وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) اخبار عن قدرته على الجائهم على الامتناع من الاقتتال ، أو بأن يمنعهم من ذلك ، هذا قول الحسن وغيره.

وجملته : أنه أخبر أنه قادر على أن يحول بينهم وبين الاقتتال بالإلجاء والاضطرار ومثله (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (١) (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ

__________________

(١). سورة السجدة : ١٣.

٩٢

جَمِيعاً) (١) فان جميع ذلك دلالة على قدرته عليهم.

ولا يدل قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) على أنه قد شاء اقتتالهم ، لأنه إذا احتمل الكلام وجهين : أحدهما يجوز عليه ، والاخر لا يجوز عليه ، وجب حمله على ما يجوز حمله عليه دون ما لا يجوز عليه ، فلذلك كان تقدير الكلام. ولو شاء الله امتناعهم بالإلجاء ما اقتتلوا.

ونظيره قول القائل : لو شاء السلطان الأعظم لم يشرب النصارى الخمر في سلطانه ، ولا نكحت المجوس الأمهات والبنات. وليس في ذلك دليل على أنه قد شاءه.

وانما كرر قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) لاختلاف المعنى ، فمعنى الاول لما (٢) شاء الله ما اقتتلوا باضطرارهم الى الحال التي يرتفع معها التكليف ، ومعنى الثاني بالأمر للمؤمنين أن يكفوا عن قتالهم ، ويجوز أن يكون لتأكيد التثنية (٣) على هذا المعنى.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) الاية : ٢٥٤.

قوله «ولا شفاعة» وان كان على لفظ العموم فالمراد به الخصوص بلا خلاف لان عندنا قد يكون شفاعة في إسقاط الضرر ، وعند مخالفينا في الوعيد قد يكون في زيادة المنافع ، فقد أجمعنا على ثبوت شفاعة ، وانما ننفي نحن الشفاعة قطعا عن الكفار ومخالفونا في كل مرتكب كبيرة إذا لم يتب منها.

__________________

(١). سورة يونس : ٩٩.

(٢). في التبيان : لو.

(٣). في التبيان : البينة.

٩٣

وقوله (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) انما ذم الله الكافرين (١) بالظلم وان كان الكفر أعظم منه لامرين :

أحدهما : للدلالة على أن الكافر قد ضر نفسه بالخلود في النار ، فقد ظلم نفسه.

والاخر : أنه لما نفى البيع في ذلك اليوم والخلة والشفاعة ، قال : وليس ذلك بظلم منا ، بل الكافرون هم الظالمون ، لأنهم عملوا ما استحقوا به حرمان الثواب.

فصل : قوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) الاية : ٢٥٥.

قوله (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) معناه : من معلومه (٢) كقول القائل : اللهم اغفر لنا علمك فينا ، وإذا ظهرت آية يقولون : هذه قدرة الله ، أي : مقدور الله.

وقوله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قال ابن عباس : كرسيه علمه ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقال الحسن : الكرسي هو العرش ، وقيل : هو سرير دون العرش ، وقد روي ذلك عن أبى عبد الله عليه‌السلام وقيل : أصل ملكه. وكل ذلك محتمل.

أما العلم ، فلانه يقال للعلماء : الكراسي لأنهم المعتمد ، كما يقال : هم أوتاد الأرض ، وهم الأصل الذي يعتمد عليه ، ويقال لكل أصل يعتمد عليه : كرسي ، قال الشاعر :

تحف بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسي بالاحداث حين تنوب (٣)

أي : علما بحوادث الأمور ، وقال آخر :

ما بالي بأمرك كرسي أظالمه (٤)

وهل بكرسي بعلم الغيب مخلوق

__________________

(١). في التبيان : الكافر.

(٢). في التبيان : علومه.

(٣). أساس البلاغة «كرس».

(٤). في التبيان : أكاتمه.

٩٤

والوجه في خلق الكرسي إذا قلنا انه جسم ، هو أن الله تعالى تعبد تحمله الملائكة والتعبد عنده ، كما تعبد البشر بزيارة البيت ولم يخلقه ليجلس عليه ، كما تقول المجسمة ، واختاره الطبري ، لأنه عزوجل يتعالى عن ذلك ، لان ذلك من صفات الأجسام ، ولو احتاج الى الجلوس عليه لكان جسما ومحدثا وقد ثبت قدمه.

فصل : قوله (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) الاية : ٢٥٦.

قيل : في معنى قوله (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أربعة أقول :

أولها : قال الحسن وقتادة والضحاك : انها في أهل الكتاب خاصة الذين يؤخذ منهم الجزية.

الثاني : قال السدي وابن زيد : انها منسوخة بالآيات التي أمر فيها بالحرب.

الثالث : قيل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) أي : لا تقولوا لمن دخل فيه بعد حرب أنه دخل مكرها ، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره.

فان قيل : كيف يقولون لا إكراه في الدين وهم يقتلون عليه؟

قلنا : المراد بذلك لا إكراه فيما هو دين في الحقيقة ، لان ذلك من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه. وأما ما يكره عليه من اظهار الشهادتين فليس بدين ، كما أن من أكره على كلمة الكفر لم يكن كافرا.

وقوله (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) معناه : قد ظهر بكثرة الحجج. والغي ضد الرشد ، وغوى إذا خاب ، قال الشاعر :

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (١)

وقوله (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) يحتمل أمرين : أحدهما خيبتني. الثاني بما حكمت

__________________

(١). قائله المرقش الأصغر ، وصدره : من يلق خيرا يحمد الناس أمره. العقد الفريد ٢ / ١٧٦.

٩٥

بغوايتي.

والطاغوت الشيطان. وقيل : هو الكاهن. وقيل : هي الأصنام.

وقوله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) فالعروة الوثقى الايمان بالله ، عن مجاهد وقال الازهري : العروة كل نبات له أصل ثابت ، كالشيح والقيصوم وغيره ، شبهت عرى الأشياء في لزومها.

وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) انما أضاف إخراجهم من النور الذي هو الايمان الى الكفر الى الطاغوت لما كان ذلك باغوائهم ودعائهم وأنهم كفروا عند ذلك ، فأضاف ذلك اليهم ، فهو عكس الاول.

فان قيل : كيف يخرجونهم من النور وما دخلوا فيه؟

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما : أن ذلك يجري مجرى قولهم : أخرجني والدي من ميراثه ولم يدخل فيه ، وانما ذلك لأنه لو لم يفعل ما فعل لدخل فيه ، فهو لذلك بمنزلة الداخل فيه الذي أخرج منه ، قال الغنوي :

فان تكن الأيام أحسن مرة

الي فقد عادت لهن ذنوب (١)

ولم يكن لها ذنوب قبل ذلك.

والوجه الثاني : قال مجاهد : انه في قوم ارتدوا عن الإسلام ، والاول أليق بمذهبنا ، لان عندنا لا يجوز أن يرتد المؤمن على الحقيقة.

فصل : قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) الاية : ٢٥٨.

فان قيل : كيف يجوز أن يؤتى الله الكافر الملك؟

قيل : الملك على وجهين :

أحدهما : يكون بكثرة المال واتساع الحال ، فهذا يجوز أن ينعم الله عزوجل

__________________

(١). العقد الفريد ٣ / ٢١٧.

٩٦

به على كل أحد من مؤمن وكافر ، كما قال في قصة بني إسرائيل (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١).

والثاني : ملك بتمليك الامر والنهي والتدبير لأمور الناس ، فهذا لا يجوز أن يجعل الله لأهل الضلال ، لما فيه من الاستفساد بنصب من هذا سبيله للناس ، لأنه لا يصح مع علمه بفساده ارادة الاستصلاح به ، كما يصح منامتى (٢) لا يعلم باطن حاله في من يؤمره (٣) علينا.

وقوله (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) معناه : يحيي الميت ويميت الحي ، فقال الكافر عند ذلك (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) يعني : أحييه بالتخلية من الحبس من وجب عليه القتل ، وأميت بالقتل من شئت ممن هو حي ، وهذا جهل منه ، لأنه اعتمد في المعارضة على العبارة فقط دون المعنى ، عادلا عن وجه الحجة بفعل الحياة للميت على سبيل الاختراع ، كما يفعله الله تعالى من احياء من قتل أو مات ودفن وذلك معجز لا يقدر عليه سواه ، فقال ابراهيم (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) ولم يكن ذلك انتقالا من ابراهيم من دليل الى دليل آخر من وجهين :

أحدهما : أن ذلك لا يجوز من كل حكيم بعد تمام ما ابتدأ به من الحجاج وعلامة تمامه ظهوره من غير اعتراض عليه بشبهة لها تأثير عند التأمل والتدبر لموقعها من الحجة المعتمد عليها.

الثاني : أن ابراهيم انما قال ذلك ليتبين أن من شأن من يقدر على أحياء الأموات واماتة الأحياء أن يقدر على إتيان الشمس من المشرق ، فان كنت قادرا على ذلك

__________________

(١). سورة المائدة : ٢٢.

(٢). في التبيان : فيمن.

(٣). في التبيان : يؤمن.

٩٧

فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر.

وانما فعل ذلك لأنه لو تشاغل معه ، بأني أردت اختراع الحياة والموت من غير سبب ولا علاج لاشتبه على كثير ممن حضر ، فعدل الى ما هو أصح وأكشف لان الأنبياء عليهم‌السلام انما بعثوا للبيان والإيضاح ، وليست أمورهم

مبنية على بناء الخصمين إذا تحاجا وطلب كل واحد غلبة خصمه ، فلذلك فعل ابراهيم عليه‌السلام ما فعل.

وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن ابراهيم قال له أحيي من قتلته ان كنت صادقا ، ثم استظهر عليه بما قال.

فان قيل : هلا قال لإبراهيم فليأت ربك بها من المغرب؟

قلنا : عن ذلك جوابان :

أحدهما : أنه لما علم بما رأى من الآيات منه أنه لو اقترح ذلك لفعل الله ذلك فتزداد فضيحة عدل عن ذلك ، ولو قال ذلك واقترح لاتى الله بالشمس من المغرب تصديقا لإبراهيم عليه‌السلام.

والجواب الثاني : انه خذله عن التلبيس والشبهة.

فصل : قوله (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) الاية : ٢٥٩.

معناه : خالية. والخواء : الفرجة بين الشيئين يخلو ما بينهما. والخوى : الجوع ، خوى يخوي خوى لخلو (١) البطن من الغذاء : والتخوية : التفريج بين العضدين والجبينين.

وقوله (عَلى عُرُوشِها) يعني : على أبنيتها ، ومنه (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (٢) أي يبنون ، ومنه عريش مكة أبنيتها وخيامها وكل بناء عرش.

__________________

(١). في التبيان : يخلو.

(٢). سورة الاعراف : ١٣٦.

٩٨

قوله (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) معناه : لم تغيره السنون.

فصل : قوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الاية : ٢٦٠.

قيل : في سبب سؤال ابراهيم أن يريه كيف يحيي الموتى ثلاثة أقوال : أحدها قال الحسن وقتادة والضحاك وأبو عبد الله عليه‌السلام : انه رأى جيفة قد تمزقها (١) السباع تأكل منها سباع البر وسباع الهواء ودواب البحر ، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحييه ، وقال قوم : انما سأله لأنه أحب أن يعلم ذلك علم عيان بعد أن كان عالما به من جهة الاستدلال ، وهو أقوى ما قيل فيه.

والالف في قوله (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ألف إيجاب كما قال الشاعر :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أي : قد امنت لا محالة فلم تسأل فقال : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) معناه ليزداد يقينا الى يقينه.

وقوله (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) تطاير الشيء إذا تفرق في الهواء ، وطائر الإنسان : عمله الذي قلده من خير أو شر ، لأنه كطائر الزجر في البركة أو الشوم.

وفجر مستطير ، أي : منتشر في الأفق كانتشار الطيران.

وقوله (اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) قال ابن عباس والحسن وقتادة : انها كانت أربعة. وقال ابن جريح والسدي : كانت سبعة. وقال مجاهد والضحاك : على العموم بحسب الإمكان ، كأنه قيل : كل فرقة على كل جبل يمكنك التفرقة عليه.

وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنها كانت عشرة ، وفي رواية أخرى عنهما أنها كانت سبعة.

والفرق بين الجزء والسهم : أن السهم من الجملة ما انقسمت عليه ، وليس كذلك الجزء نحو الاثنين هو سهم من العشرة ، لأنها تنقسم عليه ، وليس كذلك

__________________

(١). في التبيان : مزقها.

٩٩

الثلاثة وهو جزء منها لأنه بعض لها.

فان قيل : كيف قال «ثم ادعهن» ودعاء الجماد قبيح؟.

قلنا : انما أراد بذلك الاشارة اليها والإيماء لتقبل عليه إذا أحياها الله ، فأما من قال : انه جعل على كل جبل طيرا ثم دعاها فبعيد ، لان ذلك لا يفيد ما طلب ، لأنه انما طلب ما يعلم به كونه قادرا على احياء الموتى. وليس في مجيء طير حي بالإيماء اليه ما يدل عليه.

وفي الكلام حذف ، فكأنه قال : فقطعهن واجعل على كل جبل منهن جزءا ، فان الله يحييهن ، فإذا أحياهن فادعهن يأتينك سعيا ، فيكون الإيماء اليها بعد أن صارت أحياءا ، لان الإيماء الى الجماد لا يحسن.

فان قيل : إذا أحياها الله كفى ذلك في باب الدلالة ، فلا معنى لدعائها ، لان دعاء البهائم قبيح.

قلنا : وجه الحسن في ذلك أنه يشير اليها ، فسمي ذلك دعاء لتأتي اليه فيتحقق كونها أحياء ويكون ذلك أبهر في باب الاعجاز.

فصل : قوله (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) الاية : ٢٦١.

قال الربيع والسدي : الاية تدل على أن النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ، لقوله «سبع سنابل» فأما غيرها فالحسنة بعشرة.

وقد بينا فيما تقدم أن أبواب البر كلها من سبيل الله ، فيمكن أن يقال ذلك عام في جميع ذلك ، والذي ذكرناه مروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، واختاره الجبائي.

فان قيل : هل رئي في سنبلة مائة حبة حتى يضرب المثل بها؟.

قيل : عنه ثلاثة أقوال ، أولها : أن ذلك متصور فشبه به لذلك وان لم ير ،

١٠٠