المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

فصل : قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) الاية : ١٩٨.

الجناح هو : الحرج في الدين ، وهو الميل عن الطريق المستقيم.

وقوله (فَإِذا أَفَضْتُمْ) يعني : دفعتم من عرفة الى مزدلفة عن اجتماع ، كفيض الإناء عن امتلائه ، تقول : فاض الماء يفيض فيضا : إذا انصب عن امتلاء.

والمشعر هو معلم المتعبد ، والمشعر الحرام هو المزدلفة ، وهو جمع بلا خلاف ، وسميت عرفات عرفات لان ابراهيم عليه‌السلام عرفها بما تقدم له من النعت لها والوصف ، على ما روي عن علي عليه‌السلام وابن عباس ، وقال عطاء والسدي : وقد روي ذلك في أخبارنا انها سميت بذلك ، لان آدم وحواء اجتمعا فيه ، فتعارفا بعد أن كانا افترقا.

فصل : قوله (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) الاية : ١٩٩.

قيل : في هذه الاية قولان :

أحدهما : قال ابن عباس وعائشة وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة والسدي والربيع ، وهو المروي عن أبي جعفر : انه أمر لقريش وحلفائهم ، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفة ولا يفيضون منها ، ويقولون : نحن أهل حرم الله لا نخرج عنه ، فكانوا يقفون بجمع ويفيضون منه دون عرفة ، فأمرهم الله أن يفيضوا من عرفة بعد الوقوف بها.

والثاني : قال الضحاك والجبائي وحكاه المبرد لكنه اختار الاول : انه خطاب لجميع الحاج أن يفيضوا من حيث أفاض ابراهيم عليه‌السلام من مزدلفة ، والاول اجماع. وهذا شاذ ، وليس لاحد أن يقول على الوجه الاخر : كيف يقال لإبراهيم وحده الناس؟ وذلك أن هذا جائز ، كما قال (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) (١) وانما كان

__________________

(١). سورة آل عمران : ١٧٢.

٦١

واحدا بلا خلاف ، وهو نعيم بن مسعود الاشجعي ، وذلك مستعمل كثير.

فان قيل : إذا كان «ثم» للترتيب ، فما معنى الترتيب ها هنا؟

قلنا : الذي رواه أصحابنا أن ها هنا تقديما وتأخيرا ، وتقديره : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واستغفروا الله ان الله غفور رحيم.

فصل : قوله (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) الاية : ٢٠٠.

المناسك المأمور بها ها هنا جميع أفعال الحج المتعبد بها ، في قول الحسن وغيره من أهل العلم ، وهو الصحيح ، وقال مجاهد : هي الذبائح.

وقوله (فَاذْكُرُوا اللهَ) قيل : انه سائر الدعاء لله تعالى في ذلك الموطن ، لأنه أفضل من غيره ، وهو الأقوى لأنه أعم.

(كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) معناه : ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنهم كانوا يجتمعون يتفاخرون بالاباء وبمآثرهم ويبالغون فيه.

(أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) انما شبه الأوجب بما هو دونه في الوجوب لامرين : أحدهما أنه خرج على حال لأهل الجاهلية كانت معتادة أن يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر على وجه التفاخر ، فقيل : اذكروا الله كالذكر الذي كنتم تذكرون به آباءكم في المبالغة.

والخلاق : النصيب من الخير.

فصل : قوله (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) الاية : ٢٠٢.

يعني : في العدل من غير حاجة الى خط ولا عقد ، لأنه عزوجل عالم به ، وانما يحاسب العبد مظاهرة في العدل واحالة على ما يوجبه الفعل.

٦٢

والحسبان : سهام صغار. وقيل : منه (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) (١).

فصل : قوله (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الاية : ٢٠٣.

هذا أمر من الله تعالى للمكلفين أن يذكروا الله في الأيام المعدودات ، وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وهو قول ابن عباس والحسن ومالك.

والأيام المعلومات عشر ذي الحجة ، وهو قول ابن عباس أيضا. وذكر الفراء أن المعلومات هي أيام التشريق والمعدودات العشر ، وفيه خلاف. وسميت معدودات لأنها قلائل كما قال (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (٢) أي : قليلة.

والاية تدل على وجوب التكبير في هذه الأيام ، وهو أن يقول : الله أكبر الله أكبر لا اله الا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وبه قال الحسن والجبائي وزاد أصحابنا على هذا القدر «الله أكبر الله أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الانعام».

وأول التكبير عندنا لمن كان بمنى عقيب الظهر من يوم النحر الى الفجر يوم الرابع من النحر عقيب خمس عشر صلاة ، وفي الأمصار عقيب الظهر من يوم النحر الى عقيب الفجر يوم الثاني من التشريق عقيب عشر صلوات.

فصل : قوله (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) الاية : ٢٠٥.

الاية تدل على فساد قول المجبرة : ان الله تعالى يريد القبائح ، لان الله نفى عن نفسه محبة الفساد ، فالمحبة هي الارادة ، لان كل ما أحب الله أن يكون فقد أراد أن يكون ، وما لا يحب أن يكون لا يريد أن يكون.

فصل : قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) الاية : ٢٠٧.

__________________

(١). سورة الكهف : ٤١.

(٢). سورة يوسف : ٢٠.

٦٣

روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : نزلت في علي عليه‌السلام حين بات على فراش رسول الله لما أرادت قريش قتله ، حتى خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفات المشركين أغراضهم ، وبه قال عمر بن شبه.

فصل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الاية : ٢١٠.

قوله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا يدل على أن الأمور ليست اليه الآن وفي كل وقت. ومعنى الاية الاعلام في أمر الثواب والحساب والعقاب ، أي : اليه يصيرون ، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء ، فلا حاكم سواه.

ويحتمل أن يكون المراد أنه لا أحد ممن يملك في دار الدنيا الا ويزول ملكه ذلك اليوم.

فصل : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) الاية : ٢١٢.

انما ترك التأنيث في قوله «زين» والفعل فيها مسند الى الحياة وهي الزينة (١) له ، لأنه لم يسم فاعلها لشيئين :

أحدهما : أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، وما لا يكون تأنيثه حقيقيا جاز تذكيره ، كقوله (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (٢).

والثاني : أنه لما فصل بين الفعل والفاعل بغيره جاز ترك التأنيث ، وقد ورد ذلك في التأنيث الحقيقي ، وهو قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، فإذا جاز ذلك في التأنيث الحقيقي ، ففيما ليس بحقيقي أجوز.

فصل : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ

__________________

(١). في التبيان : المرتفعة.

(٢). سورة البقرة : ٢٧٥

.

٦٤

مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ») الاية : ٢١٣.

فان قيل : إذا كان الزمان لا يخلو من حجة كيف يجوز أن يجتمعوا كلهم على الكفر بالله؟

قلنا : يجوز أن يقال ذلك على التغليب ، لان الحجة إذا كان واحدا أو جماعة كثيرة (١) ، لا يظهرون للباقين خوفا وتقية ، فيكون ظاهر الناس كلهم الكفر بالله ، فلذلك جاز الاخبار به على الغالب من الحال ، ولا يعتد بالعدة القليلة.

فصل : قوله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) الاية : ٢١٥.

النفقة : إخراج الشيء عن الملك ببيع أو هبة أو صلة ونحوها ، وقد غلب في العرف على إخراج ما كان من المال من عين أو ورق.

فصل : قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الاية : ٢١٦.

فان قيل : كيف كره المؤمنون الجهاد وهو طاعة لله؟.

قيل : عنه جوابان ، أحدهما : أنهم يكرهونه كراهية طباع ، والثاني : أنه كره لكم قبل أن يكتب عليكم. وعلى الوجه الاول يكون لفظة الكراهة مجازا ، وعلى الثاني حقيقة.

فصل : قوله (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) الاية : ٢١٧.

معناه : أنها صارت بمنزلة ما لم يكن لايقاعهم إياها على خلاف الوجه المأمور به ، وليس المراد أنهم استحقوا عليها الثواب ثم انحبطت ، لان الإحباط عندنا باطل على هذا الوجه.

والحبط : فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط ، وهو ضرب من الكلاء.

__________________

(١). في التبيان : يسيرة.

٦٥

فصل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) الاية : ٢١٨.

الهجر ضد الوصل هجره يهجره هجرا ومهاجرة وهجرانا إذا قطع مواصلته والهجر ما لا ينبغي من الكلام ، تقول : هجر المريض يهجر هجرا ، لأنه قال ما ينبغي أن يهجر من الكلام ، وما زال ذلك هجيره أي دأبه ، وسمي المهاجرون لهجرتهم قومهم وأرضهم.

فصل : قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) الاية : ٢١٩.

قال أكثر المفسرين : الخمر عصيب العنب إذا اشتد. وقال جمهور أهل المدينة كل ما أسكر كثيره فهو خمر ، وهو الظاهر في رواياتنا.

وأما اشتقاقه في اللغة أخمر القوم اخمارا إذا تواروا في الشجر ، ويقال لما سترك من شجر خمرى مقصورا ، وخمرت الإناء وغيره تخميرا إذا غطيته.

والخمار يعقبه شرب الخمر ، والمخامرة المقابرة ، والخمر ما وأراك من الشجر وغيره ، والخمرة شبيهة بالسجادة ، ودخل في خمار الناس ، أي : دخل في جماعتهم ، وأصل الباب الستر.

والميسر قال ابن عباس وعبد الله بن مسعود والحسن وقتادة ومجاهد وابن سيرين : هو القمار كله ، وهو الظاهر في رواياتنا. واشتق الميسر من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه ، والياسر الواجب بقداح وجب لك أو غير ذلك وقيل للمقابر ياسر ويسر ، قال النابغة :

أو ياسر ذهب القداح بوفره

أسف تآكله الصديق مخلع (١)

يعني : القامر. وقيل : أخذ من التجزءة ، لان كل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر : الجازر. والميسر : الجزور.

__________________

(١). تفسير الطبري ٤ / ٣٢٢.

٦٦

وقوله (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فالمنافع (١) التي في الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها وربح تجارتها ، وما فيها من اللذة بتناولها ، أي : فلا تغتروا بالمنافع (٢) فيها فالضرر أكثر منه.

وقال الحسن وغيره : هذه الاية تدل على تحريم الخمر ، لأنه ذكر أن فيها اثما ، وقد حرم الله الإثم بقوله (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) (٣) على أنها قد وصفها بأن فيها اثما كبيرا ، والكبير يحرم بلا خلاف.

وقال قوم : المعنى وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.

فصل : قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) الاية : ٢٢٠.

معنى الاية الاذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك ، فأذن الله لهم في ذلك إذا تحروا الصلاح بالتوفير على الأيتام في قول الحسن وغيره ، وهو المروي في أخبارنا.

فصل : قوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) الاية : ٢٢١.

وهذه الاية على عمومها عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار ، وليست منسوخة ولا مخصوصة.

فأما المجوسية ، فلا يجوز نكاحها اجماعا ، وكذلك الوثنية لأنها تدعو الى النار كما حكاه الله ، وهذه العلة بعينها قائمة في الذمية من اليهود (٤) والنصارى ،

__________________

(١). في التبيان : فالنفع.

(٢). في التبيان : بالنفع.

(٣). سورة الاعراف : ٣٢.

(٤). في التبيان : اليهودية.

٦٧

فيجب ألا يجوز نكاحهما.

وفي الاية دلالة على جواز نكاح الامة المؤمنة مع وجود الطول ، لقوله تعالى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) وأما الاية التي في النساء ، وهي قوله (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) (١) فإنما هي على التنزيه دون التحريم.

ومتى أسلم الزوجان معا ، ثبتا على النكاح بلا خلاف ، وبه قال الحسن. وان أسلمت قبله طرفة عين ، فقد وقعت الفرقة عند الحسن وكثير من الفقهاء ، وعندنا ينتظر عدتها ، فان أسلم الزوج تبينا أن الفرقة لم تحصل ورجعت اليه ، وان لم يسلم تبينا أن الفرقة وقعت حين الإسلام ، غير أنه لا يمكن من الخلو بها.

وان أسلم الزوج وكانت ذمية استباح وطؤها بلا خلاف. وان كانت وثنية انتظر إسلامها ما دامت في العدة ، فان أسلمت ثبت عقده عليها ، وان لم تسلم بانت منه.

فان قيل : كيف قيل للكافر الموحد مشرك؟

قيل : فيه قولان ، أحدهما : أن كفره نعمة الله بمنزلة الاشراك في العبادة في عظم الجرم ، والاخر ذكره الزجاج ، وهو الأقوى أنه (٢) إذا كفر بالنبي عليه‌السلام فقد أشرك فيما لا يكون الا من عند الله ، وهو القران بزعمه أنه من عند غيره.

فصل : قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) الاية : ٢٢٢.

وأصل الباب الحيض مجيء الدم للأنثى على عادة معروفة ، والمستحاضة التي غلبها الدم فلا يرقى ، وأقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة ، وأقل الطهر عشرة أيام ، والاستحاضة دم رقيق أصفر بارد.

__________________

(١). سورة النساء : ٢٤.

(٢). في التبيان : لأنه.

٦٨

وحكم الاستحاضة حكم الطهر في جميع الأحكام الا في تجديد الوضوء عند كل صلاة ووجوب الغسل عليها على بعض الوجوه عندنا.

وقوله (هُوَ أَذىً) معناه : قذر ونجس.

وقوله (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) معناه : اجتنبوا الجماع في الفرج ، وبه قال ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد. وما فوق المئزر أو دونه ، عن شريح وسعيد بن المسيب ، وعندنا لا يحرم فيها (١) غير موضع الدم فقط. ومن وطيء الحائض في أول الحيض كان عليه دينار ، وان كان في أوسطه فنصف دينار ، وفي آخره ربع دينار. وقال ابن عباس : عليه دينار ولم يفصل.

وقوله (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بالتخفيف ، معناه : ينقطع الدم عنهن. وبالتشديد معناه : يغتسلن في قول الحسن والفراء. وقال مجاهد وطاوس : معنى يطهرن يوضأن وهو مذهبنا.

والفرق بين طهرت وطهرت ان فعل لا يتعدى ، لان ما كان على هذا البناء لا يتعدى وليس كذلك فعل. ومن قرأ بالتشديد قال : كان أصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.

وعندنا يجوز وطئ المرأة إذا انقطع دمها وطهرت وان لم تغتسل إذا غسلت فرجها ، وفيه خلاف. فمن قال : لا يجوز وطؤها الا بعد الطهر من الدم والاغتسال تعلق بالقراءة بالتشديد وأنها تفيد (٢) الاغتسال. ومن قال : يجوز تعلق بالقراءة بالتخفيف ، وهو الصحيح.

ويمكن في قراءة التشديد أن تحمل على أن المراد به توضأن على ما حكيناه عن طاوس وغيره. ومن استعمل قراءة يحتاج أن يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا ، بأن يقول : تقديره «حتى يطهرن ويتطهرن» وعلى ما قلناه لا يحتاج اليه.

__________________

(١). في التبيان : منها.

(٢). في «م» : تعيد.

٦٩

وقوله (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) معناه : اغتسلن ، وعلى ما قلناه حتى يتوضأن.

وقوله (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) صورته صورة الامر ومعناه الاباحة ، كقوله (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) (١) وقوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) تجنبه في حال الحيض ، وهو الفرج على قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع ، وقال السدي والضحاك : من قبل الطهر دون الحيض. وعن ابن الحنفية من قبل النكاح دون الفجور ، والاول أليق بالظاهر.

ويحتمل أن يكون من حيث أباح الله لكم دون ما حرمه عليكم من إتيانهن (٢) وهي صائمة أو محرمة أو معتكفة ، ذكره الزجاج.

وقال الفراء : ولو أراد الفرج لقال في حيث ، فلما قال «من حيث» علمنا أنه أراد الجهة التي أمركم الله بها.

فصل : قوله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الاية : ٢٢٣.

قيل : في معنى قوله «حرث لكم» قولان :

أحدهما : أن معناه مزدرع (٣) أولادكم ، كأنه قيل : محترث لكم في قول ابن عباس والسدي ، وانما الحرث الزرع في الأصل.

والقول الثاني : نساؤكم ذو حرث لكم فأتوا موضع حرثكم أنى شئتم ، ذكره الزجاج. وقيل : الحرث كناية عن النكاح على وجه التشبيه.

وقوله «أنى شئتم» معناه : من أين شئتم ، في قول قتادة والربيع. وقال مجاهد : معناه كيف شئتم. وقال الضحاك : معناه متى شئتم. وهذا خطأ عند جميع المفسرين وأهل اللغة ، لان «أنى» لا يكون الا بمعنى من أين ، كما قال (أَنَّى لَكِ

__________________

(١). سورة المائدة : ٣.

(٢). في التبيان : إتيانها.

(٣). في التبيان : مزرع.

٧٠

هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) وقال بعضهم : من أي وجه ، واستشهد بقول الكميت ابن زيد :

أنى ومن أين آبك الطرب

من حيث لا صبوة ولا ريب (٢)

وهذا لا شاهد فيه ، لأنه يجوز أن يكون أنى به لاختلاف اللفظين ، كما يقولون : متى كان هذا وأي وقت كان ، ويجوز أن يكون بمعنى كيف. وتأول مالك فقال : أنى شئتم يفيد جواز الإتيان في الدبر ، ورواه عن نافع عن ابن عمر ، وحكاه زيد ابن أسلم عن محمد بن المنكدر ، وروي من طرق جماعة عن ابن عمر ، وبه قال أكثر أصحابنا ، وخالف في ذلك جميع الفقهاء والمفسرين ، وقالوا : هذا لا يجوز من وجوه :

أحدها : أن الدبر ليس بحرث ، لأنه لا يكون منه الولد ، وهذا ليس بشيء ، لأنه لا يمتنع أن تسمى النساء حرثا ، لأنه يكون منهن الولد ، ثم يبيح الوطء فيما لا يكون منه الولد ، يدل على ذلك أنه لا خلاف أنه يجوز الوطء بين الفخذين ، وان لم يكن هناك ولد.

وثانيها : قالوا قال الله (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وهو الفرج والإجماع على أن الاية الثانية ليست بناسخة للأولى. وهذا أيضا لا دلالة فيه ، لان قوله (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) معناه : من حيث أباح الله لكم ، أو من الجهة التي شرعها لكم على ما حكيناه عن الزجاج ، ويدخل في ذلك الموضعان معا.

وثالثها : قالوا ان معناه : من أين شئتم ، أي ائتوا الفرج من أين شئتم ، وليس في ذلك اباحة لغير الفرج ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنا لا نسلم أن معناه الفرج ، بل عندنا معناه :

__________________

(١). سورة آل عمران : ٣٧.

(٢). الهاشميات ص ٤١.

٧١

ائتوا النساء أو ائتوا الحرث من حيث (١) شئتم ، ويدخل فيه جميع ذلك.

ورابعها : قالوا قوله في المحيض (قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فإذا حرم للاذى بالدم ، فالاذى بالنجو أعظم. وهذا أيضا ليس بشيء ، لان هذا حمل الشيء على غيره من غير علة ، على أنه لا يمتنع من أن يكون المراد بقوله (قُلْ هُوَ أَذىً) غير النجاسة.

بل المراد أن في ذلك مفسدة ، ولا يجب أن يحمل على ذلك غيره الا بدليل يوجب العلم ، على أن الأذى بمعنى النجاسة حاصل في البول ودم الاستحاضة ، ومع هذا فليس بمنهي عن الوطء في الفرج.

ويقال : ان الاية نزلت ردا على اليهود ، فان الرجل إذا أتى المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول ، فأكذبهم الله في ذلك ، ذكره ابن عباس وجابر ورواه أيضا أصحابنا.

فصل : قوله (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) الاية : ٢٢٤.

قيل : في معنى قوله (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) ثلاثة أقوال :

أحدها : أن العرضة علة ، كأنه قال : لا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر والتقوى من حيث تتعمدوا لتعتلوا بها ، ويقولوا قد حلفنا بالله ولم يحلفوا به ، هذا قول الحسن وطاوس وقتادة.

الثاني : عرضة حجة ، كأنه قال : لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع أن تبروا وتتقوا ، بأن تكونوا قد سلف منكم يمين ، ثم يظهر أن غيرها خير منها ، فافعلوا الذي هو خير ، ولا تحتجوا بما سلف من اليمين ، وهو قول ابن عباس ومجاهد والربيع ، والأصل في هذا القول والاول واحد ، لأنه منع من جهة الاعتراض

__________________

(١). في التبيان : أين.

٧٢

بعلة أو حجة.

الثالث : بمعنى ولا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة في كل حق وباطل ، لان تبروا في الحلف بها وتنقوا المآثم فيها ، وهو المروي عن عائشة ، لأنها قالت : لا تحلفوا به وان بررتم ، وبه قال الجبائي ، وهو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وأصله على هذا معترض بالبذل لا تبذل يمينك في كل حق وباطل.

واليمين والقسم والحلف واحد. واليمنية : ضرب من برود اليمن.

فصل : قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) الاية : ٢٢٥.

اختلفوا في يمين اللغو في هذه الاية ، فقال ابن عباس وعائشة : هو ما يجري على عادة اللسان من لا والله وبلى والله من غير عقد على يمين تقتطع بها مال أو يظلم بها أحد ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

الايمان على ضربين ، أحدهما لا كفارة فيها ، والثاني تجب فيها الكفارة ، فما لا كفارة فيه هو اليمين على الماضي إذا كان كاذبا فيه ، مثل أن يحلف أنه ما فعل وكان فعل ، أو يحلف أنه فعل وما كان فعل فيها ، فهاتان لا كفارة فيهما عندنا وعند أكثر الفقهاء ، وفيها خلاف.

وكذلك إذا حلف على مال ليقتطعه كاذبا ، فلا كفارة عليه ، ويلزمه الخروج مما حلف عليه والتوبة ، وهي اليمين الغموس ، وفي هذه أيضا خلاف.

ومنها أن يحلف على أمر فعل أو ترك ، وكان [خلاف] (١) ما حلف عليه أولى من المقام عليه فليخالف ، ولا كفارة عليه عندنا ، وفيه خلاف مع أكثر الفقهاء.

وما فيه كفارة ، فهو أن يحلف على أن يفعل أو يترك ، وكان الوفاء به اما واجبا أو ندبا ، أو كان فعله وتركه سواء فمتى خالف كان عليه الكفارة.

فصل : قوله (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ

__________________

(١). الزيادة من التبيان.

٧٣

غَفُورٌ رَحِيمٌ) الاية : ٢٢٦.

الإيلاء في الاية المراد به اعتزال النساء وترك جماعهن على وجه الإضرار بهن واليمين التي بها يكون الرجل مؤليا اليمين بالله عزوجل ، أو بشيء من صفاته التي لا يشركه فيها غيره على وجه لا يقع موقع اللغو الذي لا فائدة فيه.

وقوله «فان فاءوا» معناه : فان رجعوا ، ومنه قوله (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) أي : حتى ترجع بفيء الى أمر الله ، أي : حتى يرجع من الخطأ الى الصواب والفرق بين الفيء والظل ما قال المبرد : ان الفيء ما نسخ الشمس ، لأنه هو الراجع فأما الظل فما لا شمس فيه وكل فيء ظل ، وليس كل ظل فيئا ، ولذلك أهل الجنة في ظلال لا في فيء ، لأنه لا شمس فيها كما قال تعالى «وظل ممدود» (٢) وجمع الفيء أفياء.

فان قيل : ما الذي يكون المؤلى به فايئا؟.

قيل : عندنا يكون فايئا بأن يجامع ، وبه قال ابن عباس ومسروق وسعيد بن المسيب. وقال الحسن وابراهيم وعلقمة : يكون فايئا بالعزم في حال العذر ، الا أنه ينبغي أن يشهد على فيئه ، وهذا يكون عندنا للمضطر الذي لا يقدر على الجماع ، ويجب على الفائي عندنا الكفارة ، وبه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ، ولا عقوبة عليه ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

فصل : قوله (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الاية : ٢٢٧.

عزيمة الطلاق في الحكم عندنا أن يعزم كل متلفظ (٣) بالطلاق ، ومتى لم يتلفظ بالطلاق بعد مضي أربعة أشهر ، فان المرأة لا تبين منه الا أن تستعدي ، فإذا

__________________

(١). سورة الحجرات : ٩.

(٢). سورة الواقعة : ٣٠.

(٣). في التبيان : ثم يتلفظ.

٧٤

استعد ضرب الحاكم له مدة أربعة أشهر ، وتوقف بعد الاربعة الأشهر ، فيقال له : ف ، أو طلق ، فان لم يفعل حبسه حتى يطلق ، وبمثل هذا قال أهل المدينة ، غير أنهم قالوا : متى امتنع من الطلاق والإيفاء طلق عند الحاكم طلقة رجعية.

وقال أهل العراق : الإيلاء أن يحلف أن لا يجامعها أربعة أشهر فصاعدا ، فإذا مضت أربعة أشهر فلم يقربها ، بانت منه بتطليقة لا رجعة له عليها ، وعليها عدة ثلاث حيض.

والطلاق حل عقد النكاح بما يوجبه في الشريعة ، تقول : طلق يطلق طلاقا فهي طالق بلا علامة التأنيث ، حكاه الزجاج.

فصل : قوله (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) الاية : ٢٢٨.

القرء : الطهر عندنا ، وبه قال زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر وسالم وأهل الحجاز ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن. وبه قال أهل العراق ، ورووه عن علي عليه‌السلام أنه الحيض.

وأصل القرء يحتمل وجهين في اللغة ، أحدهما : الاجتماع ، فمنه قرأت القرآن لاجتماع حروفه ، ومنه قولهم ما قرأت الناقة سلاقط ، أي : لم يجتمع رحمها على ولد قط. قال عمرو بن كلثوم :

ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا (١)

ومنه أقرأت النجوم : إذا اجتمعت في الأفول ، فعلى هذا يقال : أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرئ ، في قول الاصمعي والأخفش والكسائي والفراء ، وانشدوا له : «قروء كقرء الحائض» فتأويل ذلك اجتماع الدم في الرحم ، ويجيء على

__________________

(١). اللسان : عطل «قرأ».

٧٥

هذا الأصل أن يكون القرء الطهر ، لاجتماع الدم في جملة البدن ، هذا قول الزجاج.

والوجه الثاني : أن يكون أصل القرء وقت الفعل الذي يجري على [آخر] (١) عادة في قول أبي عمرو بن العلاء ، وقال : هو يصلح للحيض والطهر ، يقال : هذا قارئ الرياح أي وقت هبوبها ، قال الشاعر :

شنئت العقر عقر بني شليل

إذا هبت لقارئها الرياح (٢)

أي : لوقت هبوبها وشدة بردها ، وقال آخر :

رجاء أياس أن تؤوب ولا أذى

اياسا لقرء الغائبين يؤوب

أي : لحين الغائبين ، فعلى هذا يكون القرء والحيض ، لأنه وقت اجتماع الدم في الرحم على العادة المعروفة فيه ، ويكون الطهر لأنه وقت ارتفاعه على عادة جارية فيه وقال الأعشى في الطهر :

وفي كل عام أنت حاشر (٣) غزوة

تشد لاقصاها عزيم عزائكا (٤)

مورثة مالا وفي الأصل (٥) رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

فالذي ضاع هاهنا الاطهار ، لأنه بعد غيبته ، فيضيع بها طهر النساء فلا يطأهن.

واستشهد أهل العراق بأشياء يقوى أن المراد الحيض ، منها قوله عليه‌السلام في مستحاضة سألته : دع الصلاة أيام أقرائك. واستشهد أهل المدينة بقوله (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (٦) أي : طهر لم يجامع فيه ، كما يقال لغرة الشهر ، وتأوله غيره لاستقبال عدتهن وهو الحيض.

__________________

(١). الزيادة من التبيان.

(٢). ديوان الهذليين ٣ / ٨٣.

(٣). في التبيان : جاشم.

(٤). ديوان الأعشى ص ٩١.

(٥). في التبيان : الحمد.

(٦). سورة الطلاق : ١.

٧٦

فان قيل : لو كان المراد بالأقراء في الاية الاطهار لوجب استيفاء الثلاثة أطهار بكمالها ، كما ان من كانت عدتها بالأشهر وجب عليها ثلاثة أشهر على الكمال وقد أجمعنا على أنه لو طلقها في آخر يوم الطهر الذي ما قربها فيه أنه لا يلزمها أكثر من طهرين آخرين ، وذلك دليل على فساد ما قلتموه.

قلنا : يسمى القرءان الكاملان وبعض الثالث ثلاثة أقراء ، كما يسمى الشهران وبعض الثالث ثلاثة أشهر ، قال الله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (١) وانما هو شوال وذو القعدة وبعض ذي الحجة ، وروي عن عائشة أنها قالت : الاقراء الاطهار.

وقوله (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : قال ابراهيم : الحيض.

وثانيها : قال قتادة : الحبل.

وثالثها : قال ابن عمر والحسن : هو الحبل والحيض. وهو الأقوى لأنه أعم.

وانما لم يحل لهن الكتمان لظلم الزوج بمنعه المراجعة في قول ابن عباس وقال قتادة : لنسبة الولد الى غيره كفعل الجاهلية.

وقوله (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) يعني : وأزواجهن أحق برجعتهن ، وذلك يختص الرجعيات ، وان كان أول الاية عاما في جميع المطلقات الرجعية والبائنة وسمي الزوج بعلا ، لأنه عال على المرأة بملكه لزوجيتها.

وقوله (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) (٢) أي : ربا لأنه بمعنى من سميتموه باستعلاء الربوبية

__________________

(١). سورة البقرة : ١٩٧.

(٢). سورة الصافات : ١٢٥.

٧٧

تخرصا. وقيل : انه صنم ، والبعل النخل يشرب بعروقه ، لأنه مستعل على شربه بعل الرجل بأمره إذا ضاق [به] ذرعا ، لأنه علاه منه ما ضاق به صدره.

وقوله (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) قال الضحاك : لهن من حسن العشرة بالمعروف على أزواجهن مثل ما عليهن من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لهم. وقال ابن عباس لهن على أزواجهن من التصنع والتزين مثل ما لأزواجهن عليهن.

وقال الطبري : لهن على أزواجهن ترك مضارتهن ، كما أن ذلك عليهن لأزواجهن.

والدرجة المنزلة ، والدرج سفيط للطيب ، لأنه بمنزلة ما يدرج فيه ، ومدرجة الطريق : قارعته.

فصل : قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) الاية : ٢٢٩.

قوله «بمعروف» أي : على وجه جميل سائغ في الشريعة (١) لا على وجه الإضرار بهن.

وقوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) قيل : فيه قولان ، أحدهما : أنه التطليقة الثالثة وقال السدي والضحاك : هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

والتسريح مأخوذ من السرح وهو الانطلاق ، والسريحة القطعة من القد يشد بها نعال الإبل.

وقوله (إِلَّا أَنْ يَخافا) معناه : الا أن يظنا ، وقال الشاعر :

أتاني كلام عن نصيب يقوله

وما خفت يا سلام انك عائبي (٢)

__________________

(١). في التبيان : الشرع.

(٢). معاني القرآن للفراء ١ / ١٤٦.

٧٨

ومن ضم الياء فتقديره : الا أن يخافا على ألا يقيما حدود الله. وقال أبو عبيدة الا أن يخافا ، معناه يوقنا فان خفتم فان أيقنتم. والذي روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه إذا خاف أن يعصى الله فيه بارتكاب محظور وإخلال بواجب وألا تطيعه فيما يجب عليها ، فحينئذ يحل له أن يخلعها. ومثله روي عن الحسن.

فان قيل : كيف قال (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) وانما الاباحة لاخذ الفدية؟

قيل : لأنه لو خص بالذكر لأوهم أنها عاصية ، وان كانت الفدية له جائزة ، فبين الاذن لهما لئلا يوهم كالزنا المحرم على الأخذ والمعطي. وذكر الفراء وجهين :

أحدهما : أنه قال : هو كقوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١) وانما هو من الملح دون العذب مجازا للاتساع (٢) ، وهذا هو الذي يليق بمذهبنا ، لان الذي يبيح الخلع عندنا هو ما لولاه لكانت المرأة به عاصية.

والوجه الثاني : على قوله ان أظهرت الصدقة فحسن ، وان أسررت فحسن وانما هو على مزاوجة الكلام ، كقوله (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٣) والفدية الجائزة في الخلع ، فعندنا ان كان البغض منها وحدها وخاف منها العصيان جاز أن يأخذ المهر فما زاد عليه ، وان كان منهما فيكون دون المهر.

واستدل أصحابنا بهذه الاية على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع ، لأنه قال (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ثم ذكر الثالثة على الخلاف في أنها قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) أو قوله (فَإِنْ طَلَّقَها) ومن طلق بلفظ واحد فلا يكون أتى بالمرتين ولا بالثالثة ، كما أنه لما أوجب في اللعان أربع شهادات ، فلو أتى بلفظ واحد لما وقع موقعه ، وكما لو رمى بسبع حصيات في الجمار دفعة واحدة لم يكن مجزيا له ، وكذلك الطلاق.

__________________

(١). سورة الرحمن : ٢٢.

(٢). في التبيان : فجاز الاتساع.

(٣). سورة البقرة : ١٩٤.

٧٩

ومتى ادعوا في ذلك خبرا فعليهم أن يذكروه ليتكلم عليه. وأما مسائل الخلع وفروعه وشروطه ، فقد ذكرناها في النهاية (١) والمبسوط (٢).

فصل : وقوله (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) الاية : ٢٣٠.

قوله (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) المعنى فيه التطليقة الثالثة على ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وبه قال السدي والضحاك والزجاج والجبائي والنظام ، وقال مجاهد : هو تفسير لقوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فانه التطليقة الثالثة ، وهو اختيار الطبري.

وصفة الزوج الذي تحل المرأة للزوج الاول أن يكون بالغا ، ويعقد عليها عقدا صحيحا دائما ، ويذوق عسيلتها بأن يطأها ، وتذوق [هي] عسيلته ، بلا خلاف بين أهل العلم ، ولا يحل لاحد أن يتزوجها في العدة. فأما العقود الفاسدة أو عقود الشبهة ، فإنها لا تحل للزوج الاول.

ومتى وطأها بعقد صحيح في زمان يحرم فيه (٣) وطؤها ، مثل أن تكون حائضا أو محرمة أو معتكفة ، فإنها تحل للأول ، لان الوطء قد حصل في نكاح صحيح وانما حرم الوطء لأمر طار عليه ، هذا عند أكثر أهل العلم.

وقال مالك : الوطء في الحيض لا يحل للأول ، وان وجب به المهر كله والعدة.

وقوله (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) لا يدل على وجوب الاجتهاد في الشريعة لأنه لا يمنع من تعلق أحكام كثيرة في الشرع بالظن ، وانما فيه دلالة على من قال :

__________________

(١). النهاية ص ٥٢٨.

(٢). المبسوط ٤ / ٣٤٢.

(٣). في التبيان : عليه.

٨٠