المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) (١) ولقوله «النفس بالنفس» وقوله في هذه الاية (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) لا يمنع من ذلك ، لأنه تعالى لم يقل ولا تقتل الأنثى بالذكر ولا العبد بالحر ، وإذا لم يكن [ذلك] في الظاهر ، فما تضمنته الاية معمول به ، وما قلناه مثبت بما تقدم من الادلة.

فأما قتل الحر بالعبد ، فعندنا لا يجوز ، وبه قال الشافعي وأهل المدينة ، وقال أهل العراق : يجوز ولا يقتل والد بولد عندنا وعند أكثر الفقهاء ، وعند مالك يقتل به على بعض الوجوه.

وأما قتل الوالدة بالولد ، فعندنا تقتل به ، وعند جميع الفقهاء أنها جارية مجرى الأب. وأما قتل الولد بالوالد فيجوز اجماعا. ويجوز قتل الجماعة بواحد اجماعا ، الا أن عندنا يرد فاضل الدية ، وعندهم لا يرد شيء على حال.

وإذا اشترك بالغ مع طفل أو مجنون في قتل ، فعندنا لا يسقط القود عن البالغ وبه قال الشافعي. وقال أهل العراق : يسقط.

ودية القصاص في قود النفس ألف دينار أو عشرة ألف درهم أو مائة من الإبل أو مائتا من البقر ، أو ألف شاة (٢) ، أو مائتا حلة. ولا يجبر القاتل على الدية عندنا وان رضي فهي عليه في ماله.

والقتل بالحديد عمدا يوجب القود اجماعا. فأما غير الحديد ، فكل شيء يغلب على الظن أن مثله يقتل ، فانه يوجب (٣) القود عندنا وعند أكثر الفقهاء.

والذي له العفو عن القصاص ، فكل من يرث الدية الا الزوج والزوجة ،

__________________

(١). سورة الاسراء : ٣٣.

(٢). من هنا يبدء نسخة «ق».

(٣). في التبيان : يجب.

٤١

وهم لا يستثنونهما (١) الا أن أبا حنيفة قال : إذا كان للمقتول ولد صغار وكبار ، فللكبار أن يقتلوا ويحتج بقاتل علي عليه‌السلام ، وقال غيره : لا يجوز حتى يبلغ الصغار ، وعندنا أن لهم ذلك إذا ضمنوا حصة الصغار من الدية إذا بلغوا ولم يرضوا بالقصاص.

ويقتل الرجل بالمرأة إذا رد أولياؤها نصف الدية ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.

فصل : قوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الاية : ١٧٩.

أكثر المفسرين على أن قوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) المراد به القصاص في القتل ، وانما كان فيه حياة من وجهين :

أحدهما : ما عليه أكثر المفسرين ، كمجاهد وقتادة والربيع وابن زيد أنه إذا هم الإنسان بالقتل فذكر القصاص ارتدع ، فكان ذلك سببا للحياة.

والثاني : قال السدي : من جهة أنه لا يقتل الا القاتل دون غيره ، خلاف فعل الجاهلية الذين كانوا يتفانون بالطوائل والمعنيان جميعا حسنان.

وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة ، لان فيها دلالة على أنه أنعم على جميع العقلاء ليتقوا ربهم ، وفي ذلك دلالة على أنه أراد منهم التقوى وان عصوا.

فصل : قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الاية : ١٨٠.

قد بينا فيما مضى أن معنى كتب فرض ، وها هنا معناه الحث والترغيب دون الفرض والإيجاب.

وفي الاية دلالة على أن الوصية جائزة للوارث ، لأنه قال «للوالدين والأقربين» والوالدان وارثان بلا خلاف إذا كانا مسلمين حرين غير قاتلين ، ومن خص الاية بالكافرين ، فقد قال قولا بلا دليل.

__________________

(١). في التبيان : لا يستثنون بها.

٤٢

ومن ادعى نسخ الاية فهو مدع لذلك ولا نسلم له نسخها ، وبمثل ما قلناه قال محمد بن جرير الطبري سواء ، فان ادعوا الإجماع على نسخها ، كان ذلك دعوى باطلة ، ونحن نخالف في ذلك.

وقد خالف في نسخ الاية طاوس ، فانه خصها بالكافرين لمكان الخبر ولم يحملها على النسخ. وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر : ان هذه الاية مجملة وآية المواريث مفصلة وليست نسخا ، فمع هذا الخلاف كيف يدعى الإجماع على نسخها.

ومن ادعى نسخها لقوله عليه‌السلام «لا وصية لوارث» فقد أبعد ، لان هذا أولا خبر واحد لا يجوز نسخ القرآن به اجماعا ، وعندنا لا يجوز العمل به في تخصيص عموم القرآن.

وادعاؤهم أن الامة أجمعت على الخبر ، دعوى عارية من برهان ، ولو سلمنا الخبر جاز أن نحمله على أنه لا وصية لوارث فيما زاد على الثلث ، لأنا لو خلينا وظاهر الاية لا جزنا الوصية بجميع ما يملك للوالدين والأقربين ، لكن خص ما زاد على الثلث لمكان الإجماع.

فأما من قال : ان الاية منسوخة بآية الميراث ، فقوله بعيد من الصواب ، لان الشيء انما ينسخ غيره إذا لم يمكن الجمع بينهما ، فأما إذا لم يكن بينهما تناف ولا تضاد بل أمكن الجمع بينهما ، فلا يجب حمل الاية على النسخ.

ولا تنافي بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهم من الميراث وبين الامر بالوصية لهم على جهة الخصوص ، فلم يجب حمل الاية على النسخ.

وقول من قال حصول الإجماع على أن الوصية ليست فرضا يدل على أنها منسوخة باطل ، لان إجماعهم على أنها لا تفيد الفرض لا يمنع من كونها مندوبا اليها ومرغبا فيها ، ولأجل ذلك كانت الوصية للاقربين الذين ليسوا بوارث ثابتة بالاية ،

٤٣

ولم يقل أحد أنها منسوخة في خبرهم.

والوصية لا تجوز بأكثر من الثلث اجماعا ، والأفضل أن يكون بأقل من الثلث لقوله عليه‌السلام «والثلث كثير».

وقوله (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) يعني : مالا. والمعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور. والحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك وليس معناه في الاية إذا حضره الموت ، أي : إذا عاين الموت ، لأنه في تلك الحال في شغل عن الوصية ، لكن المعنى كتب عليكم أن تواصوا وأنتم قادرون على الوصية فيقول الإنسان : إذا حضرني الموت ، أي : إذا أنا مت فلفلان كذا.

فصل : قوله (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) الاية : ١٨١.

الوصي إذا بدل الوصية لم ينقص من أجر الموصي شيء كما لو لم تبدل ، لأنه لا يجازى أحد على عمل غيره ، لكن يجوز أن يلحقه منافع الدعاء والإحسان الواصل الى الموصى له على غير وجه الأجر له ، لكن على وجه الجزاء لغيره ممن وصل اليه ذلك الإحسان.

وفي الاية دلالة على بطلان قول من يقول : ان الوارث إذا لم يقض (١) دين الميت أنه يؤخذ به في قبره أو في الاخرة ، لما قلنا من أنه دل على ان العبد لا يؤاخذ بجرم غيره ، إذ لا اثم عليه بتبديل غيره. وكذلك لو قضى عنه الوارث من غير أن يوصي به الميت ، لم يزل عقابه بقضاء الوارث عنه ، الا ان يتفضل الله بإسقاطه عنه. وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) معناه : سميع لمقالة الموصي من العدل ، أو الجنف عليهم بما يفعله الوصي من التبديل أو التصحيح ، فيكون ذكر ذلك داعيا الى الطاعة.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ

__________________

(١). في التبيان : لم يقض.

٤٤

قَبْلِكُمْ) الاية : ١٨٣.

الصوم في الشرع هو الإمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص ، ومن شرط انعقاده النية.

وقوله (كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قيل : فيه ثلاثة أقوال ، أحسنها أنه كتب عليكم صيام أيام [كما كتب عليهم صيام أيام] وهو اختيار الجبائي وغيره.

فصل : قوله (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الاية : ١٨٤.

قال عطاء وقتادة : الأيام المعدودات كانت ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ ، وكذلك روي عن ابن عباس. وقال ابن أبي ليلى : المعنى به شهر رمضان ، وانما كان صيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا.

وقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ارتفع عدة على الابتداء ، وتقديره : فعليه عدة من أيام ، وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أن شهر رمضان كان واجبا صومه على كل نبي دون أمته ، وانما أوجب على أمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب.

وانما قال «أخر» ولا يوصف بهذا الوصف الا جمع المؤنث التي كل واحدة أنثى ، والأيام جمع يوم ، وهو مذكر حملا على لفظ الجمع لان الجمع يؤنث كما يقال جاءت الأيام ومضت الأيام.

وهذه الاية فيها دلالة على أن المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار ، لأنه تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقا ، فكل من أوجب القضاء بنفس السفر والمرض أوجب الإفطار وداود أوجب القضاء وخير في الإفطار فان قدروا في الاية «فأفطر» كان ذلك خلاف الاية.

وبوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله

٤٥

بن عباس وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو هريرة ، وعروة بن الزبير ، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.

وروي عن معاذ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قدم المدينة فكان يصوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر ، ثم نسخ ذلك بشهر رمضان في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ).

واختار الطبري هذا الوجه قال : لأنه لم ينقطع العذر برواية صحيحة أنه كان هاهنا صوم متعبد به ، فنسخه الله بشهر رمضان.

وقوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال الحسن وأكثر أهل التأويل : ان هذا الحكم كان في المراضيع (١) والحوامل والشيخ الكبير ، فنسخ من الاية المراضيع (٢) والحوامل وبقي الشيخ الكبير. وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ذلك في الشيخ الكبير يطعم لكل يوم مسكينا.

منهم من قال : نصف صاع ، وهم أهل العراق. وقال الشافعي : مدعن كل يوم. وعندنا ان كان قادرا فمدان ، وان لم يقدر الأعلى مد أجزأه. وقال السدي : لم ينسخ ، وانما المعنى وعلى الذين كانوا يطيقونه.

وقوله (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) يعني : أطعم أكثر من مسكين في قول ابن عباس ، وعمل برا في جميع الدين في قول الحسن ، وهو أعم فائدة. ومنهم من قال : من جمع بين الصوم والصدقة ، ذهب اليه ابن شهاب.

وفي الاية دلالة على بطلان قول المجبرة ان القدرة مع الفعل ، لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل الذي هو الصيام لسقطت عنه الفدية ، لأنه إذا صام لم يجب عليه فدية.

__________________

(١). في التبيان : المراضع.

(٢). في التبيان : المراضع.

٤٦

وقوله (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) رفع «خير» لأنه خبر الابتداء (١) ، وتقديره : وصومكم خير لكم كان هذا مع جواز الفدية. وأما بعد النسخ ، فلا يجوز أن يقال : الصوم خير من الفدية مع أن الإفطار لا يجوز أصلا.

فصل : قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الاية : ١٨٥.

قال ابن دريد : الرمض شدة وقع الشمس على الرمل وغيره ، والأرض رمضاء ورمض يومنا رمضا إذا اشتد حره ، ورمضان من هذا اشتقاقه ، لأنهم سموا الشهور بالازمنة التي فيها ، فوافق رمضان أيام رمض الحر ، وقد جمعوا رمضان رمضانات.

قوله (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن : ان الله تعالى أنزل جميع القرآن في ليلة القدر الى السماء الدنيا ، ثم أنزل على النبي عليه‌السلام بعد ذلك نجوما ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

والثاني : أنه ابتدأ انزاله في ليلة القدر من شهر رمضان.

فان قيل : كيف يجوز انزاله كله في ليلة القدر وفيه الاخبار عما كان ولا يصلح ذلك قبل أن يكون.

قلنا : يجوز ذلك في مثل قوله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٢) اي : إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الجنة أصحاب النار.

قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : من شاهد منكم الشهر مقيما.

__________________

(١). في التبيان : المبتدأ.

(٢). سورة الاعراف : ٤٣.

٤٧

والثاني : من شهده بأن حضره ولم يغب ، لأنه يقال شاهد بمعنى حاضر ، ويقال شاهد بمعنى شاهد (١). وروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد وجماعة من المفسرين ورووه عن علي عليه‌السلام أنهم قالوا : من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر ، فعليه أن يصوم الشهر كله ، وان سافر فيما بعد فليصم في الطريق ، ولا يجوز له الإفطار.

وعندنا أن من دخل عليه الشهر كره له أن يسافر حتى يمضي ثلاث وعشرون من الشهر ، الا أن يكون سفرا واجبا كالحج ، أو تطوعا كالزيارة ، فان لم يفعل وخرج قبل ذلك ، كان عليه الإفطار ولم يجزه الصوم.

وقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ناسخ للفدية على قول من قال بالتخيير ولم ينسخ ، وعندنا أن المرضعة والحامل إذا خافا على ولدهما أفطرتا وكفرتا ، وكان عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر ، وبه قال جماعة من المفسرين كالطبري وغيره.

وقوله (مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد بينا أنه يدل على وجوب الإفطار في السفر ، لأنه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض ، وكل من قال بذلك أوجب الإفطار ، ومن قدر في الاية أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ، زاد في الظاهر ما ليس فيه.

فان قيل : هذا كقوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) (٢) ومعناه فحلق.

قلنا : انما قدرنا هناك فحلق للإجماع على ذلك ، وليس هاهنا اجماع ، فيجب أن لا يترك الظاهر ولا يزيد فيه ما ليس فيه.

__________________

(١). في التبيان : مشاهد.

(٢). سورة البقرة : ١٩٦.

٤٨

والعدة المأمور بإكمالها المراد بها أيام السفر والمرض الذي أمر بالإفطار فيها. وقال الضحاك وابن زيد : عدة ما أفطروا فيه.

وقوله (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) المراد به تكبير ليلة الفطر عقيب أربع صلوات : المغرب ، وصلاة العشاء الاخرة ، وصلاة الغداة ، وصلاة العيد على مذهبنا. وقال ابن عباس وزيد بن أسلم وسفيان وابن زيد : التكبير يوم الفطر.

وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة من ثلاثة أوجه : [أحدها] قوله «هدى للناس» فعم بذلك كل انسان مكلف وهم يقولون ليس يهدي الكفار.

الثاني : قوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) والمجبرة تقول : قد أراد تكليف العبد ما لا يطيقه مما لم يعطه عليه قدرة ولا يعطيه ، ولا عسر أعسر من ذلك.

مسائل من أحكام الصوم :

يجوز قضاء شهر رمضان متتابعا ومتفرقا ، والتتابع أفضل ، وبه قال مالك والشافعي. وقال أهل العراق : هو مخير ، ومن أفطر في رمضان متعمدا بالجماع في الفرج ، لزمه القضاء والكفارة عندنا.

والكفارة عتق رقبة ، فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فان لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك : هو بالخيار ، وفي أصحابنا من قال بذلك ، والإطعام لكل مسكين نصف صاع عندنا ، وبه قال أبو حنيفة ، فان لم يقدر فبمد ، وبه قال الشافعي ولم يعتبر العجز.

وان جامع ناسيا فلا شيء عليه. وقال مالك : عليه القضاء.

ومن أكل متعمدا أو شرب في نهار شهر رمضان ، لزمه القضاء والكفارة عندنا وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي : الكفارة عليه وعليه القضاء ، والناسي لا شيء

٤٩

عليه عندنا وعند أهل العراق. وقال مالك : عليه القضاء.

ومن أصبح جنبا من غير ضرورة ، لزمه عندنا القضاء والكفارة. وقال ابن حي : عليه القضاء استحبابا ، وقال جميع الفقهاء : لا شيء عليه.

ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه ، فان تعمده كان عليه القضاء ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ومالك. وقال الاوزاعي : ان غلبه فعليه القضاء بلا كفارة ، فان استدعاه فعليه القضاء.

ومن أكل حصى أو نوى متعمدا ، فعليه القضاء والكفارة ، وبه قال مالك والاوزاعي ، وقال أهل العراق : عليه القضاء بلا كفارة ، وقال ابن حي : لا قضاء ولا كفارة.

وإذا احتلم الصبي يوم النصف من شهر رمضان صام ما بقي ولا قضاء عليه فيما مضى ، ويمسك بقية يومه تأديبا ، فان أفطر فيه فلا قضاء عليه ، وبه قال أهل العراق. وقال مالك : أحب الي أن يقضي ذلك اليوم وليس بواجب. وقال الاوزاعي : يصوم ما بقي ويقضي ما مضى منه.

وحكم الكافر إذا أسلم حكم الصبي إذا احتلم في جميع ذلك. والمجنون والمغمى عليه ليس بعاقل يتناوله الخطاب.

وقوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) المراد به إذا كان مريضا عاقلا يشق عليه الصوم ، أو يخاف على نفسه منه ، فيلزمه عدة من أيام أخر.

وقال أهل العراق : في الحامل والمرضع يخافان على ولدهما يفطران ويقضيان يوما مكانه ولا صدقة عليهما ولا كفارة ، وبه قال قوم من أصحابنا.

وقال الشافعي : في رواية المزني عليهما القضاء في الوجهين ، ويطعم لكل يوم مدا ، وهو مذهبنا المعمول عليه.

والشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويتصدق مكان كل يوم نصف صاع

٥٠

في قول أهل العراق ، وهو مذهبنا.

والسفر الذي يوجب الإفطار ما كان سفرا حسنا ، وكان مقداره ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا ، وعند الشافعي ستة عشر فرسخا ، وعند أبي حنيفة أربعة وعشرون فرسخا. وقال داود : قليله وكثيره يوجب الإفطار.

والمرض الذي يوجب الإفطار ما يخاف معه التلف أو الزيادة المفرطة في مرضه.

ومن قال ان قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يدل على أن شهر رمضان لا ينقص أبدا فقد أبعد من وجهين ، لان قوله «ولتكملوا العدة» معناه ولتكملوا عدة الشهر ، سواء كان تاما أو ناقصا.

والثاني : أن ذلك راجع الى القضاء ، لأنه قال عقيب ذكر السفر والمرض (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) يعني عدة ما فاته. وهذا بين.

فصل : قوله (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) الاية : ١٨٦.

معناه : ان اقتضت المصلحة اجابته وحسن ذلك ولم تكن فيه مفسدة ، فاما أن يكون قطعا لكل من يسأل ، فلا بد أن يجيبه فلا ، على أن الداعي لا يحسن منه السؤال الا بشرط ألا يكون في اجابته مفسدة لا له ولا لغيره ، والا كان الدعاء قبيحا.

ولا يجوز أن تقيد الاجابة بالمشيئة ، بأن يقول : ان شئت لأنه يصير الوعد به لا فائدة فيه ، فمن أجاز ذلك فقد أخطأ.

فان قيل : إذا كان لا يجيب كل من دعا ، فما معنى الاية؟

قلنا : معناه أن من دعا على شرائط الحكمة التي قدمناها واقتضت المصلحة

٥١

اجابته أجيب لا محالة ، بأن يقول : اللهم افعل بي كذا ان لم يكن فيه مفسدة لي أو لغيري في الدين ، أو دنيوي هذا في دعائه.

فصل : قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) الاية : ١٨٧.

الرفث : الجماع هاهنا بلا خلاف.

ومعنى قوله «هن لباس لكم» أنهن يصرن بمنزلة اللباس. وقال قوم : معناه هن سكن لكم كما قال «وجعلنا الليل لباسا» (١) أي : سكنا.

وقوله «وكلوا واشربوا» اباحة للأكل والشرب «حتى يتبين» أي : يظهر والتبيين تمييز الشيء الذي يظهر للنفس على التحقيق «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» يعني : بياض الفجر من سواد الليل.

وقيل : خيط الفجر الثاني مما كان في موضعه من الظلام. وقيل : النهار من الليل ، فأول النهار طلوع الفجر الثاني ، لأنه أوسع ضياء ، قال الشاعر وهو أبو داود :

فلما أضاءت لنا غدوة (٢)

ولاح من الصبح خيط أنارا (٣)

وروي عن حذيفة والأعمش وجماعة [أن] خيط الأبيض هو ضوء الشمس ، وجعلوا أول النهار طلوع الشمس ، كما أن آخره غروبها ، فلا (٤) خلاف في الغروب وأكثر المفسرين على القول الاول ، وعليه جميع الفقهاء لا خلاف فيه بين الامة

__________________

(١). سورة عم : ١٠.

(٢). في التبيان : سدفة.

(٣). اللسان «خيط».

(٤). في التبيان : بلا.

٥٢

اليوم.

والأبيض ضد الأسود ، وبيضة الإسلام مجتمعه. والأسود ضد الأبيض ، وسويداء القلب وسوداؤه دمه الذي فيه ، وساد سوددا فهو سيد ، لأنه ملك السواد الأعظم.

والليل هو بعد غروب الشمس ، وعلامة دخوله على الاستظهار سقوط الحمرة من جانب المشرق واقبال السواد منه ، والا فإذا غابت الشمس مع ظهور الآفاق في الأرض المبسوطة وعدم الجبال والرواسي فقد دخل الليل.

وقوله (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) قيل : في معناه قولان ها هنا ، قال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة وغيرهم : أراد به الجماع. وقال ابن زيد ومالك : أراد الجماع وكلما كان دونه من قبلة وغيرها ، وهو مذهبنا.

وقوله (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) فالاعتكاف عندنا هو اللبث في أحد المساجد الاربعة : المسجد الحرام ، أو مسجد النبي عليه‌السلام ، أو مسجد الكوفة ، أو مسجد البصرة ، للعبادة من غير اشتغال بما يجوز تركه من أمور الدنيا ، وله شرائط ذكرناها في كتب الفقه ، وأصله اللزوم ، قال الطرماح :

فبات بنات الليل حولي عكفا

عكوف البواقي بينهن صريع (١)

وقال الفرزدق :

ترى حولهن المعتقين كأنهم

على صنم في الجاهلية عكف (٢)

وقوله و (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) فالحد على وجوه ، أحدها : المنع يقال حده عن كذا حدا ، أي منعه. والحد حد الدار ، والحد الفرض من حدود الله أي فرائضه والحد الجلد للزاني وغيره.

__________________

(١). ديوان الطرماح ص ١٥٣.

(٢). ديوان الفرزدق ص ٥٦١.

٥٣

فصل : قوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الاية : ١٨٨.

قيل : في اشتقاق «وتدلوا» قولان :

أحدهما : أن التعليق بسبب الحكم ، كتعلق الدلو بالسبب الذي هو الحبل.

والثاني : أنه يمضى فيه من غير تثبت ، كمضي الدلو في الإرسال من غير تثبت والباطل هو ما تعلق بالشيء على خلاف ما هو به خبرا كان أو اعتقادا أو تخيلا أو ظنا.

وقوله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) معناه انكم تعلمون أن ذلك الفريق من المال ليس بحق لكم ، لأنه أشد في الزجر.

فصل : قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الاية : ١٨٩.

اختلف أهل العلم الى كم يسمى هلالا؟ فقال قوم : يسمى ليلتين هلالا من الشهر ومنهم من قال : يسمى هلالا ثلاث ليال ثم يسمى قمرا. وقال الاصمعي : يسمى هلالا حتى يحجر ، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة ، ومنهم من قال : يسمى هلالا حتى يبهر ضوءه سواد الليل. وقال الزجاج : يسمى هلالا لليلتين.

وقوله (هِيَ مَواقِيتُ) فالميقات هو مقدار من الزمان جعل علما لما يقدر من العمل فيه.

وروى جابر عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام في قوله (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) الاية قال : يعني أن يأتي الامر من وجهه أي الأمور كان.

فصل : قوله (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) الاية : ١٩١.

قال الحسن وقتادة ومجاهد والربيع وابن زيد وجميع المفسرين : انها الكفر وأصل الفتنة الاختبار ، فكأنه قال : والكفر الذي يكون عند الاختبار أعظم من القتل في الشهر الحرام.

وروي أن هذه الاية نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار

٥٤

في الشهر الحرام ، فعابوا المؤمنين بذلك ، فبين الله تعالى أن الفتنة في الدين أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وان كان محظورا لا يجوز.

فصل : قوله (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الاية : ١٩٢.

معنى قوله «فان انتهوا» يعني عن كفرهم بالتوبة منه ، في قول مجاهد وغيره من المفسرين.

وفي الاية دلالة على أنه تقبل توبة القاتل عمدا ، لأنه بين أنه يقبل توبة المشرك وهو أعظم من القتل ، ولا يحسن أن يقبل التوبة من الأعظم ولا يقبل من الأقل.

فصل : قوله (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) الاية : ١٩٤.

أشهر الحرم أربعة : رجب وهو فرد ، وثلاثة أشهر سرد : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، والمراد هاهنا ذو القعدة ، وهو شهر الصد عام الحديبية. وانما سمي الشهر حراما لأنه كان يحرم فيه القتال ، فلو أن الرجل يلقى قاتل ابنه أو أبيه لم يعرض له بسبيل. وسمي ذو القعدة ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال.

فان قيل : كيف جاز قوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) مع قوله (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (١).

قلنا : الثاني ليس باعتداء على الحقيقة ، وانما هو على وجه المزاوجة ، ومعناه المجازاة على ما بينا ، والمعتدي مطلقا لا يكون الا ظالما فاعلا لضرر قبيح ، وإذا كان مجازيا فإنما يفعل ضررا حسنا.

فان قيل : كيف قال (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) والاول جور والثاني عدل.

قلنا : لأنه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق ، لأنه ضرر كما أن الاول ضرر ، وهو على مقدار ما يوجبه الحق في كل جرم.

فصل : قوله (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا

__________________

(١). سورة البقرة : ١٩٤.

٥٥

إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الاية : ١٩٥.

التهلكة : كل ما كان عاقبته الى الهلاك. والإحسان هو إيصال النفع الحسن الى الغير ، وليس المحسن من فعل الفعل الحسن ، لان الله تعالى يفعل العقاب وهو حسن ، ولا يقال انه محسن به ولا يسمى مستوفي الدين محسنا وان كان حسنا.

فصل : قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الاية : ١٩٦.

قيل : في إتمام الحج والعمرة أقوال :

أحدها : أنه يجب أن يبلغ آخر أعمالهما بعد الدخول فيهما ، وهو قول مجاهد وأبي العالية والمبرد وأبي علي الجبائي.

والثاني : قال سعيد بن جبير وعطاء والسدي : ان معناه اقامتهما الى آخر ما فيهما لأنهما واجبان.

الثالث : قال طاوس : إتمامهما افرادهما.

الرابع : قال قتادة : الاعتمار في غير أشهر الحج ، وأصح الأقوال الاول. والحج هو القصد الى البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة بها في أوقات مخصوصة ، ومناسك الحج تشتمل على الركن وغير الركن ، فأركان الحج أولا : النية ، والإحرام ، والوقوف بعرفة ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي بين الصفا والمروة.

والفرائض التي ليست بأركان : التلبية ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء وركعتا الطواف له. والمسنونات : الجهر بالتلبية ، واستلام الأركان ، وأيام منى

٥٦

ورمى الجمار والحلق والتقصير والاضحية ان كان مفردا ، وان كان متمتعا فالهدي واجب عليه ، والا فالصوم الذي هو بدل منه.

والعمرة واجبة كوقوف الحج ، وبه قال الحسن وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وجماعة والشافعي. وقال ابراهيم النخعي والشعبي وسعيد بن جبير وأهل العراق : انها مسنونة.

فمن قال : انها غير واجبة ، قال : لان الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة ، ووجوب الإتمام لا يدل على أنه واجب قبل ذلك ، كما أن الحج المتطوع به يجب إتمامه ، وان لم يجب الدخول فيه ، قالوا : وانما علمنا وجوب الحج بقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (١).

وهذا ليس بصحيح ، لأنا قد بينا أن معنى (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أقيموهما وهو المروي عن علي عليه‌السلام وعن علي بن الحسين مثله ، وبه قال مسروق والسدي.

وفي معنى «استيسر» خلاف ، فروي عن علي عليه‌السلام وابن عباس والحسن وقتادة أنه شاة ، وروي عن ابن عمرو عائشة أنه ما كان من الإبل والبقر دون غيره ، ووجه التيسير على ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة ، والاول هو المعمول عليه عندنا.

وقيل في محل الهدي قولان :

أحدهما : ما روي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وعطاء أنه الحرم ، فإذا ذبح به يوم النحر أحل.

والثاني قال مالك : أنه الموضع الذي صد فيه ، وهو المكان الذي يحل نحره فيه ، قال : لان النبي عليه‌السلام نحر الهدي وأمر أصحابه فنحروا بالحديبية ، وعندنا أن الاول حكم المحصر بالمرض ، والثاني حكم المحصور بالعدو.

قوله «فان أحصرتم» فيه خلاف. قال قوم : فان منعكم خوف أو عدو أو

__________________

(١). سورة آل عمران : ٩٧.

٥٧

مرض ، أو هلاك بوجه من الوجوه فامتنعتم لذلك. وقال آخرون : ان منعكم حابس قاهر ، فالأول قول مجاهد وقتادة وعطاء ، وهو المروي عن ابن عباس ، وهو المروي في أخبارنا. والثاني ذهب اليه مالك بن أنس.

والاول أقوى ، لما روي في أخبارنا ، ولان الإحصار هو أن يجعل غيره بحيث أن يمتنع من الشيء ، وحصره منعه ، ولهذا يقال : حصر العدو ولا يقال أحصر.

واختلف أهل اللغة في الفرق بين الإحصار والحصر ، فقال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل اللغة : ان الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة. والحصر بحبس العدو.

وقال الفراء : يجوز كل واحد منهما مكان الاخر. وخالفه في ذلك أبو العباس والزجاج ، واحتج المبرد بنظائر ذلك ، كقولهم حبسه ، أي : جعله في الحبس وأحبسه ، أي : عرضه للحبس وقبره دفنه في القبر ، وأقبره عرضه للدفن في القبر فكذلك حصره حبسه ، أي : أوقع به الحصر ، وأحصره عرضه للحصر ، ويقال أحصره احصارا إذا منعه ، وحصره يحصره حصرا إذا حبسه.

وقوله (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) فالذي رواه أصحابنا أن الصيام ثلاثة أيام ، أو صدقة ستة مساكين ، وروي عشرة مساكين ، والنسك شاة.

وفرض التمتع عندنا وهو اللازم لكل من لم يكن من حاضري المسجد الحرام ، وحد حاضري المسجد الحرام من كان على اثنا عشر ميلا ، من كل جانب الى مكة ثمانية وأربعون ميلا ، فما خرج عنه فليس من الحاضرين ، لا يجوز له مع الإمكان غير التمتع ، وعند الضرورة يجوز له القران والافراد.

ومن كان من حاضري المسجد الحرام لا يجوز له التمتع ، وانما فرضه القران أو الافراد ، على ما نفسره في القران والافراد.

وسياق التمتع أن يحرم من الميقات في أشهر الحج ، وهي شوال وذو القعدة

٥٨

وعشر من ذي الحجة ، ثم يدخل (١) الى مكة فيطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر ، ثم ينشئ إحراما آخر بالحج من المسجد الحرام ، ويخرج الى عرفات ويقف هناك ، ويفيض الى المشعر ، ويغدو منها الى منى ويقضي مناسكه هناك ، ويدخل من يومه الى مكة ، فيطوف بالبيت طواف الزيارة ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ويطوف طواف النساء وقد أحل من كل شيء ، ويعود الى منى فيبيت ليالي منى بها ، ويرمي الجمار في ثلاثة أيام ، على ما شرحناه في النهاية والمبسوط.

وقوله (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) فالهدي واجب على المتمتع بلا خلاف لظاهر التنزيل ، على خلاف فيه أنه نسك أو جبران ، فعندنا أنه نسك ، وفيه خلاف. فان لم يجد الهدي ولا ثمنه صام ثلاثة أيام في الحج.

وعندنا أن وقت صوم الثلاثة أيام يوم قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة ، فان صام في أول العشر جاز ذلك رخصة ، وان صام يوم التروية ويوم عرفة قضى يوما آخر بعد التشريق ، فان فاته يوم التروية صام بعد انقضاء التشريق ثلاثة أيام متتابعات.

وقوله (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) اختلفوا في معناه ، فقال الحسن والجبائي وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : المعنى كاملة من الهدي ، أي : إذا وقعت بدلا منه استكملت ثوابه.

الثاني : ما ذكره الزجاج والبلخي أنه لازالة الإيهام لئلا يظن ان الواو بمعنى «أو» فيكون كأنه قال : فصيام ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجعتم ، لأنه إذا استعمل «أو» بمعنى الواو جاز أن يستعمل الواو بمعنى «أو» كما قال «فأنكحوا

__________________

(١). في التبيان : يخرج.

٥٩

ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع» (١) والمراد «أو» فذكر ذلك لارتفاع اللبس.

الثالث : قاله المبرد : انه أعاد ذلك للتأكيد ، كما قال الشاعر :

ثلاث واثنتان فهن خمس

فسادسة تميل الى شمام

وأهل الرجل زوجته ، والتأهل : التزوج.

فصل : قوله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) الاية : ١٩٧.

وأشهر الحج عندنا شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وقال عطاء والربيع وابن شهاب وطاوس : أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وروي ذلك في أخبارنا.

فان قيل : كيف جمع شهرين وعشرة أيام ثلاثة أشهر؟

قلنا : قد يضاف الفعل الى الوقت وان وقع في بعضه ، ويجوز أن يضاف الوقت اليه كذلك ، كقولك : صليت صلاة الجمعة وصلاة يوم العيد وان كانت الصلاة في بعضه ، ويقال أيضا قدم زيد يوم كذا وخرج يوم كذا ، وان كان قدومه أو خروجه في بعضه.

وكذلك جاز أن يقال شهر الحج ذو الحجة وان كان في بعضه ، وانما يفرض فيهن الحج ، بأن يحرم فيهن بالحج بلا خلاف ، أو بالعمرة التي يتمتع بها بالحج عندنا خاصة.

والرفث كناية عن الجماع. والفسوق : الكذب على ما رواه أصحابنا ، والاولى أن نحمله على جميع المعاصي التي نهى المحرم عنها وقوله (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) فالذي رواه أصحابنا انه قول «لا والله وبلى والله» صادقا وكاذبا.

__________________

(١). سورة النساء : ٣.

٦٠