المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قبل : في معناه قولان : أحدهما ـ أنه استولى كما قال البغيث :

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

يريد بشر بن مروان. الثاني قال الحسن : استوى أمره.

قوله (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) معنته : تبارك تعالى بالوحدانية فيما لم يزل ولا يزال ، وأصله الثبات من قول الشاعر :

ولا ينجي من الغمرات الا

براكاء القتال أو الفرار (١)

فهو بمعنى تعالى بدوام الثبات. ويحتمل تعالى بالبركة ممن هي في ذكر اسمه.

وقيل : في معنى العرش قولان : أحدهما ـ أنه سرير تعبد الله تعالى الملائكة بحمله. وقيل : المراد به الملك.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) الاية : ٥٧.

الريح على لفظ الواحد يجوز أن يراد بها الكثرة ، كقولهم كثير الدرهم والدينار وقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ثم قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) فأما ما جاء في الحديث من أن النبي عليه‌السلام كان يقول إذا هبت ريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا فلان عامة ما جاء في القرآن بلفظ الرياح السقيا والرحمة ، كقوله (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٣) وقوله (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) (٤) وما جاء بخلاف ذلك جاء على الافراد ، كقوله (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٥) وقوله (وَأَمَّا

__________________

(١). اللسان : برك.

(٢). سورة العصر : ٢ ـ ٣.

(٣). سورة الحجر : ٢٢.

(٤). سورة الروم : ٤٦.

(٥). سورة الذاريات : ٤١.

٣٢١

عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) (١).

قوله (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) الا قلال جمل الشيء بأسره حتى يقل في طاقة الحامل له بقوة جسمه ، يقال : استقل بحمله. والبلد الميت هو الذي اندرست مشاربه وتعفت مزارعه.

فصل : قوله (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) الاية : ٥٨.

وجه ضرب المثل بالأرض الطيبة والأرض الخبيثة مع أنهما من فعل الله وكلاهما حكمة وصواب ، فالطاعات والمعاصي التي أحدهما بأمر الله والاخرى بخلاف أمره ، هو أن الله تعالى لما جعل المنفعة بأحدهما والمضرة بالآخر ، فمثل بذلك الانتفاع بالعمل الصالح والاستضرار بالمعاصي والقبائح.

وقوله (وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) فالنكد العسر لشدته الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل ، قال الشاعر :

لا تنجز الوعد ان وعدت وان

أعطيت أعطيت تافها نكدا (٢)

فصل : قوله (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الاية : ٥٩.

لم يجعل خوفه عليهم على وجه الشك ، بل أخبرهم أن هذا العذاب سيحل بهم ان لم يقبلوا ما أتاهم به ، لان الخوف قد يكون مع اليقين كما يكون مع الشك ألا ترى أن الإنسان يخاف من الموت وهو لا يشك في كونه.

فصل : قوله (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) الاية : ٦٠.

قيل : في معنى الملاء قولان : أحدهما ـ أنهم الجماعة من الرجال خاصة دون

__________________

(١). سورة الحاقة : ٦.

(٢). مجاز القرآن ١ / ٢١٧.

٣٢٢

النساء ، ومثله القوم والنفر والرهط ، هكذا ذكر الفراء ، وسموا بذلك لأنهم يملئون المحافل.

والثاني انهم الاشراف ، وقيل : الرؤساء لأنهم يملئون الصدور بعظم شأنهم ومنه قوله عليه‌السلام : أولئك الملاء من قريش ، لمن قال له من الأنصار يوم بدر : ما رأينا الا عجائز صلعا.

والقوم الجمع الذي يقوم بالأمر ولا نسوة فيهم على قول الفراء ، وهو مأخوذ من القيام وانما سموا بالمصدر.

فصل : قوله (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) الاية : ٦٣.

انما فتحت الواو في قوله (أَوَعَجِبْتُمْ) لأنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام فالكلام مستأنف من وجه متصل من وجه. والذكر حضور المعنى للنفس.

وقوله (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) فالرجل هو انسان خارج عن حد الصبي من الذكور (١) وكل رجل انسان ، وليس كل انسان رجلا ، لان المرأة انسان.

فصل : قوله (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الاية : ٦٦.

السفاهة خفة الحلم ، والظن هو ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على خلافه ، فبالقوة يتميز من الاعتقاد المبتدإ وبالتجويز يتميز من العلم.

وانما قالوا لنظنك ولم يقولوا نعلمك لامرين :

أحدهما : قال الحسن : لان تكذيبهم كان على الظن دون اليقين. وقال الرماني معناه انك تجري مجرى من أخبر عن غائب لا يعلم ممن هو منهم.

الثاني : أنهم أرادوا بالظن العلم ، كما قال الشاعر :

__________________

(١). في التبيان : الذكران.

٣٢٣

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المشدد

فصل : قوله (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) الاية : ٧٠.

الرجس العذاب. وقيل : الرجس والرجز واحد ، فقلبت الزاي سينا ، كما قلبت السين تاءا في قول الشاعر :

ألا لحى الله بني السعلات

عمرو بن يربوع لئام النات

ليسوا باعفاف ولا أكيات (١)

يريد أكياس ، وقال رؤبة :

كم قد رأينا من عديد ميزي

حتى أقمنا كيده بالرجز (٢)

حكي ذلك عن أبي عمرو بن العلاء. وقال ابن عباس : الرجس السخط.

فصل : قوله (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) الاية : ٧٣.

الاية والعبرة والدلالة والعلامة نظائر ، والاية التي كانت في الناقة خروجها من صخرة ملساء ، تتمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها وكان لها شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله وتسقيهم اللبن بدله ، ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم ، في قول أبي الطفيل والسدي وابن إسحاق.

فصل : قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) الاية : ٧٤.

معنى (بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : مكنكم من منازل تأوون اليها ، يقال : بوأته منزله إذا مكنته منه ليأوى اليه ، وأصله من الرجوع ، من قوله (فَباؤُ بِغَضَبٍ) (٣)

__________________

(١). تفسير الطبري ١٢ / ٥٢٢.

(٢). ديوان رؤبة ص ٦٤.

(٣). سورة البقرة : ٩٠.

٣٢٤

وقوله (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (٢) أي : رجعوا ، قال الشاعر :

وبوأت في صميم معشرها

فتم في قومها مبوأها

أي : أنزلت ومكنت من الكرم في صميم النسب.

فصل : قوله (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) الاية : ٧٧.

قوله (وَعَتَوْا) أي : تجاوزوا الحد في الفساد.

وقوله (يا صالِحُ ائْتِنا) ان وصلته همزته وان ابتدأت به لم تهمز ، بل تقول. ايتنا ، وانما كان كذلك لان أصله اءتنا بهمزتين ، فكره ذلك ، فقلبوا الثانية ياء على ما قبلها ، فإذا وصل سقطت ألف الوصل وظهرت همزة الأصل.

وقوله «بما تعدنا» فالوعد الخبر بخير ، أو شر بقرينة في الشر ، فقوله «ائتنا بما تعدنا» أي : من الشر ، لأنا قد علمنا ما توعدتنا عليه ، فآت الآن بالعذاب الذي خوفتنا منه ، ومتى تجرد عن قرينة فهو بالخير أحق ، للفصل بين الوعد والوعيد.

فصل : قوله (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) الآيتان : ٧٨ ـ ٧٩.

معنى «جاثمين» باركين على ركبهم موتى ، جثم يجثم جثوما إذا برك على ركبته ، وقيل : صاروا كالرماد الجاثم ، لان الصاعقة أحرقتهم.

وقوله (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) انما جاز أن يناديهم مع كونهم جاثمين موتى لما في تذكر ما أصارهم الى تلك الحال العظيمة التي صاروا بها نكالا لكل من اعتبر بها وفكر فيها من الحكمة والموعظة الحسنة.

وانما لم يحبوا الناصح لنهيه لهم عن ركوب أهوائهم واتباع شهواتهم ،

__________________

(٢). سورة البقرة : ٦١.

٣٢٥

وقد روي أنه لم يعذب أمة نبي قط ونبيها فيها فلذلك خرج. فأما إذا هلك المؤمنون فيما بينهم ، فان الله سيعوضهم على ما يصيبهم من الآلام والغموم.

فصل : قوله (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) الاية : ٨٠.

اختلفوا في اشتقاق لوط ، فقال بعض أهل اللغة : انه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين وملسته به ، ويقال : هذا ألوط بقلبي أي : ألصق والليطة القشر للصوقه بما اتصل به. وقال الزجاج : هو اسم مشتق ، لان العجمي لا يشتق من العربي ، وانما قال ذلك لأنه لم يوجد علما الا في أسماء الأنبياء.

وقوله (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) فالسبق وجود الشيء قبل غيره وقيل : ما ذكر على ذكر قبل قوم لوط ، ذكره عمرو بن دينار ، فلذلك قال (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) وبه قال أكثر المفسرين.

فصل : قوله (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) الاية : ٨٥.

شعيب نسب اليهم بالاخوة في النسب دون الدين. والإيفاء إتمام الشيء الى حد الحق فيه ، ومنه إيفاء العهد ، وهو إتمامه بالعمل به ، والكيل تقدير الشيء بالمكيال حتى يظهر مقداره منه.

والوزن تقدير الشيء بالميزان. والمساحة تقدير الشيء بالذراع ، أو ما زاد عليه أو نقص.

والبخس النقص عن الحد الذي يوجبه الحق.

وقال قتادة والسدي : البخس الظلم ، ومنه المثل «تحسبها حمقاء وهي باخسة» وقوله (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) يعني : بعد أن أصلحها الله بالأمر والنهي وبعثة الأنبياء وتعريف الخلق مصالحهم. والإفساد إخراج الشيء الى

٣٢٦

حد لا ينتفع به بدلا عن حال ينتفع بها.

فصل : قوله (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) الاية : ٨٨.

قيل : في معنى (لَتَعُودُنَّ) قولان : أحدهما ـ على توهمهم أنه كان فيها على دين قومه. الثاني : ان الذين اتبعوا شعيبا قد كانوا فيها.

وقال الزجاج : وجائز أن يقال قد عاد علي من فلان مكروه ، وان لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك ، أي : لحقني منه مكروه. ووجه هذا أنه كأنه قد كان قبل ذلك في قصده لي كأنه قد أتى مرة بعد مرة ، قال الشاعر :

لئن كانت الأيام أحسن مرة

الي لقد عادت لهن ذنوب

والعود هو الرجوع ، وهو مصير الشيء الى الحال التي كان عليها. قيل : ومنه اعادة الخلق ، ومنه قوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١).

فصل : قوله «فأخذتهم الرجفة» الاية : ٩١.

أخذ الرجفة إلحاقها بهم مدمرة عليهم ، ولا يقال أخذتهم الرحمة ، لان العذاب لما كان يذهب بهم إهلاكا صلح فيه الأخذ ، ولا يصلح في النعيم. والرجفة الزلزلة وهي حركة تزلزل الاقدام وتوجب الهلاك لشدتها.

والإصباح الدخول في الصباح. والإمساء الدخول في المساء.

فصل : قوله (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) الاية : ٩٢.

معنى «لم يغنوا» لم يقيموا اقامة مستغن بها عن غيرها ، والمغاني المنازل وغنى بالمكان إذا أقام به يغني غناء.

فصل : قوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) الاية : ٩٧.

البأس العذاب ، والبؤس الفقر ، والأصل الشدة ، ورجل بئيس شديد في

__________________

(١). سورة الانعام : ٢٨.

٣٢٧

القتال ، ومنه قولهم بئس الرجل زيد ، معناه شديد الفساد. والنوم نقيض اليقظة والنوم سهر يغمر القلب ويغشي العين ويضعف الحس وينافي العلم.

واللعب هو العمل للذة لا يراعى فيه الحكمة كعمل الصبي ، لأنه لا يعرف الحكيم ولا الحكمة وانما يعمل للذة ، وأصله الذهاب على غير استقامة.

فصل : قوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الاية : ٩٩.

انما ارتفع ما بعد «الا» لان الرافع مفرغ له فارتفع لأنه فاعل ، وكل ما فرغ الفعل لما بعد «الا» فهي فيه ملغاة ، وكل ما شغل بغيره فهي فيه مسلطة ، لان الاسم لا يتصل على ذلك الوجه الا بها.

وانما قال (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) مع أن الأنبياء والمعصومين يأمنون ذلك لامرين :

أحدهما : أنهم لا يأمنون عقاب الله للعاصين ، ولذلك سلموا من مواقعة الذنوب.

الثاني : «فلا يأمن مكر الله من المذنبين الا القوم الخاسرون» بدليل قوله (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (١) وقيل : فلا يأمن مكر الله جهلا بحكمة الله الا القوم الخاسرون.

فصل : قوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الاية : ١٠٠.

قيل : في معنى الطبع هاهنا قولان :

أحدهما : الحكم بأن المذموم كالممنوع من الايمان لا يفلح ، وهو أبلغ الذم.

الثاني : انه علامة وسمة في القلب من نكتة سوداء أن صاحبه لا يفلح تعرفه الملائكة.

وقال البلخي : شبه تعالى الكفر بالصدى الذي يركب المرآة والسيف ، لأنه

__________________

(١). سورة الدخان : ٥١.

٣٢٨

يذهب عن القلوب بحلاوة الايمان ونور الإسلام ، كما يذهب الصدى بنور السيف وصفاء المرآة ، ولما صاروا عند أمر الله لهم بالايمان الى الكفر جاز أن يضيف الطبع الى نفسه ، كما قال (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) وان كان السورة لم تزدهم ذلك.

فصل : قوله (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) الاية : ١٠٢.

فان قيل : كيف قال «أكثرهم لفاسقين» وهم كلهم فاسقون؟

قيل : يجوز أن يكون الرجل عدلا في دينه غير متهتك ولا مرتكب لما يعتقد قبحه وتحريمه ، فيكون تأويل الاية : وما وجدنا أكثرهم مع كفره الا فاسقا في دينه غير لازم لشريعته خائنا للعهد قليل الوفاء ، وان كانا واجبين (٢) عليه في دينه.

وفيها دلالة على أنه يكون في الكفار من يفي بعهده ووعده وبعيد من الخلف وان كان كافرا ، وكذلك قد يكون منهم المتدين الذي لا يرى أن يأتي ما هو فسق في دينه ، كالغصب والظلم ، فأخبر تعالى أنهم مع كفرهم كانوا لا وفاء لهم ولا تدين بمذهبهم بل كانوا يفعلون ما هو فسق عندهم ، وذلك يدل على صحة قول من يقول : تجوز شهادة أهل الذمة في بعض المواضع.

فصل : قوله (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الاية : ١٠٧ ـ ١٠٨.

العصى : العود كالقضيب يابس ، وأصله الامتناع ليبسه ، يقال عصى يعصي إذا امتنع قال الشاعر :

__________________

(١). سورة التوبة : ١٢٦.

(٢). في التبيان : وان كان ذلك واجب.

٣٢٩

تصف السيوف وغيركم يعصى بها

يا بن العيون وذاك فعل الصيقل (١)

وقيل : عصى بالسيف إذا أخذه أخذ العصى ، ويقال لمن استقر بعد تنقل : ألقى عصاه ، قال الشاعر :

فألقت عصاها واستقرت لها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر (٢)

واليد معروفة ، وهي الجارحة المخصوصة ، واليد النعمة لأنها بمنزلة ما أسديت (٣) بالجارحة ، فقد يكون اليد بمعنى تحقيق الاضافة في الفعل ، لأنه بمنزلة ما عمل باليد التي هي جارحة.

وقوله (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) معنى «إذا» هاهنا المفاجأة ، وهي بخلاف «إذا» التي للجزاء. والبياض ضد السواد ، فكان موسى عليه‌السلام أسمر شديد السمرة. وقيل أخرج يده من جبته فإذا هي بيضاء من غير سوء ، يعني برصاء ثم أعادها الى كمه فعادت الى لونها الاول ، في قول ابن عباس ومجاهد والسدي.

وقال أبو علي : كان فيها من النور والشعاع ما لم يشاهد مثله في يد أحد والناظر هو الطالب لرؤية الشيء يبصره ، لان النظر هو تطلب الإدراك للمعنى بحاسة من الحواس ، أو وجه من الوجوه.

تم التعليق من الجزء الرابع من كتاب التبيان ، وكتب معلقة وجامعه محمد ابن إدريس ، تاريخ ذي القعدة سنة اثنين وثمانين وخمسمائة حامدا مصليا.

__________________

(١). ديوان جرير ص ١٧٥.

(٢). اللسان «عصى».

(٣). في التبيان : اشتدت.

٣٣٠

التعليق من الجزء الخامس من التبيان في تفسير القرآن يشتمل على بقية الاعراف وسورة الانفال وسورة التوبة وسورة يونس وبعض هود

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فصل : قوله (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) الاية : ١٠٩.

هذا حكاية ما قال أشراف قوم فرعون : ان موسى ساحر عليم بالسحر ، وانما قيل للاشراف الملاء لامرين :

أحدهما : قال الزجاج : لأنهم مليؤون بما يحتاج اليه منهم.

الثاني : لأنه يملأ الصدور هيبتهم.

وقوم فرعون هم الجماعة الذين كانوا يقومون بأمره ومعاونته ونصرته ، ولهذا لا يضاف القوم الى الله ، فلا يقال يا قوم الله ، كما يقال يا عباد الله.

والسحر لطف الحيلة في اظهار أعجوبة يوهم المعجزة. وقال الازهري : السحر صرف الشيء عن حقيقته الى غيره. والساحر انما يكفر بادعاء المعجزة ، لأنه لا يمكنه مع ذلك علم النبوة.

٣٣١

فصل : قوله (أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) الاية : ١١١.

قال ابن عباس : أرجه أخره. وقال قتادة : معناه احبسه ، يقال : أرجأت الامر إرجاء ، ومنه قولهم المرجئة ، وهم الذين يجوزون الغفران لمرتكبي الكبائر من غير توبة.

والأخ هو النسب بولادة الأدنى من أب أو أم أو منهما ، ويقال الأخ الشفيق ويسمى الصديق الأخ تشبيها بالنسب. فأما الموافق في الدين ، فانه أخ بحكم الله في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (١) وانما دخلت «كل» وهي للعموم على واحد ، لأنه في معنى الجمع ، كأنه قال : بكل السحرة إذا أفردوا ساحرا ساحرا.

والفرق بين كل ساحر وبين بكل السحرة أنه إذا قيل بكل السحرة ، فالمعنى المطلوب للجميع ، وإذا قيل : بكل ساحر ، فالمعنى المطلوب بكل واحد منهم ، ويبين ذلك قول القائل : لكل ساحر درهم ولكل السحرة درهم ، فان الاول يفيد أن لكل واحد درهما ، والثاني أن الجميع لهم درهم.

فصل : قوله (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) الاية : ١١٣.

وفي الاية دليل لقوم فرعون على حاجته وذلته لو استدلوا وأحسنوا النظر لنفوسهم ، لأنه لم يحتج الى السحرة الا لذله وعجزه ، وكذلك في طلب السحرة الأجر دليل على عجزهم عما كانوا يدعون من القدرة على قلة الأعيان ، لأنهم لو كانوا قادرين على ذلك لاستغنوا عن طلب الأجر من فرعون ولقلبوا الصخر ذهبا ولقلبوا فرعون كلبا واستولوا على ملكه.

قال ابن إسحاق : وكان السحرة خمسة عشر ألفا. وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفا. وقال كعب الأحبار : كانوا اثنا عشر ألفا.

__________________

(١). سورة الحجرات : ١٠.

٣٣٢

فصل : قوله (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) الاية : ١١٥ ـ ١١٦.

السحر هو الخفة والافراط فيها حتى تخيل بها الأشياء عن الحقيقة والاحتيال مما يخفى على كثير من الناس.

وقال قوم : معناه خيلوا الى أعين الناس بما فعلوه من التخييل والخدع أنها تسعى ، كما قال تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (١).

وقال الرماني : معنى سحر الأعين قلبها عن صحة إدراكها بما يتخيل من الأمور المموه لها بلطف الحيلة التي تجري مجرى الخفة والشعبذة مما لا يرجع الى حقيقة والمحدث لهذا التخيل هو الله تعالى عند ما أظهروا من تلك المخاريق ، وانما نسب اليهم لأنهم عرضوا بما لو لم يعلموه لم يقع ، كما لو جعل طفلا تحت البرد فهو القاتل له في الحكم والله تعالى أماته.

وانما جاز من موسى أن يأمرهم بإلقاء السحر ، وهو كفر لامرين :

أحدهما : ان كنتم محقين فألقوا.

الثاني : ألقوا على ما يصح ويجوز لا على ما يفسد ويستحيل.

فصل : قوله (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الاية : ١١٧.

الوحي هو إلقاء المعنى الى النفس من جهة تخفى ، ولذلك لم يشعر به الا موسى عليه‌السلام حتى امتثل ما أمر به.

ومعنى «تلقف» تبتلع تناولا بفيها بسرعة منها.

والافك هو قلب الشيء عن وجهه ، ومنه «المؤتفكات» (٢) المنقلبات. والافك

__________________

(١). سورة طه : ٦٦.

(٢). سورة النجم : ٥٣.

٣٣٣

الكذب ، لأنه قلب المعنى عن جهة الصواب. والحق كون الشيء في موضعه الذي اقتضته الحكمة.

فصل : قوله (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) الاية : ١٢١ ـ ١٢٢

انما خصوا موسى وهارون بالذكر بعد دخولهما في الجملة من «آمنا برب العالمين» لامرين :

أحدهما : أن فيه معنى الذي دعا الى الايمان موسى وهارون.

الثاني : خصا بالذكر لشرف ذكرهما على غيرهما على طريق المدحة لهما والتعظيم.

والرب بالإطلاق لا يطلق الا على الله تعالى ، لأنه يقتضي أنه رب كل شيء يصح ملكه ، وفي الناس يقال : رب الدار ورب الفرس ، ومثله خالق لا يطلق الا فيه تعالى وفي غيره يقيد يقال : خالق الأديم.

قال الرماني : وانما جاز نبيان في وقت ولم يجز امامان في وقت ، لان الامام لما كان يقام بالاجتهاد كان امامة الواحد أبعد من المناقشة واختلاف الكلمة ، وأقرب الى الالفة ورجوع التدبير الى رضا الجميع.

وهذا الذي ذكره غير صحيح ، لان العقل غير دال على أن الامام يجب أن يكون واحدا ، كما أنه غير دال على أنه يجب أن يكون النبي واحدا ، وانما علم بالشرع أنه لا يكون الامام في العصر الا واحدا ، كما علمنا أنه لم يكن في عصر النبي عليه‌السلام نبي آخر ، فاستوى الأمران في هذا الباب.

فصل : قوله (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) الاية : ١٣٠.

أخبر تعالى في هذه الاية ، وأقسم عليه أنه أخذ آل فرعون بالسنين ، وهي العوام (١) المقحطة.

__________________

(١). في التبيان : الأعوام.

٣٣٤

واللام في قوله «لقد» لام القسم. والآل خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم اليه ولذلك يقال : أهل البلد ، ولا يقال : آل البلد ، لان في الأهل معنى القرب في نسب أو مكان ، وليس كذلك الآل.

فصل : (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) الاية : ١٣٢.

الاية هي المعجزة الدالة على نبوته ، وهو كل ما يعجز الخلق عن معارضته ومقاومته ، كما لا يمكن مقاومة الشبهة للحجة ، وكما لا يمكن أن يقاوم الجهل للعلم والسراب للماء وان توهم ذلك قبل النظر والاعتبار وبخيل قبل الاستدلال الذي يزول معه الالتباس.

وقد بينا حقيقة السحر فيما مضى ، وقد يسمى السحر ما لا يعرف سببه وان لم يكن محظورا ، كما روي عنه عليه‌السلام أنه قال : ان من البيان لسحر ، أو كما قال الشاعر :

وحديثها السحر الحلال لو أنه

لم يجز قتل المسلم المسحور

وذلك مجاز وتشبيه دون أن يكون ذلك حقيقة.

فصل : قوله (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ) الاية : ١٣٣.

قال أبو عبيدة : الطوفان من السيل البعاق ومن الموت الذريع.

وقوله «والقمل» اختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس في رواية عنه وقتادة ومجاهد انه بنات الجراد هو الدبا صغار الجراد الذي لا أجنحة له. وفي رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد أنه السوس الذي يقع في الحنطة. وقال أبو عبيدة : هو الحمنان واحده حمنانة. وقيل : حمنة وهو كبار القردان.

فصل : قوله (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) الاية : ١٣٤.

قيل : في معناه قولان :

أحدهما : بما تقدم اليك به وعلمك أن تدعوه به ، فانه يجيبك كما أجابك في

٣٣٥

آياتك.

الثاني : بما عهدك عند على معنى القسم. والرجز : العذاب.

فصل : قوله (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) الاية : ١٣٦.

فان قيل : كيف جاء الوعيد على الغفلة وليست من فعل البشر؟

قلنا : عنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنهم تعرضوا لها حتى صاروا لا يفطنون بها.

الثاني : أن الوعيد على الاعراض عن الآيات حتى صاروا كالغافلين عنها.

الثالث : أن المعنى وكانوا عن النعمة غافلين ودل عليه «انتقمنا».

فصل : قوله (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) الاية : ١٣٧.

معناه : ما كانوا يبنونه من الابنية والقصور ، في قول ابن عباس ومجاهد.

وقال أبو عبيدة : يعرشون معناه يبنون ، والعرش في هذا الموضع البناء ويقال : عروش مكة ، أي بناؤها.

فصل : قوله (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الاية : ١٣٨.

المتبر : المهلك المدمر عليه. والتبار : الهلاك ، ومنه قوله (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (١) ومنه التبر الذهب ، سمي بذلك لامرين : أحدهما ـ أن معدنه مهلكة وقال الزجاج : يقال لكل إناء مكسر متبر وكسارته تبر.

فصل : قوله (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) الاية : ١٤١.

أنجيناكم بمعنى خلصناكم ، لان النجاة الخلاص مما يخاف الى رفعة من الحال ، وأصله الارتفاع ، ومنه النجا أي : الارتفاع في السير ، ومنه قوله (نُنَجِّيكَ

__________________

(١). سورة نوح : ٢٨.

٣٣٦

بِبَدَنِكَ) (١) أي : نلقيك على نجوة من الأرض. والنجو كناية عن الحدث ، لأنه كان ملقى بارتفاع من الأرض للابعاد به ، وقد كان أيضا يطلب به الانخفاض للابعاد به.

وقوله «يسومونكم» معناه : يولونكم اكراها ويحملونكم إذلالا «سوء العذاب» وأصله السوم مجاوزة الحد ، فمنه السوم في البيع ، وهو تجاوز الحد في السعر الى الزيادة.

ومنه السائمة من الإبل الراعية ، لأنها تجاوز حد الأبيات (٢) للرعي ، ومنه فلان سيم الخسف أي ألزمه اكراها ، والسوء مأخوذ من أنه يسوء النفس لمشاهدته لمنافرته لها.

فصل : قوله (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الاية : ١٤٢.

قيل : في فائدة قوله (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) ولم يقل أربعين ليلة أقوال :

أحدها : أنه أراد شهرا وعشرة أيام متوالية. وقيل : انه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

ولو قال : أربعين ليلة لم يعلم أنه كان الابتداء أول الشهر ، ولا أن الأيام كانت متوالية ، ولا ان الشهر شهر بعينه ، هذا قول الفراء ، وهو قول مجاهد وابن جريح ومسروق وابن عباس وأكثر المفسرين.

وقوله (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ومعناه : فتم الميقات أربعين ليلة.

وانما قال ذلك مع أن ما تقدم دل على هذا العدد ، لأنه لو لم يورد الجملة بعد التفصيل ، وهو الذي يسميه الكتاب الفذلكة ، لظن أن قوله «وأتممناها بعشر»

__________________

(١). سورة يونس : ٩٢.

(٢). في التبيان : الإثبات.

٣٣٧

أي : كملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين ، كما يقال : تممت العشرة بدرهمين وسلمتها اليه.

والفرق بين الميقات والوقت : أن الميقات ما قدر ليعمل فيه عمل من الاعمال والوقت وقت للشيء قدره مقدر أو لم يقدره ، ولذلك قيل : مواقيت الحج ، وهي المواضع التي قدرت للإحرام به.

فصل : قوله (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) الاية : ١٤٣.

الدك : المستوي. وقال الزجاج : دكا يعني مدقوقا مع الأرض ، والدكاء والدكاوات الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها لا تبلغ أن يكون جبلا.

واختلف المفسرون في وجه مسألة موسى عليه‌السلام ذلك ، مع أن الرؤية بالحاسة لا تجوز عليه تعالى على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه سأل الرؤية لقومه حين قالوا له : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (١) بدلالة قوله (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (٢).

فان قيل : على هذا ينبغي أن يجوزوا أن يسأل الله تعالى هل هو جسم أم لا؟ أو يسأله الصعود والنزول وغير ذلك فيما لا يجوز عليه.

قلنا : عنه جوابان : أحدهما : أنه يجوز ذلك إذا علم أن في ورود الجواب من جهة الله مصلحة ، وأنه أقرب الى زوال الشبهة عن القوم بأن ذلك لا يجوز عليه تعالى ، كما جاز ذلك في مسألة الرؤية.

والجواب الثاني : أنه انما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحته بالسمع

__________________

(١). سورة البقرة : ٥٥.

(٢). سورة الاعراف : ١٥٤.

٣٣٨

وما يكون الشك فيه لا يمنع من العلم بصحة السمع ، وذلك يجوز في الرؤية التي لا تقتضي التشبيه ، لان الشك فيها لا يمنع من العلم بصحة السمع.

وانما يمنع من ذلك سؤال الرؤية التي تقتضي الجسمية والتشبيه ، لان الشك في الرؤية التي لا تقتضي التشبيه مثل الشك في رؤية الضمائر والاعتقادات وما لا يجوز عليه الرؤية.

وليس كذلك الشك في كونه جسما أو ما يتبع كونه جسما من الصعود والنزول لان مع الشك في كونه جسما لا يصح العلم بصحة السمع من حيث أن الجسم لا يجوز أن يكون غنيا ولا عالما بجميع المعلومات.

وكلاهما لا بد فيه من العلم بصحة السمع ، فلذلك جاز أن يسأل الرؤية التي لا توجب التشبيه ، ولم يجز أن يسأل كونه جسما وما أشبهه.

والجواب الثالث : أنه سأل العلم الضروري الذي يحصل في الاخرة ولا يكون في الدنيا ، لتزول عنه الخواطر والشبهات ، وللأنبياء أن يسألوا ما يزول عنهم معه الوساوس والخطرات ، كما سأل ابراهيم ربه ، فقال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (١)

وقوله «لن تراني» جواب من الله تعالى لموسى أنه لا يراه على الوجه الذي سأله ، وذلك دليل على أنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الاخرة ، لان «لن» تنفي على وجه التأييد ، كما قال (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (٢).

وهذا انما يمكن أن يعتمده من قال بالجواب الاول ، فأما من قال : انه سأل العلم الضروري لا يمكنه أن يعتمده ، لان ذلك يحصل في الاخرة.

وقوله (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) معناه : ان استقر الجبل في حال ما جعله دكا متقطعا فسوف تراني ، فلما كان ذلك محالا ، لان الشيء لا يكون متحركا ساكنا

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٦٠.

(٢). سورة الجمعة : ٦.

٣٣٩

في حال واحدة كانت الرؤية المتعلقة بذلك محالة ، لأنه لا تعلق بالمحال الا المحال

وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) معناه : ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل بأن جعله دكا.

وقوله (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) قيل : في معنى توبته ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه تاب ، لأنه سأل قبل أن يؤذن له في المسألة ، وليس للأنبياء ذلك.

الثاني : أنه تاب من صغيرة ذكرها.

الثالث : أنه قال ذلك على وجه الانقطاع اليه والرجوع الى طاعاته وان كان لم يعص ، وهذا هو المعتمد عندنا دون الأولين ، على أنه يقال لمن جوز الرؤية على الله تعالى : إذا كان موسى عليه‌السلام انما سأل ما يجوز عليه ، فمن أي شيء تاب؟ فلا بد لهم من مثل ما قلناه من الاجوبة.

فصل : قوله (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) الاية : ١٤٥.

معناه : يأخذوا بأحسن المحاسن ، وهي الفرائض والنوافل ، وأدونها في الحسن المباح ، لأنه لا يستحق عليه حمد ولا ثواب.

وقال الجبائي : أحسنها الناسخ والمنسوخ (١) المنهي عنه ، ويجوز أن يكون المراد ب «أحسنها» حسنها ، كما قال تعالى «وهو أهون عليه» (٢) ومعناه هين.

يحتمل أن يكون أراد بأحسنها الى ما دونه من الحسن ، ألا ترى أن استيفاء الدين حسن وتركه أحسن.

فصل : قوله (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) الاية : ١٤٦.

قال الجبائي والرماني : معنى (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) أي : سأصرف عن خبر

__________________

(١). في التبيان : دون المنسوخ.

(٢). سورة الروم : ٢٧.

٣٤٠