المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وسعيد بن جبير والربيع : انه ما ينتثر مما يعطى المساكين ، وروى أصحابنا انه الضغث بعد الضغث والحفنة بعد الحفنة.

قيل : ان السرف يكون في التقصير كما يكون في الزيادة ، قال الشاعر :

أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية

ما في عطائهم من ولا سرف (١)

معناه ولا تقصير ، وقيل : ولا افراط. والإسراف هو مجاوزة حد الحق ، وهو افراط وغلو ، وضده تقصير وإقتار ، ومسرف صفة ذم في العادة.

فصل : قوله (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) الاية : ١٤٣.

يريد به ثمانية أفراد ، لان كل واحد من ذلك يسمى زوجا والأنثى زوج ، وانما سمي بذلك لأنه لا يكون زوج الا ومعه آخر له.

فصل : قوله (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) الاية : ١٤٥.

الميتة : عبارة عما كان فيه حياة فقدت من غير تذكية شرعية.

والدم المسفوح هو المصبوب ، يقال : سفحت الدمع وغيره أسفحه سفحا إذا صببته ، ومنه السفاح لصب الماء صبا ، والسفح والصب والاراقة بمعنى واحد وانما خص المسفوح بالذكر ، لان ما يختلط بالدم منه مما لا يمكن تخليصه منه معفو مباح.

وقوله «أو لحم خنزير» فانه وان خص لحم الخنزير بالذكر ، فان جميع ما يكون منه من الجلد والشعر والشحم وغير ذلك محرم.

وقوله (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قيل : فيه قولان :

أحدهما : غير طالب بأكله التلذذ.

الثاني : غير واجد لتحليل ما حرم الله ، وروى أصحابنا في قوله «غير باغ»

__________________

(١). ديوان جرير ص ٣٨٩.

٣٠١

أن معناه الا أن يكون خارجا على امام عادل «ولا عاد» أي : لا يعتدي بتجاوز ذلك الى ما حرمه الله ، وروى أصحابنا أن المراد به قطاع الطريق ، فإنهم لا يرخصون بذلك على حال.

والضرورة التي تبيح أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع ، وانما قال عند التحليل للمضطر «ان ربك غفور رحيم» بأن هذه الرخصة لأنه غفور رحيم ، أي : حكم بالرخصة كما حكم بالمغفرة.

وقد استدل قوم بهذه الاية على اباحة ما عدا هذه الأشياء المذكورة ، وهذا ليس بصحيح ، لان ها هنا محرمات كثيرة غيرها ، كالسباع وكل ذي ناب وكل ذي مخلب وغير ذلك من البهائم والمسوخ ، مثل الفيلة والقردة وغير ذلك ، وكذلك أشياء كثيرة اختص أصحابنا بتحريمه ، كالجري والمارماهي وغير ذلك ، فلا يمكن التعلق بذلك.

ويمكن أن يستدل بهذه الاية على تحريم الانتفاع بجلد الميتة ، فانه داخل تحت قوله (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) ويقويه قوله عليه‌السلام «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» فأما دلالته على أن الشعر والصوف والريش منها والناب والعظم محرم فلا يدل عليه ، لان ما لم تحله الحياة لا يسمى ميتة على ما مضى القول فيه.

فصل : قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) الاية : ١٤٦.

هذه الأشياء وان كان الله تعالى حرمها على يهود في شرع موسى ، فقد نسخ تحريمها على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأباحها.

حكى ابن علية أن مالكا كان يقول : ان ما يذبحه اليهود لا يجوز أكل شحمه وان جاز أكل لحمه ، لان الشحوم كانت حراما عليهم ، وعندنا أن ما يذبحه اليهود لا يجوز استباحة شيء منه ، وهو بمنزلة الميتة ، غير أن الذي ذكره غير صحيح

٣٠٢

لأنه يلزم عليه أنه لو نحر اليهودي جملا لا يجوز أكله ، لأنه كان حراما عليهم ، وذلك باطل عندهم.

فصل : قوله (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الاية : ١٤٨.

في هذه الاية أدل دلالة على أن الله تعالى لا يشاء المعاصي والكفر ، وتكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك الى الله ، مع قيام أدلة العقل على أنه تعالى لا يريد القبيح لان ارادة القبيح قبيحة ، وهو لا يفعل القبيح ، ولان هذه صفة نقص يتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فصل : قوله (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) الاية : ١٥١.

قيل : في معناه قولان : أحدهما ـ قال ابن عباس والضحاك والسدي : كانوا لا يرون بالزنا بأسا سرا ، ويمتنعون منه علانية ، فنهى الله عنه في الحالتين.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : ما ظهر هو الزنا ، وما بطن هو المخالة.

فصل : قوله (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الاية : ١٥٢.

قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : حفظه عليه الى أن يكبر فيسلم اليه.

وقيل : معناه تثميره بالتجارة ، في قول مجاهد والضحاك والسدي.

والثالث ما قاله ابن زيد : ان يأخذ القيم عليه بالمعروف دون الكسوة.

وقوله «حتى يبلغ أشده» اختلفوا في حد الأشد ، فقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك وعامر الشعبي : هو الحلم. وقال السدي : ثلاثون سنة. وقال قوم : ثمانية عشر سنة ، كأنه (١) أكثر ما يقع عندهم البلوغ واستكمال العقل. وقال قوم : انه

__________________

(١). في التبيان : لأنه.

٣٠٣

لاحد له ، وانما المراد به حتى يكمل عقله ، ولا يكون سفيها يحجر عليه. والمعنى حتى يبلغ أشده ، فيسلم اليه ما له أو يأذن في التصرف في ماله ، وحذف لدلالة الكلام عليه ، وهذا أقوى الوجوه.

فصل : قوله (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) الاية : ١٥٥.

قوله «مبارك» فالبركة ثبوت الخير بزيادته ونموه ، وأصله الثبوت ، قال الشاعر :

ولا ينجي من الغمرات الا

براكاء القتال أو الفرار

ومنه تبارك الله ، أي : تعالى بصفة اثبات لا أول له ولا آخر ، وهذا تعظيم لا يستحقه غير الله تعالى.

فصل : قوله (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) الاية : ١٥٧.

فان قيل : كيف قال (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) بأن يجحدها ، ولو فرضنا أنه ضم الى ذلك قتل النفوس وانتهاك المحارم كان أظلم؟

قلنا : عنه جوابان : أحدهما للمبالغة ، لخروجه الى المنزلة الداعية الى كل ضرب من الفاحشة ، والاخر أنه لا خصلة من ظلم النفس أعظم من هذه الخصلة.

فصل : قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) الاية : ١٦٠.

معناه : فله عشر حسنات أمثالها ، ويجوز في العربية فله عشر مثلها ، فيكون المثل في لفظ الواحد وفي معنى الجميع ، كما قال (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (١) ومن قال أمثالها فهو كقوله (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٢) وانما جاز في مثل التوحيد في معنى الجمع ، لأنه على قدر ما يشبه به ، تقول : مررت بقوم مثلكم وبقوم أمثالكم.

قال أكثر أهل العدل : ان الواحد من العشرة مستحق وتسعة تفضل وقال بعضهم : المعنى فله من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها ، وهذا لا يجوز لأنه يقبح أن

__________________

(١). سورة النساء : ١٣٩.

(٢). سورة محمد : ٣٨.

٣٠٤

يعطي غير العامل مثل ثواب العامل ، كما يقبح أن يعطي الأطفال مثل ثواب الأنبياء ومثل إجلالهم وإكرامهم.

وانما لم يتوعد على السيئة الا مثلها ، لان الزائد على ذلك ظلم ، والله يتعالى عن ذلك ، وزيادة الثواب على الجزاء تفضل واحسان ، فجاز أن يزيد عليه.

قال الرماني : ولا يجوز على قياس عشر أمثالها عشر صالحات بالاضافة ، لان المعنى ظاهر في أن المراد عشر حسنات أمثالها. وقال غيره : ان الصالحات لا تعد لأنها أسماء مشتقة ، وانما تعد الأسماء والمثل اسم ، فلذلك جاز العدد به.

فان قيل : كيف تجمعون بين قوله (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وبين (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) (١) وقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (٢) ولان المجازاة بدخول الجنة مثابا فيها على وجه التأبيد لا نهاية له ، فكيف يكون ذلك عشر أمثالها وهل هذا الا ظاهر التناقض؟

قلنا : الجواب عن ذلك ما ذكره الزجاج وغيره أن المعنى في ذلك أن جزاء الله على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس ، ويضاعف الله عن ذلك بما بين عشرة أضعاف الى سبعمائة ضعف الى أضعاف كثيرة ، ففائدة ذلك أنه لا ينقص من الحسنة عن عشر أمثالها وفيما زاد على ذلك يزيد من يشاء من فضله وإحسانه.

وقال آخرون : المعنى في ذلك أن الحسنة لها مقدار من الثواب معلوم لله تعالى فأخبر الله تعالى أنه لا يقتصر بعباده على ذلك ، بل يضاعف لهم الثواب حتى يبلغ بذلك ما أراد وعلم أنه أصلح لهم ولم يرد العشرة بعينها ، لكن أراد الاضعاف ، كما يقول

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٦١.

(٢). سورة البقرة : ٢٤٥.

٣٠٥

القائل : لئن أسديت الي معروفا لا كافينك بعشر أمثاله وعشر أضعافه ، وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشرة ، وليس يريدون بذلك العدد المعين لا أكثر منه وانما يريدون ما ذكرناه.

وقال قوم : عنى بهذه الاية الاعراب. وأما المهاجرون فحسناتهم سبعمائة ، ذهب اليه أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر.

فصل : قوله (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الاية : ١٦١.

قوله «ملة أبيكم» الملة الشريعة ، وهي مأخوذة من الاملاء ، كأنه ما يأتي به السمع ويورده الرسول من الشرائع المتجددة فيمله على أمته ليكتب أو يحفظ

فأما التوحيد والعدل ، فواجبان بالعقل ولا يكون فيهما اختلاف والشرائع تختلف ، ولهذا يجوز أن يقال : ديني دين الملائكة ، ولا يقال : ملتي ملة الملائكة فالملة دين ، وليس كل دين ملة ، وانما وصف النبي عليه‌السلام بأنه ملة ابراهيم ، ترغيبا فيه للعرب لجلالة ابراهيم في نفوسها وغيرهم من أهل الأديان.

فصل : قوله (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي) الاية : ١٦٢.

قيل : في معنى «ونسكي» ثلاثة أقوال :

أحدها : قال سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك : ذبيحتي للحج والعمرة. وقال الحسن : نسكي ديني. وقال الزجاج والجبائي : نسكي عبادتي. قال الزجاج : والأغلب عليه أمر الذبح الذي يتقرب به الى الله ، ويقولون : فلان ناسك بمعنى عابد.

وقوله (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) يقولون : حيي يحيى حياة ومحيا ، ومات يموت موتا ومماتا.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ

٣٠٦

دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) الاية : ١٦٥.

رفع الناس بعضهم فوق بعض في الرزق وقوة الأجسام وحسن الصورة وشرف الأنساب وغير ذلك بحسب ما علم من مصالحهم.

وقوله (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) معناه فعلنا (١) بكم ذلك ليختبركم فيما أعطاكم والقديم تعالى لا يبتلي خلقه ليعلم ما لم يكن عالما به لأنه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها ، وانما قال ذلك لأنه يعامل معاملة الذي يبلو مظاهرة في العدل وانتفاء من الظلم.

وقوله (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) انما وصف نفسه بأنه سريع العقاب مع وصفه تعالى بالامهال ، ومع أن عقابه في الاخرة من حيث كان كل آت قريبا ، فهو اذن سريع كما قال (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٢).

__________________

(١). في التبيان : فعل.

(٢). سورة النحل : ٧٧.

٣٠٧

سورة الاعراف

فصل : قوله (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) الاية : ٤

«بياتا» يعني في الليل «أو هم قائلون» يعني : في وقت القيلولة وهو نصف النهار ، وأصله الراحة ، ومعنى أقلته البيع ، أي : أرحته منه باعفائي إياه من عقده وقلت إذا استرحت الى اليوم في وقت القائلة والأخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة ، فلذلك خص الوقتين بالذكر.

فصل : قوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) الاية : ٦ ـ ٧.

معنى قوله (بِعِلْمٍ) قيل : فيه وجهان : أحدهما بأنا عالمون والاخر بمعلوم ، كما قال (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) (١) أي : من معلومه.

فان قيل : كيف يجمع بين قوله (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢) وقوله (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ)؟

قلنا : فيه قولان : أحدهما ـ أنه نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام ،

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٥٦.

(٢). سورة القصص : ٧٨.

٣٠٨

وانما يسألهم سؤال توبيخ وتبكيت.

الثاني : تنقطع المسألة عند حصولهم في العقوبة ، كما قال (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (١) وقال في موضع آخر (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٢) والوجه ما قلناه انهم يسألهم سؤال توبيخ قبل دخولهم في النار ، فإذا دخلوها انقطع سؤالهم.

والسؤال في اللغة على أربعة أقسام :

أحدها : سؤال استرشاد واستعلام ، كقولك أين زيد؟ ومن عندك؟ وهذا لا يجوز عليه تعالى.

الثاني : سؤال توبيخ وتقريع ، وهو خبر في المعنى ، كقولك ألم أحسن اليك فكفرت نعمتي؟ ومنه قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (٣) وقال الشاعر :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

ولو كان سائلا لما كان مادحا. وقال العجاج :

أطربا وأنت قنسري

والدهر بالإنسان دواري

وهذا توبيخ لنفسه.

الثالث : سؤال التحضيض وفيه معنى الامر ، كقولك هلا يقوم وألا تضرب زيدا أي : قم واضرب زيدا.

والرابع : سؤال تقرير بالعجز والجهل ، كقولك للرجل : هل تعلم الغيب؟ وهل تعرف ما يكون غدا؟ كما قال الشاعر :

وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

__________________

(١). سورة الرحمن : ٩.

(٢). سورة الصافات : ٢٤.

(٣). سورة يس : ٦٠.

٣٠٩

والمعنى : وليس يصلح العطار ما أفسد الدهر.

فصل : قوله (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) الاية : ٨ ـ ٩.

الوزن في اللغة هو مقابلة أحد الشيئين بالآخر حتى يظهر مقداره ، وقد استعمل في غير ذلك تشبيها به ، منها وزن الشعر بالعروض ، ومنها قولهم فلان يزن كلامه وزنا.

قيل : في معنى الوزن في الاية أربعة أقوال :

قال الحسن : موازين الاخرة لها كفتان بالحسنات والسيئات توضعان فيها وتوزنان ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : انما توضع صحائف الاعمال فتوزن ، وهو قول عبد الله بن عمر.

وقال مجاهد : الوزن عبارة عن العدل في الاخرة وأنه لا ظلم فيها على أحد ، وهو قول البلخي ، وهو أحسن الوجوه ووجه حسن ذلك ، وان كان الله تعالى عالما بمقادير المستحقات ما فيه من المصلحة في دار التكليف وحصول الترهيب به والتخويف.

والحق : وضع الشيء موضعه على وجه يقتضيه الحكمة. والثقل عبارة عن الاعتماد اللازم سفلا ونقيضه الخفة ، وهي اعتماد لازم علوا.

فصل : قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) الاية : ١٠.

عند جميع النحويين أن معايش لا يهمز ، ومتى همز كان لحنا ، لان الياء فيها أصلية ، لأنه من عاش يعيش ، ولم يعرض فيها علة كما عرضت في أوائل ، وهي في مدينة زائدة ، ومثله مسألة ومسائل ومنارة ومناور ومقام ومقاوم ، قال الشاعر :

وانى لقوام مقاوم لم يكن

جرير ولا مولى جرير يقومها

وحد المعيشة الرماني بأنها وصلة من جهة مكسب المطعم والمشرب والملبس

٣١٠

الى ما فيه الحياة.

والأرض هذه الأرض المعروفة ، وفي الأصل عبارة عن قرار يمكن أن يتصرف عليه الحيوان ، فعلى هذا لو خلق مثلها لكانت أرضا حقيقة.

والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم والحمد مثله. وقيل : الفرق بينهما أن كل شكر حمد ، وليس كل حمد شكرا ، لان الإنسان يحمد على إحسانه الى نفسه ولا يشكر عليه ، كما أنه يذم على إساءته الى نفسه ، ولا يجوز أن اكفره (١) من أجل إساءته الى نفسه.

فصل : قوله (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الاية : ١١.

السجود هو وضع الجبهة على الأرض ، وأصله الانخفاض من قول الشاعر :

ترى الا كم فيها سجدا للحوافر (٢)

قيل : في معنى السجود لآدم قولان :

أحدهما ـ أنه كان تكرمة لآدم عبادة لله ، لان عبادة غير الله قبيحة لا يأمر الله بها ، وعند أصحابنا كان ذلك دلالة على تفضيل آدم على الملائكة. وقال أبو علي الجبائي : أمروا أن يجعلوه قبلة.

فصل : قوله (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) الاية : ١٢.

قيل : في معنى دخول «لا» في (مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) ثلاثة أقوال :

أحدها : أن تكون «لا» صلة مؤكدة ، كما قال (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (٣) ومعناه ليعلم ، كقوله (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) وكما قال الشاعر :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله (٤)

__________________

(١). في التبيان : يكفر.

(٢). الكامل ١ / ٢٥٨.

(٣). سورة الحديد : ٢٩.

(٤). اللسان «نعم».

٣١١

معناه : أبى جوده البخل ، وروى أبو عمرو بن العلاء : أبى جوده لا البخل بالجر ، كأنه قال : أبى جوده كلمة البخل ، ورواه كذا عن العرب. وقال الزجاج : فيه وجه ثالث لا البخل على النصب بدلا من «لا» كأنه قال : أبي جوده أن يقول لا فقال نعم.

الثاني : انه دخله معنى ما دعاك الى أن لا تسجد.

الثالث : ما ألجأك الى أن لا تسجد.

واستدل بهذه الاية على أن الامر من الله يقتضي الإيجاب ، بأن الله تعالى ذم إبليس على امتناعه من السجود حين أمره ، فلو كان الامر يقتضي الندب لما استحق العتب بالمخالفة وترك الامتثال ، والامر بخلاف ذلك في الاية.

فصل : قوله (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) الآيتان : ١٤ ـ ١٥.

الوجه في مسألة إبليس الانظار مع علمه أنه مطرود ملعون مسخوط عليه ، علم بأن الله تعالى يظاهر الى عباده بالإحسان ويعمهم بانعامه ، فلم يصرف ارتكابه المعصية وإصراره على الخطيئة عن المسألة طامعا في الاجابة.

وقيل : في معنى قوله (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) هل فيه اجابة له الى ما التمسه أم لا؟ فقال السدي وغيره : انه لم يجبه الى يوم يبعثون ، لان يوم القيامة وهو يوم بعث لا يوم موت ، ولكن انظر الى يوم الوقت المعلوم ، كما ذكره في آية أخرى في سورة صاد (١) ، ويقوى ذلك قوله (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وليس ينظر أحد في يوم القيامة على هذا المعنى.

الثاني : أنه سأل تأخير الجزاء بالعقوبة الى يوم يبعثون لما خاف من تعجيل العقوبة فأنظر على هذا. وقال قوم : أنظر الى يوم القيامة والأقوى الوجه الثاني ،

__________________

(١). آية ٧٩ ـ ٨١.

٣١٢

لأنه لا يجوز أن يعلم الله أحدا من المكلفين الذين ليسوا بمعصومين أنه يبقيهم الى وقت معين ، لان في ذلك إغراء له بالقبيح ، من حيث أنه يعلم أنه باق الى ذلك الوقت فيرتكب القبيح ، فإذا قارب الوقت جدد التوبة ، فيسقط عنه العقاب.

وهل يجوز اجابة دعاء الكافر أم لا؟ فيه خلاف ، فذهب أبو علي الى أنه لا يجوز لما في ذلك من التعظيم والتبجيل لمجاب الدعوة في مجرى العادة ، ألا ترى أنه إذا قيل فلان مجاب الدعوة دل ذلك على أنه من صالحي المؤمنين. وأجاز ذلك أبو بكر بن الاخشاذ على وجه الاستصلاح.

فصل : قوله (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) الاية : ١٦.

قيل : في معنى هذه الباء أقوال : أحدها أنها بمعنى القسم ، كقولك بالله لأفعلن.

وقيل في معنى «أغويتني» ثلاثة أقوال :

أحدها : قال أبو علي الجبائي والبلخي : معناه بما خيبتني من جنتك ، كما قال الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي : من يحب. وقال قوم : يجوز أن يكون إبليس اعتقد الجبر وعنى فبما أضللتني ، وليس يبعد ذلك مع كفره. وقال آخرون : يجوز أن يكون أراد انك امتحنتني بالسجود لآدم فغويت عنده فقال أغويتني ، كما قال (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١).

الثاني : قال ابن عباس وابن زيد : معناه حكمت بغوايتي ، كقولك أضللتني أي حكمت بضلالتي.

وإغواء الله تعالى إبليس لم يكن سببا لضلالة ، لأنه تعالى علم أنه لو لم يغوه لوقع منه مثل الضلال الذي وقع أو أعظم. وقعوده على الصراط معناه انه يقعد

__________________

(١). سورة التوبة : ١٢٦.

٣١٣

على طريق الحق ليصد عنه بالإغواء حتى يصرفه الى طريق الباطل عداوة له وكيدا.

فصل : قوله (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الاية : ١٩.

نهاهما على وجه الندب ألا يقربا شجرة مخصوصة ، وعندنا أن ذلك لم يكن محرما عليهما ، بل نهاهما نهي تنزيه دون حظر ، وبالمخالفة فاتهما ثواب كثير ، وان لم يفعلا بذلك قبيحا ولا أخلا بواجب.

ومعنى الظالمين على مذهبنا هاهنا المراد به الباخسين نفوسهم ثوابا كثيرا والمفوتين نعيما عظيما ، وعلى مذهب من يقول بأن ذلك كان صغيرا وقعت مكفرة لا بد أن يحمل الظلم هاهنا على نقصان الثواب الذي انحبط بمقاربة الصغيرة له.

فأبو علي ذهب الى أن ذلك وقع منه نسيانا. وقال البلخي : وقع منه تأويلا لأنه نهى عن جنس الشجرة ، فتأوله على شجرة بعينها ، وهذا خطأ ، لان ما يقع سهوا أو نسيانا لا يحسن المؤاخذة به. وأما الخطأ في التأويل ، فقد زاد من قال ذلك قبيحا آخر ، أحدهما ارتكاب المنهي ، والثاني الخطأ في الدليل (١) به.

فصل : قوله (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) الاية : ٢٠.

الوسوسة : الدعاء الى أمر بضرب خفي ، كالهينمة (٢) والخشخشة ، قال الأعشى :

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

كما استعان بريح عشرق زجل

ولم يقصد آدم وحواء عليهما‌السلام بالتناول من الشجرة القبول من إبليس والطاعة له ، بل انما قصدا عند دعائه شهوة نفوسهما ، ولو قصدا القبول منه لكان ذلك قبيحا لا محالة.

__________________

(١). في التبيان : التأويل.

(٢). في التبيان : كالهمهمة.

٣١٤

فان قيل : كيف يموه عليهما أن الاكل من الشجرة يوجب الانقلاب من الصورة البشرية الى صورة الملائكة ، أو يوجب الخلود في الجنة.

قلنا : عن ذلك جوابان : أحدهما ـ أنه أوهم أن ذلك في حكم الله لكل من أكل من تلك الشجرة.

الثاني : أنه أراد الا أن تكونا بمنزلة الملائكة في علو المنزلة.

واستدل جماعة المعتزلة بهذه الاية على أن الملائكة أفضل من البشر والأنبياء منهم. وهذا ليس بشيء ، لأنه لم يجر هاهنا ذكر لكثرة الثواب وأن الملائكة أكثر ثوابا من البشر ، بل كان قصد إبليس أن يقول لآدم : ما نهاك الله عن أكل الشجرة الا تكونا ملكين ، فان كنتما ملكين فقد نهاكما ، وحيث لستما من الملائكة فما نهاكما الله عن أكلها.

وتلخيص الكلام أن المنهي من أكل الشجرة هم الملائكة فقط ، ومن ليس منهم فليس بمنهي ولا تعلق لذلك بكثرة الثواب ولا بقلته.

فصل : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ) الاية : ٢٢.

الغرور : اظهار النصح مع ابطان الغش.

وقوله (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي : ظهرت عوراتهما ، ولم يكن ذلك على وجه العقوبة ، لان الأنبياء لا يستحقون العقوبة ، وانما كان ذلك لتغير المصلحة ، لأنهما لما تناولا من الشجرة اقتضت المصلحة إخراجهما من الجنة ونزعهما لباسهما الذي كان عليهما واهباطهما الى الأرض.

وقوله (وَطَفِقا) قال ابن عباس : معنى طفق جعل يفعل ، ومثله قولهم ظل يفعل وأخذ يفعل.

وقوله «يخصفان» معناه : يقطفان من ورق الجنة ليستترا به ، ويحوزان بعضه الى بعض ، ومنه المخصف المثقب الذي يخصف به النعل ، والخصاف الذي

٣١٥

يرقع النعل.

فصل : قوله (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الاية : ٢٤.

البعض هو أحد قسمي العدة وأحد قسمي العشرة بعضها ، وأحد قسمي الاثنين بعضها ، ولا بعض للواحد لأنه لا ينقسم.

والمتاع الانتفاع بما فيه عاجل استلذاذ ، لان المناظر الحسنة يستمتع بها ، لما فيها من عاجل اللذة.

والحين الوقت قصيرا كان أو طويلا.

فصل : قوله (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) الاية : ٢٦.

هذه الاية خطاب من الله تعالى لأهل كل زمان من المكلفين على ما يصح ، ويجوز خطاب المعدوم بمعنى أن يراد بالخطاب إذا كان المعلوم أنه سيوجد وتتكامل فيه شروط التكليف ، ولا يجوز أن يراد من لا يوجد ، لان ذلك عبث لا فائدة فيه.

والريش الأثاث من متاع البيت من فراش أو نحو ذلك. وقال ابن زيد : الريش ما فيه الجمال. وقال معبد (١) الجهني : الرياش المعاش.

فصل : قوله (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الاية : ٢٧.

قال أبو علي : في الاية دلالة على بطلان قول من يقول : انه يرى الجن من حيث أن الله عم أن لا نراهم ، قال : وانما يجوز أن يروا في زمن الأنبياء ، بأن يكثف الله أجسامهم.

وقال أبو الهذيل وأبو بكر ابن الاخشاذ : يجوز أن يمكنهم الله ان يتكثفوا فيراهم حينئذ من يختص بخدمتهم.

__________________

(١). في التبيان : سعيد.

٣١٦

وقبيل الشيطان قال الحسن وابن زيد : هو نسله ، وبه قال أبو علي ، واستدل على ذلك بقوله (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (١).

وقوله (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ) معناه : انا حكمنا بذلك ، لأنهم يتناصرون على الباطل ، ومثله قوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢) أي : حكموا بذلك حكما باطلا.

فصل : قوله (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الاية : ٢٨.

في هذه الاية أدل دليل وأوضح حجة على قول المجبرة ، ومعنى قوله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لأنهم ان قالوا لا نقضوا مذهبهم ، وان قالوا نعم افتضحوا في قولهم.

وقال الزجاج : معنى قوله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ) أتكذبون عليه؟.

فان قيل : انما أنكر الله قولهم ان الله أمرنا بها ، ولا يدفع ذلك أن يكون مريدا لها ، لان الامر منفصل من الارادة.

قلنا : الامر لا يكون أمرا الا بارادة المأمور به ، فما أراده فقد رغب فيه ودعا اليه ، فاشتركا في المعنى.

فصل : قوله (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) الاية : ٣٠.

الهدى والضلال في الاية يحتمل أربعة أوجه :

أحدها : أنه حكم بأن هؤلاء مهتدون مدحا لهم ، وحكم بأن أولئك ضالون ذما لهم.

الثاني : هدى بأن لطف بهؤلاء بما اهتدوا عنده ، وصار كالسبب لضلال أولئك

__________________

(١). سورة الكهف : ٥١.

(٢). سورة الزخرف : ١٩.

٣١٧

بتخيرهم لينتقلوا عن فاسد مذهبهم.

الثالث : أنه هدى هؤلاء الى طريق الثواب.

فصل : قوله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) الاية : ٣٢.

ظاهر الاية يدل على أنه لا يجوز لاحد تجنب الزينة والملاذ الطيبة على وجه التحريم. فأما من اجتنبها على أن غيرها أفضل منها فلا مانع منه.

وقيل : في معنى الطيبات قولان : أحدهما المستلذ من الرزق. والثاني الحلال من الرزق. والاول أشبه.

فصل : قوله (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) الاية : ٣٣.

الحرمات الجنايات ، والمحرم القرابة التي لا تحل تزوجها. والفواحش جمع فاحشة وهي أقبح القبائح.

وقوله (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) يعني ما علن وما خفي ، وقد قدمنا اختلاف المفسرين ، وأنشد ابن الانباري في أن الإثم هو الخمر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يصنع بالعقول (١)

وقال الفراء : الإثم ما دون الحد.

فصل : قوله (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) الاية : ٣٨.

الجن جنس من الحيوان مستترون عن أعين البشر لرقتهم ، يغلب عليهم التمرد في أفعالهم ، لان الملك أيضا مستتر لكن يغلب عليه أفعال الخير. والانس جنس من الحيوان يتميز بالصورة الانسانية.

وقوله (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) يعني : في دينها لا في نسبها. فأما

__________________

(١). اللسان «أثم».

٣١٨

قوله (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (١) يعني : أنه منهم في النسب.

فصل : قوله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الاية ٤٣.

نزع الغل في الجنة تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ، وإعطاء كل نفس مناها فلا يتمنى ما لغيرها.

وقيل : فيما ينزع به الغل من قلوبهم قولان :

أحدهما : قال أبو علي : يلطف الله لهم في التوبة حتى يذهب حقد العداوة.

الثاني : بخلوص المودة حتى صار منافيا لغل الطباع.

فصل : قوله (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) الاية : ٤٦.

الاعراف المكان المرتفع ، أخذ من عرف الديك وعرف الفرس ، وكل مرتفع من الأرض يسمى عرفا ، لأنه بظهوره أعرف مما انخفض. وقيل : هو سور بين الجنة والنار.

واختلفوا في الذين هم على الاعراف على أربعة أقوال : أحدها ـ أنهم فضلاء المؤمنين ، في قول الحسن ومجاهد. قال أبو علي الجبائي : هم الشهداء وهم عدول الاخرة. وقال أبو جعفر عليه‌السلام : هم الائمة وفيهم النبي عليه‌السلام.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الاعراف كثبان بين الجنة والنار ، فيوقف عليها كل نبي وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه ، كما يوقف قائد الجيش مع الضعفاء من جنده ، وقد سبق المحسنون الى الجنة ، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه : أنظروا الى إخوانكم المحسنين قد سبقوا الى الجنة فيسلم المذنبون عليهم.

فصل : قوله (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) الاية : ٤٧.

__________________

(١). سورة الاعراف : ٨٤.

٣١٩

حد الرماني النار بأن قال : جسم لطيف فيه الحرارة والضياء ، وزيد فيه ومن شأنه الاحتراق.

فصل : قوله (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) الاية : ٥١.

اللعب طلب المدح بما لا يحسن أن يطلب به مثل حال الصبي في اللعب ، واشتقاقه من اللعاب ، وهو المرور على غير استواء ، وأصل اللهو الانصراف عن الشيء ومنه قوله «إذا استأثر الله بشيء لاه عنه» أي : انصرف عنه.

وقوله (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : نتركهم من رحمتنا ، بأن نجعلهم في النار ، في قول ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي.

الثاني : أنه نعاملهم معاملة المنسيين في النار ، لأنه لا يجاب لهم دعوة ولا يرحم لهم عبرة ، في قول الجبائي.

فصل : قوله (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاية : ٥٤.

الوجه في خلقه إياها في ستة أيام مع أنه قادر على انشائها دفعة واحدة قيل فيه وجوه :

أحدها : أن تدبير الحوادث على إنشاء شيء بعد شيء على ترتيب يدل على كون فاعله عالما قديرا يصرفه على اختياره ويجريه على مشيته. وقال أبو علي : ذلك لاعتبار الملائكة يخلق شيء بعد شيء.

وقال الرماني : يجوز أن يكون الاعتبار بتصور الحال في الاخبار ، ومعناه إذا أخبر الله تعالى بأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام كان فيه لطف للمكلفين فكان ذلك وجه حسنه.

٣٢٠