المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

الله عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر ، فلما رأى الكوكب ـ وقيل : هي الزهرة ـ رأى عظمها وإشراقها وما هي عليه من عجيب الخلق وكان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون أنها آلهة قال : هذا ربي؟ على سبيل الفكر والتأمل لذلك ، فلما غابت وأفلت وعلم أن الأفول لا يجوز على الله علم أنها محدثة صغيرة لتنقلها وكذلك كانت حاله في رؤية القمر والشمس.

وقال في آخر كلامه : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله وعلمه بأن صفات المحدثين لا تجوز عليه.

فان قيل : كيف يجوز أن يقول : هذا ربى مخبرا؟ وهو يجوز أن يكون مخبره لا على ما أخبر ، لأنه غير عالم بذلك ، وذلك قبيح في العقول ، ومع كمال عقله لا بد أن يلزمه التحرز من الكذب؟

قلنا : عن ذلك جوابان :

أحدهما : أنه قال ذلك فارضا مقدرا لا مخبرا ، بل على سبيل الفكر والتأمل كما يقول الواحد منا لغيره إذا كان ناظرا في شيء وممثلا (١) بين كونه على احدى صفتيه : أنا أفرضه على أحدهما لننظر فيما يؤدي ذلك الفرض اليه من صحة أو فساد ولا يكون بذلك مخبرا ، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها أن يفرض كونها قديمة ليبين ما يؤدي اليه ذلك الفرض من الفساد.

والثاني : أنه أخبر عن ظنه وقال : يجوز أن يكون المفكر المتأمل ظانا في حال نظره وفكره ما لا أصل له ، ثم يرجع عنه بالادلة والعلم ، ولا يكون ذلك منه قبيحا.

فان قيل : ظاهر هذه الآيات يدل على أن ابراهيم ما كان رأى هذه الكواكب

__________________

(١). في التبيان : ومحتملا.

٢٨١

قبل ذلك ، لان تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها ، فكيف يجوز أن يكون الى مدة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم.

قلنا : لا يمتنع أن يكون ما رأى السماء الا في ذلك الوقت ، لأنه روي أن أمه ولدته في مغارة لا يرى السماء ، فلما قارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكر فيها ، وقد يجوز أيضا أنه رآها غير أنه لم يفكر فيها ولا نظر في دلائلها ، لان الفكر لم يكن واجبا عليه ، فلما كمل عقله وحركته الخواطر فكر في الشيء كأنه يراه قبل ذلك ولم يكن مفكرا فيه.

والثالث : أن ابراهيم لم يقل ما تضمنته الآيات على وجه الشك ولا في زمان مهلة النظر ، بل كان في تلك الحال عالما بالله وبما يجوز عليه ، وأنه لا يجوز أن يكون بصفة الكواكب ، وانما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه والتنبيه لهم على أن ما يغيب وينتقل من حال الى حال لا يجوز أن يكون إلها معبودا ، لثبوت دلالة الحدث فيه ، ويكون قوله «هذا ربى» محمولا على أحد وجهين :

أحدهما : أى هو كذلك عندكم وعلى مذهبكم ، كما يقول أحدنا للمشبه على وجه الإنكار عليه : هذا ربه (١) جسم يتحرك ويسكن ، وان كان عالما بفساد ذلك.

والثاني : أن يكون قال ذلك مستفهما وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه ، كما قال الأخطل.

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خيالا (٢)

وقال آخر :

لعمرك ما أدري وان كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمانيا

وقال ابن أبى ربيعة :

__________________

(١). في التبيان : ربى.

(٢). ديوان الأخطل ص ٤١.

٢٨٢

ثم قال تحبها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتراب (١)

فان قيل : حذف حرف الاستفهام انما يجوز إذا كان في الكلام عوض منه نحو «أم» الدالة عليه ولا يستعمل مع فقد العوض ، وفي الأبيات عوض عن حرف الاستفهام ، وليس ذلك في الاية.

قلنا : قد يحذف حرف الاستفهام مع ثبوت العوض تارة ، وأخرى مع فقده إذا زال اللبس ، وبيت ابن أبي ربيعة ليس فيه عوض ولا فيه حرف الاستفهام ، وإذا جاز أن يحذفوا حرف الاستفهام لدلالة الخطاب ، فألا جاز أن يحذفوا لدلالة العقل ، لان دلالة العقل أقوى من غيرها.

والرابع : أن ابراهيم قال ذلك على وجه المحاجة لقومه بالنظر ، كما يقول القائل : إذا قلنا ان لله ولدا لزمنا أن يكون له زوجة وأن يطأ النساء وأشباه ذلك. وليس هذا على وجه الإقرار والاخبار والاعتقاد لذلك ، بل على وجه المحاجة ، فيجعلها مذهبا ليرى خصمه المعتقد لها فسادها.

وقوله «اني وجهت وجهي» معناه : أخلصت عبادتي وقصدت بها الى الله الذي خلق السماوات والأرض. ومعنى الحنيف المائل الى الاستقامة على وجه الرجوع فيه.

فصل : قوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الاية : ٨١.

قوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) أى : حجة ، لان السلطان هو الحجة في أكثر القرآن ، وذلك يدل على أن كل من قال قولا واعتقد مذهبا بغير حجة مبطل.

وقوله «ان كنتم تعلمون» معناه : ان كنتم تستعملون عقولكم وعلومكم.

وفي الاية دلالة على فساد قول من يقول بالتقليد وتحريم النظر والحجاج ، لان الله تعالى مدح ابراهيم لمحاجته لقومه وأمر نبيه بالاقتداء به في ذلك ، فقال

__________________

(١). ديوان ابن أبى ربيعة ص ١١٧ ، وفيه «النجم» بدل «القطر».

٢٨٣

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) (١) ثم قال بعد ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أى : بأدلتهم اقتده.

فصل : قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) الاية : ٨٢.

الظلم المذكور في الاية هو الشرك عند أكثر المفسرين ابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد وحماد بن زيد وأبي بن كعب وسلمان رحمة الله عليه ، قال أبي : ألم تسمع الى قوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) وهو قول حذيفة.

وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : لما نزلت هذه الاية شق على الناس وقالوا : يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ فقال : انه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا الى ما قال العبد الصالح : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقال الجبائي والبلخي وأكثر المعتزلة : انه يدخل فيه كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة ، فان من هذه صفته (٣) لا يكون آمنا ولا مهتديا ، ولو كان الامر على ما قالوه انه يختص الشرك لوجب أن يكون مرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا أن يكون آمنا وذلك خلاف القول بالارجاء.

وهذا الذي ذكروه خلاف أقاويل المفسرين من الصحابة والتابعين وما قاله البلخي لا يلزم ، لأنه قول بدليل الخطاب ، لان المشرك غير آمن ، بل هو مقطوع على عقابه بظاهر الاية. ومرتكب الكبيرة غير آمن ، لأنه يجوز العفو ويجوز المؤاخذة ، وان كان ذلك معلوما بدليل.

وظاهر قوله (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) وان كان عاما في كل ظلم ، فلنا أن

__________________

(١). سورة الانعام : ٨٣.

(٢). سورة لقمان : ١٣.

(٣). في التبيان : صورته.

٢٨٤

نخصه بدليل أقوال المفسرين ، وغير ذلك من الادلة الدالة على أنه يجوز العفو من غير توبة ، وروي عن النبي عليه‌السلام أن الاية مخصوصة بإبراهيم. وقال عكرمة : مختصة بالمهاجرين.

وأما الظلم في أصل اللغة ، فقد قال الاصمعي : هو وضع الشيء في غير موضعه قال الشاعر يمدح قوما :

هرت الشقاشق ظلامون للجزر (١)

فوصفهم أنهم ظلامون للجزر ، لأنهم عرقبوها فوضعوا النحر في غير موضعه ، وكذلك الأرض المظلومة ، سميت بذلك لأنه صرف عنها المطر ، ومنه قول الشاعر :

والنوى كالحوض بالمظلومة الجلد (٢)

سماها مظلومة لأنهم كانوا في سفر ، فتحوضوا حوضا لم يحكموا صنعته ولم يضعوه في مواضعه.

فصل : قوله (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الاية : ٨٤ ـ ٨٥.

في الاية دلالة على أن الحسن والحسين من ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لان عيسى جعله الله من ذرية ابراهيم أو نوح ، وانما كانت أمه من ذريتهما.

والهداية في الآيات كلها هو الإرشاد الى الثواب دون الهداية التي هي نصب الادلة.

فصل : قوله (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)

__________________

(١). مقاييس اللغة ٣ / ٤٦٩.

(٢). اللسان «ظلم».

٢٨٥

الاية : ٩٢.

وقوله (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني : بالقرآن. ويحتمل أن يكون كناية عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لدلالة الكلام عليه ، وهذا يقوى مذهبنا في أنه لا يجوز أن يكون مؤمنا ببعض ما أوجب الله عليه دون بعض ، وبين أنهم «على صلاتهم» يعني على أوقات صلواتهم يحافظون ، بمعنى يراعون أوقاتها ليؤدوها في الأوقات ويقيموا بإتمام ركوعها وسجودها وجميع فرائضها.

وقيل : سميت مكة أم القرى ، لأنها أول موضع سكن في الأرض. وقيل لان الأرض كلها دحيت من تحتها فكانت أما لها.

فصل : قوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الاية : ٩٤.

المراد لقد تقطع وصلكم بما كنتم تتألفون عليه.

فان قيل : كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل؟ وأصله الافتراق والتباين ، وعلى هذا قالوا بأن الخليط إذا فارق ، وفي الحديث : ما بان من الحي فهو ميتة.

قيل : انه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين ، نحو بيني وبينك شركة وبيني وبينه صداقة ورحم صار لذلك بمنزلة الوصلة وعلى خلاف الفرقة فلذلك صار «لقد تقطع بينكم» بمعنى لقد تقطع وصلكم.

فصل : قوله (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) الاية ٩٦.

اختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس والسدي والربيع وقتادة ومجاهد والجبائي : انهما يجريان في أفلاكهما بحساب تقطع الشمس الفلك في سنة ويقطعها القمر في شهر بتقدير قدره الله تعالى ، فهو كقوله و (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (١) وقوله

__________________

(١). سورة الرحمن : ٥.

٢٨٦

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١) وقال قتادة : معناه أنه جعل الشمس والقمر ضياء والاول أجود.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) الاية : ٩٨.

المعنى : منكم مستقر في الأرحام ومنكم مستودع في الأصلاب. وقال الزجاج يحتمل أن يكون المعنى مستقرا في الدنيا موجودا ، ومستودعا في الأصلاب لم يخلق بعد. وقال الحسن : المستقر في القبر والمستودع في الدنيا.

فصل : قوله (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) الاية : ٩٩.

القنوان جمع قنو كصنوان وصنو ، وهو العذق ، يقال لواحدة قنو وقنو وقني ويثنى قنوان على لفظ الجمع وقنيان ، وانما يميز بينهما باعراب النون ، ويجمع قنوان وقنوان ، وفي الجمع القليل ثلاثة أقناء ، فالقنوان لغة أهل الحجاز ، والقنوان لغة قيس ، قال امرؤ القيس :

فأنت أعاليه وآدت أصوله

ومال بقنوان من البسر أحمر (٢)

قوله «مشتبها وغير متشابه» قال قتادة : متشابه ورقة مختلف ثمره. ويحتمل أن يكون المراد مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم. ومعنى «ينعه» نضجه وبلوغه حين يبلغ.

وفي الاية دلالة على بطلان قول من يقول بالطبع ، لان من الماء الواحد والتربة الواحدة يخرج الله ثمارا مختلفة وأشجارا متباينة ، ولا يقدر على ذلك غير الله تعالى.

فصل : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ

__________________

(١). سورة يس : ٤٠.

(٢). ديوان امرئ القيس ص ٨٤.

٢٨٧

سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) الاية : ١٠٠.

الهاء والميم في قوله «وخلقهم» يحتمل أن يكون عائدة الى الكفار الذين جعلوا لله الجن شركاء. ويحتمل أن يكون عائدة على الجن ، ويكون المعنى : وجعلوا لله شركاء الجن والله خلق الجن ، فكيف يكونوا شركاء له.

وقوله (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ) معناه : تخرصوا ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم.

فصل : قوله (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) الاية : ١٠١.

الفرق بين الابتداع والاختراع ، أن الابتداع فعل ما لم يسبق الى مثله. والاختراع فعل ما لم يوجد سبب له ، ولذلك يقال : البدعة والسنة ، فالبدعة احداث ما لم يسبق اليه مما خالف السنة ، ولا يوصف بالاختراع غير الله ، لان حده ما ابتدئ في غير محل القدرة عليه ، ولا يقدر على ذلك الا القادر للنفس ، لان القادر بقدرة اما أن يفعل مباشرا ، وحده ما ابتدئ في محل القدرة عليه ، أو متولدا وحده ما وقع بحسب غيره.

وهو على ضربين : أحدهما تولده في محل القدرة عليه ، والاخر أنه يتعداه بسبب هو الاعتماد لا غير ، ولا يقدر على الاختراع أصلا. فأما الابتداع ، فقد يقع منه لأنه قد يفعل فعلا لم يسبق اليه.

وقوله (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يحتمل أمرين : أحدهما ـ أن يكون أراد ب (خَلَقَ) قدر ، فعلى هذا تكون الاية عامة ، لأنه تعالى مقدر كل شيء. ويحتمل أن يكون أحدث كل شيء ، فعلى هذا يكون مخصوصا ، لأنه لم يحدث أشياء كثيرة من مقدورات غيره ، وما هو معدوم لم يوجد على مذهب من يسميها أشياء وكقديم آخر لأنه يستحيل.

٢٨٨

وقوله (هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عام لان الله تعالى يعلم الأشياء كلها قديمها ومحدثها ، وموجودها ومعدومها ، لا يخفى عليه خافية.

فصل : قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الاية : ١٠٣.

في هذه الاية دلالة واضحة على أنه تعالى لا يرى بالأبصار ، لأنه تعالى تمدح بنفي الإدراك عن نفسه. وكل ما كان نفيه مدحا غير متفضل به ، فاثباته لا يكون الا نقصا ، والنقص لا يليق به تعالى ، فإذا ثبت أنه لا يجوز إدراكه ولا رؤيته. وهذه الجملة تحتاج الى بيان أشياء : أحدها أنه تعالى تمدح.

وقوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) قيل : في معنى اللطيف قولان :

أحدهما : أنه اللاطف بعباده بسبوغ الانعام ، غير أنه عدل من وزن فاعل الى فعيل للمبالغة.

الثاني : انه لطيف التدبير ، وحذف لدلالة الكلام عليه.

فصل : قوله (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) الاية : ١٠٤.

سمي العلم والتبيين ابصارا وسمي الجهل عمى توسعا ، وفي ذلك دلالة على أن الخلق غير مجبرين ، بل هم مخيرون في أفعالهم.

فصل : قوله (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) الاية : ١٠٥.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» بألف وفتح التاء ، الباقون بلا ألف «درست» بفتح التاء. أصل الدرس استمرار التلاوة. قال أبو علي النحوي : من قرأ دارست معناه دارست أهل الكتاب وذاكرتهم.

فصل : قوله (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الاية : ١٠٦.

٢٨٩

الإيحاء هو إلقاء المعنى الى النفس من جهة يخفى منه.

وقوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أمر للنبي عليه‌السلام بالاعراض عن المشركين ، ولا ينافي ذلك أمره إياه بدعائهم الى الحق وقتالهم على مخالفته لامرين :

أحدهما : أنه أمره بالاعراض عنهم على وجه الاستجهال لهم فيما اعتقدوا من الاشراك بربهم.

الثاني : قال ابن عباس : نسخ ذلك بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١).

فصل : قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الاية : ١٠٧.

ان قيل : كيف قال تعالى (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) والمشيئة لا تتعلق الا بفعل يصح حدوثه ، ولا تتعلق بألا يكون الشيء؟.

قلنا : التقدير لو شاء الله أن يكونوا على غير الشرك قسرا ما أشركوا ، فمتعلق المشيئة محذوف ، فمراد هذه الاية المشيئة حالهم التي ينافي الشرك قسرا بالاقتطاع عن الشرك عجزا أو منعا أو إلجاء ، وانما لا يشاء الله هذه الحال لأنها تنافي التكليف.

وانما لم يمنع العاصي من المعصية ، لأنه انما أتى من قبل نفسه ، والله تعالى فعل به جميع ما فعل بالمطيع من ازاحة العلة ، فإذا لم يطع وعصى كانت الحجة عليه ، وربما كان في بقائه لطف للمؤمن فيجب تبقيته.

وليس لاحد أن يقول : الاية دالة على أنه لم يرد هدايتهم ، لأنه لو أراد ذلك لاهتدوا ، وذلك أنه لو لم يرد أن يهتدوا لم يكونوا عصاة بمخالفة الاهتداء ، لان العاصي هو الذي خالف ما أريد منه ، ولما صح أمرهم أيضا بالاهتداء.

فصل : قوله (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الاية : ١٠٨.

في الاية دلالة على أن المحق يلزمه الكف عن سب السفهاء الذين يتسرعون

__________________

(١). سورة التوبة : ٦.

٢٩٠

الى سبه مقابلة له ، لأنه بمنزلة البعث على المعصية والمفسدة فيها.

فصل : قوله (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) الاية : ١١١.

قرأ ابن عامر ونافع وأبو جعفر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء ، الباقون بضمها قال أبو زيد : لقيت فلانا قبلا وقبلا وقبيلا ومقابلة كله بمعنى وهو المواجهة وقال أبو عبيدة : قبلا ، أي معاينة.

وفي الاية دلالة على أنه لو علم الله أنه لو فعل بهم من الآيات ما اقترحوها لآمنوا أنه كان يفعل ذلك بهم ، وأنه يجب في حكمته ذلك ، لأنه لو لم يجب ذلك لما كان لهذا الاحتياج معنى.

وتعليله بأنه انما لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا ، وذلك يبين أيضا فساد قول من يقول : يجوز أن يكون في معلوم الله ما إذا فعله بالكافر آمن ، لأنه لو كان ذلك معلوما لفعله ولآمنوا والامر بخلافه.

وقوله «زخرف القول» معناه : هو المزين ، يقال زخرفه زخرفة إذا زينه.

فصل : قوله (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الاية : ١١٤.

فان قيل : كيف يصح على أصلكم في الموافاة ونفي الإحباط وصف الكفار بأنهم يعلمون الحق وذلك مما يستحق به الثواب ، ولا خلاف أن الكافر لا ثواب معه.

قلنا : عنه جوابان : أحدهما ـ أن تكون الاية مخصوصة لمن آمن منهم في المستقبل ، فانا نجوز أن يكون في الحال عالما بالله وبأن القرآن حق ، ثم يظهرون الإسلام فيما بعد فيتكامل الايمان ، لان الايمان لا يحصل دفعة واحدة ، بل يحصل جزءا فجزءا ، لان أوله العلم بحدوث الأجسام ، ثم ان لها محدثا ، ثم العلم بصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز ، ثم العلم بالثواب والعقاب وما يتبعهما

٢٩١

وذلك يحصل في أوقات كثيرة.

والثاني : أن يكونوا علموه على وجه لا يستحقون به الثواب ، لأنهم يكونون نظروا في الادلة لا لوجه وجوب ذلك عليهم بل لغير ذلك ، فحصل لهم العلم وان لم يستحقوا به ثوابا.

ويحتمل أن يكون المراد به الذين آتيناهم الكتاب المؤمنين المسلمين دون أهل الكتاب ، ويكون المراد بالكتاب القرآن ، لأنا قد بينا أن الله سماه كتابا بقوله (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (١).

فصل : قوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الاية : ١١٦.

الخرص الكذب ، يقال خرص يخرص خرصا وخروصا وتخرص تخرصا واخترص اختراصا ، وأصله القطع ، ومنه خرص النخل يخرص خرصا إذا جزره.

وفي الاية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف ، وبطلان قولهم أن الله تعالى لا يتوعد من لا يعلم الحق ، لان الله تعالى بين في هذه الاية أنهم يتبعون الظن ولا يعرفونه وتوعدهم على ذلك ، وذلك بخلاف مذهبهم.

فصل : قوله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) الاية : ١١٨.

قوله (فَكُلُوا) وان كان لفظه لفظ الامر ، فالمراد به الاباحة ، لان الاكل ليس بواجب ولا مندوب ، الا أن يكون في الاكل استعانة على طاعة الله ، فانه يكون الاكل مرغبا فيه وربما كان واجبا ، فأما ما يمسك الرمق فخارج عن ذلك ، لان عند ذلك يكون الإنسان ملجإ الى تناوله.

وقوله «(مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، فالذكر المسنون هو قول اسم الله. وقيل : كل اسم يختص الله تعالى به أو صفة مختصة ، كقوله بسم الله الرحمن الرحيم ، أو

__________________

(١). سورة هود : ١.

٢٩٢

باسم القديم ، أو باسم القادر لنفسه ، أو العالم لنفسه ، أو ما يجري مجرى ذلك ، والاول مجمع على جوازه ، والظاهر يقتضي جواز غيره ، ولقوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١).

وقوله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) خطاب للمؤمنين. وفيه دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة ، لان الظاهر يقتضي أن ما لا يسمى عليه لا يجوز أكله بدلالة قوله (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) لان هذا يقتضي مخالفة المشركين في أكلهم ما لم يذكر اسم الله ، فأما من لم يذكر اسم الله عليه سهوا ونسيانا. فانه يجوز أكله على كل حال.

والاية تدل على أن ذبائح الكفار لا يجوز أكلها ، لأنهم لا يسمون الله عليها ، ومن سمى منهم لا يعتقد وجوب ذلك ، بل يعتقد أن الذي يسمته هو الذي أبد شرع موسى أو عيسى وكذب محمد بن عبد الله ، وذلك لا يكون الله تعالى ، فاذن هم ذاكرون اسم شيطان ، والاسم انما يكون لمسمى مخصوص بالقصد ، وذلك مفتقر الى معرفته واعتقاده ، والكفار على مذهبنا لا يعرفون الله تعالى ، فكيف يصح منهم تسميته تعالى ، وفي ذلك دلالة واضحة على ما قلناه.

ومعنى قوله (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) ان كنتم عرفتم الله وعرفتم رسوله وصحة ما آتاكم به من عند الله. وهذا التحليل عام لجميع الخلق. وان خص به المؤمنين بقوله (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) لان ما حلل الله للمؤمنين فهو حلال لجميع المكلفين ، وما حرم عليهم حرام على الجميع.

فصل : قوله (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الاية : ١١٩.

__________________

(١). سورة الاسراء : ١١٠.

٢٩٣

قوله (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) معناه : الا إذا خفتم على نفوسكم (١) الهلاك من الجوع وترك التناول ، فحينئذ يجوز لكم تناول ما حرمه الله في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (٢) وما حرمه في هذه الاية.

واختلفوا في مقدار ما يسوغ له حينئذ تناوله ، فعندنا لا يجوز له أن يتناول الا ما يمسك الرمق ، وفي الناس من قال : يجوز له أن يشبع منه إذا اضطر اليه ، وأن يحمل منها معه حتى يجد ما يأكل.

قال الجبائي : في الاية دلالة على أن ما يكره عليه من أكل هذه الأجناس أنه يجوز له أكله ، لان المكره يخاف على نفسه مثل المضطر.

فصل : قوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) الاية : ١٢١.

نهى الله تعالى في هذه الاية عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، وذلك صريح في وجوب التسمية على الذبيحة ، لأنها لو لم تكن واجبة لكان ترك التسمية غير محرم لها.

فأما من ترك التسمية ناسيا ، فمذهبنا أنه يجوز أن يؤكل ذبيحته بعد أن يكون معتقدا لوجوبها. وكان الحسن يقول : يجوز له أن يأكل منها. قال ابن سيرين : لا يجوز أن يأكل منها ، وبه قال الجبائي.

فأما إذا تركها متعمدا ، فعندنا لا يجوز أكله بحال ، وفيه خلاف بين الفقهاء فقال قوم : إذا كان تارك التسمية متعمدا من المسلمين جاز أكل ذبيحته. وقال آخرون : لا يجوز أكلها كما قلناه.

وذلك يدل على أن ما يذبحه أهل الكتاب لا يجوز أكله ، لأنهم لا يعتقدون

__________________

(١). في التبيان : أنفسكم.

(٢). سورة المائدة : ٤.

٢٩٤

وجوب التسمية ولا يذكرونها ، ومن ذكر اسم الله منهم فإنما يقصد به اسم من أبد شرعهم ولم يبعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كذبه ، وذلك ليس هو الله ، فلا يجوز أكل ذبيحتهم : ولأنهم لا يعرفون الله ، فلا يصح منهم القصد الى ذكر اسمه.

فأما من عدا أهل الكتاب ، فلا خلاف في تحريم ما يذبحونه.

وليست الاية منسوخة ولا شيء منها ، ومن ادعى نسخ شيء منها فعليه الدلالة وقال الحسن وعكرمة : نسخ منها ذبائح الذين أوتوا الكتاب بقوله (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) (١) وعندنا أن ذلك مخصوص بالحبوب دون الذبائح.

فصل : قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) الاية : ١٢٣.

معنى قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) أي : جعلنا ذا المكر من المجرمين ، كما جعلنا ذا النور من المؤمنين ، فكما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك ، الا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم ، وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم ، لان كل واحد منهم جعل بمعنى صار به كذا ، الا أن الاول باللطف ، والثاني بالتمكين من المكر ، فصار كأنه جعل كذا.

وقوله «ليمكروا فيها» اللام لام العاقبة ، كما قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) وقال الشاعر :

فاقسم لو قتلوا مالكا

لكنت لهم حية راصدة

وام سماك فلا تجزعي

فللموت ما تلد الوالدة

وليس المراد بها لام الغرض ، لأنه تعالى لا يريد أن يمكروا وقد قال (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٣) وارادة القبيح قبيحة.

__________________

(١). سورة المائدة : ٦.

(٢). سورة القصص : ٨.

(٣). سورة الذاريات : ٥٦.

٢٩٥

فصل : قوله (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الاية : ١٢٥.

قوله (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) يعني يعاقبه ، أو يعدل به عن طريق الجنة يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يفعل ما يعجز عنه ولا يستطيعه لثقله عليه.

وقوله (يَصَّعَّدُ) من المشقة وصعوبة الشيء ، ومن ذلك قوله (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (١) وقوله «سأرهقه صعودا» (٢) أي : سأغشيه عذابا صعودا ، أي : شاقا.

وأما قوله (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) فانه يحتمل أمرين :

أحدهما : التسمية كقوله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٣) أي : سموهم بذلك ، فكذلك يسمى القلب ضيقا لمحاولته الايمان وحرجا عنه.

والاخر : الحكم كقولهم اجعل البصرة بغداد ، وجعلت حسني قبيحا ، أي : كمت بذلك ، ولا يكون هذا من الجعل الذي يراد به الخلق ، ولا الذي يراد به الإلقاء ، كقولك جعلت متاعك بعضه على بعض ، وقوله (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) (٤).

وقيل : في معنى الهداية والإضلال في الاية قولان :

أحدهما : أن يريد بالهدى تسهيل السبيل الى الإسلام بالدلائل التي ينشرح بها الصدر والإضلال تصعيب السبيل اليه بالدلائل التي يضيق بها الصدر ، لان حاله أوجبت تغليظ المحنة عليه من غير أن يكون هناك مانع له ولا تدبير غيره أولى منه ، وانما هو حض على الاجتهاد في طلب الحق حتى ينشرح بالدلائل الصدر.

__________________

(١). سورة الجن : ١٧.

(٢). سورة المدثر : ١٧.

(٣). سورة الزخرف : ١٩.

(٤). سورة الانفال : ٣٨.

٢٩٦

والثاني : أن يراد بالهداية الهداية الى الثواب وبالإضلال إضلال عن الثواب والسلوك به الى العقاب ، ويكون التقدير : من يرد الله أن يهديه للثواب في الاخرة يشرح صدره للإسلام في الدنيا ، بأن يفعل له اللطف الذي يختار عنده الإسلام ، ومن يرد أن يعاقبه ويعدل به عن الثواب الى النار يجعل صدره ضيقا حرجا بما سبق من سوء اختياره للكفر جزاء على فعله ، ويخذله ويخلي بينه وبين ما يريده من الكفر ، أو يحكم على قلبه بالضيق والحرج ، أو يسميه بذلك على ما فسرناه.

وهذا الإضلال لا يكون الا مستحقا ، كما أن تلك الهداية لا تكون الا مستحقة ، وقد سمى تعالى الثواب هداية في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) (١) وقال (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٢) والهداية بعد القتل انما هي الثواب في الجنة.

وقد سمى العقاب ضلالا في قوله (يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (٣) وقوله (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٤) هذه الجملة معنى قول أبي علي الجبائي والبلخي ، والاول قول الرماني.

فصل : قوله (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الاية : ١٢٧.

قيل : في معنى السلام ها هنا قولان :

أحدهما : قال الحسن والسدي : انه الله وداره الجنة.

والثاني : قال الزجاج والجبائي : انها دار السلامة الدائمة من كل آفة وبلية.

وقوله : «عند ربهم» قيل : في معناه قولان :

أحدهما : مضمون عند ربهم حتى يوصله اليهم.

__________________

(١). سورة الاعراف : ٤٢.

(٢). سورة محمد : ٤ ـ ٥.

(٣). سورة ابراهيم : ٢٧.

(٤). سورة البقرة : ٢٦.

٢٩٧

الثاني : في الاخرة يعطيهم إياه.

فصل : قوله (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الاية : ١٢٨.

قيل : في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال :

أحدها : الا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك من الاستحقاق من وقت الحشر الى زمان المعاقبة ، وتقديره : خالدين فيها على مقادير الاستحقاق الا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك ، لان ما فات يجوز إسقاطه بالعفو عنه ، والفائت من الثواب لا يجوز تركه ، لأنه بخس لحقه ، ذكره الرماني والبلخي والطبري والزجاج والجبائي.

الثاني : الا ما شاء الله من تجديد الجلود بعد احتراقها (١) وتصريفهم في أنواع العذاب معها ، والتقدير : خالدين فيها على صفة واحدة الا ما شاء الله من هذه الأمور.

وقال قوم : معنى ما من وتقديره الا من شاء الله إخراجه من النار من المؤمنين الذين لهم ثواب بعد استيفاء عقابهم.

فصل : قوله (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) الاية : ١٣٠.

وقوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) احتجاج عليهم بأن الله بعث اليهم الرسل ، ولا بد أن يكون خطابا لمن بعث اليهم الرسل. فأما أول الرسل ، فلا يمكن أن يكونوا داخلين فيه ، لأنه كان يؤدي الى ما لا نهاية لهم من الرسل.

قوله «منكم» وان كان خطابا لجميعهم والرسل من الانس خاصة ، فانه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الاخر ، كما يغلب المذكر على المؤنث ، وكما قال

__________________

(١). في التبيان : احتراقهم.

٢٩٨

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) بعد قوله (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) (١) وانما يخرج اللؤلؤ من الملح دون العذب ، هذا قول أكثر المفسرين.

وقال الضحاك : ذلك يدل على أنه تعالى أرسل رسلا من الجن ، وبه قال الطبري واختاره البلخي أيضا ، وهو الأقوى.

واستدل بهذه الاية قوم على أن الله لا يجوز أن يعاقب الا بعد أن يرسل الرسل وأن التكليف لا يصح من دون ذلك ، وهذا ينتقض بما قلناه من أول الرسل ، وأنه صح تكليفهم وان لم يكن لهم رسل ، فالظاهر مخصوص على أن ذلك مخصوص بمن علم الله أن الشرع مصلحة له ، فان الله لا يعاقبهم الا بعد أن يرسل اليهم الرسل ويقيم عليهم الحجة بتعريفهم مصالحهم ، فإذا خالفوا بعد ذلك استحقوا العقاب.

فصل : قوله (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) الاية : ١٣٥.

المكانة : الطريقة ، يقال هو يعمل على مكانته ، أي : على طريقته وجهته. وقال ابن عباس والحسن : على ناحيتكم.

فصل : قوله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) الاية : ١٣٦.

الحرث : الزرع ، والحرث الأرض التي تثار للزرع ، ومنه حرثها يحرثها حرثا ، ومنه قوله (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) (٢) لان المرأة للولد كالأرض للزرع.

والانعام المواشي من الإبل والبقر والغنم ، مأخوذ من نعمة الوطء ، ولا يقال للذوات الحافر : أنعام.

وانما جعلوا الأوثان شركاءهم ، لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها

__________________

(١). سورة الرحمن : ١٩.

(٢). سورة البقرة : ٢٢٣.

٢٩٩

عليها ، فشاركوها في نعمهم.

وقوله (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : قال ابن عباس وقتادة : انه إذا اختلط بشيء مما جعلوه لاوثانهم (١) مما جعلوه لاوثانهم بما جعلوه لله ردوه الى ما لاوثانهم ، وإذا اختلط بشيء مما جعلوه لله لم يردوه الى ما لله.

وقال أبو علي : انهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه للأوثان.

فصل : قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) الاية : ١٣٧.

معناه : لو شاء أن يضطرهم الى تزكه ، أو لو شاء أن يمنعهم منه لفعل ، ولو فعل المنع والحيلولة لما فعلوه ، لكن ذلك ينافي التكليف.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) الاية : ١٤١.

قيل : في معناه قولان : أحدهما ـ ما قال ابن عباس والسدي : هو ما عرش الناس من الكروم ونحوها ، وهو رفع بعض أغصانها على بعض. وغير معروشات ما يكون من قبل نفسه في البراري والجبال.

وقوله (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فيه قولان :

أحدهما : قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن أسلم والحسن وسعيد ابن المسيب وطاوس وقتادة والضحاك : انه الزكاة العشر أو نصف العشر.

الثاني : روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام وعطاء ومجاهد وابن عمر (٢)

__________________

(١). في «ق» : لأربابهم.

(٢). في التبيان : ابن عامر.

٣٠٠