المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

الاية أضعف آية في القرآن اعرابا.

فان قيل : كيف يجوز أن يقف أولياء الميت على كذب الشاهدين أو خيانتهما حتى حل لهم أن يحلفوا؟

قيل : يجوز ذلك بوجوه : أحدها ـ أن يسمعا اقرارهما بالخيانة من حيث لا يعلمان ، أو شهد عندهم شهود عدول بأنهم سمعوهما يقران بأنهما كذبا او خانا ، أو تقوم البينة عندهم على أنه أوصى بغير ذلك ، أو على أن هذين لم يحضرا الوصية وانما تخرصا (١) بغير ذلك من الأسباب.

فصل : قوله (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) الاية : ١٠٨.

قوله (ذلِكَ أَدْنى) معناه : ذلك الاحلاف والأقسام ، أو ذلك الحكم أقرب الى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أي : حقها وصدقها ، لان اليمين يردع عن أمور كثيرة لا تردع عنها مع عدم اليمين.

واختلفوا في ان اليمين هل يجب على كل شاهدين أم لا؟ فقال ابن عباس انما هي على الكافر خاصة. وهو الصحيح. وقال غيره : هي على كل شاهدين وصيين إذا ارتيب بهما.

وقوله (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) يعني : أهل الذمة يخافوا أن ترد أيمان على أولياء الميت ، فيحلفوا على خيانتهم ، فيفتضحوا أو يغرموا وينكشف بذلك للناس بطلان شهادتهم ويسترد منهم ما أخذوه بغير حق حينئذ.

فصل : قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الاية : ١٠٩.

قيل : فيه ثلاثة أقوال : أولها ـ قال الحسن والسدي ومجاهد : انهم قالوا

__________________

(١). في التبيان : أو يعرفان.

٢٦١

ذلك لذهولهم من هول ذلك المقام.

فان قيل : كيف يجوز ذهولهم مع أنهم آمنون لا يخافون؟ كما قال (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١) وقال (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

قيل : ان الفزع الأكبر دخول جهنم. وقوله (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) هو كقولك للمريض لا خوف عليك ، ولا بأس عليك ، مما يدل على النجاة من تلك الحال وخالف أبو علي في هذا ولم يجز الا ما نحكيه عنه.

الثاني : قال ابن عباس ومجاهد : في رواية أخرى أن معناه لا علم لنا الا ما علمتنا ، فحذف لدلالة الكلام عليه.

الثالث : قال الحسن : في رواية أخرى وأبو علي الجبائي : ان معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا ، لان ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء.

فصل : قوله (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) الاية : ١١٠.

قيل : في معنى الكتاب قولان : أحدهما ـ أنه أراد الخط. الثاني : الكتب فيكون على طريق الجنس ، ثم فصله بذكر التوراة والإنجيل.

والخلق هو الفعل المقدر من مقدار يعرفه الفاعل ، فعلى هذا جميع أفعاله تعالى يوصف بأنها مخلوقة ، لأنه ليس فيها شيء على وجه السهو والغفلة ولا على سبيل المجازفة ، ومعنى ذلك أنه خلق من الطين كهيئة الطير ، وسماه خلقا لأنه كان يقدره.

فصل : قوله (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً) الاية : ١١٢.

الفرق بين الاستطاعة والقدرة أن الاستطاعة انطباع الجوارح للفعل ، والقدرة

__________________

(١). سورة الأنبياء : ١٠٣.

(٢). سورة آل عمران : ٧٠.

٢٦٢

هي ما أوجبت كون القادر قادرا ، ولذلك يوصف تعالى بأنه قادر ولا يوصف بأنه مستطيع.

والمائدة الخوان ، لأنها تميد بما عليها ، أي : تحركه.

فصل : قوله (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) الاية : ١١٦.

قوله (وَإِذْ قالَ) فحقيقة إذ أن يكون لما مضى وهذا مستقبل. ويحتمل ثلاثة أوجه :

أولها : أن يكون معطوفا على ما قبله ، كأنه قال (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) ثم قال : وذلك إذ يقول يا عيسى.

الثاني : قال البلخي : أن يكون لما رفع الله عيسى قال له ذلك ، فيكون القول ماضيا.

والثالث ذكره أيضا : البلخي ان «إذ» إذا استعملت بمعنى إذا فيصح حينئذ أن يكون القول من الله يوم القيامة ، ومثله (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) (١) كأنه قال إذ تفزعون. قال أوس :

الحافظ الناس في الزمان إذا

لم يرسلوا تحت مائذ ربعا

يقال : إذا وإذ في معنى واحد ، قال بعض أهل اليمن :

وندمان يزيد الكأس طيبا

سقيت إذا تغورت النجوم

فقال : إذا والمعنى إذ ، لأنه انما يخبر عما مضى. فأما لفظ «قال» في معنى يقول فمستعمل كثيرا وان كان مجازا. قال الله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٢) والمراد ينادي ، وقد استعمل المستقبل بمعنى الماضي ، قال زياد الأعجم

__________________

(١). سورة سبأ : ٥١.

(٢). سورة الاعراف : ٤٣.

٢٦٣

في المغيرة بن المهلب يرثيه بعد موته :

فإذا مررت بقبره فانحر به

خوض الركاب وكل طرف سابح

وانضج جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخادم وذبائح (١)

وقيل : في قوله «الهين» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنهم لما عظموهما تعظيم الالهية أطلق ذلك عليهما ، كما قال (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٢) وانما أراد تقريعهم على معصيتهم.

والثاني : أنهم جعلوه إلها وجعلوا مريم والدة له ، ميزوها من جميع البشر تمييزا شابهت الالهية ، وأطلق ذلك لأنه مستخرج من قصدهم وان لم يكن صريح ألفاظهم على طريقة الإلزام لهم.

الثالث : أنهم لما سموه إلها وعظموها فكانا مجتمعين سموهما الهين على طريقة العرب ، كقولهم القمران للشمس والقمر ، والعمران لابي بكر وعمر ، قال الشاعر :

جزانى الزهدمان جزاء سوء

وكنت المرء يجزى بالكرامة (٣)

يريد زهدما وقيسا ابني حزن القيسين ، وهذا كثير.

وقوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي : تعلم غيبي ولا أعلم غيبك ، لان ما في نفس عيسى وما في قلبه هو ما يغيبه عن الخلق وانما يعلمه الله ، وسمي ما يختص الله بعلمه بأنه في نفسه على طريق ازدواج الكلام ، كما قال (وَمَكَرُوا

__________________

(١). الأغاني ١٥ / ٣٠٨.

(٢). سورة التوبة : ٣٣.

(٣). اللسان «زهدم».

٢٦٤

وَمَكَرَ اللهُ) (١) و (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢) و (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٣) و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤).

__________________

(١). سورة آل عمران : ٥٤.

(٢). سورة البقرة : ١٥.

(٣). سورة النساء : ١٤١.

(٤). سورة الشورى : ٤٠.

٢٦٥

سورة الانعام

فصل : قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) الاية : ٢.

معنى قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي : أنشأكم واخترعكم من طين ، ومعناه :

خلق آباءكم الذي هو آدم وأنتم من ذريته ، وهو بمنزلة الأصل لنا من طين فلما كان أصلنا من طين ، جاز أن يقول خلقكم من طين.

وقوله «ثم قضى» معناه : حكم بذلك.

فصل : قوله (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) الاية : ٣.

قوله (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) يحتمل معنيين :

أحدهما : قال الزجاج والبلخي وغيرهما : انه المعبود في السماوات والأرض والمتفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض ، لان حلوله فيهما ، أو في شيء منهما لا يجوز عليه ولا يجوز أن يقول هو زيد في البيت والدار وأنت تريد أنه يدبرها ، الا أن يكون في الكلام ما يدل على أن المراد به التدبير ، كقول القائل : فلان الخليفة في الشرق والغرب ، لان المعنى في ذلك أنه المدبر فيهما.

ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، كأنه قال : انه هو الله وهو في السماوات

٢٦٦

وفي الأرض ، ومثل ذلك قوله (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (١).

فصل : قوله (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) الاية : ٦.

معنى «من قرن» من أمة. قال الحسن : القرن عشرون سنة. وقال ابراهيم : أربعون سنة.

وقال ميسرة : هو عشر سنين. وحكى الزجاج والفراء أنه ثمانون سنة. وقال الزجاج : عندي أن القرن هو أهل كل مدة كان فيها نبي ، أو كان فيها طبقة من أهل العلم ، قلت السنون أو كثرت ، فيسمى ذلك قرنا ، بدلالة قوله عليه‌السلام «خيركم قرني» يعني أصحابي.

واشتقاق القرن من الاقتران وكل طبقة مقترنين في وقت قرن والذين يأتون بعدهم ذووا اقتران.

فصل : قوله (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الاية : ١٥.

في هذه الاية دلالة على من زعم أن من علم الله أنه لا يعصى ، فلا يجوز أن يتوعده بالعذاب ، وعلى من زعم أنه لا يجوز أن يقال فيما قد علم أنه لا يكون أنه ان كان لوجب فيه كيت وكيت ، لأنه كان المعلوم لله تعالى أن النبي عليه‌السلام لا يعصي معصية يستحق بها العقاب يوم القيامة ومع هذا فقد توعده به.

فصل : قوله (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) الاية : ١٨.

ومثل قوله (فَوْقَ عِبادِهِ) قوله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) والمراد أنه أقوى منهم وأنه مقتدر عليهم ، لان الارتفاع في المكان لا يجوز عليه تعالى ، لأنه من صفات الأجسام فاذن المراد بذلك أنه مستعل عليهم مقتدر عليهم ، وكل شيء قهر شيئا فهو مستعل عليه. ولما كان العباد تحت تسخيره وتذليله وأمره ونهيه وصف بأنه فوقهم.

__________________

(١). سورة يونس : ٢٢.

(٢). سورة الفتح : ١٠.

٢٦٧

فصل : قوله (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) الاية : ١٩.

قوله (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وقف تام ، أي : من بلغه القرآن أن الذي أنذرتكم به فقد أنذرته كما أنذرتكم.

فصل : قوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الاية : ٢٠.

هذه الاية لا بد من أن تكون مخصوصة بجماعة من أهل الكتاب ، وهم الذين عرفوا التوراة والإنجيل ، فعرفوا صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بما كانوا عرفوه من صفاته المذكورة ودلائله الموجودة في هذين الكتابين ، كما عرفوا أبناءهم ، وشبه معرفتهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بمعرفتهم أبناءهم في أنها صحيحة لا مرية فيها ، ولم يرد أنهم عرفوا نبوته اضطرارا كما عرفوا أبناءهم ضرورة.

على أن أحدا لا يعرف أن من ولد على فراشه ابنه على الحقيقة ، لأنه يجوز أن يكون من غيره ، وان حكم بأنه ولده لكونه مولودا على فراشه ، فصار معرفتهم بالنبي آكد من معرفتهم لأبنائهم لهذا المعنى.

فصل : قوله (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الآيتان : ٢٣ ـ ٢٤.

فان قيل : كيف قالوا وحلفوا أنهم ما كانوا مشركين وقد كانوا مشركين؟ وهل هذا إلا كذب؟ والكذب قبيح ، ولا يجوز من أهل الاخرة أن يفعلوا قبيحا ، لأنهم ملجؤون الى ترك القبيح ، لأنهم لو لم يكونوا ملجئين وكانوا مختارين وجب أن يكونوا مزجورين عن فعل القبيح ، والا أدى الى اغرائهم بالقبيح وذلك لا يجوز ، ولو زجروا بالوعيد عن القبائح لكانوا مكلفين ، ولوجب أن يتناولهم الوعد والوعيد ، وذلك خلاف الإجماع ، وقد وصفهم الله تعالى أيضا بأنهم كذبوا على أنفسهم ، فلا يمكن جحد أن يكونوا كاذبين؟ فكيف يمكن دفع ذلك؟ وما الوجه فيه؟.

٢٦٨

والجواب عن ذلك من وجوه :

أحدها : ما قاله البلخي : ان القوم ما كذبوا على الحقيقة ، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم على الحق ولا يرون أنهم مشركون كالنصارى ومن أشبههم ، فقالوا في الموقف وقبل أن يقع بهم العذاب ، فيعلموا بوقوعه أنهم كانوا على باطل والله ربنا ما كنا مشركين وهم صادقون عند أنفسهم ، وكذبهم الله في ذلك ، لان الكذب هو الاخبار بالشيء لا على ما هو به ، علم المخبر بذلك أو لم يعلم ، فلما كان قولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) كذبا في الحقيقة ، جاز أن يقال لهم (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ).

قال البلخي : ويدل على ذلك قوله (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ذهب عليهم وأغفلوه ، لكن هذا القول يكون عند الحشر وقبل الجزاء بدلالة أول الاية.

فصل : قوله (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) الاية : ٢٥.

جاز أن يقال في اللغة : جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ، كما يقول القائل لغيره : أفسدت سيفك إذا ترك استعماله حتى يصدي ، وجعلت أظافيرك سلاحا إذا لم يقلمها ، ويقال للرجل إذا أيسر من عبده أو ولده بعد الاجتهاد في تأديبه فخلاه وأقصاه قد جعلته بحيث لا يفلح أبدا وتركته أعمى وأصم وجعلته ثورا وحمارا ، وان كان لم يفعل به شيئا من ذلك ولم يرده ، بل هو مهموم به محب لخلافه.

ولا يجوز أن يكون المراد بذلك ما يقوله المجبرة من أن الله حال بينهم وبين الايمان ، لأنه لو كانا كذلك لكان قد كلفهم ما لا يطيقونه ، وذلك لا يليق بحكمته ، ولكانوا غير ملومين في ترك الايمان ، حيث لم يمكنوا منه وكانوا ممنوعين منه وكانت تكون لهم الحجة على الله تعالى ، دون أن تكون الحجة له ، وذلك باطل بل لله الحجة البالغة.

٢٦٩

فصل : قوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) الاية : ٢٧.

فان قيل : كيف يجوز أن يتمنوا الرد الى الدنيا وقد علموا عند ذلك أنهم لا يردون؟

قيل : عن ذلك أجوبة : أحدها ـ قال البلخي : انا لا نعلم أن أهل الاخرة يعرفون جميع أحكام الاخرة ، وانما نقول : انهم يعرفون الله بصفاته معرفة لا يتخالجهم فيها الشك لما يشاهدونه من الآيات والعلامات الملجئة لهم الى المعارف. وأما التوجع والتأوه والتمني للخلاص والدعاء بالفرج يجوز أن يقع منهم ، وأن يدعوهم أنفسهم اليه.

وقال أبو علي الجبائي والزجاج : يجوز أن يقع منهم التمني للرد ولئن يكونوا من المؤمنين ولا مانع منه.

فصل : قوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) الاية : ٣٠.

قد ظن قوم من المشبه أن قوله (إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أنهم يشاهدونه. وهذا فاسد ، لان المشاهدة لا يجوز الا على الأجسام ، أو على ما هو حال في الأجسام ، وقد ثبت حدوث ذلك أجمع ، فلا يجوز أن يكون تعالى بصفة ما هو محدث.

وقد بينا أن المراد بذلك وقوفهم على عذاب ربهم وثوابه وعملهم بصدق ما أخبرهم به في دار الدنيا ، دون أن يكون المراد به رؤيته تعالى ومشاهدته ، فبطل ما ظنوه وأيضا فلا خلاف أن الكفار لا يرون الله. والاية مختصة بالكافرين ، فكيف يجوز أن يكون المراد بها الرؤية ، فلا بد للجمع من التأويل الذي بيناه.

فصل : قوله (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) الاية : ٣٣.

يحتمل الكلام والقراءة بالتشديد وجوها :

أحدها : أنهم لا يكذبونك بحجة يأتون بها ، أو برهان يدل على كذبك ، لان

٢٧٠

النبي عليه‌السلام إذا كان صادقا ، فمحال أن يقوم على كذبه حجة ، ولم يرد أنهم لا يكذبونه سفها وجهلا به.

والثاني : أنه أراد فإنهم لا يكذبونك بل يكذبوني ، لان من كذب النبي عليه‌السلام فقد كذب الله ، لان الله هو المصدق له ، كما يقول القائل لصاحبه : فلان ليس يكذبك وانما يكذبني دونك ، يريد أن تكذيبه إياك راجع الى تكذيبي ، لاني أنا المخبر لك وأنت حاك عني.

فصل : قوله (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) الاية : ٣٨.

في قوله (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أقوال : أحدها ـ ان قوله (بِجَناحَيْهِ) تأكيد كما يقولون : رأيت بعيني وسمعت بأذني. وربما قالوا : رأت عيني وسمعت أذني ، كل ذلك تأكيد.

وقال الفراء : معنى ذلك أنه أراد ما يطير بجناحين دون ما يطير بغير جناحين لأنهم يقولون : قد مر الفرس يطير طيرا ، وسارت السفينة يطير طيرا ، فلو لم يقل بجناحيه لم يعلم أنه قصد الى جنس ما يطير بجناحيه دون ما يطير بغير جناحين.

فصل : قوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الاية : ٣٩.

قوله «من يشأ الله يضلله» هاهنا يحتمل أمرين : أحدهما ـ «من يشأ الله يضلله» أي : من يشأ يخذله ، بأن يمنعه لطائفه وفوائده ، وذلك إذا واتر عليه الادلة وأوضح له البراهين ، فأعرض عنها ولم ينعم النظر فيها ، فصار كالأصم الأعمى ، فحينئذ يشأ أن يضله بأن يخذله.

والثاني : من يشأ الله إضلاله عن طريق الجنة ونيل ثوابها يضلله على وجه العقوبة (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومعيناه : من يشأ أن يرحمه ويهديه الى الجنة ونيل الثواب يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون الى الجنة ،

٢٧١

ويعدل بالكافرين عنه الى النار ، ولا يلحق الإضلال الا الكفار والفساق المستحقين للعقاب ، ولذلك لا يفعل الثواب والخلود في الجنة الا بالمؤمنين ، لان الثواب لا يستحقه سواهم.

فصل : قوله (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الاية : ٤٤.

قال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة ، والبائس الحزين. وقال البلخي : معنى أذلة خاضعين. وقال الجبائي : معنى مبلسون آئسون. قال الفراء : المبلس المنقطع الحجة. قال رؤية :

وحضرت يوم الخميس الأخماس

وفي الوجوه صفرة وأبلاس (١)

وقال مجاهد : الإبلاس السكوت مع اكتياب.

وقوله (كُلِّ شَيْءٍ) المراد به التكثير دون العموم ، مثل قوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) وكقول القائل أكلنا عنده كل شيء ورأينا معه كل خير ، وكما يقال : هذا قول أهل العراق وأهل الحجاز ، ويراد به قول أكثرهم. وقال تعالى (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) (٣) وكل ذلك يراد به الخصوص ، وموضوعه التكثير والتفخيم.

فصل : قوله (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) الاية : ٥٢.

سبب نزول هذه الاية ما رواه ابن مسعود وغيره أن ملاء من قريش ـ وقال الفراء : من الكفار ـ منهم عيينة بن حصين الفزاري دخلوا على النبي عليه‌السلام وعنده بلال

__________________

(١). اللسان «بلس».

(٢). سورة النمل : ٢٣.

(٣). سورة طه : ٥٦.

٢٧٢

وسلمان وصهيب وعمار وغيرهم ، فقال عيينة بن حصين : يا رسول الله لو نحيت هؤلاء عنك لا تاك أشراف قومك وأسلموا ، فكان ذلك خديعة منهم له : وكان الله عالما ببواطنهم ، فأمر الله تعالى نبيه أن لا يطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي

قال الجبائي وهو أظهر الأقوال : ما عليك من أعمالهم ولا عليهم من أعمالك بل كل واحد يؤاخذ بعمله ويجازى على فعله لا على فعل غيره.

وقوله (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) اخبار منه تعالى أنه لو طردهم تقربا الى الكبراء منهم كان بذلك ظالما ، والنبي عليه‌السلام وان لم يقدم على القبيح ، جاز أن ينهى عنه لأنه قادر عليه ، ولمكان (١) النهي والزجر يمتنع منه ، كما قال تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢) وان كان الشرك مأمونا منه.

فصل : قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الاية : ٥٤.

قال محمد بن يزيد : السلام في اللغة أربعة أشياء : أحدها ـ سلمت سلاما مصدر.

وثانيها : السلام جمع سلامة.

وثالثها : السلام أسم من أسماء الله.

ورابعها : السلام شجر. ومعنى السلام الذي هو مصدر سلمت دعاء للإنسان بأن يسلم في دينه ونفسه ، ومعناه التخلص.

فان قيل : قوله وأصلح هل فعل الصلاح شرط في قبول التوبة أم لا؟ فان لم يكن شرطا فلم علق الغفران بمجموعهما؟

قيل : لا خلاف أن التوبة متى حصلت على شرائطها التي قدمنا ذكرها في غير موضع ، فانه يقبل التوبة ويسقط العقاب ، وان لم يعمل بعدها عملا صالحا ، غير

__________________

(١). في التبيان : وان كان.

(٢). سورة الزمر : ٦٥.

٢٧٣

أنه إذا تاب وبقي بعد التوبة ، فان لم يعمل العمل الصالح عاد الى الإصرار ، لأنه لا يخلو في كل حال من واجب وندب ، من تجديد معرفة الله ومعرفة نبيه ، وغير ذلك من المعارف وكثير من أفعال الجوارح. فأما ان قدرنا اخترامه عقيب التوبة من غير فعل صلاح ، فان الرحمة بإسقاط العقاب تلحقه بلا خلاف.

فصل : قوله (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) الاية : ٥٥.

لم يحتج أن يقول : ولتستبين سبيل المؤمنين ، لان سبيل المجرمين إذا بانت فقد بان معها سبيل المؤمنين ، لأنه خلافها ، ويجوز أن يكون المراد ولتستبين سبيل المجرمين ولتستبين سبيل المؤمنين ، وحذف احدى الجملتين لدلالة الكلام عليه كما قال (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) (١) ولم يقل تقيكم البرد ، لان الساتر يستر من الحر والبرد لكن جرى ذكر الحر ، لأنهم كانوا في مكانهم أكثر معاناة لهم (٢) من البرد.

فصل : قوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) الاية : ٥٩.

قد دخل في قوله (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) جميع أصناف الأجسام ، لأنها أجمع لا تخلو من احدى هاتين الصفتين ويجوز أن يكون المراد بذكر الورقة والحبة والرطب واليابس التوكيد في الزجر عن المعاصي والحث على البر والتخويف لخلقه ، بأنه إذا كانت هذه الأشياء التي لا ثواب فيها ولا عقاب عليها محصاة عنده محفوظة مكتوبة ، فأعمالكم التي فيها الثواب والعقاب أولى ، وهو قول الحسن. وقال مجاهد : البر القفار. والبحر كل قرية فيها ماء.

فصل : قوله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) الاية : ٦٠.

قيل : في معناه قولان : قال الجبائي : يقيضكم. وقال الزجاج : ينيمكم

__________________

(١). سورة النحل : ٨١.

(٢). في التبيان : له.

٢٧٤

بالليل فيقبضكم اليه ، كما قال (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١) وقال البلخي واختاره الحسين بن علي المغربي : يتوفاكم يعني يحصنكم عند منامكم واستقراركم قال الشاعر :

ان بني دارم ليسوا من أحد

ليسوا من قيس وليسوا من أسد

ولا توفاهم قريش في العدد (٢)

وقوله (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) أي : كسبتم يقال : فلان جارحة أهله ، أي : كاسبهم. ومنه قوله (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) (٣) أي : من الكواسب التي تكسب على أهلها ، وهو قول مجاهد.

فصل : قوله (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) الاية : ٦٢.

روى أنه تعالى يحاسب عباده على مقدار حلب شاة ، وذلك يدل على أنه لا يحتاج الى تكلف مشقة وآلة على ما يقوله المشبهة ، لأنه لو كان كذلك لاحتاج الى تطاول (٤) زمان محاسبته أو أنه يشغله محاسبته عن محاسبة غيره ، وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قيل له : كيف يحاسب الله الخلق وهم لا يرونه؟ قال : كما يرزقهم وهم لا يرونه.

والوجه في الاية أنه تعالى أحصى الحاسبين لما أحصى الملائكة وتوفوا من الأنفس لا يخفى عليه ذلك خافية ، ولا يحتاج في عده الى فكر ونظر.

فصل : قوله (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) الاية : ٦٥.

__________________

(١). سورة الزمر : ٤٢.

(٢). مقاييس اللغة ٣ / ٢٧٠.

(٣). سورة المائدة : ٥.

(٤). في التبيان : أن يتطاول.

٢٧٥

روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : معنى «عذابا من فوقكم» السلطان الجائر ، ومن تحت أرجلكم السفلة ومن لا خير فيه «أو يلبسكم شيعا» قال : العصبية «ويذيق بعضكم بأس بعض» قال : سوء الجوار ، ويكون معنى البعث على هذا الوجه التمكين ورفع الحيلولة دون أن يفعل ذلك أو يأمر به ، يتعالى الله عن ذلك.

فصل : قوله (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الاية : ٦٨.

الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب ، وترك التفهم والتبيين ، ومثله قول القائل : تركت القوم يخوضون ، أي : ليسوا على سداد فهم ، يذهبون ويجيئون من غير تحقيق ولا قصد للواجب.

أمره حينئذ أن يعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، لان من حاج من هذه حاله وأراد التبيين له ، فقد وضع الشيء في غير موضعه وحط من قدر الدعاء والبيان والحجاج.

ثم قال له عليه‌السلام : ان أنساك الشيطان ذلك «فلا تقعد بعد الذكرى» والذكرى والذكر واحد (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني : هؤلاء الذين يخوضون في ذكر الله وآياته.

ثم رخص للمؤمنين بقوله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) بأن يجالسوهم إذا كانوا مظهرين للتكبر عليهم غير خائفين منهم ، ولكن ذكرى يذكرونهم ، أي ينبهونهم ان ذلك يسؤهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ثم نسخ ذلك بقوله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) الى قوله (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (١) وبهذا قال سعيد بن جبير والسدي وجعفر بن مبشر ، واختاره البلخي ، وقال : في

__________________

(١). سورة النساء : ١٣٩

٢٧٦

أول الإسلام كان ذلك يختص النبي عليه‌السلام ورخص للمؤمنين فيه ، ثم لما عز الإسلام وكثر المؤمنون نهوا عن مجالستهم ونسخت الاية.

واستدل الجبائي بهذه الاية على أنه لا يجوز على الائمة المعصومين على مذهبنا التقية ، قال : لأنهم إذا كانوا الحجة كانوا مثل النبي ، فكما لا يجوز عليه التقية فكذلك الامام على مذهبكم.

وهذا ليس بصحيح ، لأنا لا نجوز على الامام التقية فيما لا يعرف الا من جهته كالنبي ، وانما تجوز التقية عليه فيما يكون عليه دلالة قاطعة موصلة الى العلم ، لان المكلف علته مزاحة في تكليفه ، وكذلك يجوز في النبي عليه‌السلام ان لا يبين في الحال لامته ما يقوم منه بيان منه ، أو من الله ، أو عليه دلالة عقلية ، ولذلك قال النبي عليه‌السلام لعمر حين سأله عن الكلالة ، فقال : يكفيك آية الصيف ، وأحال آخر في تعرف الوضوء على الاية. فأما ما لا يعرف الا من جهته فهو والامام فيه سواء لا يجوز فيهما التقية في شيء من الأحكام.

واستدل الجبائي أيضا بالاية على أن الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان قال : بخلاف ما يقوله الرافضة بزعمهم أنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك.

وهذا ليس بصحيح أيضا ، لأنا انما لا نجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله ، فأما غير ذلك فانه يجوز أن ينسوه أو يسهوا عنه مما لم يؤد ذلك الى الإخلال بكمال العقل ، وكيف لا يجوز عليهم ذلك؟ وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم ، والنوم سهو وينسون كثيرا من متصرفاتهم أيضا وما جرى لهم فيما مضى من الزمان ، فالذي ظنه فاسد.

وقال أيضا : في الاية دلالة على وجوب انكار المنكر ، لأنه تعالى أمره بالاعراض عنهم على وجه الإنكار عليهم والازدراء لفعلهم ، وكل أحد يجب عليه ذلك اقتداءا بالنبي عليه‌السلام.

فصل : قوله (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ

٢٧٧

بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) الاية : ٧٠.

يعني : هؤلاء الكفار الذين وصفهم انهم اتخذوا دين الله لعبا ولهوا ، لأنه لا معنى لمحاجة من كانت هذه سبيله ، لأنه لاعب عابث لا يصغى لما يقال له ، فالمتكلم له والمحتج عليه غير منتفع ولا نافع.

معنى «لا تبسل نفس بما كسبت ، أي : تدفع الى الهلكة على وجه الغفلة ويسلم لعملها غير قادرة على التخلص ، قال الشاعر في الغريب المصنف (١) :

وابسالي بني بغير جرم

بغوناه ولا بدم مراق (٢)

أي : إبسالي إياه بغوناه اجترمناه والبعو الجناية ، وقيل : معنى تبسل ترهن ويسلم لعمله ، قال الأخفش : معنى «تبسل» تجازى.

فصل : قوله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) الاية : ٧٣.

معنى الصور قيل : فيه قولان : أحدهما ـ هو ما عليه أكثر المفسرين من أنه اسم لقرن ينفخ فيه الملك ، فيكون منه الصوت الذي يصعق له أهل السماوات وأهل الأرض ، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى للنشور ، وهو الذي اختاره البلخي والجبائي والزجاج والطبري.

والثاني : انه جمع صورة ، مثل قولهم سورة وسور ، اختاره أبو عبيدة.

فصل : قوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) الاية : ٧٤.

قرأ أكثر القراء آزر بنصب الراء ، وقرأ أبو بريد المدني والحسن البصري ويعقوب بالضم ، فمن قرأ بالنصب جعل آزر في موضع خفض بدلا من أبيه ، ومن قرأ بالضم جعله منادى مفردا ، وتقديره : يا آزر.

قال الزجاج : لا خلاف بين أهل النسب أن اسم أبي ابراهيم تارخ ، والذي

__________________

(١). في التبيان : المضيف.

(٢). مجاز القرآن ١ / ١٤٩.

٢٧٨

في القرآن يدل على أن اسمه آزر. وقيل : آزر عندهم ذم في لغتهم ، كأنه قال : وإذ قال ابراهيم لأبيه يا مخطئ أتتخذ أصناما ، فعلى هذا قال الزجاج : الاختيار الرفع ، ويجوز أن يكون وصفا له ، كأنه قال : وإذ قال ابراهيم لأبيه المخطئ قال الزجاج وقيل : ان آزر اسم صنم.

والذي قاله الزجاج يقوى ما قاله أصحابنا ان آزر كان جده لامه ، أو كان عمه لان أباه كان مؤمنا من حيث ثبت عندهم أن آباء النبي عليه‌السلام الى آدم عليه‌السلام كلهم كانوا موحدين لم يكن فيهم كافر ، وحجتهم في ذلك اجماع الفرقة المحقة ، وقد ثبت أن إجماعها حجة لدخول المعصوم فيها ، ولا خلاف بينهم في هذه المسألة.

وأيضا روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : نقلني الله من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات لم يدنسني بدنس الجاهلية. وهذا خبر لا خلاف في صحته ، فبين النبي عليه‌السلام أن الله نقله من أصلاب الطاهرين ، فلو كان فيهم كافر لما جاز وصفهم بأنه طاهرون ، لان الله وصف المشركين بأنهم أنجاس ، فقال (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (١) ولهم في ذلك أدلة لا نطول بذكرها الكتاب ، لئلا يخرج عن الغرض.

وقيل : في معنى الملكوت أقوال ، قال الزجاج والفراء والبلخي والجبائي والطبري وهو قول عكرمة : ان الملكوت بمنزلة الملك ، غير أن هذه اللفظة أبلغ من الملك. وقيل : الملكوت آيات السماوات والأرض.

فصل : قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) الاية : ٧٦ ـ ٧٩.

قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أي : أظلم. وقوله (فَلَمَّا أَفَلَ) معناه : غاب.

__________________

(١). سورة التوبة : ٢٩.

٢٧٩

وقوله (رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) أي : طالعا. وقوله للشمس (هذا رَبِّي) وهي مؤنثة معناه : هذا الشيء الطالع ربي ، أو على أنه حين ظهرت الشمس وقد كانوا يذكرون الرب في كلامهم ، فقال لهم : هذا ربي.

وقيل : في معنى هذه الاية وجوه أربعة :

أحدها : ما قاله الجبائي : ان ما حكاه الله عن ابراهيم في هذه الآيات كان قبل بلوغه ، وقبل كمال عقله ولزوم التكليف له ، غير أنه لمقاربته كمال العقل خطرت له الخواطر وحركته الشبهات والدواعي على الفكر فيما يشاهده من هذه الحوادث فلما رأى الكوكب ـ وقيل : انه الزهرة ـ بان نوره مع تنبهه بالخواطر على الفكر فيه وفي غيره ظن أنه ربه ، وأنه هو المحدث لمشاهده (١) من الأجسام وغيرها.

(فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لأنه صار منتقلا من حال الى حال ، وذلك مناف لصفات القديم «فلما رأى القمر بازغا» عند طلوعه ، أي : رأى كبره واشراقه وما انبسط من نوره في الدنيا «قال هذا ربي» فلما راعاه وجده يزول ويأفل ، فصار عنده بحكم الكوكب الذي لا يجوز أن يكون بصفة الاله لتغييره وانتقاله من حال الى حال ، فلما أكمل الله عقله ضبط بفكره النظر في حدوث الأجسام ، بأن وجدها غير منفكة من المعاني المحدثة ، وأنه لا بد لها من محدث قال حينئذ لقومه (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الى آخرها.

والثاني : ما قاله البلخي وغيره من أن هذا القول من ابراهيم في زمان مهلة النظر ، لان مهلة النظر مده الله العالم بمقدارها ، وهي أكثر من ساعة.

وقال البلخي : وأقل من شهر ، ولا يدرى ما بينهما الا الله ، فلما أكمل الله عقله وخطر بباله ما يوجب عليه النظر وحركته الدواعي على الفكر والتأمل له قال ما حكاه الله ، لان ابراهيم عليه‌السلام لم يخلق عارفا بالله ، وانما اكتسب المعرفة لما أكمل

__________________

(١). في التبيان : لما شاهده.

٢٨٠