المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

ما نقموا من بني أمية الا

أنهم يحلمون ان غضبوا (١)

قال ابن عباس : أتى رسول الله نفر من يهود ، فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع ابن أبي رافع وغيره ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، فقال : أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل الى ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به ، فأنزل الله هذه الاية.

فان قيل : كيف قال (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) وهم جميعا فساقا؟

قلنا : عنه ثلاثة أجوبة :

أحدها : أنهم خارجون عن أمر الله طلبا للرئاسة وحسدا على منزلة النبوة.

الثاني : فاسقون بركوب الاهواء.

الثالث : على التلطف للاستدعاء.

فان قيل : كيف يعلم عاقل أن دينا من الأديان حق ، فيؤثر الباطل على الحق؟

قلنا : أكثر ما نشاهده كذلك من ذلك أن الإنسان يعلم أن القتل يورده النار فيقتل اما إيثارا لشفاء غيظ أو لاخذ مال ، وكما فعل إبليس مع علمه بأن الله يدخله النار بمعصيته ، فآثر هواه على القربة من الله وعمل بما يدخله النار ، وهذا ظاهر في العادات.

فصل : قوله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) الاية : ٦٠.

قرأ حمزة «وعبد الطاغوت» بضم الباء وخفض التاء ، يريد خدم الطاغوت.

قال الفراء : وقرأ أبي وعبد الله «وعبدوا الطاغوت» على الجمع. والمعنى

__________________

(١). مجاز القرآن ١ / ١٧٠.

٢٤١

والذين عبدوا الطاغوت.

وقال أبو علي الفارسي : ولو قرأ قارئ وعبد الطاغوت كان صوابا ، يريد عبدة الطاغوت وتحذف الهاء للاضافة.

انما قال «بشر من ذلك» وان لم يكن من المؤمن شر ، وكذلك قوله «أولئك شر مكانا» على الانصاف في الخطاب والمظاهرة في الحجاج ، لان الكافرين يعتقدون أن هؤلاء أشرار وأن ما فيهم شر ، فخرج على ما يعتقدونه.

وقوله «مثوبة» معناها الثواب الذي هو الجزاء وظن بعضهم أن قوله (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) يفيد أنه جعلهم يعبدون الطاغوت يتعالى الله عن ذلك ، لأنه لو كان جعلهم كذلك لما كان عليهم لوم ، وانما المعنى ما قلناه من أنه أخبر عمن هو شر ممن عابوه ، وهم الذين لعنهم وغضب عليهم ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت ، لأنه تعالى هو الخالق لهم ، وان كان لم يخلق عبادتهم للطاغوت.

فصل : قوله (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) الاية : ٦١.

قيل : فيه قولان ، أحدهما : قال الحسن وابن عباس والسدي وقتادة وأبو علي دخلوا به يعني بالكفر ، بخلاف ما أظهروه على النبي عليه‌السلام وخرجوا به من عنده.

الثاني : وقد دخلوا به في أحوالهم وخرجوا به الى أحوال أخر.

فصل : قوله (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) الاية : ٦٢.

قال السدي : الإثم الكفر ، وقال غيره : وهو يقع على كل معصية. وهو الاولى. والفرق بين الإثم والعدوان ، أن الإثم الجرم كائنا ما كان والعدوان الظلم فهم يسارعون في ظلم الناس وفي الجرم الذي يعود عليهم بالوبال والخسران.

٢٤٢

والسحت : الرشوة في الحكم ، في قول الحسن.

فصل : قوله (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ) الاية : ٦٣.

معنى «لولا» هاهنا هلا.

فان قيل : كيف تدخل «لولا» على الماضي وهي للتحضيض؟ وفي التحضيض معنى الامر؟

قيل : لأنها يدخل للتحضيض والتوبيخ ، فإذا كانت مع الماضي فهي توبيخ كقوله تعالى (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) (١) و (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) (٢).

والرباني العالم بالدين الذي من قبل الرب ، وهو منسوب الى الرب على وجه تغيير الاسم ، كما قالوا روحاني في النسبة الى الروح ، وبحراني في النسبة الى البحر. وقال الحسن : الربانيون علماء أهل الإنجيل ، والأحبار علماء أهل التوراة.

فصل : قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) الاية : ٦٤.

قيل : في معنى (مَغْلُولَةٌ) قولان ، أحدهما : قال ابن عباس وقتادة والضحاك ان المراد بذلك أنها مقبوضة من العطاء على وجه الصفة له بالبخل ، كما قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (٣) وانما قالوا ذلك لما نزل قوله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٤) قالوا : ان رب محمد فقير يستقرض منا ، فأنزل الله هذه الاية.

__________________

(١). سورة النور : ١٣.

(٢). سورة النور : ١٢.

(٣). سورة الاسراء : ٢٩.

(٤). سورة البقرة : ٢٤٥.

٢٤٣

وأما اليد فإنها تستعمل على خمسة أوجه : أحدها الجارحة. والثاني النعمة والثالث القوة. والرابع الملك. الخامس تحقيق اضافة الفعل. قال الله تعالى (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (١) معناه القوي ، ويقال لفلان بن فلان يد ، أي نعمة ، قال الشاعر :

له في ذوي الحاجات أيد كأنها

مواقع ماء المزن في البلد القفر

وقوله (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) معناه من يملك ذاك. وقوله (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) (٢) أي : توليت خلقه.

وقوله (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) تكذيب منه تعالى لما قالوه واخبار أن يديه مبسوطتان أي نعمة مبسوطة.

وقيل : في وجه تثنية اليد ثلاثة أقوال :

أولها : أنه أراد نعمة الدنيا ونعمة الدين ، أو نعمة الدنيا ونعمة الاخرة.

الثاني : قال الحسن : معناه قوتاه بالثواب والعقاب والغفران والعذاب ، بخلاف قول اليهود ان يديه مقبوضة من عذابنا.

الثالث : أن التثنية للمبالغة في صفة النعمة ، مثل قولهم لبيك وسعديك ، وكما يقول القائل فلان بسط يديه يعطي يمنة ويسرة ولا يريدون الجارحة وانما يريدون كثرة العطية ، وقال الأعشى :

يداك يدا مجد فكف مفيدة

وكف إذا ما ظن بالزاد تنفق (٣)

وقوله (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) أي : سيزدادون عند ذلك طغيانا وكفرا ، لان القرآن لا يفعل شيئا من ذلك ، كما يقول القائل وعظتك

__________________

(١). سورة ص : ٤٥.

(٢). سورة ص : ٧٥.

(٣). ديوان الأعشى ص ١٥٠.

٢٤٤

فكانت موعظتي وبالا عليك وما زادتك الا شرا ، أي : انك ازددت عندها شرا وذلك مشهور في الاستعمال.

وقوله (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) المراد بذلك بين اليهود والنصارى.

وبماذا ألقى بينهم العداوة؟ قيل : فيه قولان : أحدهما قال أبو علي : بتعريف اليهود قبح مذهب النصارى في عبادة المسيح ، وبتعريف النصارى قبح مذهب اليهود في الكفر بالمسيح.

فصل : قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الاية : ٦٦.

قيل : في معناه قولان ، أحدهما قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : لأكلوا من فوقهم بإرسال السماء عليهم مدرارا ومن تحت أرجلهم بإعطاء الأرض خيرها وبركتها.

الثاني : أن المعنى فيه التوسعة ، كما يقال هو في الخير من قرنه الى قدمه.

وقوله «منهم أمة مقتصدة» يعني : من هؤلاء الكفار قوم معتدلون في العمل من غير غلو ولا تقصير. قال أبو علي : وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي عليه‌السلام وهو المروي في تفسير أهل البيت.

والاقتصاد : الاستواء في العمل المؤدي الى الغرض.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الاية : ٦٧.

قيل : في سبب نزول هذه الاية أقوال :

أحدها : أن النبي عليه‌السلام كان يهاب قريشا ، فأزال الله عزوجل بالاية تلك الهيبة وقيل : كان النبي عليه‌السلام حراس من أصحابه ، فلما نزلت الاية قال : ألحقوا بملاحقكم فان الله عصمنى من الناس.

٢٤٥

الثاني : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام : ان الله تعالى لما أوحى الى النبي عليه‌السلام أن يستخلف عليا كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الاية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه.

وقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) معناه : يمنعك أن ينالوك من قتل أو أسر أو قهر ، وأصله عصام القربة ، وهو وكاؤها الذي يشد به من سير أو خيط ، قال الشاعر :

وقلت عليكم مالكا ان مالكا

سيعصمكم ان كان في الناس عاصم (١)

فصل : قوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) الاية : ٦٨.

قيل : في معناه قولان : أحدهما ـ حتى تقيموهما بالتصديق بما فيهما من البشارة بالنبي عليه‌السلام والعمل بما يوجبه ذلك فيهما.

الثاني : قال أبو علي : يجوز أن يكون الامر باقامة التوراة والإنجيل وما فيهما انما كان قبل النسخ لهما.

وقوله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يريد به القرآن الذي أنزله على جميع الخلق.

والثاني أن يريد جميع ما نصب الله من الادلة الدالة على توحيده وصفاته وصدق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) الاية : ٦٩.

الصابئون جمع صابئ ، وهو الخارج عن دين عليه أمة عظيمة من الناس الى ما عليه فرقة قليلة ، وهم عباد الكواكب ، وعندنا لا تؤخذ منهم الجزية ، وعند المخالفين يجرون مجرى أهل الكتاب.

__________________

(١). مجاز القرآن ١ / ١٧١.

٢٤٦

وصبأ ناب البعير وسن الصبي إذا خرج. وضبأ بالضاد المعجمة معناه اختبئ في الأرض ، ومنه اشتق ضابي البرجمي.

قيل : في رفع الصابئين ثلاثة أقوال :

أحدها : قال سيبويه : انه على التقديم والتأخير ، والتقدير : ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون كذلك ، قال ضابي البرجمي :

من يك أمسى بالمدينة رحله

فاني وقيار بها لغريب

وقال آخر :

والا فاعلموا أنا وأنتم بغاة

ما بقينا في شقاق

والمعنى فاعلموا انا بغاة ما بقينا في شقاق وأنتم كذلك.

والثاني : قال الكسائي : هو عطف على الضمير في «هادوا» كأنه قال : هادوا هم والصابئون.

والثالث : قال الفراء : انه عطف على ما لا يتبين فيه الاعراب وهو الدين.

فصل : قوله (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) الاية : ٧١.

قال الرماني : وحد الحسبان هو قوة أحد النقيضين في النفس على الاخر ، وأصله الحساب ، فالنقيض القوي يحتسب به دون الاخر ، أي : هو فيما يحتسب ولا يطرح ومنه الحسب لأنه مما يحسب ولا يطرح لأجل الشرف.

والفتنة ها هنا العقوبة وقيل : البلية. وأصل الفتنة الاختبار ، ومنه افتتن بفلانة إذا هواها ، لأنه يظهر ما يطوي من خبره بها.

وقوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) قال الزجاج : يحتمل رفعه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون بدلا من الفاء ، كأنه لما قال «عموا وصموا» أبدل الكثير

٢٤٧

منهم ، أي : عمى وصم كثير منهم ، كما يقول : جاءني قومك أكثرهم. والثاني أن يكون جمع الفعل متقدما على لغة من قال أكلوني البراغيث وذهبوا قومك.

فصل : قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) الاية : ٧٣.

القائلون بهذه المقالة هم جمهور النصارى من الملكية (١) واليعقوبية والنسطورية ، لأنهم يقولون : أب وابن وروح القدس اله واحد ، ولا يقولون ثلاثة آلهة ويمتنعون من العبارة ، وان كان يلزمهم أن يقولوا انهم ثلاثة آلهة ، وما كان هكذا صح أن يحكى بالعبارة اللازمة. وانما قلنا يلزمهم لأنهم يقولون : الابن اله والأب اله وروح القدس اله ، والابن ليس هو الأب.

فصل : قوله (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) الاية : ٧٥.

معنى «خلت» مضت «وأمه صديقة» قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أنها كانت تصدق بآيات ربها ومنزلة ولدها ، وتصدقه فيما أخبرها به.

والثاني : لكثرة صدقها.

وقوله (يَأْكُلانِ الطَّعامَ) فيه احتجاج للنصارى ، لان من ولدته النساء وكان يأكل الطعام لا يكون إلها للعباد ، لان سبيله سبيلهم في الحاجة الى الصانع المدبر ، لان من فيه علامة الحدث لا يكون قديما ، ومن يحتاج الى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء.

فصل : قوله (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) الاية : ٨٢.

القسيسيون العباد في قول ابن زيد. والقس والقسيس واحد الا أنه قد صار كالعلم على رئيس من رؤساء النصارى في العبادة ويجمع قسوسا ، وأصله في اللغة

__________________

(١). في التبيان : الملكانية.

٢٤٨

النميمة ، قس يقس قسا إذا نم الحديث. قال رؤبة بن العجاج :

يضحكن عن قس الأذى غوافلا

لا جعبريات ولا طهاملا

الطهامل من النساء القباح. فالقس الذي ينم حاله بالاجتهاد في العبادة.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الاية : ٨٧.

هذا خطاب للمؤمنين خاصة ، نهاهم الله أن يحرموا طيبات ما أحل الله لهم ، والتحريم هو العقد على ما لا يجوز فعله للعبد ، والتحليل حل ذلك العقد ، وذلك كتحريم السبت بالعقد على أهله ، فلا يجوز لهم العمل فيه ، وتحليله حل ذلك العقد بأنه يجوز لهم الآن العمل فيه.

والطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل اليها القلوب ، ويقال : طيب بمعنى حلال ، ولا يليق ذلك بهذا الموضع ، لأنه لا يقال : لا تحرموا حلال ما أحل الله لكم.

فصل : قوله (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) الاية : ٨٩.

قرأ «عاقدتم» بألف ابن عامر ، و (عَقَّدْتُمُ) بلا ألف مع تخفيف القاف حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، الباقون بالتشديد.

قال الحسين بن علي المغربي : في التشديد فائدة ، وهو أنه إذا أكثرت (١) اليمين على محلوف واحد ، فإذا حنث لم يلزمه الا كفارة واحدة ، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء. والذي ذكره قوي.

ومن قرأ بالتخفيف جاز أن يريد به الكثير من الفعل والقليل ، الا أن فعل يختص

__________________

(١). في التبيان : كررت.

٢٤٩

بالكثير ، كمال أن الركبة تختص بالحال التي يكون عليها الركوب.

فأما قراءة ابن عامر ، فتحتمل أمرين : أحدهما أن يكون عاقدتم يراد به عقدتم كما أن عافاه الله وعاقبت اللص وطارقت النعل بمنزلة فعلت.

واللغو في اللغة هو ما لا يعتد به ، ولغو اليمين هو الحلف على وجه الغلط من غير قصد ، مثل قول القائل لا والله وبلى والله على سبق اللسان ، هذا هو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وهو قول أبي علي الجبائي. ولا كفارة في يمين اللغو عند أكثر المفسرين والفقهاء.

قوله ف (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ) انما ذكير بلفظ التذكير تغليبا للتذكير في كلامهم لأنه لا خلاف أنه لو أطعم الإناث أجزأه ويحتاج أن يعطي عشرة عددا ما تكفيهم.

وقد حده أصحابنا أن يعطي كل واحد مدين أو مدا ، وقدره رطلان وربع منفردا ، أو يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوه ، ولا يجوز أن يعطي خمسة ما يكفي عشرة ، وهو قول أبي علي ، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

وهل يجوز إعطاء القيمة؟ فيه خلاف ، والظاهر يقتضي أنه لا يجزئ ، والروايات تدل على اجزائه ، وهو قول أبي علي وأهل العراق.

وقوله (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ) قيل : فيه قولان :

أحدهما : الخبز والأدم دون اللحم ، لان أفضله الخبز واللحم والتمر ، وأوسطه الخبز والزيت والسمن ، وأدونه الخبز والملح ، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة وشريح.

الثاني : قيل : أوسطه في المقدار ان كنت تشبع أهلك ، أو لا تشبعهم بحسب العسر واليسر فبقدر ذلك ، هذا قول ابن عباس والضحاك ، وعندنا يلزمه أن يطعم كل مسكين مدين ، وبه قال علي عليه‌السلام وعمر وابراهيم وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد وقال قوم : يكفيه مد ، ذهب اليه زيد بن ثابت والشافعي وغيرهم ، وروي ذلك في أخبارنا.

٢٥٠

وقوله «أو كسوتهم» فالذي رواه أصحابنا أنه ثوبان لكل واحد مئزر وقميص وعند الضرورة قميص.

وقوله (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) فالرقبة التي تجزئ في الكفارة كل رقبة كانت سليمة من العاهة ، صغيرة كانت أو كبيرة ، مؤمنة كانت أو كافرة ، والمؤمن أفضل لان الاية مطلقة مبهمة ، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.

وهذه الثلاثة أشياء مخير فيها بلا خلاف ، وعندنا واجبة على التخيير. وقال قوم : ان الواجب منها واحد لا بعينه ، والكفارة قبل الحنث لا تجزئ ، وفيه خلاف.

وحد من ليس بواجد هو من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته ، وهو قول قتادة والشافعي. وصوم الثلاثة أيام متتابعة ، وبه قال أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وابراهيم وقتادة وسفيان وأكثر الفقهاء.

واليمين على ثلاثة أقسام :

أحدها : عقدها طاعة وحلها معصية ، فهذه يتعلق بحنثها كفارة بلا خلاف ، كقوله : والله لا شربت خمرا ولا قتلت نفسا.

الثاني : عقدها معصية وحلها طاعة ، كقوله : والله لا صليت ولا صمت ، فإذا حنث (١) بالصلاة والصوم ، فلا كفارة عليه عندنا ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأوجبوا عليه الكفارة.

الثالث : أن يكون عقدها مباحا ، كقوله : والله لا لبست هذا الثوب ، فمتى حنث تعلق به الكفارة بلا خلاف.

وقوله (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : احفظوها أن تحلفوا بها ومعناه لا تحلفوا.

الثاني : احفظوها من الحنث ، وهو الأقوى ، لان الحلف مباح الا في معصية

__________________

(١). في التبيان : جاء.

٢٥١

بلا خلاف ، وانما الواجب ترك الحنث ، وذلك يدل على أن اليمين في المعصية غير منعقدة ، لأنها لو انعقدت للزم حفظها ، وإذا لم تنعقد لم يلزمه كفارة على ما بيناه.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الاية : ٩٠.

الخمر عصير العنب التي المشتد ، وهو العصير الذي يسكر كثيره ، وقليل الخمر حرام ، وتسمى خمرا لأنها بالسكر تغطي على العقل. والأصل في الباب التغطئة من قول أهل اللغة خمرت الإناء إذا غطيته ، ومنه دخل في خمار الناس إذا خفي فيما بينهم بسترهم له ، وخمار المرأة لأنها تغطي رأسها ، فعلى هذا الاشتقاق يجب أن يسمى النبيذ وكل مسكر على اختلاف أنواعه خمرا ، لاشتراكها في المعنى ، وأن يجري عليها أجمع جميع أحكام الخمر.

والميسر القمار كله ، مأخوذ من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه والذي يدخل فيه ييسر ، والذي لا يدخل فيه برم. قال أبو جعفر عليه‌السلام : ويدخل فيه الشطرنج والنرد وغير ذلك حتى اللعب بالجوز.

والانصاب واحدها نصب ، وقيل : له أنصاب لأنها كانت تنصب للعبادة لها ، قال الأعشى :

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا (١)

والازلام القداح وهي سهام كانوا يجيلونها ويجعلون عليها علامات افعل ولا تفعل ونحو ذلك على ما يخرج من ذلك في سفر او اقامة ، وغير ذلك من الأمور المبهمة وكانوا يجيلونها للقمار ، واحدها زلم وزلم ، قال الاصمعي : كان الجزور يقسمونه على ثمانية وعشرين جزءا. وقال أبو عمرو : وكان عددها على عشرة. وقال أبو عبيدة : لا علم لي بمقدار عدتها.

__________________

(١). ديوان الأعشى ص ٤٦.

٢٥٢

وقد ذكرت أسماؤها مفصلا وهي عشرة ذوات الحظوظ منها سبعة وأسماؤها :الفذ ، والتوءم ، والرقيب ، والحلس ، والنفاس والمسبل ، والمعلى. والاغفال التي لا حظوظ لها ثلاثة أسماؤها : السفيح ، والمنيح ، والوغد.

وقوله (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) انما نسبها الى عمل الشيطان ، وهي أجسام لما يأمر به فيها من الفساد ، فيأمر بالسكر ليزيل العقل ، ويأمر بالقمار لاستعمال الأخلاق الدنية ، ويأمر بعبادة الأوثان لما فيها من الكفر بالله ، ويأمر بالأزلام لما فيها من ضعف الرأي.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) الاية : ٩٤.

معنى «ليبلونكم» ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بشيء من الصيد ، وأصله اظهار باطن الحال ، ومنه البلاء النعمة ، لأنه يظهر به حال المنعم عليه في الشكر والكفر. والبلاء : النقمة لأنه يظهر به ما يوجبه كفر النعمة. والبلى : الخلوقة لظهور تقادم العهد فيه.

وقوله (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) قيل : في معنى «من» ثلاثة أوجه : أحدها ـ صيد البر دون البحر. والاخر : صيد الإحرام دون الإحلال. الثالث : للتجنيس نحو (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) في قول الزجاج.

وقوله «تناله أيديكم» يعني به فراخ الطير وصغار الوحش ، في قول ابن عباس ومجاهد ، وزاد مجاهد : والبيض. والذي تناله الرماح الكبار من الصيد.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) الاية : ٩٥.

__________________

(١). سورة الحج : ٣٠.

٢٥٣

قيل : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : وأنتم محرمون بحج أو عمرة.

الثاني : وأنتم في الحرم ، يقال : أحرمنا ، أي : دخلنا في الحرم ، كما يقال : انجدنا واتهمنا.

الثالث : وأنتم في الشهر الحرام ، يقال : أحرم إذا دخل في الشهر الحرام. قال أبو علي : الاية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الإحرام بالحج والعمرة وحين الكون في الحرم. وقال الرماني : تدل على الإحرام بالحج أو العمرة فقط والذي قاله أبو علي أعم فائدة. فأما القسم الثالث ، فلا خلاف أنه غير مراد.

وقاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء ، عامدا كان في القتل أو خطأ أو ناسيا لا حرامه ، أو ذاكرا ، وبه قال مجاهد والحسن وأكثر الفقهاء ، واختاره البلخي والجبائي. وقال ابن عباس وعطاء والزهري واختاره الرماني : انه يلزمه إذا كان متعمدا لقتله ذاكرا لا حرامه ، وهو أشبه بالظاهر ، والاول يشهد به روايات أصحابنا.

والنعم هي الإبل والبقر والغنم.

وقوله (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) اختلفوا في لزوم الجزاء بالمعاودة على قولين :

أحدهما : قال عطاء وابراهيم وسعيد بن جبير ومجاهد : يلزمه الجزاء ، وهو قول بعض أصحابنا.

الثاني : قال ابن عباس وشريح والحسن وابراهيم : لا جزاء عليه وينتقم الله منه. وهو الظاهر من مذهب أصحابنا ، واختار الرماني الاول ، وبه قال أكثر الفقهاء قال : لأنه لا ينافي الانتقام منه.

واختلفوا في «أو» في الاية هل هي على جهة التخيير أم لا؟ على قولين :

أحدهما : قال ابن عباس والشعبي وابراهيم والسدي وهو الظاهر في رواياتنا :

٢٥٤

انه ليس على التخيير لكن على الترتيب ، ودخلت «أو» لأنه لا يخرج حكمه عن أحد الثلاثة ، على أنه ان لم يجد الجزاء فالاطعام ، وان لم يجد الإطعام فالصيام وفي رواية أخرى عن ابن عباس وعطاء والحسن وابراهيم على خلاف عنه ، واختاره الجبائي وهو قول بعض أصحابنا : انه على التخيير.

وليس في الاية دليل على العمل بالقياس ، لان الرجوع الى ذوي عدل في تقويم الجزاء كمثل الرجوع الى المقومين في قيم المتلفات ، ولا تعلق لذلك بالقياس

فصل : قوله (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) الاية : ٩٦.

قوله «وطعامه» يعني : طعام البحر. وقيل : في معناه قولان :

أحدهما : قال أبو بكر وعمر وابن عباس وابن عمر وقتادة : هو ما قذف به ميتا.

الثاني : في رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد وابراهيم انه المملوح ، واختار الرماني الاول ، وقال : لأنه بمنزلة ما صيد منه وما لم يصد منه ، فعلى هذا تصح الفائدة في الكلام.

والذي يقتضيه ويليق بمذهبنا القول الثاني ، فيكون قوله «صيد البحر» المراد به ما أخذ طريا ، وقوله «وطعامه» ما كان منه مملوحا ، لان ما يقذف به البحر ميتا لا يجوز عندنا أكله لغير المحرم ولا للمحرم. وقال قوم : معنى «وطعامه» ما نبت بمائه من الزروع والثمار ، حكاه الزجاج.

وقوله (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) يقتضي ظاهره تحريم الصيد في حال الإحرام وأكل ما صاده غيره ، وبه قال علي وابن عباس وابن عمر. وقال عمر وعثمان والحسن : لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره. ومنهم من فرق بين ما صيد وهو محرم ، وبين ما صيد قبل إحرامه ، وعندنا لا فرق بينهما والكل محرم.

٢٥٥

فصل : قوله (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) الاية : ٩٧.

تقديره : جعل الله حج الكعبة أو نصب الكعبة قياما لمعاش الناس أو مكاسب الناس.

وقيل : في قوله «قياما للناس» ان معناه أمنا لهم. وقيل : انه مما ينبغي أن يقوموا به. والاول أقوى. وقال قوم : لما كان في المناسك زجرا عن القبيح ودعاء الى الحق كان بمنزلة الرئيس يقوم به أمر أتباعه. وقال سعيد بن جبير : قياما للناس صلاحا لهم. وقيل : قياما يقومون به في متعبداتهم.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) الاية : ١٠١.

قيل : في سبب نزول هذه الاية قولان :

أحدهما : قال ابن عباس وأنس وأبو هريرة والحسن وطاوس وقتادة والسدي : انه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من الأنصار يقال له عبد الله ، وكان يطعن في نسبه فقال : يا رسول الله من أبي؟ فقال له : حذافة ، فنزلت الاية.

والذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه من أمر دين أو دنيا ، وما لا يجوز العمل عليه من أمر دين أو دنيا ، لا يجوز السؤال عنه ، ولا يجوز أن يسأل الله تعالى شيئا الا بشرط انتفاء وجوه القبح عن الاجابة.

فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الإنسان من أبي ، لان المصلحة اقتضت ان من ولد على فراش انسان حكم بأنه ولده ، وان لم يكن مخلوقا من مائه ، فالمسألة بخلافه سفه لا يجوز.

فصل : قوله (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الاية : ١٠٣.

هذه الاية من الادلة الواضحة على بطلان مذهب المجبرة من قولهم : من أن

٢٥٦

الله تعالى هو الخالق للكفر والمعاصي وعبادة الأصنام وغيرها من القبائح ، لأنه تعالى نفى أن يكون هو الذي جعل البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وعندهم أن الله تعالى هو الجاعل له والخالق تكذيبا لله وجرأة عليه ، ثم بين تعالى أن هؤلاء بهذا القول قد كفروا بالله وافتروا عليه ، بأن أضافوا اليه ما ليس بفعل له ، وذلك واضح لا اشكال فيه.

والبحيرة هي الناقة التي تشق أذنها ، يقال : بحرت الناقة أبحرها بحرا ، والناقة مبحورة وبحيرة إذا شققتها شقا واسعا ، ومنه البحر لسعته ، وكانت (١) الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها ، أي : شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها ولم تطرد عن ماء ولم تمنع من رعي ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها.

والسائبة المخلاة وهي المسيبة ، وكانوا في الجاهلية إذا نذر انسان لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في التخلية ، وكان إذا أعتق الإنسان عبدا فقال : هو سائبة ، لم يكن بينهما عقد ولا ولاء ولا ميراث.

والوصيلة الأنثى من الغنم إذا ولدت مع الذكور (٢) ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه. وقال أهل اللغة : كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم ، وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم.

والحام الفحل من الإبل الذي قد حمى ظهره من أن يركب بتتابع أولاد تكون من صلبه ، وكانت العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره ، فلا يحمل عليه شيء ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

__________________

(١). في التبيان : وكانوا في.

(٢). في التبيان : ولدت أنثى مع الذكر.

٢٥٧

فصل : قوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الاية : ١٠٤.

في الاية دلالة على فساد التقليد ، لان الله تعالى أنكر عليهم تقليد الاباء ، فدل ذلك على أنه لا يجوز لاحد أن يعمل على شيء من أمر الدين الا بحجة.

وفيها دلالة على وجوب المعرفة وأنها ليست ضرورية ، لان الله تعالى بين الحجاج عليهم في هذه الاية ليعرفوا صحة ما دعا الرسول اليه ، ولو كانوا يعرفون الحق ضرورة لم يكونوا مقلدين لآبائهم في اعتقاد خلافه ، وكان يجب أن يكون آباؤهم أيضا عارفين ضرورة ، ولو كانوا كذلك لما صح الاخبار عنهم بأنهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) الاية : ١٠٥.

ليس في الاية ما يدل على سقوط انكار المنكر ، وانما يجوز الاقتصار على الاهتداء باتباع أمر الله تعالى في حال التقية ، هذا قول ابن مسعود ، على أن الإنسان انما يكون مهتديا إذا اتبع أمر الله في نفسه وفي غيره بالإنكار عليه ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : إذا رأى الناس منكرا فلم يغيروه عمهم الله بالعقاب.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) الاية ١٠٦.

ذكر الواقدي وأبو جعفر عليه‌السلام أن سبب نزول هذه الاية ما قال أسامة بن زيد عن أبيه قال : كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيين وكان متجرهما الى مكة فلما هاجر رسول الله الى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة

٢٥٨

وهو يريد الشام تاجرا ، فخرج هو وتميم الداري وأخوه عدي حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية ، فكتب وصية بيده ودسها في متاعه وأوصى اليهما ، ودفع المال اليهما وقال : أبلغا هذا أهلي ، فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه.

ثم رجعا بالمال الى الورثة ، فلما فتش القوم المال فقدوا بعض ما كان خرج به صاحبهم ، ونظروا الى الوصية فوجدوا المال فيها تاما ، فكلموا تميما وصاحبه فقالا : لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو ، فرفع أمرهم الى النبي عليه‌السلام ، فنزلت هذه الاية.

قوله (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) تقديره : أو شهادة آخرين من غيركم ، وحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه ، و «من غيركم» صفة للآخرين.

وقيل : في معنى «من غيركم» قولان :

أحدهما : قال ابن عباس وأبو موسى الاشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح وابراهيم وابن سيرين ومجاهد وابن زيد ، واختاره أبو علي الجبائي ، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : انهما من غير أهل ملتكم.

الثاني : قال عكرمة وعبيدة بخلاف عنه وابن شهاب والحسن : يعني من غير عشيرتكم. قال الحسن : لان عشيرة الموصي أعلم بأحواله من غيرهم ، وهو اختيار الزجاج ، قال : لأنه لا يجوز قبول شهادة الكفار مع كفرهم وفسقهم وكذبهم على الله.

ومعنى «أو» هاهنا للتفصيل لا للتخيير ، لان المعنى : أو آخران من غيركم ان لم تجدوا منكم ، وهو قول أبي عبيدة وشريح ويحيى بن معمر وابن عباس وابراهيم والسدي ، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وقال قوم : هو بمعنى التخيير في من ائتمنه الموصي من مؤمن أو كافر.

٢٥٩

وقوله (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما) فيه محذوف ، وتقديره : وقد أسندتم (١) الوصية اليهما ، فارتاب الورثة بهما تحبسونهما. وقوله «تحبسونهما» خطاب للورثة.

والصلاة المذكورة في هذه الاية قيل : فيها ثلاثة أقوال : أولها ـ قال شريح وسعيد بن جبير وابراهيم وقتادة ، وهو قول أبي جعفر عليه‌السلام : انها صلاة العصر ولا خلاف أن الشاهد لا يلزمه اليمين ، الا أن يكونا شاهدين على وصية مسندة اليهما فيلزمهما اليمين لأنهما مدعيان.

فصل : قوله (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) الاية ١٠٧.

قد ذكرنا سبب نزول الاية عمن رويناه عنه ، فذكروا أنها لما نزلت أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يستحلفوهما والله ما قبضنا له غير هذا ولا كتمناه ، ثم ظهر على إناء من فضة منقوش مذهب معهما ، فقالوا : هذا من متاعه ، فقالا : اشتريناه منه ، فارتفعوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت قوله (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا فحلف عبد الله بن عمر والمطلب بن أبي وداعة فاستحقا ، ثم ان تميما أسلم وتابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان يقول : صدق الله وبلغ رسول الله أنا أخذت الإناء.

ومعنى (عُثِرَ) ظهر عليه ، تقول عثرت على جنايته وأعثرت غيري على جنايته أي : أطلعته.

ومعنى قوله (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي : أطلعنا عليهم. قال الزجاج : هذه

__________________

(١). في التبيان : أسنتم.

٢٦٠