المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

وأما النافلة فيصل اليه ضرب من النفع بها ، وتقبل الطاعة إيجاب الثواب عليها.

وهذا الذي ذكروه غير صحيح ، لان قوله «انما يتقبل الله من المتقين» معناه :

انما يستحق الثواب على الطاعات من يوقعها لكونها طاعة. فأما إذا فعلها لغير ذلك ، فانه لا يستحق عليها ثوابا.

فإذا ثبت ذلك فلا يمتنع أن تقع من الفاسق طاعة يوقعها على الوجه الذي يستحق عليها الثواب فيستحق الثواب ، ولا تحابط بين ثوابه وما يستحق عليه من العقاب.

والاتقاء يكون لكل شيء يمتنع منه ، غير أنه لا يطلق اسم المتقين الا على المتقين للمعاصي خاصة بضرب من العرف ، لأنه أحق ما يجب أن يخاف منه كما لا يطلق خالق الا على الله عزوجل ، لأنه أحق بهذه الصفة من كل فاعل ، لان جميع أفعاله تقع على تقدير وترتيب.

فصل : قوله (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الاية : ٢٨.

ان قيل : لم قال ذلك وقد وجب بحكم العقل الدفع عن النفس وان أدى الى قتل المدفوع؟

قلنا : عنه جوابان : أحدهما ـ أن معناه ان بدأتني بقتل لم أبدأك ، لا على أني لا أدفعك عن نفسي إذا قصدت قتلي.

الثاني : قال الحسن ومجاهد والجبائي : انه كتب عليهم إذا أراد الرجل قتل رجل تركه ولم يمتنع منه.

فصل : قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) الاية : ٢٩.

قوله «باثمي واثمك» معناه اثم قتلي ان قتلتني واثمك الذي كان منك قبل قتلي.

فان قيل : كيف جاز أن يريد منه الإثم؟ وهو قبيح.

٢٢١

قلنا : المراد بذلك عقاب الإثم ، لان الرجوع بالإثم رجوع بعقابه ، لأنه لا يجوز لاحد أن يريد معصية الله من غيره ، كما لا يجوز أن يريدها من نفسه.

فصل : قوله (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) الاية : ٣١.

قال أبو علي : يجوز أن يكون الغراب قد زاد الله في عقله ما عقل أمر الله ، لا على وجه التكليف كما نأمر صبياننا وأولادنا فيفهمون عنا.

ومعنى «سوءة أخية» قيل : فيه قولان ، أحدهما ـ قال أبو علي : انه جيفة أخيه لأنه كان تركه حتى أنتن فقيل لجيفته سوءة. وقال غيره : معناه عورة أخيه ، والظاهر يحتمل الامرين.

قوله «فأصبح من النادمين» قيل : كانت توبته غير صحيحة ، لأنها لو كانت صحيحة لاستحق عليها الثواب. وقال أبو علي : ندم على قتله على غير الوجه الذي يكون الندم توبة ، لأنه ندم لأنه لم ينتفع به وناله ضرر بسببه من أبيه واخوته ، ولو كان على الوجه الصحيح لقبل الله توبته. وعلى مذهبنا كان يستحق الثواب لو كانت صحيحة وان لم يسقط العقاب.

فصل : قوله (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) الاية : ٣٢.

اختلفوا في تأويل ذلك على ستة أقوال :

أحدها : قال الزجاج معناه أنه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنهم خصومه في قتل ذلك الإنسان.

الثاني : قال أبو علي : ان عليه مأثم كل قاتل من الناس ، لأنه سن القتل وسهله لغيره ، فكان بمنزلة المشارك فيه ، ومثله قوله عليه‌السلام «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل

٢٢٢

بها».

الثالث : قال ابن مسعود وغيره من الصحابة : معناه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ.

الرابع : قال ابن زيد : معناه أنه يجب من القود والقتل مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا.

وقوله (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) قال أبو علي : معناه من زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يقتدى به فيها ، بأن يعظم تحريم قتلها كما حرمه الله على نفسه فلم يقدم عليه ، فقد حي الناس بسلامتهم منه وذلك إحياؤه إياها ، وهو اختيار الطبري ، والله تعالى هو المحيي للخلق ، لا يقدر على ذلك غيره تعالى ، وانما قال «أحياها» على وجه المجاز بمعنى نجاها من الهلاك.

فصل : قوله (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) الاية : ٣٣.

المحارب عندنا هو الذي شهر السلاح وأخاف السبيل ، سواء كان في المصر أو خارج المصر ، فان اللص المجاهر (١) في المصر وغير المصر سواء ، وبه قال الاوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي والطبري.

وجزاؤهم على قدر الاستحقاق ان قتل قتل ، وان أخذ المال وقتل قتل وصلب وان أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وان أخاف السبيل فقط فإنما عليه النفي لا غير ، هذا مذهبنا ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع وابراهيم ، وبه قال أبو علي الجبائي.

قوله (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) معناه زيادة على ذلك. وهذا يبطل قول

__________________

(١). في التبيان : المحارب.

٢٢٣

من قال اقامة الحدود تكفير للمعاصي (١) ، لأنه تعالى مع اقامة الحدود عليهم بين أن لهم في الاخرة عذابا عظيما. ومعنى أن لهم في الاخرة عذابا عظيما انهم يستحقون ذلك ، ولا يدل على أنه يفعل بهم ذلك لا محالة ، لأنه يجوز أن يعفو الله عنهم وينفصل عليهم بإسقاط عقابهم.

فصل : قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) الاية : ٣٤.

استثنى من جملتهم من يتوب مما ارتكبه قبل أن يؤخذ ويقدر عليه ، لان توبته بعد حصوله في قبضة الامام وقيام البينة عليهم بذلك لا تنفعه ووجب اقامة الحد عليه.

واختلفوا في من يدرأ عنه التوبة الحد (٢) ، هل هو المشرك ، أو من كان مسلما من أهل الصلاة؟ فقال الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك : هو المشرك دون من كان مسلما ، فأما من أسلم فانه لا يؤاخذ بما جناه ، الا أن يكون معه عين مال قائمة ، فانه يجب عليه ردها وما عداه يسقط.

وقال الشافعي : توبته عنه حد الله الذي وجب بمحاربته ، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم ، وهو مذهبنا ، فعلى هذا ان أسقط الآدمي حق نفسه ويكون قد ظهرت منه التوبة قبل ذلك ، فلا يقام عليه الحد. وان لم يكن ظهرت منه التوبة أقيم عليه الحد لأنه محارب فيتحتم عليه الحد ، وهو قول أبي علي ، ولا خلاف أنه إذا أصيب المال بعينه في يده أنه يرد الى أهله.

فأما المشرك المحارب ، فمتى أسلم وتاب سقطت عنه الحدود ، سواء كان ذلك منه قبل القدرة عليه أو بعدها بلا خلاف.

فصل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) الاية : ٣٦.

انما نفى أن يقبل منهم فدية من غير تقييد بالتوبة لامرين :

__________________

(١). في «ن» : تكفر المعاصي.

(٢). في التبيان : الحدود.

٢٢٤

أحدهما : لأنهم لا يستحقون هذه الصفة لو وقعت منهم التوبة مع البيان عن أن الاخرة لا تقبل فيها توبة.

الثاني : أن ذلك مقيد بدليل العقل والسمع الذي دل على وجوب إسقاط العقاب عند التوبة ، كقوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (١) وعندنا أنه لم يقيده بالتوبة ، لان التوبة لا يجب إسقاط العقاب عندها عندنا ، وانما يتفضل الله بذلك عند التوبة فأراد أن يبين أن الخلاص من عذابه (٢) الذي استحق على الكفر به ومعاصيه لا يستحق على وجه ، وانما يكون ذلك تفضلا على كل حال.

قوله (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) قيل : في معناه ثلاثة أقوال ، قال أبو علي : معناه يتمنون ، فجعل الارادة ها هنا تمنيا. وقال بعضهم : معناه يكادون أن يخرجوا منها إذا رفعتم تلهبها ، كما قال عزوجل (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) (٣) أي : يكاد ويقارب.

فان قيل : كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بأنهم لا يخرجون؟

قلنا : لان العلم بأن الشيء لا يكون لا يصرف عن ارادته ، كما أن العلم بأنه يكون لا يصرف عن ارادته ، وانما يدعو الى ارادة حسنها أو الحاجة اليها ، كما أن المراد بهذه هذه المنزلة.

فصل : قوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) الاية : ٣٨.

ظاهر قوله «والسارق والسارقة» يقتضي عموم وجوب القطع على كل من يكون سارقا أو سارقة ، لان الالف واللام إذا دخلا على الأسماء المشتقة أفاد الاستغراق إذا لم يكونا للعهد دون تعريف الجنس.

__________________

(١). سورة غافر : ٣.

(٢). في التبيان : عقابه.

(٣). سورة الكهف : ٧٧.

٢٢٥

فأما من قال : القطع لا يجب الا على من كان سارقا مخصوصا من مكان مخصوص مقدارا مخصوصا ، وظاهر الاية لا ينبئ عن تلك الشروط ، فيجب أن تكون الاية مجملة مفتقرة الى بيان ، فقوله فاسد ، لان ظاهر الاية يقتضي وجوب القطع على كل من يسمى سارقا ، وانما يحتاج الى معرفة الشروط ليخرج من جملتهم من لا يجب قطعه [فأما من يجب قطعه فانا نقطعه بالظاهر ، فالآية مجملة فيمن لا يجب قطعه دون من يجب قطعه] (١) فسقط ما قالوه.

المعنى «في أيديهما» أيمانهما ، وانما جمعت الايدي لان كل شيء من شيئين فتثنيته بلفظ الجمع ، كما قال عزوجل (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (٢).

وقال الفراء : كل ما كان في البدن منه واحد فتثنيته بلفظ الجمع ، لان أكثر أعضائه فيه منه اثنان ، فحمل ما كان فيه الواحد على مثل ذلك ، فقيل قلوبهما وظهورهما كما قيل عيونهما وأيديهما.

وقال الفراء : انما فعلوا ذلك للفصل بين ما في البدن منه واحد وبين ما في البدن منه اثنان ، فجعل ما في البدن منه واحد تثنيته وجمعه بلفظ واحد ولم يثن أصلا ، لان الاضافة تدل عليه ، ولان التثنية جمع ، لأنه ضم شيء الى شيء ، وان ثنى جاز ، قال الشاعر :

ظهراهما مثل ظهور الترسين

فجمع بين الامرين ، وانما اعتبرنا قطع الايمان لإجماع المفسرين على ذلك.

والنصاب الذي يتعلق القطع به قيل : فيه ستة أقوال : أولها ـ مذهبنا وهو ربع دينار ، وبه قال الاوزاعي والشافعي.

والحرز يختلف ، فلكل شيء حرز يعتبر فيه حرز مثله في العادة ، وحده

__________________

(١). ما بين المعقوفتين من تبيان.

(٢). سورة التحريم : ٤.

٢٢٦

أصحابنا بأنه كل موضع لم يكن لغيره الدخول اليه والتصرف فيه الا باذنه فهو حرز.

وكيفية القطع عندنا يجب من أصول الأصابع الأربع ، ويترك الإبهام والكف وهو المشهور عن علي عليه‌السلام. فأما الرجل فعندنا يقطع الأصابع الأربع من مشط القدم ويترك الإبهام والعقب. دليلنا : ان ما قلناه مجمع على وجوب قطعه ، وما قالوه ليس عليه دليل.

واليد تقع على جميع اليد الى الكتف ، ولا يجب قطعه بلا خلاف الا ما حكيناه عن من لا يعتد به. وقد استدل قوم من أصحابنا على صحة ما قلناه بقوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (١) وانما يكتبونه بالأصابع. والمعتمد على ما قلناه وعليه اجماع الفرقة المحقة.

فصل : قوله (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) الاية : ٣٩.

لا تجوز التوبة من الحسن كيف تصرفت الحال ، لأنه تحريم لما ليس بحرام وتقبيح لما ليس بقبيح. ويمكن أن تكون التوبة من القبيح معصية لله ، كالذي يتوب من الإلحاد ويدخل في النصرانية.

وقوله «ان الله غفور رحيم» يدل على ما يذهب اليه من أن قبول التوبة وإسقاط العقاب عندها (٢) تفضل من الله ، فلذلك صح وصفه بأنه غفور رحيم ، ولو كان الغفران واجبا عند التوبة لم يلق به غفور رحيم.

فصل : قوله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الاية : ٤٠.

يعذب من يشاء إذا كان مستحقا للعقاب ، ويغفر لمن يشاء إذا عصاه ولم يتب لأنه إذا تاب فقد وعد بأنه لا يؤاخذه به بعد التوبة.

فصل : قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) الاية : ٤١.

__________________

(١). سورة البقرة : ٧٩.

(٢). في التبيان : عندنا.

٢٢٧

قال أهل التفسير : سماعون للكذب قابلون له ، كما يقال : لا تسمع من فلان أي لا تقبل ، ومنه سمع الله لمن حمده.

والفتنة : الاختبار.

قوله «لهم في الدنيا خزي» يعني : لهؤلاء الكفار والمنافقين الذين ذكرهم في الاية ، فبين أن لهم خزيا من عذاب الله في الدنيا ، وهو ما كان يفعله بهم من الذل والهوان والبغض والزام الجزية على وجه الصغار ، ولهم في الاخرة عذاب عظيم مضافا الى عذاب الدنيا.

فصل : قوله (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) الاية : ٤٢.

في اختيار الحكام والائمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا اليهم قولان ، أحدهما : قال ابراهيم والشعبي وقتادة وعطاء والزجاج والطبري ، وهو المروي عن علي عليه‌السلام والظاهر في رواياتنا : انه حكم ثابت والتخيير حاصل.

فصل : قوله (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الاية : ٤٥.

معناه : إذا قتلت نفس نفسا أخرى متعمدا ، أنه يستحق عليها القود ، إذا كان القاتل عاقلا مميزا ، أو كان المقتول مكافئا للقاتل. اما بأن يكونا مسلمين حرين ، أو كافرين ، أو مملوكين ، فاما أن القاتل حرا مسلما والمقتول كافرا أو مملوكا ، فان عندنا لا يقتل به ، وفيه خلاف بين الفقهاء. وان كان القاتل مملوكا أو كافرا والمقتول مثله أو فوقه ، فانه يقتل به بلا خلاف.

ويراعى في قصاص الأعضاء ما يراعى في قصاص النفس من التكافئ ، ومتى لم يكونا متكافئين ، فلا قصاص على الترتيب الذي رتبناه في النفس سواء.

ويراعى في الأعضاء التساوي أيضا ، فلا تقلع العين اليمنى باليسرى ، ولا تقطع اليمنى باليسار ، وتقطع الناقصة بالكاملة ، فمن قطع يمين غيره وكانت يمين القاطع شلا ، قال أبو علي : يقال ان شئت قطعت يمينه الشلاء ، أو تأخذ دية يدك. وقد

٢٢٨

ورد في أخبارنا أن يساره تقطع إذا لم يكن للقاطع يمين.

فأما عين به أعور ، فإنها تقلع بالعين بقلعها ، سواء كانت المقلوعة عوراء أو لم تكن. وان قلعت العوراء ، كان فيها كمال الدية إذا كانت خلقة ، أو ذهبت بآفة من الله ، أو يقلع احدى عيني القالع ، ويلزمه مع ذلك نصف الدية ، وفي ذلك خلاف ذكرناه في الخلاف.

وكسر العظم لا قصاص فيه وانما فيه الدية. وكل جارحة كانت ناقصة ، فإذا قطعت كان فيها حكومة ، ولا تقتص لها الجارحة الكاملة ، كيد شلاء وعين لا تبصر وسن سوداء وقد روينا في هذه الأشياء مقدرا ، وهو ثلث دية العضو الصحيح.

فصل : قوله (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الاية : ٤٦.

الوعظ والموعظة هو الزجر عما كرهه الله الى ما يحبه والتنبيه عليه ، وانما أضافه الى المتقين ، لأنهم المنتفعون به ، وقد مضى مثل ذلك.

فصل : قوله (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً) الاية : ٤٨.

قيل : في معنى المهيمن خمسة أقوال : أحدها : قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد : معناه أمين عليه وشاهد. وقال قوم : مؤتمن. وقال آخرون : شاهد. وقال آخرون : حفيظ. وقال بعضهم : رقيب. والأصل فيه مؤيمن ، فقلبت الهمزة هاءا ، كما قيل في أرقت الماء : هرقت ، هذا قول أبي العباس والزجاج.

قوله (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) فالشرعة والشريعة واحد ، وهي الطريقة الظاهرة ، والشريعة هي الطريق الذي يوصل به الى الماء الذي فيه الحياة والأصل فيه الظهور ، أشرعت القنا إذا أظهرته ، وشرعت في الامر شروعا إذا دخلت فيه دخولا ظاهرا ، والقوم في الامر شرع سواء ، أي : متساوون.

والمنهاج الطريق المستمر ، يقال : طريق نهج ومنهج أي بين ، قال الراجز :

٢٢٩

من يك ذا شك فهذا فلج

ماء رواء وطريق نهج (١)

وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر ، قال : وهذه الألفاظ إذا تكررت فلزيادة فائدة منه ، ومنه قول الحطيئة :

ألا حبذا هند وأرض بها هند

وهند أتى من دونها النأي والبعد (٢)

قال : والنأي لما قل بعده ، والبعد لما كثر [بعده] فالنأي للمفارقة وقد جاء بمعنى واحد ، قال الشاعر :

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

وأقوى وأقفر معناهما خلا.

تم التعليق من الجزء الثالث من كتاب التبيان.

وجاء في آخر نسخة «ق» : فرغ من كتابته لنفسه العبد الفقير الى رحمة ربه مهنا بن علي بن عطاء بن سليمان بن مختار حامدا مصليا في ذي القعدة سنة تسع وستمائة والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١). مجاز القرآن لأبي عبيدة ١ / ١٦٨.

(٢). اللسان «نأى».

٢٣٠

التعليق من الجزء الرابع من التبيان الذي لأبي جعفر الطوسي رحمه‌الله في تفسير القرآن يشتمل على بقية المائدة وسورة الانعام وبعض الاعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الاية : ٥١.

قيل : في سبب نزول هذه الاية وجوه : منها أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، لما تنصح الى بني قريظة وأشار اليهم بأنه الذبح الذبح.

ومعنى لا تتخذوهم أولياء : لا تعتمدوا على الاستنصار بهم متوددين اليهم ، والذي يجب على المؤمن معاداة من كفر بالله وبرسوله.

وقوله «ومن يتولهم منكم» يعني : من استنصرهم واتخذهم أنصارا بأنه منهم ، أي : محكوم له بحكمهم في وجوب لعنه والبراءة منه.

وقوله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) معناه : لا يهديهم الى طريق الجنة

٢٣١

لكفرهم واستحقاقهم العذاب الدائم ، بل يضلهم عنها الى طريق النار ، هذا قول أبي علي. وقال غيره : معناه لا يحكم لهم بحكم المؤمنين.

فصل : قوله (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) الاية : ٥٣.

أي : ضاعت أعمالهم التي عملوها ، لأنهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، لان ما فعلوه فعلوه على وجه النفاق دون التقرب به الى الله.

وقوله «فأصبحوا خاسرين» ليس المراد به معنى الصباح ، وانما معناه : صاروا خاسرين ، ومثل ذلك قولهم : ظل فلان يفعل كذا ، وبات يفعل كذا ، وليس يراد وقت بعينه.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) الاية : ٥٤.

اختلفوا في من نزلت هذه الاية على أربعة أقوال : فقال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريح : انها نزلت في أبي بكر.

وقال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما‌السلام وروي عن عمار وحذيفة وابن عباس أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل عليا عليه‌السلام ، فروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال يوم البصرة : والله ما قوتل أهل هذه الاية حتى اليوم ، وتلا هذه الاية. ومثل ذلك روى حذيفة وعمار وغيرهما.

والذي يقوى هذا التأويل أن الله تعالى وصف من عناه بالاية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام مستكملا لها بالإجماع ، لأنه قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وقد شهد النبي عليه‌السلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام بما يوافق لفظ الاية في قوله وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فر عنها واحدا بعد واحد : لأعطين الراية غدا رجلا يحب

٢٣٢

الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه. فدفعها الى أمير المؤمنين عليه‌السلام. وكان من ظفره ما وافق خبر الرسول عليه‌السلام.

ثم قال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم والعزة على الكافرين ، والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم. وهذه أوصاف أمير المؤمنين التي لا يداني فيها ولا يقارب.

ثم قال (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فوصف جل اسمه من عناه بهذا الجهاد وبما يقتضي فيه ، وقد علمنا أن أصحاب الرسول عليه‌السلام بين رجلين رجل لا عناء له في الحرب ولا جهاد ، وآخر له جهاد وعناء.

ونحن نعلم قصور كل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الجهاد ، فإنهم مع علو منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لا يلحقون منزلته ولا يقاربون رتبته ، لأنه عليه‌السلام المعروف بتفريج الغمم وكشف الكرب عن وجه الرسول عليه‌السلام ، وهو الذي لم يحم قط عن قرن ، ولا نكص عن هول ولا ولي الدبر. وهذه حالة لم تسلم لاحد قبله ولا بعده ، فكان عليه‌السلام بالاختصاص بالاية أولى لمطابقة أوصافه لمعناها.

فأما من قال : انها نزلت في أبي بكر ، فقوله بعيد من الصواب ، لأنه تعالى إذا كان وصف من أراده بالاية بالعزة على الكافرين وبالجهاد في سبيله مع اطراح خوف اللوم ، كيف يجوز أن يظن عاقل توجه الاية الى من لم يلزمه حظ في ذلك الموقف.

لان المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في المشركين ، ولا فتيل في الإسلام ولا وقف في شيء من حروب النبي عليه‌السلام موقف أهل البأس والعناء ، بل كان الفرار سننه والهرب ديدنه ، وقد انهزم عن النبي عليه‌السلام في مقام بعد مقام ، فانهزم يوم أحد ويوم حنين وغير ذلك ، فكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله على ما وصف في الاية من لا جهاد له جملة.

٢٣٣

وهل العدول بالاية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام مع العلم الحاصل بموافقة أوصافه لها الى غيره الا عصبية ظاهرة. ولم نذكر هذا طعنا على أبي بكر ولا قدحا فيه ، لان اعتقادنا فيه أجمل شيء ، بل قلنا ليس في الاية دلالة على قالوه.

ومعنى «أذلة» أي : أهل لين ورقة على المؤمنين «أعزة» أي : أهل جفاء وغلظة على الكافرين.

فصل : قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) الاية : ٥٥.

اختلفوا في من نزلت هذه الاية فيه ، فروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه والطبري والرماني ومجاهد والسدي : انها نزلت في علي عليه‌السلام حين تصدق بخاتمه وهو راكع. وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام وجميع علماء أهل البيت.

وقال الحسن والجبائي : انها نزلت في جميع المؤمنين. وقال قوم : نزلت في عبادة بن الصامت في تبريه من يهود بني قينقاع وحلفهم الى رسول الله والمؤمنين.

وقال الكلبي : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا ، فقطعت اليهود وموالاتهم فنزلت الاية.

واعلم أن هذه الاية من الادلة الواضحة على امامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد النبي بلا فصل ، ووجه الدلالة فيها : انه قد ثبت أن الولي في الاية بمعنى الاولى والاحق.

وثبت أيضا أن المعنى بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أمير المؤمنين عليه‌السلام. فإذا ثبت هذان الاصلان دل على إمامته ، لان كل من قال : ان معنى الولي في الاية ما ذكرناه قال : انها خاصة فيه ، ومن قال : باختصاصها به عليه‌السلام ، قال : المراد بها الامامة.

فان قيل : دلوا على أن الولي يستعمل في اللغة بمعنى الاولى والاحق ، ثم على أن المراد به في الاية ذلك ، ثم دلوا على توجهها الى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢٣٤

قلنا : الذي يدل على أن الولي يفيد الاولى قول أهل اللغة للسلطان المالك للأمر : فلان ولي الامر. قال الكميت :

ونعم ولي الامر بعد وليه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

قال : ويقولون فلان ولي عهد المسلمين ، إذا استخلف للأمر لأنه أولى بمقام من قبله من غيره. وقال النبي عليه‌السلام : أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل يريد من هو أولى بالعقد عليها. وقال تعالى (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (١) يعني : من يكون أولى بحيازة ميراثي من بني العم.

وقال المبرد : الولي والاولى والاحق والمولى بمعنى واحد. والامر فيما ذكرناه ظاهر.

فأما الذي يدل على أن المراد به في الاية ما ذكرناه ، هو أن الله تعالى نفى أن يكون لنا ولي غير الله وغير رسوله وغير الذين آمنوا بلفظة «انما» ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين ، لان الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم ، قال الله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢).

وانما قلنا ان لفظة «انما» تفيد التخصيص ، لان القائل إذا قال : انما لك عندي درهم ، فهم منه نفي ما زاد عليه ، وقام مقام قوله «ليس لك عندي الا درهم» وكذلك يقولون : انما النحاة المدققون البصريون ، ويريدون نفي التدقيق عن غيرهم. ومثله قولهم انما السخاء سخاء حاتم ، ويريدون نفي السخاء عن غيره ، قال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وانما العزة للكاثر (٣)

وأراد نفي العزة عن من ليس بكاثر. واحتجت الأنصار بما روي عن النبي

__________________

(١). سورة مريم : ٤ ـ ٥.

(٢). سورة التوبة : ٧٢.

(٣). اللسان «كثر».

٢٣٥

عليه‌السلام أنه قال : انما الماء من الماء. في نفي الغسل من غير الانزال. وادعى المهاجرون نسخ الخبر ، فلولا أن الفريقين فهموا التخصيص لما كان الامر كذلك ولقالوا «انما» لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.

ويدل أيضا على أن الولاية في الاية مختصة أنه قال «وليكم» فخاطب به جميع المؤمنين ، ودخل فيه النبي عليه‌السلام وغيره. ثم قال «ورسوله» فأخرج النبي عليه‌السلام من جملتهم ، لكونهم مضافين الى ولايته ، فلما قال «والذين آمنوا» وجب أيضا أن يكون الذي خوطب بالاية غير الذي جعلت له الولاية ، والا أدى الى أن يكون المضاف هو المضاف اليه ، وأدى الى أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه ، وذلك محال.

وإذا ثبت أن المراد بها في الاية ما ذكرناه ، فالذي يدل على أن أمير المؤمنين هو المخصوص بها أشياء :

منها : أن كل من قال : ان معنى الولي في الاية معنى الاحق قال : انه هو المخصوص به ، ومن خالف في اختصاص الاية يجعل الاية عامة في المؤمنين ، وذلك قد أبطلناه.

ومنها : أن الطائفتين المختلفتين الشيعة وأصحاب الحديث رووا أن الاية نزلت فيه عليه‌السلام خاصة.

ومنها : أن الله تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة الا فيه ، لأنه قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) فبين أن المعني بالاية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع ، وأجمعت الامة على أنه لم يؤت الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وليس لاحد أن يقول : ان قوله «وهم راكعون» ليس هو حالا لإيتاء الزكاة ، بل المراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة ، لان ذلك خلاف لأهل العربية ، لان القائل إذا قال لغيره : لقيت فلانا وهو راكب ، لم يفهم منه الا لقاؤه

٢٣٦

له في حال الركوب ، ولم يفهم منه أن من شأنه الركوب وإذا قال : رأيته وهو جالس ، أو جاءني وهو ماش ، لم يفهم من ذلك كله الا موافقة رؤيته في حال الجلوس ، أو مجيئه ماشيا. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الاية مثل ذلك.

فان قيل : ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الاية المراد به الخضوع ، كأنه قال : يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين ، كما قال الشاعر :

لا تهين الكريم علك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه (١)

والمراد علك أن تخضع.

قلنا : الركوع هو التطأطؤ المخصوص ، وانما يقال للخضوع ركوع تشبيها ومجازا ، لان فيه ضربا من الانخفاض ، يدل على ما قلناه نص أهل اللغة عليه. قال صاحب العين : كل شيء ينكب لوجهه فتمس ركبتيه الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع ، قال لبيد :

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدب كأني كلما قمت راكع (٢)

وقال ابن دريد : الراكع الذي يكبوا على وجهه ، ومنه الركوع في الصلاة قال الشاعر :

وأفلت حاجب فوق العوالي

على شقاء تركع في الظراب

أي : تكبوا على وجهها. وإذا كانت الحقيقة ما قلناه لم يجز حمل الاية على المجاز.

فان قيل : قوله «الذين آمنوا» لفظ جمع كيف تحملونه على الواحد؟

قيل : قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع إذا كان معظما عالي الذكر ، قال الله

__________________

(١). اللسان «ركع».

(٢). اللسان «ركع».

٢٣٧

تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) وقال «رب ارجعون» (٢) وقال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣) ونظائر ذلك كثيرة. وقال (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (٤) ولا خلاف أن المراد به واحد ، وهو نعيم بن مسعود الاشجعي ، وقال (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) والمراد به رسول الله. وقال تعالى (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) (٥) نزلت في عبد الله بن أبي سلول.

فإذا ثبت استعمال ذلك ، كان قوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) محمولا على الواحد الذي قدمناه.

فان قيل : لو كانت الاية تفيد الامامة ، لوجب أن يكون ذلك اماما في الحال ولجاز أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الائمة.

قلنا : من أصحابنا من قال : انه كان اماما في الحال ، لكن لم يأمر لوجود النبي عليه‌السلام ، فكان وجوده مانعا من تصرفه ، فلما مضى النبي عليه‌السلام قام بما كان له.

ومنهم من قال وهو الذي نعتمده : ان الاية دلت على فرض طاعته واستحقاقه للامامة ، وهذا كان حاصلا له. فأما التصرف فموقوف على ما بعد الوفاة ، كما يثبت استحقاق الامر لولي العهد في حياة الامام الذي قبله ، وان لم يجز له التصرف في حياته. وكذلك يثبت استحقاق الوصية للوصي ، وان منع من التصرف وجود الموصي ، فكذلك القول في الائمة. وقد استوفينا الكلام على الاية في كتب الامامة لا يحتمل بسطه هاهنا.

__________________

(١). سورة الحجر : ٩.

(٢). سورة المؤمنون : ٩٩.

(٣). سورة السجدة : ١٣.

(٤). سورة آل عمران : ١٧٢.

(٥). سورة آل عمران : ١٦٨.

٢٣٨

فان قيل : أليس قد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن سلام وأصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد ب «الذين آمنوا» هم دون من ذهبتم اليه.

قلنا : أول ما نقوله انا إذا دللنا على أن هذه الاية نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام بنقل الطائفتين ، وبما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الاية وأنها ليست حاصلة في غيره ، بطل ما روي في خلاف ذلك ، على أن الذي روي في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه ، لان عبادة لما تبرأ من حلف اليهود بخلاف ما عمل ابن أبي سلول من تمسكه بحلفهم أنزل الله تعالى الاية وعوضه من حلف اليهود ولاية من تضمنته الاية.

فأما ما روي من خبر عبد الله بن سلام ، فبخلاف ما ذهبوا اليه ، لأنه روي أن عبد الله بن سلام لما أسلم قطعت اليهود حلفه وتبرؤا منه ، فاشتد ذلك عليه وعلى أصحابه ، فأنزل الله تعالى الاية تسلية لعبد الله وأصحابه ، وأنه قد عوضهم من مخالفة اليهود ولاية الله وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا.

والذي يكشف عما قلناه أنه قد روي أنها لما نزلت خرج النبي عليه‌السلام من البيت فقال لبعض أصحابه : هل أعطى أحد سائلا شيئا؟ فقالوا : نعم يا رسول الله قد أعطى علي بن أبي طالب السائل خاتمه وهو راكع ، فقال النبي عليه‌السلام : الله أكبر قد أنزل الله فيه قرآنا ، ثم تلا الاية الى آخرها ، وفي ذلك بطلان ما قالوه.

وقد استوفينا ما يتعلق بالشبهات المذكورة في الاية في كتاب الاستيفاء ، وحللناها بغاية ما يمكن ، فمن أراده وقف عليه من هناك.

وأما الولي بمعنى الناصر ، فلسنا ندفعه في اللغة ، لكن لا يجوز أن يكون مرادا في الاية ، لما بيناه من نفي الاختصاص.

واقامة الصلاة إتمامها بجميع فروضها من قولهم فلان قائم بعمله الذي وليه أي : يوفي العمل جميع حقوقه ، ومنه قوام الامر. وفي الاية دلالة على أن العمل

٢٣٩

القليل لا يفسد الصلاة.

فصل : قوله (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) الاية : ٥٦.

قيل : في معنى قوله «ومن يتولى الله» قولان :

أحدهما : قال أبو علي : من يتولى القيام لطاعة الله ورسوله ونصرة المؤمنين.

الثاني : من يكون وليا لله ورسوله والمؤمنين بنصرة دين الله والإخلاص له ولا يدل ذلك على أن الولاية في الاية الاولى هي تولي النصرة من حيث كان في هذه الاية كذلك ، لأنه لا تنافي بين أن تفيد الاية الاولى فرض الطاعة ، وان أفادت الثانية تولي النصرة ، وليس يجب أن تحمل الثانية على الاية الاولى من غير ضرورة.

على أن في أصحابنا من قال : هذه الاية مطابقة للأولى ، وأنها تفيد وجوب طاعة الله وطاعة رسوله والذين آمنوا ، وهم الذين ذكرهم في الاية الاولى ، فعلى هذا زالت الشبهة.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) الاية : ٥٧.

اللعب : الأخذ على غير طريق الحق. ومثله العبث ، وأصله من لعاب الصبي يقال لعب يلعب لعبا إذا سال لعابه ، لأنه يخرج الى غير جهته ، فكذلك اللاعب يمر في غير جهة الصواب.

فصل : قوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) الاية : ٥٩.

معنى «تنقمون» تسخطون. وقيل : تكرهون. قال عبد الله بن قيس الرقيات :

٢٤٠