المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

لأنها جعلت كالاسم ، مثل الطويلة والظريفة ، فوجه هذا القائل (١) النطيحة الى معنى الناطحة ، ويكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها.

وقال بعض الكوفيين : انما يحذف الهاء من فعيلة بمعنى مفعولة إذا كانت صفة لاسم قد تقدمها ، مثل كف خضيب وعين كحيل ولحية دهين. فأما إذا حذف الكف والعين واللحية ، والاسم الذي يكون فعيل نعتا له واجتزوا بفعيل اثبتوا فيه هاء التأنيث ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر ، فنقول : رأينا كحيلة وخضيبة وأكيلة السبع ، فلذلك دخلت الهاء في النطيحة ، لأنها صفة للمؤنث.

والقول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول أكثر المفسرين ابن عباس وابن ميسرة (٢) والضحاك ، لأنهم أجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتا.

قوله «وما أكل السبع» معناه : ما قتله السبع ، وهو قول ابن عباس والضحاك وقتادة ، وهو فريسة السبع.

وقوله «الا ما ذكيتم» معناه الا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء التي وصفها.

واختلفوا في الاستثناء الى ما يرجع ، فقال قوم : انه يرجع الى جميع ما تقدم ذكره من قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) الا ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم وهو الأقوى ، ذهب اليه على عليه‌السلام وابن عباس ، قال : وهو ان تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وبه قال الحسن وقتادة وابراهيم وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك.

وقال آخرون : هو استثناء من التحريم لا من المحرمات ، لان الميتة لا ذكاة لها

__________________

(١). في التبيان : تأويل.

(٢). في التبيان : وأبو ميسرة.

٢٠١

ولا الخنزير ، قالوا : والمعنى حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر الا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية فانه حلال لكم ، ذهب اليه مالك وجماعة من أهل المدينة واختاره الجبائي.

وسئل مالك عن الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاؤها ، فقال : لا أرى أن تذكي ولا يؤكل أي شيء يذكى منها.

وقال كثير من الفقهاء : انه يراعى أن يلحق وفيها حياة مستقرة فيذكى ، فيجوز أن يؤكل ، فأما ما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة فلا يجوز بحال. واختار الطبري الاول وقال : كل ما أدرك ذكاته مما ذكر من طير أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده ، فحلال أكله إذا كان مما أحله الله لعباده ، واختار البلخي والجبائي الاول.

فان قيل : فما وجه تكرار قوله (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) والمنخنقة والموقوذة وجميع ما عدد تحريمه في هذه الاية ، وقد افتتح الاية بقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) والميتة تعم جميع ذلك ، وان اختلفت أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو إهلال لغير الله أو أكيل سبع ، وانما يكون كذلك على معنى قول من يقول : انها وان كانت فيها حياة إذا كانت غير مستقرة فلا يجوز أكلها.

قيل : الفائدة في ذلك أن الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت إلا ما مات حتف أنفه من دون شيء من هذه الأشياء (١) ، فأعلمهم الله أن حكم الجميع واحد ، وأن وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة.

والتذكية : هو فري الأوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة ولا يكون بحكم الميت وأصل الذكاء في اللغة تمام الشيء ، فمن ذلك الذكاء في السن والفهم وهو تمام السن.

قال الخليل : الذكاء أن يأتي في السن على قروحه ، وهو سن في ذات الحافر

__________________

(١). في التبيان : الأسباب.

٢٠٢

هي البزولة في ذات الخف ، وهي الصلوغة في ذات الظلف وذلك تمام استكمال القوة ، قال الشاعر :

بفضله إذا اجتهدا عليها

تمام السن منه والذكاء

وقيل : جرى المذكيات غلاب ، أي جرى المسان التي أسنت. ومعنى تمام السن النهاية في الشباب ، فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء ، والذكاء في الفهم أن يكون فهما تاما سريع القبول.

وذكيت النار انما هو من هذا تأويله أتممت اشعالها ، فالمعنى على هذا الا ما ذكيتم ، أي : ما أدركتم ذبحه على التمام.

قال المسلمون : كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ، فنحن أحق أن نعظمه فأنزل الله (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) الاية (١).

وقوله (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) واحد الازلام زلم وزلم ، قال الراجز :

بات يراعيها غلام كالزلم

وهي سهام كانت للجاهلية ، مكتوب على بعضها أمرني ربي ، وعلى بعضها نهاني ربي ، فإذا أرادوا سفرا وأمرا يهتم به ضربوا تلك القداح ، فان خرج السهم الذي عليه «أمرني ربي» مضى لحاجته ، وان خرج الذي عليه «نهاني ربي» لم يمض ، وان خرج ما ليس عليه شيء أعادوها ، فبين تعالى أن ذلك حرام العمل به.

والاستقسام الاستفعال من قسمت أمري ، أي : قلبته ودبرته ، قال الراعي :

وتركت قومي يقسمون أمورهم

اليك أم يتلبثون قليلا

فصل : قوله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) الاية : ٤.

__________________

(١). سورة الحج : ٣٧.

٢٠٣

الطيبات الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح ، على قول الطبري والجبائي وغيرهما. وقال البلخي : الطيبات هو ما يستلذ به.

وقال قوم : وأحل لكم أيضا مع ذلك صيد ما علمتم من الجوارح ، وهي الكواسب من سباع الطير والبهائم ، ولا يجوز أن يستباح عندنا أكل شيء مما اصطاده الجوارح والسباع سوى الكلب الا ما أدرك ذكاته.

وسميت الطير جوارح لجرحها أربابها وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد ، يقال منه : جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم خيرا ، وفلان جارح أهله أي كاسبهم ولا جارحة لفلانة أي لا كاسب لها ، قال الشاعر اعشى بني ثعلبة.

ذات خد منضج ميسمها

تذكر الجارح ما كان اجترح

يعني : اكتسب.

واختلفوا في الجوارح التي ذكر في الاية بقوله (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) فقال قوم : هو كل ما علم للصيد فيتعلمه ، بهيمة كانت أو طائرا ، ذهب اليه الحسن ومجاهد وخيثمة (١) بن عبد الرحمن ، ورووه عن ابن عباس وطاوس وعلي بن الحسين وأبى جعفر عليهم‌السلام ، وقالوا : الفهد والبازي من الجوارح.

وقال قوم : عنى بذلك الكلاب خاصة دون غيرها من السباع ، ذهب اليه الضحاك والسدي وابن عمر وابن جريح ، وهو الذي رواه أصحابنا عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما‌السلام. فأما ما عدا الكلاب ، فما أدرك ذكاته فهو مباح ، والا فلا يحل أكله ويقوى قولنا قوله تعالى «مكلبين» وذلك مشتق من الكلب ، ومن صاد بالباز والصقر لا يكون مكلبا.

وقوله «مكلبين» نصب على الحال ، وتقديره : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح مكلبين ، أي : في هذه الحال ، يقال : رجل مكلب وكلاب إذا كان

__________________

(١). في التبيان : وحثيمة.

٢٠٤

صاحب صيد بالكلاب ، وفي ذلك دليل على أن صيد الكلب الذي لم يعلم حرام إذا لم تدرك ذكاته.

وقوله (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) معناه : تؤدبون الجوارح فتعلموهن طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم به. وقال بعضهم : معناه كما علمكم الله ، ذهب اليه السدي. وهذا ضعيف ، لان «من» بمعنى الكاف لا يعرف في اللغة ولا بينهما تقارب ، لان الكاف للتشبيه ومن للتبعيض.

واختلفوا في صفة التعليم للكلب ، فقال بعضهم : هو أن يستشلى لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه ، ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه ، ويستجيب له إذا دعاه ولا يفر منه إذا دعاه ، فإذا توالى منه ذلك كان معلما ، ذهب اليه ابن عباس وعطاء وابن عمر والشعبي وطاوس وابراهيم والسدي. قال عطاء : إذا أكل منه فهو ميتة.

وقال ابن عباس : إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل منه ، فإنما أمسك على نفسه ، وهو الذي دلت عليه أخبارنا ، غير أنهم اعتبروا أن يكون أكل الكلب للصيد دائما ، فأما إذا كان نادرا ، فلا بأس بأكل ما أكل منه.

وقال أبو يوسف ومحمد : حد التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرات.

وقال قوم : لا حد لتعلم الكلاب ، فإذا فعل ما قلناه فهو معلم ، وقد دل على ذلك رواية أصحابنا ، لأنهم رووا أنه إذا أخذ كلب مجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما قتله.

وقد بينا أن صيد غير الكلب لا يحل أكله الا ما أدرك ذكاته ، فلا يحتاج أن يراعى كيف يعلمه ولا أكله منه ، ومن أجاز ذلك أجاز أكل ما أكل منه البازي والصقر ، ذهب اليه عطاء وابن عباس والشعبي وابراهيم ، وقالوا : تعلم البازي هو أن يرجع الى صاحبه.

٢٠٥

وقال قوم : جوارح الطير والسباع سواء في ذلك ، ما أكل منه وما لا يؤكل وروي ذلك عن علي عليه‌السلام والشعبي وعكرمة وابن جريح.

ومن شرط استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه سمى عند إرساله ، فان لم يسم لم يجز له أكله الا إذا أدرك ذكاته. وحده أن يجده يتحرك عينه أو أذنيه أو ذنبه ، فيذكيه حينئذ بفري الحلقوم والأوداج.

واختلفوا في «من» في قوله (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) فقال قوم : هي زائدة ، لان جميع ما يمسكه فهو مباح ، وتقديره : فكلوا مما أمسكن عليكم ، وجرى ذلك مجرى قوله (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) (١).

وأنكر قوم ذلك وقالوا : «من» للتبعيض ، ومعنى قوله (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) ما يشاؤه ويريده ، فليست «من» هاهنا للتبعيض أيضا.

والأقوى أن تكون في الاية للتبعيض ، لان ما يمسكه الكلب من الصيد لا يجوز أكل جميعه ، لان في جملته ما هو حرام من الدم والفرث والغدد ، وغير ذلك مما لا يحل أكله ، فإذا قال (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أفاد ذلك بعض ما أمسكن ، وهو الذي أباح الله أكله من اللحم وغيره.

ومتى غاب الكلب والصيد عن العين ثم رآه ميتا لا يجوز أن يأكله ، لأنه يجوز أن يكون مات من غير قتل الصيد ، وفي الحديث : كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت فمعنى أصميت أن يصطاد بكلب أو غيره فمات وأنت تراه مات بصيدك.

وأهل الصميان السرعة والخفة. ومعناه ها هنا ما أسرع فيه الموت وأنت تراه ، ومعنى ما أنميت ما غاب عنك فلا تدري مات بصيدك أو بعارض آخر ، يقال نمت الرمية إذا مضت والسهم فيها وأنميت الرمية إذا رميتها فمضت والسهم فيها

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٧١.

٢٠٦

قال امرؤ القيس (١) :

قالت سليمى قد غنيت فتى

فالان لا تصمي ولا تنمي

ومتى أخذ الكلب الصيد ومات في يده من غير أن يجرحه لم يجز أكله ، وأجاز قوم ذلك. والاول أحوط ، وكل من لا يؤكل ذبيحته من أجناس الكفار لا يؤكل صيده أيضا ، فأما الاصطياد بكلابه ، فجائز إذا صاده المسلم.

فصل : قوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الاية : ٥.

الطيبات هي الحلال على ما بيناه في الاية الاولى دون ما حرم في الاية المتقدمة وقيل : معنى الطيبات ما يستلذ ويستطاب ، فظاهر الاية على هذا يقتضي تحليل كل مستطاب الا ما قام دليل على تحريمه.

وقوله (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) رفع بالابتداء و (أُحِلَّ لَكُمُ) خبره وذلك يختص عند أكثر أصحابنا بالحبوب ، لأنها المباحة من أطعمة أهل الكتاب فأما ذبائحهم وكل مايع يباشرونه بأيديهم ، فانه ينجس ولا يحل استعماله وتذكيتهم لا تصح لان من شرط صحتها التسمية ، لقوله (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وهؤلاء لا يذكرون اسم الله ، وان ذكروه قصدوا بذلك اسم من أبد شرع موسى أو عيسى ، أو اتخذ عيسى ابنا وكذب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك غير الله وقد حرم الله ذلك بقوله (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) على ما مضى القول فيه.

وقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) معناه : وأحل لكم العقد على المحصنات يعني : العفائف من المؤمنات. وقيل : هي الحرائر منهن.

ولا يدل ذلك على تحريم من ليس بعفيفة ولا أمة ، لان ذلك دليل خطاب يترك لدليل يقوم على خلافه ، ولا خلاف أنه لو عقد على من ليس بعفيفة ولا أمة كان عقده

__________________

(١). كذا في النسخ الثلاث ، وفي التبيان بعد ما ذكر شعرا لامرء القيس قال : وقال الحارث بن وعلة الشيباني.

٢٠٧

صحيحا غير مفسوخ ، وان كان الاولى تجنبه. وكذلك لو عقد على أمة بشرط جواز العقد على الامة ، على ما مضى القول فيه.

وعندنا لا يجوز العقد على الكتابية نكاح الدوام ، لقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (١) ولقوله (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (٢) فإذا ثبت ذلك قلنا في قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) تأويلان :

أحدهما : أن يكون المراد بذلك اللائي أسلمن منهن ، والمراد بقوله «والمحصنات» من كن في الأصل مؤمنات ولدن على الإسلام من قبل (٣) أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على الكافرة إذا أسلمت ، فبين الله بذلك أنه لا حرج في ذلك ، فلذلك أفردهن بالذكر ، حكى ذلك البلخي.

والثاني : أن يخص ذلك بنكاح المتعة أو ملك اليمين ، لأنه يجوز عندنا وطؤهن بعقد المتعة وملك اليمين ، على أنه روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام أن ذلك منسوخ بقوله (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : انه منسوخ بقوله (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) الاية : ٦.

اختلفوا هل يجب ذلك كلما أراد القيام الى الصلاة أو بعضها أو في أي حال هي؟

فقال قوم : المراد به إذا أراد القيام اليها وهو على غير وضوء ، وهو الذي اختاره الطبري والبلخي والجبائي والزجاج. وقال آخرون : معناه إذا قمتم من نومكم الى الصلاة ، ذهب اليه زيد بن أسلم والسدي. وقال آخرون : المراد به كل حال قيام الإنسان الى الصلاة ، فعليه أن يجدد طهر الصلاة ، ذهب اليه عكرمة

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٢١.

(٢). سورة الممتحنة : ١٠.

(٣). في التبيان : على الإسلام. قيل.

٢٠٨

وقال : كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الاية. وقال ابن سيرين : ان الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة.

والاول هو الصحيح عندنا ، وما روي عن علي عليه‌السلام من تجديد الوضوء عند كل صلاة محمول على الندب.

وأقوى الأقوال ما حكيناه أولا ، من أن الفرض بالوضوء يتوجه الى من أراد الصلاة وهو على غير طهر ، فأما من كان متطهرا فعليه ذلك استحبابا. وما روي عن النبي عليه‌السلام والصحابة في تجديد الوضوء ، فهو محمول على الاستحباب في جميع الأحوال لإجماع أهل العصر.

قوله (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) أمر من الله بغسل الوجه واختلفوا في حد الوجه الذي يجب غسله ، فحده عندنا من قصاص شعر الرأس الى محادر (١) شعر الذقن طولا ، ما دخل بين الوسطى والإبهام عرضا ، وما خرج عن ذلك فلا يجب غسله وما ترك من الشعر عن المحادر لا يجب غسله.

والذي يدل على صحة ذلك أن ما قلناه مجمع على أنه من الوجه ، ومن ادعى الزيادة فعليه الدلالة. واستوفينا ذلك في مسائل الخلاف وتهذيب الأحكام.

وقوله (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) منصوب بالعطف على الوجوه الواجب غسلها ويجب عندنا غسل الايدي من المرافق وغسل المرافق معها الى رؤوس الأصابع ولا يجوز غسلها من الأصابع الى المرافق ، و «الى» في الاية بمعنى «مع» كقوله (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (٢) وقوله (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣) وأراد بذلك «مع» قال امرؤ القيس :

__________________

(١). في التبيان : محاذي.

(٢). سورة النساء : ٢.

(٣). سورة آل عمران : ٥٢ وسورة الصف : ١٤.

٢٠٩

له كفل كالدعص لبده الندى

الى حارك مثل الرتاج المضبب

وقال النابغة الجعدي :

ولوح ذراعين في بركة

الى جؤجؤ رهل المنكب

أراد مع حارك ومع رهل. وطعن الزجاج على ذلك ، فقال : لو كان المراد ب «الى» مع لوجب غسل اليد الى الكتف لتناول الاسم له ، وانما المراد ب «الى» الغاية والانتهاء ، لكن المرافق يجب غسلها مع اليدين.

وهذا الذي ذكره ليس بصحيح ، لأنا لو خلينا وذلك لقلنا بما قاله ، لكن أخرجناه بدليل ، ودليلنا على صحة ما قلناه اجماع الامة على أنه متى بدأ من المرافق كان وضوءه صحيحا ، وإذا جعلت غاية ففيه الخلاف.

واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال مالك بن أنس : يجب غسل اليدين الى المرفقين ، ولا يجب غسل المرفقين ، وهو قول زفر. وقال الشافعي : لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها. وقال الطبري : غسل المرفقين وما فوقهما مندوب اليه غير واجب.

وانما اعتبرنا غسل المرافق ، لإجماع الامة على أن من غسلهما صحت صلاته ومن لم يغسلهما ففيه الخلاف. والمرافق جمع مرفق ، وهو المكان الذي يرتفق به ، أي : يتكأ عليه على المرفقة وغيرها.

وقوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) اختلفوا في صفة المسح ، فقال قوم : يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح ، وهو مذهبنا ، وبه قال ابن عمر والقاسم بن محمد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابراهيم والشعبي وسفيان ، واختاره الشافعي وأصحابه والطبري. وذهب قوم الى أنه يجب مسح جميع الرأس ، ذهب اليه مالك. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجوز مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وعندنا لا يجوز المسح الأعلى مقدم الرأس ، وهو المروي عن ابن عمر والقاسم بن محمد

٢١٠

واختاره الطبري. ولم يعتبر أحد من الفقهاء ذلك ، وقالوا : أى موضع مسح أجزأه.

وانما اعتبرنا المسح ببعض الرأس لدخول الباء الموجبة للتبعيض ، لان دخولها في الموضع الذي يتعدى الفعل فيه بنفسه لا وجه له غير التبعيض ، والا كان لغوا وحملها على الزيادة لا يجوز مع إمكان حملها على فائدة مجددة (١).

فان قيل : يلزم على ذلك المسح ببعض الوجه في التيمم.

قلنا : كذلك نقول ، لأنا نقول بمسح الوجه من قصاص الشعر الى طرف الانف ومن غسل الرأس فانه لا يجزيه عن المسح عندنا ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : يجزيه ، لأنه يشتمل عليه.

وهذا غير صحيح ، لان حد المسح هو إمرار العضو الذي فيه نداوة على العضو الممسوح من غير أن يجري عليه الماء ، والغسل لا يكون الا بجريان الماء عليه ، فمعناهما مختلف ، وليس إذا دخل المسح في الغسل يسمى الغسل مسحا كما أن العمامة [لا تسمى] (٢) خرقة ، وان كانت تشتمل على خرق كثيرة.

وقوله (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) عطف على الرؤوس ، فمن قرأ بالجر ذهب الى أنه معطوف على موضع الرؤوس ، لان موضعهما نصب لوقوع المسح عليها وانما جر الرؤوس لدخول الباء الموجبة للتبعيض على ما بيناه والقراءتان جميعا تفيدان المسح على ما نذهب اليه.

وممن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري وأبو علي الجبائي ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم ممن ذكرناهم في الخلاف ، غير أنهم أوجبوا الجمع بين المسح والغسل ، المسح بالكتاب والغسل بالسنة. وخير الطبري في ذلك ، وأوجبوا كلهم استيعاب جميع الرجل ظاهرا وباطنا.

__________________

(١). في «م» : مجردة.

(٢). الزيادة من التبيان.

٢١١

وعندنا أن المسح على ظاهرهما من رؤوس الأصابع الى الكعبين ، وهما النابتان في وسط القدم على ما نستدل عليه. وقال عكرمة : عن ابن عباس الوضوء غسلتان ومسحتان ، وبه قال أنس بن مالك.

وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل انما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي وقال : ألا ترى أن في التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا.

وقال قتادة : افترض الله مسحين وغسلين ، وروى أوس بن أبي أوس قال : رأيت النبي عليه‌السلام توضأ ومسح على نعليه ثم قام فصلى. وروى حذيفة قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سباطة قوم فبال عليها قائما ، ثم دعى بماء فتوضأ ومسح على نعليه وروى حبة الغربي قال : رأيت علي بن أبي طالب شرب في الرحبة قائما ، ثم توضأ ومسح على نعليه.

وروي عن ابن عباس أنه وصف وضوء رسول الله فمسح على رجليه. وعنه أنه قال : ان كتاب الله المسح ويأبى الناس الا الغسل. وعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : ما نزل القرآن بالمسح.

فان قيل : القراءة بالجر ليست على العطف على الرؤوس في المعنى ، وانما عطف عليها على طريق المجاورة ، كما قالوا : حجر ضب خرب ، وخرب من صفات الحجر لا الضب ، وكما قال الشاعر :

كان بثيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

والمزمل من صفة الكبير لا البجاد ، وقال الأعشى :

لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضى لبانات ويسام سائم

قلنا : هذا لا يجوز من وجوه :

أحدها : ما قال الزجاج : ان الاعراب بالمجاورة لا يجوز في القرآن ، وانما يجوز ذلك في ضرورة الكلام والشعر.

٢١٢

والثاني : ان الاعراب بالمجاورة لا يكون مع حرف العطف ، وفي الاية حرف العطف الذي يوجب أن يكون حكم المعطوف حكم المعطوف عليه ، وكل ما ذكروه ليس فيه حرف العطف ، فأما قول الشاعر :

فهل أنت ان ماتت أتانك راحل

الى آل بسطام بن قيس فخاطب

قالوا : جر مع حرف العطف الذي هو الفاء ، فانه يمكن أن يكون أراد الرفع وانما جر الراوي وهما ويكون عطفا على راحل ويكون قد أقوى ، لان القصيدة مجرورة.

والثالث : ان الاعراب بالمجاورة انما يجوز مع ارتفاع اللبس ، فأما مع حصول اللبس فلا يجوز ، ولا يشتبه على أحد أن خربا من صفات الحجر لا الضب وكذلك قوله «مزمل» من صفة الكبير لا البجاد ، وليس كذلك في الاية ، لان الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة ومغسولة ، فالاشتباه حاصل ، فأما قول الشاعر «ثواء ثويبة» فإنما جره بالبدل من الحول ، والمعنى لقد كان في ثواء ثويبة يقتضي لبانات وهو من بدل الاشتمال ، كقوله (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ) (١) وقال الشاعر :

لم يبق الا أسير غير منفلت

وموثق في عقال الأسر مكبول

فليس خفض موثق على المجاورة ، لان معنى البيت : لم يبق غير أسير ، ف «الا» بمعنى «غير» وهي تعاقبها في الاستثناء ، فقوله «غير موثق» عطف على المعنى على موضع أسير ، وتقديره : لم يبق غير أسير وغير منفلت. فأما قوله «وحور عين» في قراءة من جرهما ، فليس بمجرور على المجاورة ، بل يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون عطفا على قوله (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الى قوله «وحور عين» عطف على أكواب وقولهم انه لا يطاف الا بالكأس غير مسلم ، بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما

__________________

(١). سورة البروج : ٤.

٢١٣

يطاف بالكأس. وقد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة واللحم.

والثاني : أنه لما قال (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) عطف بحور عين على جنات النعيم ، فكأنه قال : هم في جنات النعيم وفي مقاربة أو معاشرة حور عين ، ذكره أبو على الفارسي.

فأما من قال : الرجلان ممسوحتان ويراد بالمسح الغسل ، فقوله يبطل بما بيناه (١) من أن المسح غير الغسل ، واستشهادهم بقوله «تمسحت للصلاة» وأنهم سموا الغسل مسحا.

وقوله (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) وأنه أراد غسلهما ، باطل بما قدمناه ولأنه لو كان ذلك محتملا لغة لما احتمل شرعا ، لان الشرع فرق بين الغسل والمسح ولذلك قالوا : بعض أعضاء الطهارة مغسولة وبعضها ممسوحة ، وفلان يرى غسل الرجلين وفلان يرى مسحهما ، ولأنه لا خلاف أن الرأس ممسوح مسحا ليس بغسل فلا بد أن يكون حكم الرجلين حكمه ، لكونهما معطوفين عليه.

وقوله (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ) فأكثر المفسرين على أن المراد به فطفق ضربا ذهب اليه الفراء وأبو عبيدة. وقال آخرون : أراد المسح في الحقيقة. ومن قال القراءة بالجر يقتضي المسح ، غير أنه المسح على الخفين ، فقوله باطل ، لان الخف لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع ، والله تعالى أمر بإيقاع الفرض على ما يسمى رجلا على الحقيقة.

وأما القراءة بالنصب ، فقد بينا أنها معطوفة على موضع الرؤوس ، لان موضعها النصب والحكم فيها المسح ، والعطف على الموضع جائز ، لأنهم يقولون لست بقائم ولا قاعدا ، قال الشاعر :

معاوي اننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

__________________

(١). في التبيان : قلناه.

٢١٤

وعطف الأرجل على الايدي لا يجوز ، لان الكلام متى حصل فيه عاملان : قريب وبعيد ، لا يجوز اعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله عليه ، لا يجوز أن يقول القائل : ضربت زيدا وعمروا ، وأكرمت خالدا وبكرا. ويريد بنصب بكر العطف على زيد وعمرو المضروبين ، لان ذلك خروج عن فصاحة الكلام ودخول في معنى اللغز.

وبمثل ما قلناه ورد القرآن وأكثر الشعر ، قال الله تعالى (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (١) ولو أعمل الاول لقال : كما ظننتموه. وقال (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٢) ولو أعمل الاول لقال : أفرغه. وقال (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٣) ولو اعمل الاول لقال : اقرؤوه ، وقال الشاعر :

قضى كل ذي دين فوفى غريمه

وعزة ممطول معنى غريمها

ولو أعمل الاول لقال : فوفاه غريمه ، فأما قول امرئ القيس :

فلو ان ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

فإنما أعمل الاول للضرورة ، لأنه لم يجعل القليل مطلوبا ، وانما كان المطلوب عنده الملك القليل كافيا ، ولو لم يرد هذا ونصب لفسد المعنى.

فأما من نصب بتقدير واغسلوا أرجلكم ، كما قال :

متقلدا سيفا ورمحا

وعلفتها تبنا وماء باردا

فقد أخطأ ، لان ذلك انما يجوز إذا استحال حمله على ما في اللفظ ، فأما إذا جاز حمله على ما في اللفظ ، فلا يجوز هذا التقدير.

ومن قال : يجب غسل الرجلين لأنهما محدودتان كاليدين ، فقوله ليس بصحيح

__________________

(١). سورة الجن : ٧.

(٢). سورة الكهف : ٩٦.

(٣). سورة الحاقة : ١٩.

٢١٥

لأنا لا نسلم أن العلة في كون اليدين مغسولتين كونهما محدودتين ، وانما وجب غسلهما لأنهما عطفا على عضو مغسول ، وهو الوجه ، فلذلك إذا عطف الرجلان (١) على ممسوح هو الرأس وجب أن يكون ممسوحين.

والكعبان عندنا هما النابتان في وسط القدم ، وبه قال محمد بن الحسن ، وان أوجب الغسل. وقال أكثر المفسرين والفقهاء : الكعبان هما عظما الساقين يدل على ما قلناه ، انه لو أراد ما قالوا لقال الى الكعاب ، لان في الرجلين منها أربعة.

وأيضا فكل من قال : يجب مسح الرجلين ، ولا يجوز الغسل. قال : الكعب هو ما قلناه ، لان من خالف في أن الكعب ما قلناه على قولين : قائل يقول بوجوب الغسل وآخر يقول بالتخيير. وقال الزجاج : كل مفصل للعظام فهو كعب.

وفي الاية دلالة على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين :

أحدهما : أن الواو يوجب الترتيب لغة على قول الفراء وأبي عبيد ، وشرعا على قول كثير من الفقهاء ، ولقوله عليه‌السلام «ابدءوا بما بدأ الله به».

والثاني : أن الله أوجب على من يريد القيام الى الصلاة إذا كان محدثا أن يغسل وجهه أولا ، لقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) (٢) فالفاء يوجب التعقيب والترتيب بلا خلاف ، فإذا ثبت أن البدأة بالوجه هو الواجب ثبت في باقي الأعضاء لان أحدا لا يفرق ، ويقويه قوله عليه‌السلام للاعرابي حين علمه الوضوء ، فقال : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة الا به» فان كان رتب فقد بين أنه الواجب الذي لا يقبل الله الصلاة الا به. وان لم يرتب لزم أن يكون من رتب لا يجزيه ، وقد أجمعت الامة على خلافه.

وفي الاية دلالة على أن من مسح على العمامة أو الخفين لا يجزيه ، لان العمامة

__________________

(١). في التبيان : الرجلين.

(٢). سورة المائدة : ٦.

٢١٦

لا تسمى رأسا والخف لا يسمى رجلا ، كما لا يسمى البرقع ولا ما يستر اليدين وجها ولا يدا.

وفي الاية دلالة على وجوب النية في الوضوء ، لأنه قال (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) وتقديره فاغسلوا للصلاة ، ولا يمكن أن يكون غاسلا هذه الأعضاء للصلاة الا بنية.

وقوله «وان كنتم جنبا فاطهروا ، معناه : وان أصابتكم جنابة وأردتم القيام الى الصلاة فاطهروا ، ومعناه فتطهروا بالاغتسال. والجنابة تكون بشيئين :

أحدهما : بانزال الماء الدافق في النوم أو اليقظة وعلى كل حال ، بشهوة كان أو بغير شهوة.

والاخر : بالنقاء الختانين ، وحده غيبوبة الحشفة ، أنزل أو لم ينزل.

والجنب يقع على الواحد والجماعة والاثنين والمذكر والمؤنث ، ويقال أجنب الرجل وجنب واجتنب ، والفعل الجنابة ، وأصل الجنابة البعد ، قال علقمة :

فلا تحرمني نائلا عن جنابة

فاني امرؤ وسط القباب غريب

وقوله «أو لامستم النساء» معناه : أو جامعتم النساء وأنتم مسافر ، وقد بينا اختلاف الفقهاء في اللمس ، وبينا أصح الأقوال في ذلك ، فلا وجه لا عادته.

فان قيل : ما معنى تكرار قوله «أو لامستم النساء» ان كان معنى اللمس الجماع مع أنه قد تقدم ذكر الواجب عليه ، لقوله «وان كنتم جنبا فاطهروا».

قلنا : وجه ذلك أن المعنى في قوله «ان كنتم جنبا» غير المعنى الذي الزمه بقوله «أو لامستم النساء» لأنه تعالى بين الحكم بقوله «وان كنتم جنبا فاطهروا» إذا كنتم واجدين للماء متمكنين لاستعماله ، ثم بين حكمه إذا عدم الماء أو لا يتمكن من استعماله ، أو هو مسافر غير مريض مقيم ، فأعلمه أن التيمم هو فرضه وهو طهارته.

فصل : قوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ) الاية : ٩.

٢١٧

الوعد هو الخبر الذي يتضمن النفع من المخبر ، والوعيد هو الخبر الذي يتضمن الضرر من المخبر ، وتقول : وعدته خيرا وأوعدته شرا ، فالايعاد مطلقا يكون في الشر ، والوعد مطلقا في الخير ، فإذا قيدته بذكر الخير أو الشر قلت فيهما معا وعدته وأوعدته معا ، فيما حكاه الزجاج.

والأجر المذكور في الاية هو الثواب ، والفرق بين الثواب والأجر في العرف أن الثواب هو الجزاء على الطاعات ، والأجر قد يكون مثل ذلك وقد يكون في معنى المعاوضة على المنافع بمعنى الاجرة.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) الاية : ١١.

الفرق بين الذكر والعلم ، أن الذكر ضده السهو ، والعلم ضده الجهل ، وقد يجتمع الذكر للشيء والجهل به من وجه واحد ، ومحال أن يجتمع العلم به والجهل به من وجه واحد والفرق بين الذكر والخاطر ، أن الخاطر مرور المعنى على القلب ، والذكر حصول المعنى في النفس.

فصل : قوله (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الاية : ١٢.

الكفر معناه الجحود والتغطية والستر ، قال لبيد :

في ليلة كفر النجوم غمامها

وقوله «تجري من تحتها» يعني : من تحت أشجار هذه الجنات الأنهار.

وقوله «فمن كفر بعد ذلك منكم» يعنى : من جحد.

فصل : قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) الاية : ١٣.

«ما» زائدة و «ما» مؤكدة في قول قتادة وجميع المفسرين ، ومثله قول الشاعر :

لشيء ما يسود من يسود

ومعنى «جعلنا» هاهنا قال البلخي : سميناها بذلك عقوبة على كفرهم ونقض ميثاقهم ، ويجوز أن يكون المراد أن الله بكفرهم لم يفعل بهم اللطف الذي تنشرح

٢١٨

به صدورهم كما يفعل بالمؤمن ، وذلك مثل قولهم «أفسدت سيفك» إذا تركت تعاهده حتى صدئ ويقولون : جعلت أظافيرك سلاحك إذا لم تقصها.

ويشهد للأول قوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) (١) وأراد بذلك أنهم سموا الله شركاء.

وقال أبو علي : هو البيان عن حالهم وجفاء قلوبهم عن الايمان بالله ورسوله كما يقال : جعلته فاسقا مهتوكا إذا أبنت (٢) عن حاله للناس.

ومعنى قاسية يابسة صلبة. وقال أبو عبيدة : قاسية معناه فاسدة ، من قولهم «درهم قسي» أي : زائف ، قال أبو زبيد :

لها صواهل في صم السلاح كما

صاح القسيات في أيدي الصياريف

وقال أبو العباس : الدرهم انما سمي قسيا إذا كان فاسدا ، لشدة صوته بالقس الذي فيه ، فهو راجع الى الاول ، وقال الراجز :

وقد قسوت وقسى لداتي

فصل : قوله (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) الاية : ١٤.

الذي نقوله ان الوجه في إغراء الله فيما بينهم أنه أمر النصارى بمعاداة اليهود فيما يفعله اليهود من القبيح في التكذيب بالمسح وشتم أمه ، وأمر اليهود بمعاداة النصارى في اعتقادهم التثليث وأن المسيح ابن الله ، فكان في ذلك أمر كل واحد منهما بالطاعة.

فصل : قوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) الاية : ١٥.

انما لم يقل يا أهل الكتابين ، لان الكتاب اسم جنس وفيه معنى العهد ، وهو أوجز وأحسن في اللفظ من حيث كانوا كأنهم أهل كتاب واحد.

__________________

(١). سورة الانعام : ١٠٠.

(٢). في التبيان : أبان.

٢١٩

فصل : قوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) الاية : ١٧.

وجه الاحتجاج بذلك أنه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله إذا أتى بإهلاكه وإهلاك غيره ، وليس بقادر عليه ، لاستحالة القدرة على مغالبة القديم تعالى ، إذ ذلك من صفات المحتاج الذليل.

وقوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) انما لم يقل وما بينهن مع ذكر السماوات على الجمع ، لأنه أراد به النوعين أو الصفتين (١).

فصل : قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الاية : ١٨.

قوله (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) قال السدي : يغفر لمن يشاء بمعنى يهدي من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء على كفره فيعذبه.

وقوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال أبو علي : ذلك بأنه يملك السماوات والأرض وما بينهما ، على أنه لا ولد له ، لان المالك لذلك لا شبه له ، وأن المالك لا يملك ولده بخلقه له.

وقوله «اليه المصير» معناه أنه يؤول اليه أمر العباد في أنه لا يملك ضرهم ولا نفعهم غيره عزوجل ، لأنه يبطل تمليكه لغيره ذلك اليوم كما ملكهم في دار الدنيا ، كما يقال : صار (٢) أمرنا الى القاضي لا على معنى قرب المكان ، وانما يراد بذلك أنه المتصرف فينا والامر لنا دون غيره.

فصل : قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) الاية : ٢٧.

قيل : في علامة القبول قولان ، قال مجاهد : كانت النار تأكل المردود. وقال غيره : بل كانت العلامة في ذلك نارا تأتي فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود. وقال قوم : في الاية دلالة على أن طاعة الفاسق غير متقبلة ، لكنها تسقط عقاب تركها.

__________________

(١). في التبيان : الصنفين.

(٢). في «ن» : يصار.

٢٢٠