المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

فصل : قوله (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) الاية : ١٣٨.

قوله (صِبْغَةَ اللهِ) يعني : فطرة الله ، في قول الحسن وقتادة وأبي العالية ومجاهد وعطية وابن زيد والسدي. وقال الفراء والبلخي : شريعة الله في الختان الذي هو التطهير.

وقوله (صِبْغَةَ اللهِ) مأخوذ من الصبغ ، لان بعض النصارى كانوا إذا ولد لهم مولود جعلوه في ماء لهم ، يجعلون ذلك تطهيرا له ، ويسمونه «العمودية» فقيل : صبغة الله ، أي : تطهير الله لا تطهيركم بتلك الصبغة ، وهو قول الفراء.

وقال الجبائي : سمي الدين صبغة لأنه هيئة تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة ، وغير ذلك من الآثار الجميلة التي هي كالصبغة. وقال أمية :

في صبغة الله كان إذ نسي

العهد وخلى الصواب إذ عزما

ومعنى قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) الجحد ، أي : لا أحد أحسن من الله صبغة ، واللفظ لفظ الاستفهام ، وبه قال الحسن وغيره.

فصل : قوله (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الاية : ١٤٠.

معنى الاية : الاحتجاج عليهم في قولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) فقيل لهم : كيف ذلك؟ والامر بخلافه من وجهين :

أحدهما : ما أخبر به نبينا عليه‌السلام مع ظهور المعجز الدال على صدقه.

والاخر : ما في التوراة والإنجيل من أنهم كانوا على الحنيفية ، لان عندهم اسم اليهودية يقع على من تمسك بشريعة التوراة ، والنصرانية اسم لمن تمسك بشريعة الإنجيل ، وقد قال الله تعالى (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) (١).

__________________

(١). سورة آل عمران : ٦٥.

٢١

فان قيل : لم قال (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) وقد كانوا يعلمونه وكتموه ، وانما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم.

قلنا : من قال : انهم كانوا على ظن وتوهم ، فوجه الكلام على قوله واضح. ومن قال : كانوا يعلمون ذلك ، وانما كانوا يجحدونه ، يقول : معناه ان منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله أخبر به ، فما ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم منه ، وأنه لا يخفى عليه شيء ، لان ما دل على أنه أعلم هو الدال على أنه لا يخفى عليه شيء ، وهو أنه عالم لنفسه ويعلم جميع المعلومات.

والشهادة التي كتموها قيل فيها قولان :

أحدهما : قال مجاهد والربيع وابن أبي نجيح : انهم كتموا الشهادة ، بأنهم كانوا على الإسلام.

والثاني : قال الحسن وقتادة وابن زيد واختاره الجبائي : انهم كتموا الشهادة بالبشارة التي عندهم بالنبي عليه‌السلام.

فصل : قوله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) الاية : ١٤١.

المعنى بقوله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) على قول قتادة والربيع ، ابراهيم ومن ذكر معه. وعلى قول الجبائي وغيره من سلف من آبائهم الذين كانوا على ملتهم اليهودية والنصرانية.

وقد بينا فيما مضى أن الامة الجماعة التي تؤم جهة واحدة ، كأمة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تؤم العمل على ما دعا اليه ، وكذلك أمم سائر الأنبياء صلوات الله عليهم.

والخلاء : الفراغ. والكسب الفعل الذي يجر فاعله به نفعا ، أو يدفع به ضررا.

٢٢

وانما قيل : كسب السيئة ، لأنه اجتلب (١) بها النفع عاجلا (٢).

فصل : قوله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الاية : ١٤٢.

أخبر الله تعالى نبيه عليه‌السلام أنه سيقول لك فيما بعد السفهاء ، وهو جمع سفيه ، وهو والجاهل والغبي نظائر.

«ما ولاهم» معناه : أي شيء ولاهم ، ومعنى «ولاهم» صرفهم عنه ، ومثله قلبه عنه وقبله عنه عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فالقبلة الجهة التي تستقبل في الصلاة وقبلة المسلمين الكعبة.

والسفيه الخفيف الى ما لا يجوز له أن يخف اليه ، وهي صفة ذم في الدين ، وضد السفه الحكمة. واشتقاق «ولاهم» من الولي ، وهو حصول الثاني بعد الاول من غير فصل ، والثاني يلي الاول.

وانما صرفهم الله عن القبلة الاولى ، لما علم الله تعالى من تغير المصلحة في ذلك. وقيل : انما فعل ذلك لما قال الله تعالى (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) لأنهم كانوا بمكة ، أمروا أن يتوجهوا الى بيت المقدس ، ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون الى الكعبة.

فلما انتقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون الى بيت المقدس ، فنقلوا الى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما أريد في الاول أن يتميزوا من أولئك. واختار ذلك البلخي والجبائي والرماني.

وقوله (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أمر من الله تعالى لنبيه أن يقول لهؤلاء الذين

__________________

(١). في التبيان : أجلب.

(٢). الى هنا ثم المقابلة مع المجلد الاول من كتاب التبيان.

٢٣

عابوا انتقالهم عن بيت المقدس الى الكعبة المشرق والمغرب ، ملك لله يتصرف فيهما كيف يشاء على ما يقتضيه حكمته.

وفي الاية دلالة على جواز النسخ ، لأنه تعالى نقلهم عن عبادة كانوا عليها الى إيقاعها على وجه آخر ، وهذا هو النسخ.

فصل : قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) الاية : ١٤٣.

استدل البلخي والجبائي والرماني وابن الأخشاد وكثير من الفقهاء وغيرهم بهذه الاية على أن الإجماع حجة ، من حيث أن الله وصفهم بأنهم عدول ، فإذا عدلهم الله لم يجز أن تكون شهادتهم مردودة. وقد بينا في أصول الفقه أنه لا دلالة فيها على أن الإجماع حجة.

وجملته : أن الله تعالى وصفهم بأنهم عدول ، وبأنهم شهداء ، وذلك يقتضي أن يكون كل واحد عدلا وشاهدا ، لان شهداء جمع شهيد ، وقد علمنا أن كل واحد من هذه الامة ليس بهذه الصفة ، فلم يجز أن يكون المراد ما قالوه.

على أن الامة ان أريد بها جميع الامة ، فقد بينا أن كثيرا ممن يحكم بفسقه بل بكفره فلا يجوز حملها على الجميع. وان خصوها بالمؤمنين العدول ، جاز لنا أن نخصها بجماعة كل واحد منهم موصوف بما وصفنا به جماعتهم ، وهم الائمة المعصومون من آل الرسول عليهم‌السلام.

على أنا لو سلمنا ما قالوه من كونهم عدولا ، ينبغي أن نجنبهم ما يقدح في عدالتهم ، وهي الكبائر. فأما الصغائر التي تقع مكفرة ، فلا تقدح في العدالة ، فلا ينبغي أن يمنع منها.

ومتى جوزنا عليهم الصغائر ، لم يمكنا أن نحتج بإجماعهم ، لأنه لا شيء أجمعوا

٢٤

عليه الا ويجوز أن يكون صغيرا ، فلا يقدح في عدالتهم ، ولا يجب الاقتداء بهم فيه لكونه قبيحا ، وفي ذلك بطلان الاحتجاج بإجماعهم. وكيف يجتنبون الصغائر؟ وحال شهادتهم ليس بأعظم من شهادة النبي عليه‌السلام ، ومع هذا يجوزون عليه الصغائر فهلا جاز مثل ذلك عليهم ، ولا تقدح في عدالتهم ، كما لم تقدح في عدالة النبي عليه‌السلام

وقوله (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) قيل في معناه قولان :

أحدهما : عليكم شهيدا بما يكون من أعمالكم وقيل : يكون حجة عليكم.

والثاني : يكون لكم شهيدا بأنكم قد صدقتم يوم القيامة بما تشهدون به ، وجعلوا «على» بمعنى اللام ، كما قال (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (١) أي : للنصب.

وقوله (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) أي : ما صرفناك عن القبلة التي كنت عليها الا لنعلم.

وقوله «الا لنعلم» قيل في معناه ثلاثة أقوال :

أولها : الا لنعلم ، أي : لنعلم حزبنا من النبي والمؤمنين ، كما يقول الملك :

فعلنا وفتحنا ، بمعنى فعل أولياؤنا ، ومن ذلك قيل : فتح عمر السواد وجبا الخراج وان لم يتول ذلك بنفسه.

الثاني : الا ليحصل المعلوم موجودا ، فقيل على هذا : الا لنعلم ، لأنه قبل وجود المعلوم لا يصح وصفه بأنه عالم بوجوده.

الثالث : الا لنعاملكم معاملة المختبر الممتحن الذي كأنه لا يعلم أن العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم أنه يكون منهم كان ظلما لهم.

ونظير (٢) ذلك : قول القائل لمن أنكر أن تكون النار تحرق الحطب : فلتحضر النار والحطب لنعلم أتحرقه أم لا؟ على جهة الانصاف في الخطاب ، لا على جهة

__________________

(١). سورة المائدة : ٤.

(٢). في التبيان : ويظهر.

٢٥

الشك في الإحراق ، وهذا الوجه اختاره ابن الأخشاد والرماني.

وكان علي بن الحسين المرتضى الموسويّ نظر الله وجهه يقول في مثل ذلك وجها مليحا ، وهو أن قال : قوله «لنعلم» يقتضي حقيقة أن يعلم هو وغيره ، ولا يحصل علمه مع علم غيره الا بعد حصول الاتباع ، فأما قبل حصوله فإنما يكون تعالى العالم وحده ، فصح حينئذ ظاهر الاية.

وهذا وجه رابع ، الا أن قوله (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) يدل على حدوث العلم ، لأنه كان قبل ذلك عالما بأن الاتباع سيوجد أولا يوجد ، فان وجد كان عالما بوجوده ، وان لم يتجدد له صفة وانما تجدد المعلوم ، لان العلم بالشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد ، وانما يتغير عليه الاسم ، ويجري ذلك مجرى تغير الاسم على زمان بعينه ، بأن يوصف [بأنه غد] قبل حصوله ، فإذا حصل قيل : انه اليوم ، وإذا تقضى وصف بأنه أمس ، فتغير عليه الاسم ، والمعلوم لم يتغير.

وقوله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) قيل في معناه أقوال :

أولها : قال ابن عباس وقتادة والربيع : لما حولت القبلة قال ناس : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الاولى؟ وقيل : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك؟ فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

وهذه الاية فيها دلالة على جواز النسخ في الشريعة بل على وقوعه ، لأنه قال : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) فأخبر أن الجاعل لتلك القبلة كان هو تعالى ، وأنه هو الذي نقله عنها ، وذلك هو النسخ.

فان قيل : كيف أضاف الايمان الى الأحياء وهم كانوا قالوا : كيف بمن مضى من إخواننا.

قلنا : يجوز ذلك على التغليب ، لان من عادتهم أن يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث ، تنبيها على الأكمل ، فيقولون : فعلنا بكما وبلغناكما

٢٦

وان كان أحدهما حاضرا والاخر غائبا.

فان قيل : كيف جاز على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الشك في من مضى من إخوانهم فلم يدروا أنهم كانوا على حق في صلاتهم الى بيت المقدس؟

قيل : الوجه في الخبر المروي في ذلك كيف إخواننا لو أدركوا الفضل بالتوجه الى الكعبة معنا؟ لأنهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم. أو يكون قال ذلك منافق ، فخاطب الله المؤمنين بما فيه الرد على المخالفين المنافقين.

فصل : قوله (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) الاية :

١٤٤.

قوله «ترضاها» أي : تحبها ، والرضا ضد السخط ، وهو ارادة الثواب. والسخط إرادة الانتقام.

وقوله «شطر المسجد» أي : نحوه وتلقاه بلا خلاف بين أهل اللغة ، وعليه المفسرون ، كابن عباس ومجاهد وأبي العالية وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم ، قال الشاعر :

وقد أظلكم من شطر ثغركم

هول له ظلم يغشاكم قطعا

أي : من نحو ثغركم.

وقال الجبائي : أراد بالشطر النصف ، كأنه قال : فول وجهك نصف المسجد لان شطر الشيء نصفه ، فأمره أن يولي وجهه نحو نصف المسجد حتى يكون مقابل الكعبة.

وهذا فاسد ، لأنه خلاف أقوال جميع المفسرين ، ولان اللفظ إذا كان مشتركا بين النصف وبين النحو ينبغي ألا يحمل على أحدهما الا بدليل ، وعلى ما قلناه اجماع المفسرين.

قال الزجاج : [يقال] هؤلاء القوم مشاطرونا ، أي : دورهم تتصل بدورنا ،

٢٧

كما يقال : هؤلاء يناحوننا ، أي : نحن نحوهم وهم نحونا.

وروي عن ابن عباس أنه قال : أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة.

وقال قتادة : نسخت هذه الاية ما قبلها. وقال جعفر بن مبشر : هذا مما نسخ من السنة بالقرآن. وهذا هو الأقوى ، لأنه ليس في القرآن ما يدل على تقيده بالتوجه الى بيت المقدس.

ومن قال : أنها نسخت قوله (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١) قلنا له : هذه ليست منسوخة ، بل هي مختصة بالنوافل في حال السفر.

والحق وضع الشيء في موضعه إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح (٢). والغفلة هي السهو عن بعض الأشياء خاصة ، وإذا كان السهو عاما فهو فوق الغفلة ، وهو السهو العام ، لان النائم لا يقال أنه غفل عن الشيء الا مجازا.

وقال عطاء في قوله (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قال : الحرم كله مسجد ، وهذا مثل قول أصحابنا : ان الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرام من أهل الآفاق.

واختلف الناس في صلاة النبي عليه‌السلام الى بيت المقدس ، فقال قوم : كان يصلي بمكة الى الكعبة ، فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه الى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم أعيد الى الكعبة.

وقال قوم : كان يصلي بمكة الى بيت المقدس ، الا أنه كان يجعل بينه وبينها ، ولا يصلي من غير المكان الذي يمكن هذا فيه.

وقال قوم : بل كان يصلي بمكة وبعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرا الى بيت

__________________

(١). سورة البقرة : ١١٥.

(٢). في «ن» : النسخ.

٢٨

المقدس ، ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها ، ثم أمره الله بالتوجه الى الكعبة.

ومن صلى الى غير القبلة لشبهة دخلت عليه ثم تبينه ، فان كان الوقت باقيا أعاد الصلاة. وان خرج الوقت ، فان كان صلى يمينا وشمالا ، فلا اعادة عليه ، وان صلى الى استدبارها أعاد ، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

فصل : قوله (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) وقد آمن منهم خلق.

قلنا عن ذلك جوابان :

أحدهما : قال الحسن : ان المعنى ان جميعهم لا يؤمن ، وهو اختيار الجبائي.

والثاني : ان ذلك مخصوص بمن كان معاندا من أهل الكتاب ، دون جميعهم الذين وصفهم الله ، فقال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) اختاره البلخي والزجاج.

وهذه الاية دالة على فساد قول من قال : لا يكون الوعيد بشرط ، وعلى فساد قول من قال بالموافاة ، وأن من علم الله أنه يؤمن لا يستحق العقاب أصلا ، لان الله تعالى علق الوعيد بشرط ، فوجب أن يكون متى حصل الشرط يحصل استحقاق العقاب.

وفيها دليل على فساد قول من قال : ان الوعيد لا يقع لمن علم أنه لا يعصي ، لان الله تعالى علم من حال الرسول أنه لا يتبع أهواءهم ، ومع هذا توعده ان اتبع أهواءهم.

وفي الاية دلالة على بطلان قول من قال : ان في المقدور لطفا لو فعل الله بالكافر لا من لا محالة من قبل. انه قيل في قوله (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

٢٩

بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) قولان :

أحدهما : ان المعاند لا تنفعه الدلالة ، لأنه عارف. والاخر أنه لا لطف لهم فيكتمه (١) ليؤمنوا. وعلى القولين فيه دلالة على فساد قول أصحاب اللطف ، لان مخرجه مخرج التنصل من التخليف عنهم ما يؤمنون عنده طوعا.

فصل : قوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الاية : ١٤٦.

أخبر الله عن أهل الكتاب أنهم يعرفون النبي عليه‌السلام ، كما يعرفون أبناءهم وان جماعة منهم يكتمون الحق مع علمهم بأنه حق.

وقوله «وهم يعلمون» يحتمل أمرين ، أحدهما : يعلمون صحة ما كتموه. والثاني : يعلمون ما لمن دفع الحق من العقاب والذم.

فصل : قوله (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الاية : ١٥٠.

قيل : فيه أربعة أقوال : أحدها أنه استثناء منقطع ، و «الا» بمنزلة «لكن» كقوله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) (٢) وكقولك : ما له علي حق الا التعدي والظلم ، كأنك قلت : لكن يتعدى ويظلم ، ويضع ذلك موضع الحق اللازم ، فكذلك «لكن الذين ظلموا منهم» فإنهم يتعلقون بالشبهة ، ويضعونها موضع الحجة فلذلك حسن الاستثناء المنقطع. وقال النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب (٣)

__________________

(١). في «م» والتبيان : فتلتمسه.

(٢). سورة النساء : ١٥٦.

(٣). اللسان «فلل» و «قرع» فلول السيف : كسر من حده. القرع : الضرب الشديد. الكتائب جمع كتيبة ، وهي فرقة من الجيش المصفح.

٣٠

جعل ذلك عيبهم على طريق البلاغة ، وان كان ليس بعيب ، كأنه يقول : ان كان فيهم عيب فهذا ، وليس هذا بعيب ، فاذن ليس فيهم عيب ، فكذا ان كان على المؤمنين حجة ، فللظالم في احتجاجه ، ولا حجة لهم ، فليس اذن عليهم حجة.

وثانيها : ما قاله أبو عبيدة ان «الا» هاهنا بمعنى الواو ، كأنه قال : لئلا يكون للناس عليهم حجة ولا للذين (١) ظلموا منهم.

فصل : قوله (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) الاية : ١٥٤.

فان قيل : هل الشهداء أحياء على الحقيقة أم معناه أنهم سيحيون وليس أحياء؟

قلنا : الصحيح أنهم أحياء الى أن تقوم الساعة ، ثم يحييهم الله في الجنة ، لا خلاف بين أهل العلم فيه الا قولا شاذا من بعض المتأخرين. والاول قول الحسن ومجاهد وقتادة والجبائي وابن الأخشاد والرماني وجميع المفسرين.

واستدل أبو على الجبائي على أنهم أحياء في الحقيقة بقوله «ولكن لا تشعرون» فقال : لو كان المعنى سيحيون في الاخرة لم يقل للمؤمنين المقرين بالبعث والنشور «ولكن لا تشعرون» لأنهم يعلمون ذلك ويشعرون به.

فان قيل : ولم خص الشهداء بأنهم أحياء؟ والمؤمنون كلهم في البرزخ أحياء.

قيل : يجوز أن يكونوا ذكروا اختصاصا وتشريفا لهم ، وقد يكون على جهة التقديم للبشارة بذكر حالهم ، ثم (٢) البيان لما يختصون به من أنهم يرزقون ، كما قال تعالى (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٣).

__________________

(١). في التبيان : والذين.

(٢). في التبيان : في.

(٣). سورة آل عمران : ١٦٩.

٣١

الشعور هو ابتداء العلم بالشيء ، من جهة المشاعر ، وهي الحواس ، ولذلك لا يوصف تعالى بأنه شاعر ، ولا أنه يشعر ، وانما يوصف بأنه عالم ويعلم. وقد قيل : ان الشعور ادراك ما دق للطف الحس ، مأخوذ من الشعر لدقته. ومنه شاعر لأنه يفطن من اقامة الوزن وحسن النظم بالطبع لما لا يفطن له غيره.

فان قيل : كيف يجوز أن يكونوا أحياء؟ ونحن نرى جثتهم على خلاف ما كانت عليه في الدنيا.

قيل : ان النعيم والعذاب انما يصل الى الروح وهي الحية ، وهي الإنسان دون الجثة ، والجثة كالحية واللباس لصيانة الأرواح. ومن زعم أن الإنسان هذه الجملة وجعل الجثة جزءا منها ، فانه يقول : يلطف أجزاء من الإنسان يوصل اليه النعيم وان لم يكن الإنسان بكماله ، على نحو ما ذكرنا أن النعيم لا يصل اليه نفسه.

فصل : قوله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) الاية : ١٥٨.

الصفا والمروة : هما الجبلان (١) المعروفان بالحرم ، وهما من الشعائر ، كما قال الله تعالى.

والشعائر : المعالم للأعمال ، فشعائر الله معالم الله التي جعلها مواطن للعبادة وهي أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر ، وهو مأخوذ من شعرت به ، أي علمت. وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو أداء فريضة ، فهو مشعر لتلك العبادة وواحد الشعائر شعيرة ، فشعائر الله أعلام متعبداته. قال الكميت :

نقتلهم جيلا فجيلا نراهم

شعائر قربان بهم نتقرب (٢)

والحج قصد البيت بالعمل المشروع : من الإحرام ، والطواف ، والوقوف

__________________

(١). في «ن» : الجبيلان.

(٢). اللسان «شعر».

٣٢

بعرفة ، والسعي بين الصفا والمروة. واشتقاقه من الحج الذي هو القصد على وجه التكرار والتردد. قال الشاعر (١) :

وأشهد من عوف حلولا كثيرة

يحجون سب الزبرقان المزعفرا (٢).

يعني : يكثرون التردد اليه لسؤدده.

وأما العمرة في الأصل فهي الزيارة ، وهي هاهنا زيارة البيت بالعمل المشروع : من طواف الزيارة والإحرام ، وأخذت العمرة من العمارة ، لان الزائر للمكان يعمره بزيارته له.

وقوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) فالجناح هو الميل عن الحق ، وأصله من جنح اليه جنوحا إذا مال اليه.

والفرق بين الطاعة والتطوع : أن الطاعة موافقة الارادة في الفريضة والنافلة والتطوع التبرز بالنافلة خاصة ، وأصلها الطوع الذي هو الانقياد.

وانما قال (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وهو طاعة من حيث أنه جواب لمن توهم أن فيه جناحا لصنمين كانا عليه ، أحدهما إساف ، والاخر نائلة ، في قول الشعبي وكثير من أهل العلم ، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وكان ذلك في عمرة القضاء ولم يكن فتح مكة بعد ، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة.

وقال قوم : سبب ذلك أن الجاهلية كانوا يطوفون بينهما ، فكره المسلمون ذلك خوفا أن يكون من أفعال الجاهلية ، فأنزل الله الاية.

وقوله «ومن تطوع خيرا» قيل : فيه ثلاثة أقوال ، أولها : من تطوع خيرا ، أي بالحج أو العمرة بعد الفريضة. الثاني : من تطوع خيرا بعد الفرائض.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ

__________________

(١). هو المخبل السعدي ، وهو مخضرم.

(٢). البيان والتبين ٣ / ٩٧.

٣٣

لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) الاية : ١٥٩.

روي عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار سألوا نفرا من اليهود عما في التوراة ، فكتموهم إياه ، فأنزل الله «ان الذين يكتمون» الاية. وانما نزل فيهم هذا الوعيد ، لان الله تعالى علم منهم الكتمان.

وعموم الاية يدل على أن كل من كتم شيئا من علوم الدين وفعل مثل فعلهم في عظم الجرم أو أعظم منه ، فان الوعيد يلزمه. وأما ما كان دون ذلك ، فلا يعلم بالاية بل بدليل آخر ، وقد روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار. وقال أبو هريرة : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم ، وتلا «ان الذين يكتمون ما أنزل الله» الاية. فهذا تغليظ للحال في كتمان علوم الدين.

واستدل قوم بهذه الاية على وجوب العمل بخبر الواحد ، من حيث أن الله تعالى توعد على كتمان ما أنزله ، وقد بينا في أصول الفقه أنه لا يمكن الاعتماد عليه لان غاية ما في ذلك وجوب الاظهار ، وليس إذا وجب الاظهار وجب القبول.

كما أن على الشاهد الواحد يجب اقامة الشهادة ، وان لم يجب على الحاكم قبول شهادته ، حتى ينضم اليه ما يوجب الحكم بشهادته ، وكذلك يجب على النبي اظهار ما حمله ، ولا يجب على أحد قبوله حتى يقترن به المعجز الدال على الصدق ولذلك نظائر ذكرناها.

على أن الله تعالى بين أن الوعيد انما توجه على من كتم ما هو بينة وهدى وهو الدليل ، فمن أين أن خبر الواحد بهذه المنزلة ، فاذن لا دلالة في الاية على ما قالوه والبينات والهدى هي الادلة ، وهما بمعنى واحد ، وانما كرر لاختلاف لفظهما.

فصل : قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الاية : ١٦٠.

٣٤

قبول التوبة بمعنى إسقاط العقاب عندها غير واجب عندنا عقلا ، وانما علم ذلك سمعا ، تفضلا من الله تعالى على ما وعد به بالإجماع على ذلك ، وقد بينا في شرح الجمل في الأصول أنه لا دلالة عقلية عليه.

ووصفه نفسه بالرحيم عقيب قوله «التواب» دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه ورحمة من جهته.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الاية : ١٦١.

الكفر ما يستحق به العقاب الدائم عندنا وعند من خالفنا في دوام عقاب فساق أهل الصلاة ، أنه ما يستحق به العذاب الدائم الكبير (١) ، ويتعلق به أحكام مخصوصة وسواء كان الكفر في تشبيه الله بخلقه ، أو في تجريده في

أفعاله ، أو الرد على النبي عليه‌السلام ، أو ما كان أعظم منه في القبح.

فصل : قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) الاية : ١٦٣.

يوصف تعالى بأنه واحد على أربعة أوجه :

أولها : بأنه ليس بذي أبعاض ، ولا يجوز عليه الأقسام.

الثاني : واحد في استحقاق العبادة.

الثالث : واحد لا نظير له ولا شبيه.

الرابع : واحد في الصفات التي يستحقها لنفسه ، والواحد شيء لا ينقسم عددا كان أو غيره ويجري على وجهين على الحكم وعلى جهة الوصف ، فالحكم كقولك الجزء واحد ، والوصف كقولك انسان واحد ودار واحدة.

ومعنى اله أنه تحق له العبادة ، وغلط الرماني فقال : هو المستحق للعبادة ،

__________________

(١). في التبيان : الكثير.

٣٥

ولو كان كما قال لما كان (١) ... فجمع بين اللغتين.

«وما أهل به لغير الله» قيل : في معناه قولان ، أحدهما قال الربيع وابن زيد وغيرهما من أهل التأويل : معناه ذكر غير اسم الله عليه. والثاني قال قتادة ومجاهد : ما ذبح لغير الله. والإهلال على الذبيحة هو رفع الصوت بالتسمية.

وقوله «غير باغ ولا عاد» قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أولها : غير باغ اللذة ولا عاد سد الجوعة ، وهو قول الحسن وقتادة ومجاهد والربيع وابن زيد.

والثاني : ما حكاه الزجاج غير باغ في الافراط ، ولا عاد في التقصير.

الثالث : غير باغ على امام المسلمين ، ولا عاد بالمعصية طريقة المحقين ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

قال الرماني : هذا القول لا يسوغ ، لأنه تعالى لم يبح لاحد قتل نفسه ، بل حظر عليه ذلك ، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين. ولان الرخصة انما كانت لأجل المجاعة المتلفة ، لا لأجل الخروج في طاعة وفعل اباحة.

وهذا الذي ذكره غير صحيح ، لان من بغى على امام عادل ، فأدى ذلك الى تلفه ، فهو المعرض نفسه للقتل ، كما لو قتل في المعركة فانه المهلك لها ، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله ، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين.

وما قاله من أن الرخصة لمكان المجاعة لا نسلم إطلاقه ، بل يقال : انما ذلك للمجاعة التي لم يكن هو المعرض نفسه لها. فأما إذا عرض نفسه لها ، فلا يجوز

__________________

(١). كذا في النسخ وقال في هامش «ن» : هنا شيء ساقط تقريبا من أربع ورقات من نسخة الأصل ، وراجع الساقط التبيان ، وفيه : لما كان تعالى إلها فيما لم يزل الخ. التبيان ج ٢ من ص ٥٣ الى ص ٨٤.

٣٦

له استباحة المحرم ، كما قلناه في قتل نفس الغير ليدفع عن نفسه القتل.

وأصل البغي الطلب من قولهم : بغى الرجل حاجته يبغيها بغاءا. والبغاء : طلب الزنا ، وانما اقتضى ذلك المغفرة هاهنا أحد أمرين : أحدهما : النهي عما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة والوصيلة والحام ، فوعد بالمغفرة عند التوبة والانابة والطاعة فيما أباحه أو حظره.

والقدر المباح من الميتة عند الضرورة ما يمسك الرمق عندنا ، وفيه خلاف ذكرناه في خلاف الفقهاء.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) الاية : ١٧٤.

ليس المراد به أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا ، وانما القصد أن كل ما يأخذونه في مقابلته من حطام الدنيا ، فهو قليل كما قال (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) (١) وكما قال (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (٢) وانما أراد أن قتل النبيين لا يكون الا بغير حق وان من ادعي مع الله إلها آخر لا يقوم له عليه برهان وكما قال الشاعر :

على لا حب لا يهتدى بمناره

والمعنى لا لاحب هناك فيهتدى به ، لأنه لو كان لاهتدى به.

والبطن خلاف الظهر ، وعرفت هذا الامر باطنه وظاهره ، اي : سره وعلانيته وفلان بطانتي دون اخواني ، أي : الذي أبطنه أمري.

وقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : لا يكلمهم بما يحبون ، وانما هو دليل على الغضب عليهم ، وليس

__________________

(١). سورة آل عمران : ٢١.

(٢). سورة المؤمنون : ١١٧.

٣٧

فيه دليل على أنه لا يكلمهم بما يسوءهم ، لأنه قد دل في موضع آخر فقال : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (١).

الثاني : لا يكلمهم أصلا ، فتحمل آيات المسائلة على أن الملائكة تسائلهم بأمر الله.

والاشتراء هو الاستبدال بالثمن العوض ، فلما كانوا هؤلاء استبدلوا بذنبهم الثمن القليل ، قيل فيهم : انهم اشتروا به ثمنا قليلا. أو الثمن هو العوض من العين والورق.

فصل : قوله (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) الاية : ١٧٥.

التعجب (٢) لا يجوز على القديم تعالى ، لأنه عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء ، والتعجب يكون مما لا يعرف سببه ، وانما الغرض بالاية أن يدلنا على أن الكفار حلوا محل من يتعجب منه ، فهو تعجيب لنا منهم.

فصل : قوله (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ) الاية : ١٧٧.

قيل : فيه قولان :

أحدهما : ذكره ابن عباس ومجاهد أنه ليس البر كله في التوجه الى الصلاة بل حتى يضاف الى ذلك غيره من الطاعات التي أمر الله بها.

والثاني : قاله قتادة والربيع ، واختاره الجبائي : انه ليس البر ما عليه النصارى من التوجه الى المشرق ، أو ما عليه اليهود من التوجه الى المغرب ، ولكن البر ما ذكره الله وبينه.

ومعنى «ولكن البر من آمن» قيل : فيه ثلاثة أقوال : أولها ولكن البر بر من

__________________

(١). سورة الاعراف : ٥.

(٢). في التبيان : والعجب.

٣٨

آمن بالله ، فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه ، واختاره المبرد لقوله «ليس البر أن تولوا» وقال النابغة :

وقد خفت حتى ما يزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل (١)

يعني : على مخافة وعل.

الثاني : ولكن البار من آمن بالله ، فجعل المصدر في موضع اسم الفاعل.

قوله «وفي الرقاب» قيل : فيه قولان ، أحدهما : عتق الرقاب ، والثاني : المكاتبين. وينبغي أن تحمل الاية على الامرين ، لأنها تحتمل الامرين ، وهو اختيار الجبائي والرماني.

وقوله «ذوي القربى» قيل : أراد به قرابة المعطي ، اختاره الجبائي ، لقوله عليه‌السلام لما سئل عن أفضل الصدقة ، فقال : جهد المقل على ذي القرابة الكاشح ويحتمل أن يكون أراد به قرابة النبي عليه‌السلام ، كما قال (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقوله (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) عطفا على «من آمن» ويحتمل أن يكون رفعا على المدح ، كقول الشاعر :

الى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرأي حين تغم الأمور

بذات الصليل وذات اللحم (٣)

وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) معناه : الذين جمعوا العمل بهذه الخصال الموصوفة بأنهم صدقوا في الحقيقة ، لأنهم عملوا بموجب ما أقروا به ، وأولئك هم المتقون.

__________________

(١). ديوانه ص ٩٠.

(٢). سورة الشورى : ٢٣.

(٣). معاني القرآن للفراء ١ / ١٠٥.

٣٩

واستدل أصحابنا بهذه الاية على أن المعني بها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأنه لا خلاف بين الامة أن جميع هذه الخصال كانت جامعة فيه ، ولم تجتمع في غيره قطعا ، فهو مراد بالاية بالإجماع ، وغيره مشكوك فيه غير مقطوع عليه.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) الاية : ١٧٨.

القصاص : التقاص من الجراحات والحقوق. والحر نقيض العبد ، والحرة أرض ذات حجارة سود فكأنها أحرقت بالنار ، والحرورية منسوب الى حرورا قرية كان أول مجتمعهم بها. والمحرر المختص بخدمة الكنيسة ما عاش ، ومنه قوله «في بطني محررا» (١).

وقوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) معناه : ترك من عفت المنازل ، أي : تركت حتى درست.

وقال جعفر بن مبشر عن بعضهم : ان هذه الاية منسوخة بقوله «النفس بالنفس» (٢) قال : وليست عندي كذلك ، لان الله تعالى انما أخبرنا أنه كتبها على اليهود قبلنا ، وليس في ذلك ما يوجب أنه فرض علينا الآن ، لان شريعتهم منسوخة بشريعتنا.

والذي أقوله أن هذه الاية ليست منسوخة ، لان ما تضمنته معمول عليه ، ولا ينافي قوله «النفس بالنفس» لان تلك عامة وهذه خاصة ، ويمكن بناء تلك على هذه ولا يتناقض ، ولا يحتاج الى أن ينسخ إحداهما الاخرى.

ويجوز قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر اجماعا ، ولقوله (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً

__________________

(١). سورة آل عمران : ٣٥.

(٢). سورة المائدة : ٤٨.

٤٠