المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

في الائمة الذين دلت الادلة على عصمتهم وطهارتهم. فأما من قال به العلماء فقوله بعيد ، لان قوله (وَأُولِي الْأَمْرِ) معناه : أطيعوا من له الامر وليس ذلك للعلماء.

فان قالوا : يجب علينا طاعتهم إذا كانوا محقين ، فإذا عدلوا عن الحق فلا طاعة لهم علينا.

قلنا : هذا تخصيص لعموم إيجاب الطاعة لم يدل عليه دليل ، وحمل الاية على العموم في من يصح ذلك فيه أولى من تخصيص الطاعة بشيء دون شيء ، كما لا يجوز تخصيص وجوب طاعة الرسول وطاعة الله في شيء دون شيء.

وحد الطاعة هو امتثال الامر ، فطاعة الله هي امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وطاعة الرسول كذلك.

وقوله (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فمعنى الرد الى الله هو الرد الى كتابه ، والرد الى رسوله هو الرد الى سنته.

فصل : قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) الاية : ٦٣.

قوله (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) جمع بين معنى الاعراض والإقبال ، قيل : في معناه ثلاثة أقوال :

أحدها : فاعرض عنهم بعداوتك لهم وعظهم.

الثاني : فاعرض عن عقابهم وعظهم.

الثالث : قال الجبائي : أعرض عن قبول الاعتذار منهم.

فصل : قوله (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) الاية : ٧٥.

قيل : انها مكة ، وهم يسمون كل مدينة قرية ، وانما قال «الظالم أهلها» وان كان فيهم الولدان الذين لا ينطقون تغليبا للاكثر ، كقولك قال أهل البصرة ، وان كان قولا لبعضهم.

١٨١

فصل : قوله (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) الاية : ٧٦.

انما وصف كيد الشيطان بالضعف لامرين ، أحدهما لضعف نصرته لأوليائه بالاضافة الى نصرة الله المؤمنين ، ذكره الجبائي.

فصل : قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الاية : ٧٧.

قوله (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) ليس معنى «أو» هاهنا الشك ، لان ذلك لا يجوز عليه تعالى.

وقيل : في معناها قولان : أحدهما ـ انها دخلت للإبهام على المخاطب ، والمعنى أنهم على احدى الصنفين ، وهذا أصل «أو» وهو معنى واحد على الإبهام.

الثاني : على طريق الاباحة ، نحو قولك جالس الحسن أو ابن سيرين. ومعناه ان قلت يخشون الناس كخشية الله فأنت مصيب. وان قلت يخشونهم أشد من ذلك فأنت مصيب ، لأنه قد حصل لهم مثل تلك الخشية وزيادة.

فصل : قوله (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) الاية : ٧٨.

«أينما» كتبت موصولة ، وفي قوله (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ) (١) مفصولة ، لان الاولى زائدة ، والثانية بمعنى الذي تفصل من هذه كما تفصل الأسماء ، ووصلت ذلك كما توصل الحروف.

قوله (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) حكاية عن المنافقين وصفة لهم في قول الحسن وأبي علي وأبي القاسم.

وقال الزجاج : قيل هو من صفة اليهود ، وبه قال الفراء ، وذلك أن اليهود لما قدم النبي عليه‌السلام المدينة ، فكان إذا زكت ثمارهم وأخصبوا قالوا : هذا من عند

__________________

(١). في التبيان : ان ما توعدون.

١٨٢

الله ، فإذا أجدبوا وخاست ثمارهم قالوا : هذا بشؤم محمد ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول : ان جميع ذلك من عند الله ، ثم قال : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً).

فصل : قوله (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) الاية : ٧٩.

الحسنة والسيئة الطاعة والمعصية ، ذكره أبو العالية وأبو القاسم ، ويكون المعنى أن الحسنة التي هي الطاعة باقدار الله وترغيبه فيها ولطفه لها ، والسيئة بخذلانه على وجه العقوبة له على المعاصي المقدمة ، وسماه سيئة كما قال (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) والتقدير : ما أصابك من ثواب حسنة فمن الله ، لأنه الذي عرضك للثواب وأعانك عليها ، وما أصابك من عقاب سيئة فمن نفسك ، لأنه تعالى نهاك عنها وزجرك عن فعلها ، فلما ارتكبتها كنت الجاني على نفسك.

فان قيل : كيف عاب قول المنافقين في الاية الاولى لما قالوا : إذا أصابتهم حسنة أنها من عند الله وإذا أصابتهم سيئة قالوا هذه من عندك. وقد أثبت مثله في هذه الاية؟

قلنا : عنه جوابان : أحدهما ـ أن ذلك على وجه الحكاية والتقدير يقولون : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، ويكون يقولون محذوفا لدلالة سياق الكلام عليه.

الثاني : أن معناهما مختلف ، فالأول عند أكثر أهل العلم أن المراد به النعمة والمصيبة من الله ، وفي الاية الثانية المراد به الطاعة والمعصية ، فلما اختلف معناهما لم يتناقضا ، ويكون وجه ذكر هذه الاية عقيب الاولى أن لا يظن ظان ان الطاعات والمعاصي من فعل الله ، لما قال في الاية الاولى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

__________________

(١). سورة الشورى : ٤٠.

١٨٣

وفي الاية دلالة على فساد مذهب المجبرة ، لأنه تعالى قال «فمن نفسك» فأضاف المعصية الى العبد ، ونفاها عن نفسه تعالى ، ولو كانت من خلقه لكانت منه على أوكد الوجوه ، ولا ينافي ذلك قوله في الاية الاولى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لأنا بينا وجه التأويل فيه.

فصل : قوله (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) الاية : ٨٤.

هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة ، أمره أن يقاتل في سبيل الله وحده بنفسه.

وقوله (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ومعناه لا تكلف الا فعل نفسك ، لأنه لا ضرر عليك في فعل غيرك ، فلا تهتم بتخلف المنافقين عن الجهاد ، فعليهم ضرر ذلك ، وليس المراد لا تأمر أحدا بالجهاد ، وانما المراد ما قلناه ، ألا ترى أنه قال (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) يعني حثهم على الجهاد.

وفي ذلك دلالة على أنه لا يجوز أن يؤاخذ الله الأطفال بكفر آبائهم ، ويؤيده قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) لان مفهوم هذا الكلام أنه لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيرك.

فصل : قوله (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) الاية.

معناه : أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا الى الإسلام من أضله الله ، ويحتمل معنيين :

أحدهما : أن من وجده الله ضالا وسماه بأنه ضال وحكم به من حيث ضل بسوء اختياره.

والثاني : أضله الله بمعنى خذلهم ولم يوفقهم (٢) كما وفق المؤمنين ، لأنهم

__________________

(١). سورة الانعام : ١٦٤.

(٢). في التبيان : خذله ولم يوفقه.

١٨٤

لما عصوا وخالفوا استحقوا هذا الخذلان عقوبة لهم على معصيتهم ، فيريدون الدفاع عن قتالهم مع ما حكم الله بضلالهم وخذلانهم.

وقال الجبائي : المعنى ومن يعاقبه الله على معاصيه فلن تجد له طريقا الى الجنة وطعن على الاول من قول البغداديين أن المراد به التسمية والحكم ، فان قال لو أراد ذلك لقال من ضلل الله ، وهذا ليس بشيء ، لأنهم يقولون أكفرته وكفرته وأكرمته وكرمته إذا سميته بالكفر أو الكرم ، قال الكميت :

وطائفة قد أكفروني بحبهم

وطائفة قالوا مسيء ومذنب (١)

ويحتمل أن يكون المراد وجدهم ضلالا ، كما قال الشاعر :

هبونى امرأ منكم أضل بعيره

أي : وجده ضالا ، ثم يقال لهم : أليس الله قال (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٢) أترى أن الشيطان يخلق فيهم الضلالة؟ بل انما أراد يدعوهم اليها ، ولا خلاف أن الله تعالى لا يدعو الى الضلالة.

ويقوي قول من قال : المراد به التسمية قوله (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ) وانما أراد أن يسموهم مهتدين ، لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون ، فحينئذ رد الله عليهم فقال : لا تختلفوا في هؤلاء وقولوا بأجمعهم انهم منافقون ، ولم يكونوا يدعونهم الى الايمان فخالفهم أصحابهم ، فعلم أن الصحيح ما قلناه.

فصل : قوله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) الاية : ٩٢.

قال ابن عباس والشعبي وابراهيم والحسن وقتادة : الرقبة المؤمنة لا تكون الا بالغة قد آمنت وصامت وصلت. فأما الطفل فانه لا يجزئ ولا الكافرة. وقال عطاء :

__________________

(١). خزانة الأدب ٤ / ٢٣٦.

(٢). سورة النساء : ٥٩.

١٨٥

كل رقبة ولدت في الإسلام فهي تجزئ.

والاول أقوى ، لان المؤمن على الحقيقة لا يطلق الا على بالغ عاقل مظهر للايمان ملتزم بوجوب الصوم والصلاة ، الا أنه لا خلاف أن المولود بين مؤمنين يحكم له بالايمان ، فبهذا الإجماع ينبغي أن يجزئ في كفارة قتل الخطأ.

فأما الكافر أو المولود بين كافرين ، فانه لا يجزئ بحال.

فصل : قوله (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) الاية : ٩٣.

اختلفوا في صفة قتل العمد ، فعندنا أن من قصد قتل غيره بما يقتل مثله في غالب العادة ، سواء كان بحديدة حادة كالسلاح ، أو مثقلة من حديد ، أو خنق ، أو سم ، أو إحراق بنار ، أو تغريق ، أو موالاة ضرب بالعصا حتى يموت ، أو بحجارة ثقيلة ، فان جميع ذلك عمد يوجب القود.

فأما القتل شبيه العمد ، فهو أن يضربه بعصا ، أو غيرها مما لم تجر العادة بحصول الموت عنده ، فإذا مات منه كان شبيه العمد ، وفيه الدية مغلظة في مال القاتل خاصة لا تلزم العاقلة ، وقد بينا اختلاف الفقهاء في مسائل الخلاف في هذه المسألة.

واستدلت المعتزلة بهذه الاية على أن مرتكب الكبيرة مخلد في نار جهنم ، وأنه إذا قتل مؤمنا فانه يستحق الخلود ، ولا يعفى عنه بظاهر اللفظ.

ولنا أن نقول : ما أنكرتم أن يكون المراد بالاية الكفار ومن لا ثواب له أصلا فأما من هو مستحق للثواب ، فلا يجوز أن يكون مرادا بالخلود أصلا ، لما بيناه فيما مضى من نظائره. وقد روى أصحابنا أن الاية متوجهة الى من يقتل المؤمن لإيمانه ، وذلك لا يكون الا كافرا.

وقال عكرمة وابن جريح : ان الاية نزلت في انسان بعينه ارتد ثم قتل مسلما فأنزل الله تعالى فيه الاية ، لأنه كان مستحلا لقتله. على أنه قد قيل : ان قوله (خالِداً فِيها) لا يفهم من الخلود في اللغة الا طول اللبث. فأما البقاء ببقاء الله ، فلا يعرف

١٨٦

في اللغة.

ثم لا خلاف أن الاية مخصوصة بمن لا يتوب ، لأنه ان تاب فلا بد من العفو عنه اجماعا ، وبه قال مجاهد. وقال ابن عباس : لا توبة له ولا إذا قتله في حال الشرك ثم أسلم وتاب ، وبه قال ابن مسعود وزيد بن ثابت والضحاك.

ولا يعترض على ما قلناه قول من يقول : ان قاتل العمد لا يوفق للتوبة ، لان هذا القول ان صح فإنما يدل على أنه لا يختار التوبة ، ولا ينافي ذلك القول بأنها لو حصلت لا زالت العقاب ، فإذا كان لا بد من تخصيص الاية وإخراج التائبين عنها جاز لنا أن نخرج منها من يتفضل الله عليه بالعفو.

على أن ظاهر الاية يتضمن أن جزاءه جهنم ، فمن أين أن ذلك لا بد من حصوله وأن العفو لا يجوز حصوله؟ وهو قول ابن مجلز وأبي صالح.

ولا يدفع ذلك قوله (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) لان ذلك اخبار عن أنه مستحق لذلك ، فمن أين حصوله لا محالة؟

وقال الجبائي : الجزاء عبارة عما يفعل ، وما لا يفعل لا يسمى جزاء. ألا ترى أن الأجير إذا استحق الاجرة على من استأجره لا يقال في الدراهم التي مع المستأجر أنها جزاء عمله ، وانما يسمى بذلك إذا أعطاه إياها.

وهذا ليس بشيء ، لان الجزاء عبارة عن المستحق ، سواء فعل أو لم يفعل ألا ترى أنا نقول : جزاء من فعل الجميل أن يقابل عليه بمثله ، وان كان ما فعله بعد وانما يراد به أنه ينبغي أن يعامل بذلك ونقول : ان من استحق عليه القود أوحد من الحدود ان جزاء هذا أن يقتل.

فصل : قوله (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الاية : ٩٥.

فان قيل : كيف قال في أول الاية (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) ثم قال في آخرها (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً

١٨٧

عَظِيمًا دَرَجَاتٍ) وهذا ظاهر التناقض؟

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما ـ في أول الاية فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر درجة ، وفي آخرها فضلهم على القاعدين غير أولى الضرر درجات فلا تناقض في ذلك ، لان قوله (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين مستحقين ، وان كانوا تاركين للفضل.

والثاني : قال أبو علي الجبائي : أراد بالدرجة الاولى علو المنزلة وارتفاع القدر على وجه المدح لهم ، كما يقال : فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان. يريدون بذاك أنه أعظم منزلة. وبالثاني (١) أراد الدرجات في الجنة التي تتفاضل بها المؤمنون بعضهم على بعض على قدر استحقاقهم ولا تنافي بينهما.

وقال الحسين بن علي المغربي : انما كرر لفظ التفضيل ، لان الاول أراد تفضيلهم في الدنيا على القاعدين ، والثاني أراد تفضيلهم في الاخرة بدرجات النعيم.

فصل : قوله (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) الاية : ١٠١.

معنى قوله (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) إذا سرتم فيها (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) يعني : حرج ، ولا اثم أن تقصروا من الصلاة ، يعني من عددها فتصلوا الرباعيات ركعتين.

وظاهر الاية يقتضي أن التقصير لا يجوز الا إذا خاف المسافر ، لأنه قال (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ) ولا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط ، لان السفر المخصوص بانفراده سبب للتقصير ، والظاهر يقتضي أن التقصير جائز لا اثم فيه ، ويقتضي ذلك أنه يجوز الإتمام.

وعندنا وعند كثير من الفقهاء أن فرض المسافر مخالف لفرض المقيم وليس

__________________

(١). في التبيان : وبالثانية.

١٨٨

ذلك قصرا ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، ولما روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : فرض المسافر ركعتان غير قصر.

وأما الخوف بانفراده ، فعندنا يوجب القصر وفيه خلاف ، وقد روي عن ابن عباس أن صلاة الخائف من صلاة المسافر وأنها ركعة ركعة.

وقال قوم : معنى قوله (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) يعني : من حدود الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدة الخوف ، وأنه يصلي إيماءا ، والسجود أخفض من الركوع ، فان لم يقدر فان التسبيح المخصوص يكفي عن كل ركعة.

ومن قال : ان صلاة الخائف ركعة ، قال : الأولون إذا صلوا ركعة فقد فرغوا وكذلك الفرقة الثانية ، وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وروي مثله عن أبي عبد الله عليه‌السلام وهذا عندنا انما يجوز في صلاة شدة الخوف.

فصل : قوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) الاية : ١٠٥.

نهاه أن يكون لمن خان مسلما ، أو معاهدا في نفسه وما له خصيما يخاصم عنه ويدفع من طالبه عنه بحقه الذي خانه فيه ، ثم أمره بأن يستغفر الله في مخاصمته عن الخائن مال غيره.

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) الاية : ١١٦.

فان قيل : فعلى هذا من لم يشرك به بأن لا يعبد معه سواه ، وان كان كافرا بالنبي عليه‌السلام من اليهود والنصارى ، ينبغي أن يكون داخلا تحت المشيئة لأنه مما دون الشرك.

قلنا : ليس الامر على ذلك ، لان كل كافر مشرك ، لأنه إذا جحد نبوة النبي عليه‌السلام اعتقد أن ما ظهر على يده من المعجزات ليست من فعل الله ونسبها الى غيره ، وأن الذي صدقه بها ليس هو الله ، فيكون ذلك اشراكا معه ، على أن الله تعالى أخبر

١٨٩

عنهم بأنهم قالوا يعني النصارى : المسيح ابن الله ، وقال اليهود : عزير ابن الله ، وذلك هو الشرك بالله تعالى.

فصل : قوله (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) الاية : ١١٩.

قوله (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) يعني : لآمرن النصيب المفروض من عبادك بعبادة غيرك من الأنداد والأوثان حتى ينسكوا له ويحرموا ويحللوا ويشرعوا غير الذي شرعه الله لهم ، فيتبعوني ويخالفوك.

والتبتك القطع ، والمراد في هذه الموضع قطع اذن البحيرة ليعلم أنها بحيرة وأراد الشيطان بذلك دعاهم الى البحيرة ، فيستجيبون له ويعملون بها طاعة له.

وقوله (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) اختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس والربيع بن أنس عن أنس : انه الإخصاء ، وكرهوا الإخصاء في البهائم ، وفي رواية عن ابن عباس فليغيرن دين الله وبه قال ابراهيم ومجاهد وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قال مجاهد : كذب العبد يعني عكرمة في قوله انه الإخصاء ، وانما هو تغيير دين الله الذي فطر الناس عليه ، في قوله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١) وقيل : انه الوشم ، ذهب اليه بعض المفسرين. وأقوى الأقوال قول من قال : فليغيرن خلق الله يعني (٢) دين الله.

فصل : قوله (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الاية : ١٢٣.

اختلفوا في تأويله ، فقال قوم : انه يريد بذلك جميع المعاصي صغائرها وكبائرها وأن من ارتكب شيئا منها ، فان الله يجازيه عليها أما في الدنيا أو في الاخرة ذهب اليه قتادة وعائشة ومجاهد.

__________________

(١). سورة الروم : ٣.

(٢). في التبيان : بمعنى.

١٩٠

وقال آخرون : من يعمل سوءا من أهل الكتاب يجز به ، ذهب اليه الحسن ، قال : كقوله (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (١) وبه قال ابن زيد والضحاك ، وهو الذي يليق بمذهبنا ، لأنا نقطع على أن الكفار لا يغفر لهم على حال ، والمسلمون يجوز أن يغفر لهم ما يستحقونه من العقاب ، فلا يمكننا القطع على أنه لا بد أن يجازي بكل سوء.

فصل : قوله (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) الاية : ١٢٥.

(وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) يعني : واتبع الذي كان عليه ابراهيم عليه‌السلام وأمر به نبيه من بعده وأوصاهم به من الإقرار بتوحيده وعدله وتنزيهه عما لا يليق به.

والحنيفية التي أمر الله نبيه بأن يتبع ابراهيم فيها عشرة أشياء : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، فالتي في الرأس : المضمضة ، والاستنشاق ، والسواك وقص الشارب والفرق لمن يكون طويل الشعر ، والتي في الجسد : فالاستنجاء والختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وقص الاظفار. وجميع ذلك مستحب الا الختان والاستنجاء ، فإنهما واجبان عندنا ، وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف.

فصل : قوله (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) الاية : ١٢٩.

نفى الله في هذه الاية أن يقدر أحد من عباده على التسوية بين النساء والازواج في حبهن والميل إليهن ، حتى لا يكون قلبه (٢) الى واحدة منهن الا الى مثل ما يميل الى الاخرى ، لان ذلك تابع لما فيه من الشهوة وميل الطبع ، وذلك من فعل الله تعالى ، وليس يريد بذلك نفي القدرة على التسوية بينهن في النفقة والكسوة

__________________

(١). سورة سبأ : ١٧.

(٢). في التبيان : ميله.

١٩١

والقسمة ، لأنه لو كان كذلك لما أمر الله تعالى بالتسوية في جميع ذلك لأنه لا يكلف الا ما يطيقه.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) الاية : ١٣٦.

قيل : في تأويل أمر من آمن أن يؤمن بالله ورسوله ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو المعتمد عليه عندنا واللائق بمذهبنا أن المعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله ورسوله وصدقوهما آمنوا بالله ورسوله في الباطن ليطابق باطنكم ظاهركم ، ويكون الخطاب خاصا بالمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون.

فصل : قوله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) الاية : ١٤٠.

وفي الاية دلالة على وجوب انكار المنكر مع القدرة على ذلك ، وأن من ترك ذلك مع القدرة على ذلك وزوال العذر عنه ، وأن من ترك ذلك مع القدرة عليه كان مخطئا آثما ، وكذلك فيها دلالة على أنه لا يجوز مجالسة الفساق ، والمبدعين من أي نوع كان.

فصل : قوله (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) الاية : ١٥٧.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) معناه : انه رفعه الى الموضع الذي يختص الله تعالى بالملك ولم يملك أحدا منه شيئا وهو السماء ، لأنه لا يجوز أن يكون المراد أنه رفعه الى مكان هو تعالى فيه ، لان ذلك من صفات الأجسام ، تعالى الله عن ذلك ، وعلى هذا يحمل قوله حكاية عن ابراهيم (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) (١) يعني : الى الموضع الذي أمرني به ربي.

__________________

(١). سورة الصافات : ٩٩.

١٩٢

فصل : قوله (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ) الاية : ١٦٣.

وليس يصح عندنا أن الأسباط الذين هم اخوة يوسف كانوا أنبياء.

فصل : قوله (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) الاية : ١٦٤.

قال البلخي : في الاية دلالة على أن كلام الله محدث من حيث أنه كلم موسى خاصة ، دون غيره من الأنبياء ، وكلمه في وقت دون وقت. ولو كان الكلام قديما ومن صفات ذاته ، لم يكن في ذلك اختصاص ، ومن فصل بين التكليم والتكلم فقد أبعد ، لان المتكلم لغيره لا يكون الا متكلما ، وان كان يجوز أن يكون متكلما وان لم يكن مكلما فالمتكلم يجمع الامرين.

فصل : قوله (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) الاية : ١٦٦.

ومن استدل بهذه الاية على أنه تعالى عالم بعلم فقد أخطأ ، لان قوله «بعلمه» معناه وهو عالم به ، ولو كان المراد بذلك ذاتا أخرى لوجب أن يكون العلم آلة في الانزال ، كما يقولون كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين ، ونجرت بالفأس. ولا خلاف أن القلم ليس بآلة في الانزال.

وقال الزجاج : معناه انزال القرآن الذي علمه فيه ، وهو اختيار الازهري.

فصل : قوله (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) الاية : ١٧١.

أصل المسيح الممسوح ، نقل من مفعول الى فعيل ، سماه الله بذلك لتطهيره آثام الذنوب.

وقيل : مسح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين ، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه ، وهو قول مجاهد.

وقال ابراهيم : المسيح الصديق. وأما المسيح الدجال ، فانه أيضا بمعنى الممسوح العين فمعنى المسيح في عيسى عليه‌السلام الممسوح البدن من الأدناس والاثام

١٩٣

ومعنى المسيح في الدجال الممسوح العين اليمنى أو اليسرى.

وقوله (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) يعني بالكلمة الرسالة التي أمر الله ملائكته أن يأتي بها بشارة من الله تعالى لها التي ذكر في قوله (قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) (١) يعنى : برسالة منه وبشارة من عنده.

وقال قتادة والحسن : هو قوله «كن فكان» واختار الطبري الاول.

وقد شبهت النصارى قولها انه ثلاثة أقانيم جوهر واحد بقولنا : سراج واحد ثم نقول : انه ثلاثة أشياء : دهن وقطن ونار ، وللشمس انها شمس واحدة ، ثم نقول : أنها جسم وضوء وشعاع.

قال البلخي : وهذا غلط ، لأنا وان قلنا انه سراج واحد لا نقول هو شيء واحد ولا للشمس انها شيء واحد ، بل نقول : هو أشياء على الحقيقة ، كما نقول : عشرة واحدة وانسان واحد ودار واحدة وشهر واحد ، وهي أشياء متغايرة.

فان قالوا : ان الله شيء واحد حقيقة ، كما أنه اله واحد ، فقولهم بعد ذلك «انه ثلاثة» مناقضة لا يشبه ما قلناه ، وان قالوا : هو أشياء وليس هو شيئا واحدا دخلوا في قول المشبهة وتركوا القول بالتوحيد.

ومن العجب أنهم يقولون : ان الأب له ابن والابن لا أب له ، ثم يزعمون أن الذي له ابن هو الذي لا ابن له ، ويقولون : ان من عبد الإنسان فقد أخطأ وضل ثم يزعمون أن المسيح اله انسان وأنهم يعبدون المسيح.

فصل : قوله (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ) الاية : ١٧٢.

استدل قوم بهذه الاية على أن الملائكة أفضل من الأنبياء قالوا : ولا يجوز أن يقول القائل : لا يأنف الأمير أن يركب الي ولا غلامه.

وهذا الذي ذكروه ليس بصحيح ، ولا دلالة فيه من وجوه :

__________________

(١). سورة آل عمران : ٤٥.

١٩٤

أحدها : أن يكون هذا القول متوجها الى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، فأجرى الكلام على اعتقادهم ، كما يقول القائل لغيره : لن يستنكف أبي من كذا ولا أبوك ، وان كان القائل يعتقد أن أباه أفضل.

والثاني : أنه انما أخر ذكر الملائكة ، لان جميع الملائكة أكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا ، فمن أين أن كل واحد منهم أفضل من المسيح أو غيره من الأنبياء؟

فصل : قوله (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الاية : ١٧٦.

معنى «يستفتونك» يسألونك يا محمد أن تفتيهم في الكلالة ، والاستفتاء والاستقضاء واحد ، يقال قاضيته وفأتيته ، قال الشاعر :

تعالوا نفاتيكم أأعياء وفقعس

الى المجد أدنى أم عشيرة حاتم

قال عمر : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكلالة ، فقال : ألم تسمع الاية التي أنزلت في الصيف. وفي خبر آخر : يكفيك آية الصيف.

١٩٥

سورة المائدة

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) الاية : ١.

اختلف أهل التأويل في العقود التي أمر الله بالوفاء بها في هذه الاية ، فقال قوم : هي العهود التي أخذ الله عباده بالايمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم.

وقال قوم : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد العهد وعقد البيع وعقد الحلف.

وأقوى الأقوال ما حكيناه عن ابن عباس أن معناه : أوفوا بعقود الله التي أوجبها عليكم وعقدها فيما أحل لكم وحرم وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده ، ويدخل في ذلك جميع ما قالوه الا ما كان عقدا على المعاونة على أمر قبيح ، فان ذلك محظور بلا خلاف.

والعقود جمع عقد ، وأصله عقد الشيء بغيره وهو وصلة به ، كما يعقد الحبل إذا وصله (١) به شيئا ، يقال منه عقد فلان بينه وبين فلان عقدا فهو يعقده ، قال الحطيئة :

__________________

(١). في التبيان : وصل.

١٩٦

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم (١)

فصل : قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

اختلفوا في تأويل بهيمة الانعام في هذه الاية ، فقال قوم : هي الانعام كلها : الإبل والبقر والغنم ، ذهب اليه الحسن وقتادة والسدي والربيع والضحاك.

وقال آخرون : أراد بذلك أجنة الانعام التي توجد في بطون أمهاتها إذا ذكيت الأمهات وهي ميتة ، ذهب اليه ابن عمر وابن عباس ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام. والاولى حمل الاية على عمومها في الجميع.

والانعام جمع نعم ، وهو اسم للإبل والبقر والغنم خاصة عند العرب ، كما قال تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ثم قال (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (٢) ففضل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان ، فأما بهائمها فإنها أولادها.

وقال الفراء : بهيمة الانعام وحشيها ، كالظباء وبقر الوحش والحمير الوحشية وانما سميت بهيمة الانعام لان كل حي لا يميز فهو بهيمة الانعام ، لأنه أبهم عن أن يميز.

فصل : قوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الاية : ٢.

قوله (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ليس بعطف على (أَنْ تَعْتَدُوا) فيكون في موضع نصب ، بل هو استئناف كلام أمر الله تعالى الخلق بأن يعين بعضهم بعضا على البر ، وهو العمل بما أمرهم الله به ونهاهم أن يعين بعضهم بعضا على الإثم ، وهو ترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه.

__________________

(١). ديوانه ص ٦.

(٢). سورة النحل : ٥ ـ ٨.

١٩٧

قوله (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) قال ابن عباس : لا يحملنكم شنئان قوم ، وهو قول قتادة واختلف أهل اللغة في تأويلها ، فقال الأخفش وجماعة من البصريين لا يحقن لكم مثل قوله (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) ومعناه : حق أن لهم النار.

وقال الكسائي والزجاج : معناه لا يحملنكم ، قال يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي : حملني عليه. وقال الفراء : لا يكسبنكم.

الميتة أصلها الميتة مشدد غير أنه خفف ، والميتة كل ما فارقته الحياة من ذوات البر وطيره بغير تذكية ، وقد روي أن النبي عليه‌السلام أنه سمى الجراد والسمك ميتا فقال : ميتتان مباحان الجراد والسمك.

يقال : ميت وميت بمعنى واحد. وقال بعضهم : الميت لما لم يمت ، والميت لما قد مات. وهذا ليس بشيء ، لان ميت يصلح لما قد مات ولما سيموت ، قال الله تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ، وقال الشاعر في الجمع بين اللغتين :

ليس من مات فاستراح بميت

انما الميت ميت الأحياء

فجعل الميت مخففا من الميت وقال بعضهم : الميتة كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره مما أباح الله أكلها أهلها ووحشها فارقتها روحها بغير تذكية.

وقوله «والدم» تقديره : وحرم عليكم الدم. وقيل : انهم كانوا يجعلون في المباعر ويشوونها ويأكلونها ، فأعلم الله تعالى أن الدم المسفوح ـ أي : المصبوب ـ حرام فأما المتلطخ باللحم فهو كاللحم ، وما كان منه كاللحم مثل الكبد فهو مباح.

واما الطحال فهو محرم عندنا ، وقد روي كراهيته عن علي عليه‌السلام وابن مسعود وأصحابهما ، وعند جميع الفقهاء أنه مباح. وانما شرطنا في الدم المحرم ما كان مسفوحا ، لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى ، فقال «أو دما مسفوحا» (٢).

__________________

(١). سورة الزمر : ٣٠.

(٢). سورة الانعام : ١٤٥.

١٩٨

وقوله «ولحم الخنزير» معناه : وحرم عليكم لحم الخنزير أهلية وبرية ، فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم والمراد بهما الخصوص ، ولحم الخنزير على ظاهره في العموم. وكذلك كلما كان من الخنزير حرام ، كلحمه من الشحم والجلد وغير ذلك.

وقوله (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) موضع (ما) رفع ، وتقديره : وحرم عليكم ما أهل لغير الله به.

ومعنى (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) ما ذبح للأصنام والأوثان ، أى : ذكر اسم غير الله عليه ، لان الإهلال رفع الصوت بالشيء ، ومنه استهلال الصبي ، وهو صياحه إذا سقط من بطن أمه ، ومنه إهلال المحرم بالحج أو العمرة إذا لبى به ، قال ابن أحمر :

يهل بالفرقد ركباننا

كما يهل الراكب المعتمر

فما يقرب به من الذبح لغير الله ، أو ذكر عليه غير اسمه حرام ، وكل ما حرم أكله مما عددناه يحرم بيعه وملكه والتصرف فيه.

والخنزير يقع على الذكر والأنثى.

وفي الاية دلالة على أن ذبائح من خالف الإسلام لا يجوز أكلها ، لأنهم يذكرون عليها اسم غير الله ، لأنهم يعنون بذلك من أبد شرع موسى ، أو اتخذ عيسى ابنا ، وكذب محمد بن عبد الله عليه‌السلام ، وذلك غير الله ، فيجب أن لا يجوز أكل ذبيحته فأما من أظهر الإسلام ودان بالتجسيم والصورة وقال بالجبر والتشبيه أو خالف الحق فعندنا لا يجوز أكل ذبيحته. فأما الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وموارثته ، فانه يجري عليه ، لان هذه الأحكام تابعة في الشرع لإظهار الشهادتين. وأما مناكحته ، فلا يجوز عندنا.

وقال البلخي حاكيا عن قوم : انه لا يجوز اجراء شيء من ذلك عليهم. وحكى عن آخرين أنه يجري جميع ذلك عليهم ، لأنها تجرى على من أظهر الشهادتين

١٩٩

دون المؤمنين على الحقيقة ، ولذلك أجريت على المجانين والأطفال.

فأما التسمية على الذبيحة ، فعندنا واجبة ، من تركها متعمدا لا يحل أكل ذبيحته وان تركه ناسيا لم يحرم ، وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

والمنخنقة قال السدي : هي التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتخنق وتموت. وقال الضحاك : التي تختنق فتموت. وقال قتادة : هي التي تموت في خناقها. وقال ابن عباس : هي التي تختنق فتموت. وحكي عن قتادة أن اهل الجاهلية كانوا يختقونها ثم يأكلونها.

والاولى حمل الاية على عمومها في جميع ذلك ، وهي التي تختنق حتى تموت سواء كان في وثاقها أو بإدخال رأسها في موضع لا يقدر على التخلص أو غير ذلك.

وقوله «والموقوذة» يعني : التي تضرب حتى تموت ، يقال وقذتها أقذها وقذا وأوقذها يوقذها إيقاذا أثخنتها ضربا ، قال الفرزدق :

شغارة تقذ الفصيل برجلها

فطارة لقوادم الأبكار

وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي.

وقوله «والمتردية» يعني : التي تقع من جبل ، أو تقع من نهر أو من مكان عال فتموت ، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك ، ومتى وقع في بئر ولم يقدر على موضع ذكاته. جاز أن يطعن ويضرب بالسكين في غير المذبح حتى يبرد ثم يؤكل.

وقوله «والنطيحة» يعني : التي تنطح أو تنطح فتموت. والنطيحة بمعنى المنطوحة ، فنقل من مفعول الى فعيل ،

فان قيل : كيف تثبت فيها الهاء؟ وفعيل إذا كان بمعنى مفعول لا يثبت فيه الهاء مثل لحية دهين وعين كحيل بلا هاء التأنيث في شيء من ذلك.

قيل : اختلف في ذلك فقال بعض البصريين أثبت فيها الهاء ـ أعني : في النطيحة ـ

٢٠٠