المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

الاخوان يحجبان الام عن الثلث الى السدس ، إذا كانا من قبل الأب والام ، أو من قبل الأب ، ولا يحجب من كان من قبل الام ، هذا مع وجود الأب.

وانما قلنا : ان اخوة في الاية بمعنى أخوين ، للإجماع من أهل العصر على ذلك ، وأيضا فانه يجوز وضع لفظة الجمع موضع التثنية إذا اقتربت به دلالة ، كما قال (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (١) ويقول القائل : ضربت الرجلين رؤوسهما ومن أخويك ظهورهما.

فان قيل : كيف قدم الوصية على الدين في هذه الاية وفي التي بعدها؟ مع أن الدين يتقدم عليها بلا خلاف؟

قلنا : لان «أو» لا توجب الترتيب ، وانما هي لاحد الشيئين ، فكأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما الى الاخر ، كقولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ، أي : جالس أحدهما مفردا أو مضموما الى الاخر.

وتجب البدأة بالدين ، لأنه مثل رد الوديعة التي يجب ردها على صاحبها ، فكذلك حال الدين وجب رده أولا ، ثم يكون بعده الوصية ثم الميراث ، ومثل ما قلناه اختاره الجبائي والطبري ، وهو المعتمد عليه في تأويل الاية.

فصل : قوله (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الاية : ١٢.

لا خلاف أن للزوج نصف ما تترك الزوجة إذا لم يكن لها ولد ، فان كان لها ولد فله الربع أيضا بلا خلاف ، سواء كان الولد منه أو من غيره. وان كان ولد لا يرث لكونه مملوكا أو كافرا أو قاتلا ، فلا يحجب الزوج من النصف الى الربع ووجوده كعدمه ، وكذلك حكم الزوجة لها الربع إذا لم يكن للزوج ولد ، على ما قلناه في الزوجة سواء.

__________________

(١). سورة التحريم : ٤.

١٦١

فصل : الكلالة عندنا هم الاخوة والأخوات ، فمن ذكر في هذه [الاية] هو من كان من قبل الام ، ومن ذكر في آخر السورة فهو من قبل الأب والام ، أو من قبل الأب.

وأصل الكلالة الاحاطة ، ومنه الإكليل لاحاطته بالرأس ، ومنه الكل لاحاطته بالعدد ، والكلالة لاحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد والوالد ومنه الكلال لأنه تعب قد أحاط.

وقال أبو مسلم : أصلها من كل إذا أعيى كأنه يتناول الميراث من بعد على كلال واعياء ، والكل الثقل ، ويقولون لابن الأخ ومن يجري مجراه ممن يعال على وجه التبرع هذا كلي.

ولا خلاف أن الاخوة والأخوات من الام يتساوون في الميراث.

قوله (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) ثم قال (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ولم يقل : لهما ، كما تقول : من كان له أخ أو أخت فليصله ويجوز فليصلها ويجوز فليصلهما ، كل ذلك حسن.

ومسائل المواريث وفروعها بسطناها في النهاية (١) والمبسوط وأوجزناها في الإيجاز في الفرائض (٢) لا نطول بذكرها ها هنا ، غير أنا نعقدها هنا جملة تدل على المذهب.

فنقول : الميراث يستحق بشيئين : نسب وسبب ، فالسبب الزوجية والولاء والولاء على ثلاثة أقسام : ولاء العتق ، وولاء تضمن الجريرة ، وولاء الامامة. ولا يستحق الميراث بالولاء الا مع عدم ذوي الأنساب.

والميراث بالزوجية ثابت مع جميع الوراث ، سواء ورثوا بالفرض أو بالقرابة

__________________

(١). النهاية ص ٦٢٣ ـ ٦٨٧.

(٢). المطبوع في مجموعة رسائل العشر للشيخ.

١٦٢

لا ينقص الزوج عن الربع في حال ولا يزاد على النصف ، والزوجة لا تزاد على الربع ولا تنقص من الثمن على وجه.

والميراث بالنسب يستحق على وجهين : بالفرض والقرابة ، فالميراث بالفرض لا يجتمع فيه الا من كانت قرباه واحدة الى الميت ، مثل البنت والبنات مع الوالدين أو أحدهما ، فانه متى انفرد واحد منهم أخذ المال كله بعضه بالفرض والباقي بالرد.

وإذا اجتمعا أخذ كل واحد منهم ما سمي له ، والباقي يرد عليهم ان فضل على قدر سهامهم ، وان نقص لمزاحمة الزوج أو الزوجة لهم ، كان النقص داخلا على البنت أو البنات ، دون الأبوين أو أحدهما ، ودون الزوج والزوجة.

ولا يجتمع مع الأولاد ، ولا مع الوالدين ، ولا مع أحدهما أحد ممن يتقرب بهما كالكلالتين ، فإنهما لا تجتمعان مع الأولاد ، ذكورا كانوا أو أناثا ، ولا مع الوالدين ، ولا مع أحدهما ، أبا كان أو اما ، بل تجتمع كلالة الأب وكلالة الام.

فكلالة الام ان كان واحدا كان له السدس ، وان كانا اثنين فصاعدا كان لهم الثلث ، لا ينقصون منه والباقي لكلالة الأب ، فان زاحمهم الزوج أو الزوجة ، دخل النقص على كلالة الأب دون كلالة الام.

ولا تجتمع كلالة الأب والام مع كلالة الأب خاصة ، فان اجتمعا كان المال لكلالة الأب والام دون كلالة الأب ، ذكرا كان أو أنثى ، أو ذكورا أو إناثا ، أو ذكورا وأناثا.

ومن يرث (١) بالقرابة دون الفرض لا يجتمع الا من كانت قرباه واحدة ، وأسبابه ودرجته متساوية ، فعلى هذا لا يجتمع مع الولد للصلب ولد الولد ، ذكرا كان ولد الصلب أو أنثى ، لأنه أقرب بدرجة.

وكذلك لا يجتمع مع الأبوين ، ولا مع أحدهما ممن يتقرب بهما من الاخوة

__________________

(١). في التبيان : يورث.

١٦٣

والأخوات والجد والجدة على حال ، ولا يجتمع الجد والجدة مع الولد للصلب ولا مع ولد الولد وان نزلوا.

ويجتمع الأبوان مع ولد الولد وان نزلوا ، لأنهم بمنزلة الولد للصلب ، إذا لم يكن ولد الصلب والجد والجدة يجتمعان مع الاخوة والأخوات ، لأنهم في درج.

والجد من قبل الأب بمنزلة الأخ من قبله ، والجدة من قبله بمنزلة الاخت من قبله ، والجد من قبل الام بمنزلة الأخ من قبلها ، والجدة من قبلها بمنزلة الاخت من قبلها ، وأولاد الاخوة والأخوات يقاسمون الجد والجدة ، لأنهم بمنزلة آبائهم.

ولا يجتمع مع الجد والجدة من يتقرب بهما من العم والعمة والخال والخالة ولا الجد الأعلى ولا الجدة العليا ، وعلى هذا تجري جملة المواريث ، فان فروعها لا ينحصر ، وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره.

فصل : قوله (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) الاية : ١٥.

أما من وجب عليه الرجم ، فانه يجلد أولا ثم يرجم عند أكثر أصحابنا ، وبه قال الحسن وقتادة وعبادة بن الصامت وجماعة ذكرناهم في الخلاف ، وفي أصحابنا من يقول : ذلك يختص الشيخ والشيخة ، فإذا لم يكونا كذلك فليس عليهما غير الرجم ، وأكثر الفقهاء على أنهما لا يجتمعان.

وثبوت الرجم معلوم من جهة التواتر على وجه لا يختلج فيه شك ، وعليه اجماع الطائفة بل اجماع الامة ، ولم يخالف فيه الا الخوارج وهم لا يعتد بخلافهم.

فصل : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ) الاية : ١٧.

التوبة هي الندم على القبيح مع العزم على ألا يعود الى مثله في القبح ، وفي الناس من قال : يكفي الندم على ما مضى من القبيح ، والعزم على أن لا يعود الى مثله.

١٦٤

والاول أقوى ، لإجماع الامة على أنها إذا حصلت على ذلك الوجه أسقطت العقاب ، وإذا حصلت على الوجه الثاني ، ففي سقوط العقاب عندنا خلاف.

فظاهر الاية تدل على أن الله يقبل التوبة من جميع المعاصي ، كفرا كان أو قتلا أو غيرهما من المعاصي ويقربه أيضا قوله «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ـ الى قوله : إِلَّا مَنْ تابَ» (١) فاستثنى من القتل ، كما استثنى من الزنا والشرك ، وحكي عن الحسن أنه قال : لا يقبل الله توبة القاتل ، وروي أنه انما قال ذلك لرجل كان عزم على قتل رجل على أن يتوب فيما بعد ، فأراد صده عن ذلك.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) الاية : ١٩.

اختلفوا في معنى ذلك ، فقال الزهري والجبائي وغيرهما وروي ذلك عن أبي جعفر عليه‌السلام : هو أن يحبس الرجل المرأة عنده لا حاجة له اليها ، وينتظر موتها حتى يرثها ، فنهى الله تعالى عن ذلك.

وقال الحسن ومجاهد : معناه ما كان يعمله أهل الجاهلية من أن الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه : ورثت امرأته كما ورثت ماله ، فان شاء تزوجها بالصداق الاول ولا يعطيها شيئا ، وان شاء زوجها وأخذ صداقها. وروى ذلك أبو الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام.

والعضل هو التضييق بالمنع من التزويج ، وأصله الامتناع ، يقال عضلت الدجاجة بيضتها إذا عسرت عليها ، ومنه العضلة لصلابتها ومنه الداء العضال إذ لم يبرأ.

قوله (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قيل : فيه قولان ، أحدهما : الزنا. والاخر النشوز. والاولى حمل الاية على كل معصية ، لان العموم يقتضي ذلك ، وهو المروي

__________________

(١). سورة الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠.

١٦٥

عن أبي جعفر عليه‌السلام ، واختاره الطبري.

فصل : قوله (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى) الاية : ٢١.

قيل : في معنى الإفضاء قولان : قال ابن عباس ومجاهد والسدي : هو كناية عن الجماع.

الثاني : انه الخلوة وان لم يجامع ، فليس له أن يسترجع نصف المهر ، وانما يجوز ذلك في من لم يدخل بها بالخلوة معها ، وكلاهما قد رواه أصحابنا واختلفوا فيه. والاول هو الأقوى.

والإفضاء الى الشيء هو الوصول اليه بالملابسة له ، قال الشاعر :

بلى وثاي أفضى الى كل كتبه

بدا سيرها من ظاهر بعد باطن (١)

أي : وصل البلى والفساد الى الخرز.

فصل : قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) الاية : ٢٣.

في الناس من اعتقد أن هذه الاية وما يجري مجراها كقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٢) مجملة لا يمكن التعلق بظاهرها في تحريم شيء ، وانما يحتاج الى بيان ، قالوا : لان الأعيان لا تحرم ولا تحلل (٣) ، وانما يحرم التصرف فيها ، والتصرف يختلف فيحتاج الى بيان التصرف المحرم دون التصرف المباح.

والأقوى أنها ليست مجملة ، لان المجمل هو ما لا يفهم المراد بعينه بظاهره ، وليست هذه الاية كذلك ، لان المفهوم من ظاهرها تحريم العقد عليهن والوطء ، دون غيرهما من أنواع الفعل ، فلا يحتاج الى البيان مع ذلك.

وكذلك قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) المفهوم الاكل والبيع دون النظر اليها

__________________

(١). تفسير الطبري ٨ / ١٢٤.

(٢). سورة المائدة : ٤.

(٣). في التبيان : ولا تحل.

١٦٦

أو رميها وما جرى مجراها ، كيف؟ وقد تقدم هذه الاية ما يكشف عن أن المراد ما قلناه من قوله (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ).

والربائب جمع ربيبة ، وهي بنت الزوجة من غيره ، ويدخل فيه أولادها وان نزلت وسميت بذلك لتربيته إياها ومعناها مربوبة ، نحو قتيلة في موضع مقتولة ، ويجوز أن تسمى ربيبة ، سواء تولى تربيتها وكانت في حجره أو لم تكن ، لأنه إذا تزوج بأمها سمي هو ربيبها (١) وهي ربيبته.

والعرب تسمى الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه يقولون : هذا مقتول ، وهذا ذبيح وان لم يقتل بعد ولم يذبح ، إذا كان يراد قتله أو ذبحه. وكذلك يقولون : هذه أضحية لما أعد للتضحية.

فمن قال : انه لا تحرم بنت الزوجة الا إذا تربت في حجره فقد أخطأ على ما قلناه.

والدخول المذكور في الاية قيل فيه قولان : أحدهما : قال ابن عباس : هو الجماع ، واختاره الطبري. الثاني : قال عطاء : وما جرى مجراه من المسيس ، وهو مذهبنا وفيه خلاف بين الفقهاء.

وقوله (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) يعني : نساء لبنين للصلب ، دخل بهن البنون أو لم يدخلوا ، ويدخل في ذلك أولاد الأولاد من البنين والبنات ، وانما قال «من أصلابكم» لئلا يظن أن امرأة من يتبنى به يحرم عليه.

ويمكن أن يستدل بهذه الاية على أنه لا يصح أن يملك واحدة من ذوي الأنساب المحرمات ، لان التحريم عام ، وبقوله عليه‌السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» على أنه لا يصح ملكهن من جهة الرضاع وان كان فيه خلاف.

وأما المرأة التي وطأها بلا تزويج ولا ملك ، فليس في الاية ما يدل على أنه

__________________

(١). في التبيان : رابها.

١٦٧

يحرم وطئ أمها وبنتها ، لان قوله (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وقوله (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) يتضمن اضافة الملك اما بالعقد ، أو بملك اليمين ، فلا يدخل فيه من وطئ من لا يملك وطأها ، غير أن قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد والملك بالسنة والاخبار المروية في ذلك ، وفيه خلاف بين الفقهاء.

وأما الرضاع ، فلا يحرم عندنا الا ما كان خمس عشرة رضعة متواليات لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى ، أو رضاع يوم وليلة ، أو ما أنبت اللحم وشد العظم.

وفي أصحابنا من حرم بعشر رضعات ، ومتى دخل بين الرضاع رضاع امرأة اخرى بطل حكم ما تقدم. وحرم الشافعي بخمس رضعات ولم يعتبر التوالي. وحرم أبو حنيفة بقليله وكثيره ، وهو اختيار البلخي ، وفي أصحابنا من ذهب اليه.

واللبن عندنا للفحل ، ومعناه إذا أرضعت امرأة بلبن فحل لها صبيانا كثيرين من أمهات شتى ، فإنهم بأجمعهم يصيرون أولاد الفحل ويحرمون على جميع أولاده الذين ينسبون اليه ولادة ورضاعا ، ويحرمون على أولاد المرضعة الذين ولدتهم.

فأما من أرضعته بلبن غير هذا الفحل ، فإنهم لا يحرمون عليهم. وكذلك ان كان للرجل امرأتان فأرضعتا صبيين لاجنبيين ، حرم التناكح ، بين الصبيين. وخالف في هذه ابن علية.

ولا يحرم من الرضاع عندنا الا ما وصل الى الجوف من الثدي من المجرى المعتاد الذي هو الفم. فأما ما يوجر به أو يسعط أو ينشق أو يحقن به ، أو يحلب في عينه ، فلا يحرم بحال. ولبن الميتة لا حرمة له في التحريم ، وفي جميع ذلك خلاف.

ولا يحرم من الرضاع الا ما كان في مدة الحولين ، فأما ما كان بعده فلا يحرم بحال.

فأما الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فمحرم بالسنة. ويجوز عندنا نكاح العمة والخالة على المرأة ، ونكاح المرأة على العمة والخالة لا يجوز الا برضاء

١٦٨

العمة والخالة ، وخالف فيه جميع الفقهاء.

والمحرمات بالنسب ومن تحرم بالسبب على وجه التأبيد يسمون مبهمات ، لأنهن يحرمن من جميع الجهات ، مأخوذ من البهيم الذي لا يخالط معظم لونه لون آخر ، يقال فرس بهيم لا شية فيه وبقرة بهيم والجمع بهم.

فصل : قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الاية : ٢٤.

قيل : في معنى قوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو الأقوى ما قاله علي عليه‌السلام وابن مسعود وابن عباس وأبو قلابة وابن زيد عن أبيه ومكحول والزهري والجبائي : ان المراد به ذوات الازواج الا ما ملكت أيمانكم من سبي من كان لها زوج. وقال بعضهم مستدلا على ذلك بخبر أبي سعيد الخدري : ان الاية نزلت في سبي أوطاس.

والإحصان على أربعة أقسام :

أحدها : يكون بالزوجية ، كقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ).

والثاني : بالإسلام ، كقوله (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) (١).

والثالث : بالعفة ، كقوله (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) (٢).

الرابع : يكون بالحرية ، كقوله (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٣).

__________________

(١). سورة النساء : ٢٥.

(٢). سورة النور : ٤.

(٣). سورة المائدة : ٥.

١٦٩

قوله «محصنين» أي : عاقدين للتزويج غير مسافحين عافين للفروج.

«غير مسافحين» قال مجاهد والسدي : معناه غير زانين. وأصله صب الماء ، تقول : سفح الدمع إذا صبه ، وسفح الجبل أسفله ، لأنه مصب الماء منه ، وسافح إذا زنا لصبه الماء باطلا.

وقال الزجاج : المسافح والمسافحة الزانيان غير ممتنعين من أحد ، فإذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن ، فحرم الله الزنا على كل حال على السفاح واتخاذ الصديق.

وقوله (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) قال الحسن ومجاهد وابن زيد : هو النكاح وقال ابن عباس والسدي : هو المتعة الى أجل مسمى ، وهو مذهبنا ، لان لفظ الاستمتاع إذا أطلق لا يستفاد به في الشرع الا العقد المؤجل ، ألا ترى أنهم يقولون : فلان يقول بالمتعة ، وفلان لا يقول بها ، ولا يريدون الا العقد المخصوص.

ولا ينافي ذلك قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) (١) لأنا نقول : هذه زوجة ولا يلزم أن يلحقها جميع أحكام الزوجات من الميراث والطلاق والإيلاء والظهار واللعان ، لان أحكام الزوجات تختلف ، ألا ترى أن المرأة تبين بغير طلاق ، وكذلك المرتد عندنا ، والكتابية لا ترث وأما العدة فإنها تلحقها عندنا ، ويلحق بها أيضا الولد ، فلا شناعة بذلك.

ولو لم تكن زوجة لجاز أن يضم ما ذكر في هذه السورة الى ما في تلك الاية لأنه لا تنافي بينهما ، ويكون التقدير : الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، أو ما استمتعتم به منهن ، وقد استقام الكلام.

وروي عن ابن مسعود وابن عباس وأبي ابن كعب وسعيد بن جبير أنهم قرءوا فما استمتعتم به منهن الى أجل مسمى ، وذلك صريح بما قلناه ، على أنه لو كان

__________________

(١). سورة المؤمنون : ٥ ـ ٦.

١٧٠

المراد به عقد النكاح الدائم لوجب لها جميع المهر بنفس العقد ، لأنه قال (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) يعني : مهورهن عند أكثر المفسرين ، وذلك غير واجب بلا خلاف وانما يجب الأجر بكماله في عقد المتعة بنفس العقد.

وفي أصحابنا من قال : أجورهن تدل على أنه المتعة ، لان المهر لا يسمى أجرا بل سماه الله صدقة. وهذا ضعيف ، لان الله سمى المهر أجرا في قوله (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (١) وقال (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (٢).

ومن حمل ذلك كله على المتعة ، كان مرتكبا لما يعلم خلافه ، ومن حمل لفظ الاستمتاع على الانتفاع فقد أبعد ، لأنه لو كان ذلك لوجب أن لا يلزم من لا ينتفع وأما الخبر الذي يروونه أن النبي عليه‌السلام نهى عن المتعة ، فهو خبر واحد لا يترك له ظاهر القرآن ، ومع ذلك يختلف لفظه وروايته ، فتارة يروون أنه نهى عنها في عام حنين ، وتارة يروون أنه نهى في عام الفتح.

وأدل دليل على ضعفه قول عمر : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما. فأخبر أن هذه المتعة كانت على عهد رسول الله ، وأنه الذي نهى عنها لضرب من الرأي.

فان قالوا : انما نهى لان النبي عليه‌السلام كان نهى عنها.

قلنا : لو كان كذلك لكان يقول : متعتان كانتا على عهد رسول الله ، فنهى عنهما وأنا أنهي عنهما أيضا. وكان يكون آكد في باب المنع ، فلما لم يقل ذلك دل على

__________________

(١). سورة النساء : ٢٥.

(٢). سورة المائدة : ٦.

١٧١

أن التحريم لم يكن صدر عن النبي عليه‌السلام وصح ما قلناه.

وقوله (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) قال الحسن وابن زيد : أي تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره أو هبة جميعه. وقال السدي وقوم من أصحابنا : معناه لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من استئناف عقد آخر بعد انقضاء المدة التي تراضيتم عليها ، فتزيدها في الأجر وتزيدك في المدة.

وفي الاية دلالة على جواز نكاح المرأة على عمتها وخالتها ، لان قوله (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) عام في جميعهن ، ومن ادعى نسخه فعليه الدلالة.

فصل : قوله (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ) الاية : ٢٥.

ظاهر الاية يقتضي أن من وجد الطول من مهر الحرة ونفقتها ولا يخاف العنت لا يجوز له تزويج الامة ، وانما يجوز العقد عليها مع عدم الطول والخوف من العنت ، وهو مذهب الشافعي.

غير أن أكثر أصحابنا قالوا : ذلك على وجه الأفضل ، لا أنه لو عقد عليها وهو غنى كان العقد باطلا ، وبه قال أبو حنيفة ، وقووا ذلك بقوله (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) (١) الا أن من شرط صحة العقد على الامة عند أكثر الفقهاء أن لا يكون عنده حرة ، وهكذا عندنا ، الا أن ترضى الحرة بأن يتزوج عليها أمة ، فان أذنت كان العقد صحيحا عندنا.

ومتى عقد عليها بغير اذن الحرة كان العقد على الامة باطلا. وروى أصحابنا أن الحرة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الامة أو تفسخ عقد نفسها. والاول أظهر لأنه إذا كان العقد باطلا لا يحتاج الى فسخه.

قوله (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) أي : اعقدوا عليهن بإذن أهلهن ، وفيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز نكاح الامة بغير اذن وليها الذي هو مالكها.

__________________

(١). سورة البقرة : ٢٢١.

١٧٢

وقوله (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) معناه اعطوا مالكهن مهورهن ، لان مهر الامة لسيدها بالمعروف ، وهو ما وقع عليه العقد والتراضي.

وفي الناس من قال : ان قوله (أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) المراد به الحرائر دون أن يكون مختصا بالعفائف ، لأنه لو كان مختصا بالعفائف لما جاز العقد على من ليس كذلك ، لان قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الى قوله (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١) منسوخ بالإجماع ، وبقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) (٢) وبقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) (٣) ويمكن أن يخص بالعفائف على الأفضل دون الوجوب.

وقوله «فعليهن» معناه : لازم لهن نصف ما يلزم المحصنات دون أن يكون ذلك واجبا عليهن.

فصل : قوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الاية : ٣١.

المعاصي وان كانت عندنا كلها كبائر ، من حيث كانت معصية لله تعالى ، فانا نقول : ان بعضها أكبر من بعض ، ففيها اذن كبير بالاضافة الى ما هو أصغر منه. وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير.

وعند المعتزلة أن كل معصية توعد الله عليها بالعقاب ، أو ثبت ذلك عن النبي عليه‌السلام ، أو كان بمنزلة ذلك أو أكبر منه فهو كبير ، وما ليس ذلك حكمه فانه يجوز أن يكون صغيرا. ويجوز أن يكون كبيرا ، ولا يجوز أن يعين الله الصغائر ، لان في تعيينها الإغراء بفعلها.

فمن المعاصي المقطوع على كونها كبائر قذف المحصنات ، وقتل النفس التي حرم الله ، والزنا ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين ، والشرك.

__________________

(١). سورة النور : ٣.

(٢). سورة النساء : ٣.

(٣). سورة النور : ٣.

١٧٣

فعلى مذهب المعتزلة من اجتنب الكبائر وواقع الصغائر ، فان الله يكفر الصغائر عنه ولا يحسن مع اجتناب الكبائر عندهم المؤاخذة بالصغائر ، ومتى آخذه بها كان ظالما.

وعندنا أنه يحسن من الله تعالى أن يؤاخذ العاصي بأي معصية فعلها ، ولا يجب عليه إسقاط عقاب معصية لمكان اجتناب ما هو أكبر منها.

غير أنا نقول : انه تعالى وعد تفضلا منه أن من اجتنب الكبائر ، فانه يكفر عنه ما سواها ، بأن يسقط عقابها عنه تفضلا ولو أحده بها لم يكن ظالما ، ولم يعين الكبائر التي إذا اجتنبها كفر ما عداها ، لأنه لو فعل ذلك لكان فيه إغراء بما عداها ، وذلك لا يجوز في حكمته تعالى.

وقوله (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ) معناه : من تركها جانبا (١) ، والموالي المذكور في الاية الورثة.

والمراد بقوله (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) قيل : فيه أقوال : أقواها أنهم الحلفاء.

والنصيب قيل : فيه قولان ، أقواهما أنه نصيب على ما كانوا يتوارثون بالحلف في الجاهلية ، ثم نسخ ذلك بقوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ).

فصل : قوله (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) الاية : ٣٤.

قوله «تخافون» قيل : فيه قولان : أحدهما ـ تعلمون ، لان خوف النشز للعلم بموقفه فلذلك جاز أن يوضع مكان تعلم ، كما قال الشاعر :

ولا تدفنني بالفلاة فاننى

أخاف إذ ما مت ألا أذوقها (٢)

قال الفراء : معناه ما ظننت ، ومنه قوله عليه‌السلام : أمرت بالسواك حتى خفت أن

__________________

(١). في «ن» خائفا.

(٢). معاني القرآن ١ / ١٤٦.

١٧٤

أدرد.

والنشوز ها هنا معصية الزوج ، وأصله الترفع على الزوج بخلافه ، مأخوذا من قولهم «هو على نشز من الأرض» أي : ارتفاع.

وقوله «فعظوهن» أي : خوفوهن بالله ، فان رجعن والا فاهجروهن في المضاجع.

وقيل : في معناه أقوال ، أقواها هجر المضاجعة. وقيل : الكلام. وقيل : الجماع وأما الضرب غير مبرح فلا يجوز ، قال أبو جعفر : بالسواك.

فصل : قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً) الاية : ٣٥.

اختلف الفقهاء في الحكمين ، هل هما حكمان أو هما وكيلان؟ فعندنا أنهما حكمان. وقال قوم : هما وكيلان.

واختلفوا هل للحكمين أن يفرقا بالطلاق ان رأياه أم لا؟ فعندنا ليس لهما ذلك الا بعد أن يستأمراهما ، أو كان أذن لهما في الأصل في ذلك.

والتوفيق هو اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة.

فصل : قوله (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ) الاية : ٤٢.

قوله (عَصَوُا الرَّسُولَ) ضموا الواو لأنها واو الجمع ، وحركت لالتقاء الساكنين وانما وجب لواو الجمع الضم ، لأنها لما منعت ما لها من ضم ما قبلها جعلت الضمة عند الحاجة الى حركتها فيها.

قوله (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) لا ينافي قوله (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١) لأنه قيل في معنى الاية سبعة أقوال : أحدها قاله البلخي ولا يكتمون الله حديثا على ظاهره لا يكتمون الله شيئا ، لأنهم ملجؤون الى ترك القبائح والكذب.

وقوله (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) أي : عند أنفسنا ، لأنهم كانوا يظنون في الدنيا أن ذلك ليس بشرك من حيث يقربهم الى الله تعالى.

__________________

(١). سورة الانعام : ٢٣.

١٧٥

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) الاية : ٤٣.

قرأ حمزة والكسائي «أو لامستم النساء» بغير ألف ، الباقون (لامَسْتُمُ) بألف فمن قرأ لامستم بالألف قال : معناه الجماع ، وهو قول علي عليه‌السلام وابن عباس ومجاهد وقتادة وأبي علي الجبائي ، واختاره أبو حنيفة.

ومن قرأ بغير الالف أراد اللمس باليد وغيرها بما دون الجماع ، ذهب اليه ابن مسعود وعبيدة وابن عمر والشعبي وابراهيم وعطاء ، واختاره الشافعي. والصحيح عندنا هو الاول ، وهو اختيار الجبائي والبلخي والطبري وغيرهم.

والملامسة واللمس معناهما واحد.

فان قيل : كيف يجوز نهى السكران في حال سكره مع زوال عقله ، أو كونه بمنزلة الصبي والمجنون.

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما ـ أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج من نقص العقل الى ما لا يحتمل الامر والنهي.

الثاني : انما نهى عن التعرض للسكر مع أن عليهم صلاة يجب أن يؤدوها في حال الصحو.

وقال أبو علي : فيه جواب ثالث ، وهو أن النهي انما دل على أن عليهم أن يعيدوها ان صلوها في حال السكر.

فان قيل : كيف يسوغ تأويل من ذهب الى أن السكران مكلف أن ينهى عن الصلاة في حال سكره؟ مع أن عمل المسلمين على خلافه ، لان من كان مكلفا تلزمه الصلاة.

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما ـ أنه منسوخ ، والاخر أنه نهي عن الصلاة مع الرسول عليه‌السلام في جماعة.

وقوله (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قد فسرناه ، وعندنا المراد به الجماع.

١٧٦

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الاية : ٤٨.

ظاهر الاية يدل على أن الله لا يغفر الشرك أصلا ، لكن أجمعت الامة على أنه لا يغفره مع عدم التوبة ، فأما إذا تاب منه ، فانه يغفره ، وان كان عندنا غفران الشرك مع التوبة تفضلا ، وعند المعتزلة هو واجب. وهذه الاية من آكد ما دل على أن الله تعالى يعفو عن المذنبين من غير توبة.

ووجه الدلالة فيها أنه انما نفى أن يغفر الشرك الا مع التوبة ، وأثبت أنه يغفر ما دونه ، فيجب أن يكون مع عدم التوبة ، لأنه ان كان ما دونه لا يغفره الا مع التوبة ، فقد صار ما دون الشرك ، فلا معنى للنفي والإثبات ، وكان ينبغي أن يقول ان الله لا يغفر المعاصي الا بالتوبة.

فان قيل : نحن نقول انه يغفر ما دون الشرك من الصغائر من غير توبة. قلنا هذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أنه تخصيص ، لان ما دون الشرك يقع على الكبير والصغير ، والله تعالى أطلق أنه يغفر ما دونه ، فلا يجوز تخصيصه من غير دليل.

الثاني : أن الصغائر تقع محبطة ، فلا تجوز المؤاخذة بها عند الخصم ، وما هذا حكمه لا يجوز تعليقه بالمشيئة ، وقد علق الله تعالى غفران ما دون الشرك بالمشيئة لأنه قال «لمن يشاء».

فان قيل : تعليقه بالمشيئة يدل على أنه لا يغفر ما دون الشرك قطعا.

قلنا : المشيئة دخلت في المغفور له لا فيما يغفر ، بل الظاهر يقتضي أنه يغفر ما دون الشرك قطعا لمن يشاء من عباده ، وبذلك تسقط شبهة من قال : القطع على غفران ما دون الشرك من غير توبة إغراء بالقبيح الذي هو دون الشرك ، لأنه انما يكون إغراء لو قطع على أنه يغفر ذلك لكل أحد.

فأما إذا علق غفرانه لمن يشاء ، فلا إغراء ، لأنه لا أحد الا وهو يجوز أن يغفر

١٧٧

له ، كما يجوز أن يؤاخذ به ، فالزجر حاصل على كل حال.

ومتى عارضوا هذه الاية بآيات الوعيد ، كقوله (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١) وقوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٢) وقوله (إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (٣) كان لنا أن نقول : العموم لا صيغة له ، فمن أين لكم أن المراد جميع العصاة.

ثم نقول : نحن نخص آباءكم بهذه الاية ونحملها على الكفار ، فمتى قالوا لنا : بل نحمل آياتكم على أصحاب الصغائر ، فقد تعارضت الآيات ووقفنا وجوزنا العفو بمجرد العقل وهو غرضنا.

فصل : قوله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) الاية : ٥٠.

النظر هو الإقبال على الشيء بالبصر ، ومن ذلك النظر بالقلب ، لأنه اقبال على الشيء بالقلب ، وكذلك النظر بالرحمة ، ونظر الدهر الى الشيء إذا أهلكه والنظر الى الشيء تلمسه والنظر اليه بالتأميل له ، والانتظار : الإقبال على الشيء بالتوقع له. والانظار التأخير الى وقت ، والاستنظار سؤال الانظار ، والمناظرة : اقبال كل واحد على الاخر بالمحاجة ، والنظير مثل الشيء لإقباله على نظيره بالمماثلة.

فصل : قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) الاية : ٥٢.

اللعنة : الابعاد من رحمة الله عذابا (٤) على معصيته ، فلذلك لا يجوز لعن البهائم ولا من ليس بعاقل من المجانين والأطفال ، لأنه سؤال العقوبة لمن لا يستحقها ، فمن

__________________

(١). سورة الفرقان : ١٩.

(٢). سورة النساء : ١٣.

(٣). سورة الانفطار : ١٤.

(٤). في التبيان : عقابا.

١٧٨

لعن حية أو عقربا أو نحو ذلك مما لا معصية له فقد أخطأ لأنه سأل الله عزوجل ما لا يجوز في حكمته ، فان قصد بذلك الابعاد لا على وجه العقوبة كان ذلك جائزا.

فان قيل : كيف قال (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) مع تناصر أهل الباطل على باطلهم؟

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما ـ فلن تجد له نصيرا ينصره من عقاب الله الذي يحله به مما قد أعده الله له ، لأنه الذي يحصل عليه وما سواه يضمحل عنه.

الثاني : فلن تجد له نصيرا ، لأنه لا يعتد بنصرة ناصر له مع خذلان الله إياه.

فصل : قوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الاية : ٥٤.

المعنى بقوله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) قيل : فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة : انه النبي عليه‌السلام وهو قول أبي جعفر عليه‌السلام وزاد فيه وآله.

فصل : قوله (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) الاية : ٥٥.

سعير بمعنى مسعورة وترك لأجل الصرف [التأنيث] للمبالغة في الصفة ، كما قالوا : كف خضيب ولحية دهين ، وتركت علامة التأنيث لأنها لما كان دخولها فيما ليست له للمبالغة ، نحو رجل علامة ، كان سقوطها فيما هي له للمبالغة ، فحسن هذا التقابل في الدلالة. والسعر : إيقاد النار.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) الاية : ٥٦.

معنى «نصليه نارا» نلزمه إياها ، تقول : أصليته النار إذا ألقيته فيها ، وصليته صليا إذا اشتويته ، ومنه شاة مصلية أي مشوية.

قوله (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) قيل : فيه ثلاثة أقوال.

قال الرماني : ان الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت ،

١٧٩

وتعدم المحترقة على ظاهر القرآن من أنها غيرها ، لأنها ليست بعض الإنسان. قال قوم : هذا لا يجوز لأنه يكون عذب من لا يستحق العذاب.

قال الرماني : لا يؤدي الى ذلك ، لان ما يزاد لا يألم ولا هو بعض لما يألم ، وانما هو شيء يصل به الا لم الى المستحق له.

وقال الجبائي : لا يجوز أن يكون المراد أن يزاد جلدا على جلده كلما نضجت لأنه لو كان كذلك لوجب أن يملا جسد كل واحد من الكفار جهنم إذا أدام الله العقاب لأنه كلما نضجت تلك الجلود زاد الله جلدا آخر ، فلا بد أن ينتهي الى ذلك.

والجواب الثاني اختاره البلخي والجبائي والزجاج ان الله تعالى يجددها ، بأن يردها الى الحالة التي كانت عليها غير محترقة ، كما يقال جئتني بغير ذلك الوجه. وكذلك إذا جعل قميصه قباء ، جاز أن يقال جاء بغير ذلك اللباس ، أو غير خاتمه فصاغه خاتما آخر جاز أن يقال هذا غير ذلك الخاتم ، وهذا هو المعتمد عليه.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الاية : ٥٩.

قوله (أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) للمفسرين فيه تأويلات :

أحدها : قال أبو هريرة وفي رواية عن ابن عباس وميمون بن مهران والسدي والجبائي والبلخي والطبري : انهم الامراء.

والثاني : قال جابر بن عبد الله وفي رواية أخرى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وعطاء وأبي العالية : انهم العلماء.

وروى أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهم الائمة من آل محمد عليهم‌السلام ، ولذلك أوجب الله طاعتهم بالإطلاق ، كما أوجب طاعة رسوله وطاعة نفسه كذلك ، ولا يجوز إيجاب طاعة أحد مطلقا الا من كان معصوما مأمونا منه السهو والغلط ، وليس ذلك بحاصل في الامراء ولا العلماء ، وانما هو واجب

١٨٠