المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

التعليق من الجزء الثالث من كتاب التبيان

في تفسير القرآن

يشتمل على بقية آل عمران وسورة النساء وبعض المائدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فصل : قوله (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الاية : ١٢١.

التبوئة اتخاذ المواضع لصاحبه ، وأصلها اتخاذ منزل تسكنه ، تقول : بوأته منزله ابوئه تبوئة ، ومنه المباءات المراح ، لأنه رجوع الى المستقر المتخذ وأبأت الإبل أبئها اباءة إذا رددتها الى المباءة ، ومنه بوأت بالذنب أي رجعت به متحملا له.

فصل : قوله (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الاية : ١٢٤.

الكفاية مقدار يسد به الخلة ، تقول : كفاه يكفيه كفاية فهو كاف : إذا قام بالأمر واستكفيته أمرا فكفاني واكتفى به اكتفاءا. وكفاك هذا الامر أي : حسبك.

والفرق بين الاكتفاء والاستغناء : أن الاكتفاء هو الاقتصار على ما ينفي الحاجة

١٤١

والاستغناء الاتساع فيما ينفي الحاجة ، فلذلك يوصف تعالى بأنه غني بنفسه ، لاتساع مقدوره من حيث كان قادرا لنفسه لا يعجزه شيء.

فصل : قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الاية : ١٢٩.

أن له تعالى ملك ما في السماوات وما في الأرض ، وأن له التصرف فيهما كيف شاء بلا دافع ولا مانع ، غير أنه لا بد من تخصيص هذا العموم من حيث أنه منزه عن الصاحبة والولد على كل وجه ، والوجه ما قلناه.

وانما ذكر لفظ «ما» لأنها أعم من «من» لأنها تتناول ما يعقل وما لا يعقل ، لأنها تفيد الجنس ولو قال من في السماوات ومن في الأرض لم يدخل فيه الا العقلاء الا أن يحمل على التغليب وذلك ليس بحقيقة.

وقوله (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) دليل على حسن العفو عن مستحق العقاب وان لم يتب ، لأنه لم يشترط فيه التوبة.

وقوله (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يعني : ممن يستحق العقاب (١) ، لان من لا يستحق العقاب (٢) لا يشأ عذابه ، لأنه ظلم يتعالى الله عن ذلك ، وفي ذلك دلالة على جواز العفو بلا توبة ، لأنه علق عذابه بمشيئته أنه لو لم يشأ لكان له ذلك.

ولا يلزم على ما قلناه الشك في جواز غفران عقاب الكفار ، لان ذلك أخرجناه من العموم ، بدلالة اجماع الامة على أنه لا يغفر الشرك ، وبقوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٣) ولو لا ذلك لكنا نجوز العفو عنهم أيضا.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الاية : ١٣٠.

__________________

(١). في التبيان : العذاب.

(٢). في التبيان : العذاب.

(٣). سورة النساء : ٤٧ و ١١٥.

١٤٢

فان قيل : كيف قال (اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وعندكم يجوز أن يدخلها الفساق أيضا ، وعند المعتزلة كلهم يدخلها الفساق قطعا ، وهلا قال أعدت للجميع؟

قلنا : أما على ما نذهب اليه ففائدة ذلك اعلامنا أنها أعدت للكافرين قطعا ، وذلك غير حاصل في الفساق ، لأنا نجوز العفو عنهم ، ومن قال أعدت للفساق ، قال : أضيفت الى الكفار (١) ، لأنهم أحق بها وان كان الجميع يستحقونها ، لان الكفر أعظم المعاصي فأعدت النار للكافرين ، ويكون غيرهم من الفساق تبعا لهم في دخولها.

فان قيل : فعلى هذا هل يجوز أن يقال : ان النار أعدت لغير الكافرين من الفاسقين؟

قلنا عن ذلك أجوبة ، أحدها : لا يقال أعدت لغيرهم من الفاسقين ، لان اعدادها للكافرين من حيث كان عقابهم هو المعتمد وعقاب الآخرين له تبع ، كما قال (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) ولا خلاف أنه يدخلها الأطفال والمجانين الا أنهم تبع للمتقين ، لأنه لو لا هم لم يدخلوها ، ولا يقال : ان الجنة أعدت لغير المتقين.

الطاعة موافقة الارادة الداعية الى الفعل بطريق الرغبة والرهبة ، ولذلك صح أن يجيب الله تعالى عبده ، وان لم يصح منه أن يطيعه ، لان الاجابة انما هي موافقة الارادة مع القصد الى موافقتها على حد ما وقعت من المريد.

فصل : قوله (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الاية : ١٣٣.

انما ذكر العرض بالعظم دون الطول ، لأنه يدل على أن الطول أعظم ، وليس كذلك لو ذكر الطول بدلا من العرض ، ومثل الاية قوله و (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٣) ومعناه الا كبعث نفس واحدة.

__________________

(١). في التبيان : الكافرين.

(٢). سورة آل عمران : ١٣٣.

(٣). سورة لقمان : ٢٨.

١٤٣

فان قيل : إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض ، فأين يكون النار؟.

الجواب أنه روي عن النبي عليه‌السلام أنه لما سئل عن ذلك ، فقال سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل. وهذه معارضة فيها إسقاط المسألة ، لان القادر على أن يذهب بالليل حيث يشاء قادر على أن يذهب بالنهار حيث يشاء ، وروي أنه سئل عن ذلك ابن عباس وغيره من الصحابة.

فان قيل : فان الجنة في السماء كيف يكون لها هذا العرض؟.

قيل له : يزاد فيها يوم القيامة ، ذكره أبو بكر أحمد بن علي ، على تسليم أنها في السماء ، ويجوز أن يكون الجنة مخلوقة في غير السماء (١) والأرض ، وفي الناس من قال : ان الجنة والنار ما خلقتا بعد ، وانما يخلقهما الله على ما وصفه.

فصل : قوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) الاية : ١٣٤.

قيل : في معنى السراء والضراء قولان :

أحدهما : قال ابن عباس في اليسر والعسر ، فكأنه قال في السراء بكثرة المال والضراء بقلته.

الثاني : في حال السرور وحال الاغتمام ، اي : لا يقطعهم شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر ، فيدخل فيه العسر واليسر ، وانما خصا بالذكر في التأويل الاول ، لان السرور بالمال يدعو الى الفتن به ، كما يدعو ضيقه الى التمسك به خوف الفقر لانفاقه.

وقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي : المتجر عين له ، فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر ، بل يصبرون على ذلك ويتجرعونه.

وأصل الكظم شد رأس القربة عن مائها. والفرق بين الغيظ والغضب أن الغضب ضد الرضا ، وهو ارادة العقاب المستحق بالمعاصي ولعنه ، وليس كذلك الغيظ

__________________

(١). في التبيان : السماوات.

١٤٤

لأنه هيجان الطبع بكره ما يكون من المعاصي ، ولذلك يقال : غضب الله على الكفار ولا يقال اغتاظ منهم.

وفي الاية دلالة على جواز العفو عن المعاصي وان لم يتب ، لأنها دلت على الترغيب في العفو من غير إيجاب له بإجماع المسلمين.

فصل : قوله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) الاية : ١٣٦.

المغفرة : تستر الذنب حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها والعقوبة بها ، والله تعالى متفضل بذلك ، لأنا بينا أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل منه تعالى ، فأما استحقاق الثواب بالتوبة فواجب عقلا لا محالة ، لأنه لو لم يكن مستحقا لذلك لقبح تكليفه التوبة ، لما فيها من المشقة والكلفة.

فصل : قوله (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الاية : ١٣٨.

انما أضيف الى المتقين ، وان كان هدى لجميع المكلفين ، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم ، ولا يجوز أن يقال : القران هدى وموعظة للفاجرين الا بتفسير وبيان ، لان في ذلك إبهاما لانتفاعهم به ، فان قيد بأنه دلالة لهم وداع لهم الى فعل الطاعة وذكر ما يزيل الإبهام كان جائزا ، وينبغي أن يتبع في ذلك ما ورد به القرآن (١).

فصل : قوله (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الاية : ١٤٣.

قوله «رأيتموه» فيه حذف معناه : رأيتم أسباب الموت لان الموت لا يرى.

فان قيل : هل يجوز أن يتمنى قتل المشركين لهم لينالوا منزلة الشهادة؟.

قلنا : لا ، لان قتل المشركين لهم معصية ، ولا يجوز تمني المعاصي ، كما لا يجوز ارادتها ولا الامر بها ، فإذا ثبت ذلك فتمنيهم الشهادة بالصبر على الجهاد الى أن يقتلوا.

والفرق بين التمني والارادة ، أن الارادة من أفعال القلوب ، والتمني هو

__________________

(١). الى هنا انتهى المقابلة مع الجزء الثاني من كتاب التبيان.

١٤٥

قول القائل : ليت كان هذا ، أوليت لم يكن كذا.

وقوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) بعد قوله (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون تأكيدا للرؤية ، كما تقول : رأيت عيانا ورأيته بعيني.

والثاني : أن يكون معناه : وأنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي ، لان النظر هو تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته ، وليس معناه الرؤية على وجه الحقيقة.

فصل : قوله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) الاية : ١٤٤.

الالف في قوله (أَفَإِنْ ماتَ) ألف انكار بصورة ألف الاستفهام. ومثله أتختار الفساد على الصلاح والخطأ على الصواب.

وقوله (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) يدل على أن الموت غير القتل ، لأنه لو كان هواياه لما عطف به عليه ، لان الشيء لا يعطف على نفسه ، والقتل هو نقض بنية الحياة ، والموت في الناس من قال هو معنى يضاد الحياة ، وفيهم من قال : هو افساد البنية التي تحتاج الحياة اليها بفعل معان فيه تضاد المعاني التي تحتاج اليها الحياة.

وقوله (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) أي : من يرتد ويرجع عن الإسلام.

فصل : قوله (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) الاية : ١٥٢.

قوله (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) قيل في اضافة انصرافهم الى الله مع أنه معصية قولان :

أحدهما : أنهم كانوا فريقين منهم من عصى بانصرافه ، ومنهم من لم يعص ، لأنهم قلة (١) بعد انهزام تلك الفرقة ، فانصرفوا بإذن الله ، بأن التجئوا الى أحد ، لان الله انما أوجب ثبات المائة للمائتين ، فإذا نقصوا لا يجب عليهم ذلك وجاز

__________________

(١). في التبيان : قلوا.

١٤٦

أن يذكر الفريقان في الجملة.

وقال الجبائي : قوله (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) خاص بمن لم يعص بانصرافه ، والاولى أن يكون عاما في جميعهم لأنه لا يمتنع أن يكون الله عفى عنهم (١) عن هذه المعصية.

وقال البلخي : معناه ولقد عفى عنكم بتبعهم بعد أن كان أمرهم بالتتبع لهم ، فلما بلغوا حمراء الأسد أعفاهم من ذلك ، ولا يجوز أن يكون صرفهم فعل الله تعالى ، لأنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح.

فصل : قوله (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) الاية : ١٥٣.

قيل : الإصعاد من مستوي الأرض ، والصعود في ارتفاع ، يقال : أصعدنا من مكة إذا ابتدأنا السفر منها ، وكذلك أصعدنا من الكوفة الى خراسان.

قوله (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : أنه انما قيل في الغم ثواب ، لان أصله ما يرجع من الجزاء على الفعل ، طاعة كان أو معصية ، ثم كثر في جزاء الطاعة ، فعلى هذا يكون الغم عقوبة لهم على فعلهم وهزيمتهم.

والثاني : أن يكون وضع الشيء مكان غيره كما قال (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢) أي : ضعه موضع البشارة.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) الاية : ١٥٦.

يقع الماضي موضع المستقبل ، نحو (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣) معناه يكفرون ويصدون ، ومثله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) (٤) معناه : الا من يتوب

__________________

(١). في التبيان : لهم.

(٢). سورة الأنبياء : ٣.

(٣). سورة الحج : ٢٥.

(٤). سورة مريم : ٦٠.

١٤٧

ومثله كثير.

قوله (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) معناه هاهنا الاحتجاج على من خالف أمر الله في الجهاد طلبا للحياة وهربا من الموت ، لان الله تعالى إذا كان هو الذي يحيي ويميت لم ينفع الهرب من أمره بذلك خوف الموت وطلب الحياة.

فصل : قوله (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) الاية : ١٦١.

في الاية دلالة على فساد قول المجبرة : أن الله تعالى لو عذب الأنبياء والمؤمنين لم يكن ظلما لهم ، لأنه قد بين أنه لو لم يوفها ما كسبت لكان ظلما لها.

فصل : قوله (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) الاية : ١٦٢.

المصير هو المرجع : والفرق بينهما أن المرجع هو انقلاب الشيء الى حال قد كان عليه. والمصير : انقلاب الشيء الى خلاف الحال التي هو عليها ، نحو مصير الطين خزفا ولم يرجع خزفا ، لأنه لم يكن قبل ذلك خزفا.

فصل : قوله (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الاية : ١٦٤.

قوله (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) يعني : القرآن وهو الحكمة ، وانما كرره بواو العطف لامرين :

أحدهما : قال قتادة : الكتاب القرآن ، والحكمة السنة.

والثاني : لاختلاف فائدة الصفتين ، وذلك أن الكتاب ذكر للبيان أنه مما يكتب ويجلد ليبقى على وجه الدهر والحكمة البيان عما يحتاج اليه من طريق المعرفة.

فصل : قوله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ ، مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الاية : ١٦٥.

١٤٨

في الاية دلالة على فساد مذهب المجبرة ، بأن المعاصي كلها من فعل الله ، لأنه تعالى قال (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) ولو لم يكن فعلوه لما كان من عند أنفسهم كما أنه لو فعله لكان من عنده.

فصل : قوله (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) الاية : ١٧٤.

الفرق بين النعمة والمنفعة : أن النعمة لا تكون نعمة الا إذا كانت حسنة ، لأنه يستحق بها الشكر ، ولا يستحق الشكر بالقبيح ، والمنفعة قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة ، مثل أن يغصب ما لا ينتفع به ويكون قبيحا.

فصل : قوله (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الاية» : ١٧٦.

فان قيل : كيف قال (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) والارادة لا تتعلق بألا يكون الشيء ، وانما تتعلق بما يصح حدوثه؟

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما : قال ابن إسحاق : يريد الله أن يحبط أعمالهم بما استحقوه من المعاصي والكبائر.

الثاني : ان الله يريد أن يحكم بحرمان ثوابهم الذي عرضوا له بتكليفهم ، وهو الذي يليق بمذهبنا ، لان الإحباط عندنا باطل ليس بصحيح.

فان قيل : كيف قال «يريد الله» وهو اخبار عن كونه مريدا في حال الاخبار ، وارادة الله تعالى لعقابهم تكون يوم القيامة ، وتقديمها على وجه يكون عزما وتوطينا للنفس ، وذلك لا يجوز عليه تعالى؟

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما : قال أبو علي : معناه أنه سيريد في الاخرة حرمانهم الثواب لكفرهم الذي ارتكبوه.

والثاني : أن الارادة متعلقة بالحكم بذلك ، وذلك حاصل في حال الخطاب.

وقال الحسن : يريد بذلك فيما حكم من عدله.

١٤٩

فصل : قوله (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) الاية : ١٧٩.

قوله (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) سببه أن قوما قالوا : هلا جعلنا الله أنبياء؟ فأخبر الله تعالى أنه يجتبي من رسله من يشاء ، و «من» في الاية لتبيين الصفة لا للتبعيض ، لان الأنبياء كلهم مجتبون.

والبخل هو منع الواجب ، لأنه تعالى ذم به وتوعد عليه ، وأصله في اللغة مشقة الإعطاء ، فإنما يمنع الواجب لمشقة الإعطاء.

فصل : قوله (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الاية : ١٨١.

في الاية دلالة على أن الرضا بقبيح الفعل يجري مجراه في عظم الجرم ، لان اليهود الذين وصفوا بقتل الأنبياء لم يتولوا ذلك في الحقيقة ، وانما ذموا به لأنهم بمنزلة من تولاه في عظم الإثم.

فصل : قوله (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) الاية : ١٨٣.

انما لم ينزل الله ما طلبوه ، لان المعجزات تابعة للمصالح وليست على الاقتراحات والتعنت.

فان قيل : هلا قطع الله عذرهم بالذي سألوا من القربان الذي تأكله النار؟

قيل له : لا يجب ذلك ، لان ذلك اقتراح في الادلة على الله ، والذي يلزم من ذلك أن يزيح علتهم بنصب الادلة على ما دعاهم الى معرفته.

فصل : قوله (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ») الاية : ١٨٦.

معناه : لتختبرن ، أي توقع عليكم المحن وتلحقكم الشدائد في أنفسكم ، وانما فعله ليصبروا ، فسماه بلوى مجازا ، لان حقيقته لا تجوز عليه تعالى ، لأنها التجربة في اللغة ويتعالى الله عن ذلك ، لأنه عالم بالأشياء قبل كونها ، وانما فعله

١٥٠

ليتميز المحق منكم من غيره.

فصل : قوله (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) الاية : ١٨٨.

فان قيل : كيف يجوز أن يذم بالفرح وليس من فعل الإنسان؟

قلنا : ذم بالتعرض له على جهة الأشر والبطر ، كما قال (لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١).

فصل : قوله (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الاية : ١٨٩.

قوله (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) خرج مخرج المبالغة ، وهو أخص من قوله (هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لان أفعال العباد لا توصف بالقدرة عليها.

فصل : قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الاية : ١٩٠.

فان قيل : ما وجه الاحتجاج بخلق السماوات على الله؟ ولم تثبت بعد أنها مخلوقة؟

قيل : عنه ثلاثة أجوبة :

أولها : على تقدير اثبات كونها مخلوقة قبل الاستدلال به ، لان الحجة به قامت عليه من حيث أنها لم تنفك من المعاني المحدثة.

الثاني : أن الغرض ذكر ما يوجب صحة الذي تقدم ، ثم يترقى من ذلك الى تصحيح ما يقتضيه على مراتبه ، كالسؤال عن الدلالة على النبوة ، فيقع الجواب بذكر المعجزة دون ما قبلها من المرتبة.

الثالث : أن تعاقب الضياء والظلام تدل على حدوث الأجسام.

فصل : قوله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) الاية : ١٩١.

__________________

(١). سورة القصص : ٧٦.

١٥١

قوله (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) انما قال هذا ولم يقل هذه ولا هؤلاء ، لأنه أراد به الخلق ، كأنه قال : ما خلقت هذا الخلق باطلا ، بل خلقته دليلا على وحدانيتك وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك.

وقوله «سبحانك» معناه براءة لك من السوء وتنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا ، قال الشاعر :

أقول لما جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (١)

وفي الاية دلالة على أن الكفر والضلال وجميع القبائح ليست خلقا لله ، لان هذه الأشياء كلها باطلة بلا خلاف ، وقد نفى الله تعالى بحكايته عن أولي الباب الذين رضي أقوالهم ، بأنه لا باطل فيما خلقه ، فيجب بذلك القطع على أن القبائح كلها من فعل غيره ، وأنه لا يجوز اضافتها اليه تعالى.

فصل : قوله (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) الاية : ١٩٢.

قوله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) معناه : ليس للظالمين من يدفع عنهم على وجه المغالبة والقهر ، لان الناصر هو الذي يدفع عن المنصور على وجه المغالبة ، ولا ينافي ذلك الشفاعة في أهل الكبائر ، لان الشفاعة هي مسألة وخضوع وضرع الى الله تعالى وليست من النصرة في شيء.

فصل : قوله (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) الاية : ١٩٣.

فان قيل : ما معنى قوله (وَكَفِّرْ عَنَّا) وقد أغنى عنه قوله (فَاغْفِرْ لَنا).

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما : اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة وكفر عنا ان تبنا ، والثاني : اغفر لنا بالتوبة ذنوبنا وكفر عنا باجتناب الكبائر السيئات ، لان الغفران قد يكون ابتداء ومن سبب ، والتكفير لا يكون الا عند فعل من العبد.

فصل : قوله (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) الاية : ١٩٤.

__________________

(١). ديوان الأعشى ص ١٤٣.

١٥٢

فان قيل : ما وجه مسألتهم لله أن يؤتيهم ما وعدهم؟ والمعلوم أن الله ينجز وعده ولا يجوز عليه الخلف في الميعاد.

قيل : عن ذلك أجوبة ، أحدها : ما اختاره الجبائي والرماني أن ذلك على وجه الانقطاع اليه والتضرع له والتعبد له ، كما قال (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) (١) وقوله (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٢) وأمثال ذلك كثيرة.

فصل : قوله (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ) الاية : ١٩٦.

الغرور : إيهام حال السرور فيما الامر بخلافه في المعلوم ، وليس كل إيهام غرورا ، لأنه قد يتوهمه متخوفا فيحذر منه ، فلا يقال : غره ، والفرق بين الغرور والخطر أن الغرر قبيح ، لأنه ترك الحزم فيما يمكن أن يتوثق منه ، والخطر قد يحسن على بعض الوجوه ، لأنه من العظم من قولهم رجل خطير أي عظيم.

__________________

(١). سورة الأنبياء : ١١٢.

(٢). سورة البقرة : ٢٨٦.

١٥٣

سورة النساء

فصل : قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) الاية : ١.

هذه الاية خطاب لجميع المكلفين ، ووعظ وحذر فيها من قطع الأرحام لما أراد الوصية بالأولاد والنساء والضعفاء ، فأعلمهم أنهم جميعا من نفس واحدة فيكون ذلك داعيا للزوم حدوده في ورثتهم والمراد بالنفس ها هنا آدم عند جميع المفسرين.

وقوله (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعني : حواء ، روي أنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم ذهب اليه أكثر المفسرين.

ومعنى (تَسائَلُونَ بِهِ) من قولهم أسألك بالله والرحم.

ووجه النعمة في الخلق من نفس واحدة : أنه أقرب الى أن يتعطفوا ولا يأنف بعضهم من بعض لما بينهم من القرابة والرجوع الى نفس واحدة وهي آدم ، وقد حكينا عن أكثر المفسرين من أن حوا خلقت من ضلع آدم.

فصل : قوله (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) الاية : ٢.

١٥٤

هذا خطاب لاوصياء اليتامى ، أمرهم الله بأن يعطوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا الحلم وأونس منهم الرشد ، وسماهم يتامى بعد البلوغ وإيناس الرشد مجازا ، لان النبي عليه‌السلام قال : لا يتم بعد احتلام ، كما قالوا في النبي عليه‌السلام : انه يتيم أبي طالب بعد كبره ، يعنون أنه رباه.

وقوله (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) معناه : لا تستبدلوا ما حرمه الله عليكم من أموال اليتامى بما أحله الله لكم من أموالكم.

واختلفوا في صفة التبديل ، فقال بعضهم : كان أوصياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتيم والرفيع منه ، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس.

فصل : قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) الاية : ٣.

قيل : في تفسير هذه الاية ستة أقوال :

أحدها : قال سعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك واحدى الروايات عن ابن عباس قالوا : كانوا يشددون في أمر اليتامى ، ولا يشددون في النساء ، ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهن ، فقال الله : كما تخافون الا تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء ، فانكحوا واحدة الى الأربع ، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة.

ومن استدل بهذه الاية على أن نكاح التسع جائز فقد أخطأ ، لان ذلك خلاف الإجماع ، وأيضا فالمعنى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ان أمنتم الجور وأما ثلاث ان لم تخافوا ذلك ، أو رباع ان أمنتم ذلك فيهن ، بدلالة قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) لان معناه : فان خفتم في الثنتين فانكحوا واحدة.

ثم قال : فان خفتم أيضا في الواحدة فما ملكت أيمانكم ، على أن مثنى لا يصلح الا لاثنين اثنين ، أو اثنتين اثنتين على التفريق في قول الزجاج.

فتقدير الاية : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث ، ولو قيل ب «أو» لظن أنه ليس لصاحب مثنى ثلاث ، ولا

١٥٥

لصاحب الثلاث رباع.

ومعنى قوله (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) ان طابت لكم يعني الازواج أنفسهن بشيء ، ونصبه على التمييز ، كما يقولون : ضقت بهذا الامر ذرعا ، وقررت به عينا. والمعنى ضاق به ذرعي وقرت به عيني ، كما قال الشاعر :

إذا التياز ذو العضلات قلنا

اليك اليك ضاق بها ذراعا (١)

وانما هو على ذرعا وذراعا ، لان المصدر والاسم يدلان على معنى واحد ، فنقل صفة الذراع الى رب الذرع (٢) ، ثم أخرج الذراع مفسرة لموقع الفعل ، ولذلك وحد النفس لما كانت مفسرة لموقع الخبر ، والنفس المراد به الجنس يقع على الواحد والجمع.

فصل : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) الاية : ٥.

قوله (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : معناه لا تؤتوا يا أيها الرشد السفهاء من النساء والصبيان أموالكم التي جعل الله لكم ، يعني : أموالكم التي تملكونها ، فتسلطوهم عليها فيفسدوها ويضيعوها ، ولكن ارزقوهم أنتم منها.

وقال بعضهم : يعني بأموالكم أموالهم ، كما قال (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) قال : وهم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم وارزقوهم منها واكسوهم.

وانما يكون اضافة مال اليتيم الى من له القيام بأمرهم على ضرب من المجاز أو لأنه أراد لا تعطوا الأولياء ما يخصهم لمن هو سفيه ، ويجري ذلك مجرى قول

__________________

(١). ديوان القطامي ص ٤٤.

(٢). في التبيان : الذراع.

(٣). سورة النساء : ٢٨.

١٥٦

القائل للواحد : يا فلان أكلتم أموالكم بالباطل ، فيخاطب الواحد بخطاب الجميع ويريد به أنك وأصحابك أو قومك أكلتم.

قوله (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) معناه : ما جعله الله قوام معايشكم ومعايش سفهائكم بها تقومون قياما وقواما بمعنى واحد.

وفي الاية دلالة على جواز الحجر على اليتيم إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد لان الله تعالى منع من دفع المال الى السفهاء ، وقد بينا أن المراد به أموالهم على بعض الأحوال.

وفي الاية دلالة على وجوب الوصية إذا كان الورثة سفهاء ، لان ترك الوصية بمنزلة إعطاء المال في حال الحياة الى من هو سفيه ، وانما سمي الناقص العقل سفيها وان لم يكن عاصيا ، لان السفه هو خفة الحلم ، ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ، فثقل الوزن وخفته ككبر القدر وصغره.

فصل : قوله (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الاية : ٦.

واختلفوا في معنى الرشد ، فقال السدي وقتادة : معناه عقلا ودينا وصلاحا. وقال الحسن وابن عباس : معناه صلاحا في الدين وإصلاحا في المال (١).

وقال مجاهد والشعبي : معناه العقل ، قال : لا يدفع الى اليتيم ماله وان أخذ بلحيته وان كان شيخا حتى يؤنس منه رشده العقل.

وقال ابن جريح : صلاحا وعلما لما يصلحه.

والأقوى أن يحمل على أن المراد به العقل وإصلاح المال ، على ما قال ابن عباس والحسن ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، للإجماع على أن من يكون كذلك لا يجوز عليه الحجر في ماله وان كان فاجرا في دينه ، وإذا كان ذلك اجماعا

__________________

(١). في التبيان : للمال.

١٥٧

فكذلك إذا بلغ وله مال في يد وصي أبيه ، أو في يد حاكم قد ولي ماله ، وجب عليه أن يسلم اليه ما له إذا كان عاقلا مصلحا لماله وان كان فاسقا في دينه.

فصل : قوله (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً).

معناه : بغير ما أباحه الله لكم. وقال الحسن والسدي : لا سرف (١) في الاكل ، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح الى ما لم يبح ، وربما كان ذلك في الافراط ، وربما كان في التقصير ، غير أنه إذا كان في الافراط يقال منه : أسرف يسرف إسرافا وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفا ، يقال مررت بكم فسرفتكم ، يريد فسهوت عنكم وأخطاتكم ، كما قال الشاعر :

أعطوا هنيدة يحذوها ثمانية

ما في عطائهم من ولا سرف

يعني : لا خطأ فيه يريد أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطونها.

معنى «بدارا» أي : لا تأكلوها مبادرة كبرهم.

وقوله (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) يعني : من كان غنيا من ولاة أموال اليتامى فليستعفف بماله عن أكلها ، وبه قال ابن عباس وابراهيم.

وقوله (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال عبيدة : معناه القرض ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام. ألا ترى أنه قال (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ).

(وَمَنْ كانَ فَقِيراً) فاختلفوا في الوجه الذي يجوز له أكل مال اليتيم به إذا كان فقيرا ، وهو المعروف ، فقال سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبو العالية وأبو وائل والشعبي ومجاهد وعمر بن الخطاب : هو أن يأخذه قرضا على نفسه مما لا بد منه ثم يقضيه ، وبينا أنه المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

__________________

(١). في التبيان : الإسراف.

١٥٨

وقال الحسن وابراهيم ومكحول وعطاء بن أبي رباح : يأخذ ما سد الجوعة ووارى العورة ، ولا قضاء عليه ، ولم يوجبوا أجرة المثل ، لان أجرة المثل ربما كان أكثر من قدر الحاجة. والظاهر في أخبارنا أن له أجرة المثل ، سواء كان قدر كفايته أو لم يكن.

واختلفوا في هل للفقير من ولي اليتيم أن يأكل من ماله هو وعياله؟ فقال عمرو ابن عبيد : ليس له ذلك ، لقوله (فَلْيَأْكُلْ) فخصه بالأكل.

وقال الجبائي : له ذلك ، لان قوله «بالمعروف» يقتضي أن يأكل هو وعياله على ما جرت به العادة في أمثاله ، وقال : ان كان واسعا كان له أن يأخذ قدر كفايته له ولمن يلزمه نفقته من غير إسراف وان كان قليلا ، كان له أجرة المثل أكثر من نفقته بالمعروف ، وعلى ما قلناه من أن له أجرة المثل يسقط هذا الاعتبار.

وقوله (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) خطاب لأولياء اليتيم (١) إذا دفعوا أموال اليتامى اليهم أن يحتاطوا لأنفسهم بالإشهاد ، لئلا يقع منهم جحود ويكونوا أبعد من التهمة وليس بواجب. وولى اليتيم المأمور بابتلائه هو الذي جعل اليه القيام من وصي أو حاكم ، أو أمين ينصبه الحاكم.

وأجاز أصحابنا الاستقراض من مال اليتيم إذا كان مليا ، وفيه خلاف.

فصل : قوله (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الاية : ٧.

في الاية دلالة على أن الأنبياء يورثون ، لأنه تعالى عمم الميراث للرجال والنساء ولم يخص نبيا من غيره ، وكما لا يجوز أن يقال : النبي لا يرث ، لأنه خلاف الاية ، فكذلك لا يجوز أن يقال : لا يورث لأنه خلافها ، والخبر الذي يروون أنه قال : نحن معاشر

__________________

(١). في التبيان : اليتامى.

١٥٩

الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. خبر واحد ، وقد بينا ما فيه في غير موضع وتأولناه بعد تسليمه.

الفرق بين الفرض والوجوب ، أن الفرض هو الإيجاب ، غير أن الفرض يقتضى فارضا فرضه ، وليس كذلك الواجب ، لأنه قد يجب الشيء في نفسه من غير إيجاب موجب ، ولذلك صح وجوب الثواب والعوض على الله تعالى ولم يجز فرضه عليه.

فصل : قوله (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) الاية : ٨.

هذه الاية عندنا محكمة وليست منسوخة ، وبه قال ابن عباس وجماعة ، منهم الزجاج وسعيد بن جبير والبلخي والجبائي ، وقال سعيد بن المسيب وأبو مالك والضحاك : هي منسوخة ، وأرزاق من حضر قسم الميراث من هؤلاء الأصناف ليس بواجب بل هو مندوب اليه ، وهو الذي اختاره الجبائي والبلخي وجماعة. وقال مجاهد : هو واجب وحق لازم ما طابت به أنفس الورثة.

واختلفوا في من المخاطب بقوله «فارزقوهم» فقال أكثر المفسرين : ان المخاطب بذلك الورثة ، أمروا بأن يرزقوا المذكورين إذا كانوا لا سهم لهم في الميراث.

وقال آخرون : انها تتوجه الى من حضرته الوفاة وأراد الوصية ، فانه ينبغي له أن يوصي لمن لا يرثه بشيء من ماله.

وأقوى الأقوال أن يكون الخطاب متوجها الى الوارث البالغين ، وكذلك لو قلنا انها يتوجه (١) الى الموصي لكان محمولا على أنه يستحب أن يوصي لهؤلاء بشيء من ماله.

فصل : قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الاية : ١١.

__________________

(١). في التبيان : متوجهة.

١٦٠