المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

قيل : في معنى الاية قولان : أحدهما ما روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد أنه يجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الاخر. وقال الجبائي : معناه يدخل أحدهما في الاخر بإتيانه بدلا منه في مكانه.

وقوله (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) قيل : في معناه قولان :

أحدهما : يخرج الحي من النطفة وهي ميتة ، والنطفة من الحي ، وكذلك الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة ، هذا قول عبد الله بن مسعود ومجاهد والضحاك.

الثاني : ما قاله الحسن وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنه إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والفرق بين تخفيف الياء وتشديدها أن الميت بالتخفيف الذي قد مات ، وبالتثقيل الذي لم يمت.

فصل : قوله (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) الاية : ٣٣.

فان قيل : من آل ابراهيم؟

قيل : قال ابن عباس والحسن : هم المؤمنون الذين على دينهم. وقيل : آل عمران هم آل ابراهيم كما قال (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) فيهم موسى وهارون ابنا عمران ، وقالوا أيضا : في قراءة أهل البيت وآل محمد على العالمين ، وقالوا أيضا : ان آل ابراهيم هم آل محمد الذين هم أهله.

وقد بينا فيما مضى أن الآل بمعنى الأهل ، والاية تدل على أن الذين اصطفاهم معصومون منزهون ، لأنه لا يختار ولا يصطفى الا من كان كذلك ويكون ظاهره وباطنه واحدا ، فاذن يجب أن يختص الاصطفاء بآل ابراهيم وآل عمران من كان مريضا معصوما ، سواء كان نبيا أو اماما.

فصل : قوله (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)

١٢١

الاية : ٣٥.

قيل : في معنى محرر ثلاثة أقوال : أحدها قال الشعبي : معناه مخلصا للعبادة وقال مجاهد : خادما للبيعة. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : عتيقا من الدنيا لطاعة الله.

فصل : قوله (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الاية : ٣٧.

قال أبو عمرو : لا نظير للقبول في المصادر بفتح فاء الفعل ، والباب كله مضموم الفاء كالدخول والخروج. وقال سيبويه : جاءت خمسة مصادر على فعول : قبول ووضوح وظهور وولوغ ووقود ، الا أن الأكثر في وقود الضم إذا أريد المصدر وأجاز الزجاج في القبول الضم.

وقوله (إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) معناه سامع الدعاء بمعنى قائل الدعاء ، ومنه قول القائل «سمع الله لمن حمده» أي : قبل الله دعاءه. وأصل السمع ادراك المسموع. وانما قيل للقائل سامع ، لان من كان أهلا أن يسمع منه فهو أهل أن يقبل منه خلاف من لا يعتد بكلامه ، فكأنه (١) بمنزلة من لا يسمع.

قوله «يبشرك بيحيى» الاية قال قتادة : سمي يحيى لان الله تعالى أحياه بالايمان سماه الله بهذا الاسم قبل مولده.

وقوله «بكلمة» يعني : المسيح عليه‌السلام في قول جميع أهل التأويل ، وانما سمي المسيح كلمة لامرين : أحدهما أنه كان بكلمة الله من غير أب من ولد آدم. والثاني لان الناس يهتدون به في الدين كما يهتدون بكلام الله.

وقوله «وحصورا» معناه الذي لا يأتي النساء ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وقال بعضهم : هو الذي لا يبالي ألا يأتي النساء. وقيل : العنين.

فصل : قوله (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)

__________________

(١). في التبيان : فكلامه.

١٢٢

الاية : ٤٠.

العاقر من النساء التي لا تلد ، يقال امرأة عاقر ورجل عاقر ، وعقر كل شيء أصله ، والعقر : دية فرج المرأة إذا غصبت نفسها ، وبيضة العقر آخر بيضة ، والعقر : محلة القوم ، والعقار معروف ، والعقار الخمر ، والمعاقرة إدمان شربها مع أهلها.

وقوله (إِلَّا رَمْزاً) الرمز الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين.

وقوله «وسبح» معناه هاهنا وصل ، يقال فرغت من تسبيحي أي : من صلاتي.

والعشي من حين زوال الشمس الى غروب الشمس في قول مجاهد ، قال الشاعر :

فلا الظل من برد الضحى نستطيعه

ولا الفيء من برد العشى تذوق

والعشاء من لدن غروب الشمس الى أن يولي صدر الليل.

والأبكار من حين طلوع الفجر الى وقت الضحى ، وأصله التعجيل بالشيء ، يقال أبكر أبكارا وبكر يبكر بكورا ، وقال عمر بن أبي ربيعة :

أمن آل نعم أنت عاد فمبكر

ويقال في كل شيء تقدم : بكر ، ومنه الباكورة أول ما يجيء من الفاكهة.

فصل : قوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) الاية : ٤٤.

الإيحاء : هو إلقاء المعنى الى صاحبه ، فقوله «نوحيه اليك» أي : نلقي معناه اليك. والإيحاء : الإرسال الى الأنبياء ، تقول : أوحى الله اليه أي أرسل اليه ملكا والإيحاء الإلهام ، ومنه قوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (١) أي : ألهمها. والإيحاء الإيماء قال الشاعر :

فأوحت إلينا والأنامل رسلها

__________________

(١). سورة النحل : ٦٨.

١٢٣

ومنه قوله (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١) أي : أشار اليهم ، والوحي : الكتاب يقال : وحى يحي وحيا أي كتب ، لان به يلقي المعنى الى صاحبه قال رؤبة :

لقدر كان وحاه الواحي

وقوله (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) قيل : فيه قولان :

أحدهما : التعجب من حرصهم على كفالتها لفضلها.

الثاني : التعجب من تدافعهم لكفالتها لشدة الازمنة التي لحقتهم حتى وفق لكفالتها خير الكفلاء زكريا عليه‌السلام.

والاقلام معناها هاهنا القداح ، وذلك أنهم ألقوها تلقاء الجرية فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة ، وانحدرت أقلام الباقين فقرعهم زكريا ، وكانت معجزة له عليه‌السلام.

فصل : قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) الاية : ٤٥.

يحتمل ذلك ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه سمي بذلك لأنه كان بكلمة الله من غير والد ، وهو قوله (كُنْ فَيَكُونُ) (٢) كما قال (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣).

الثاني : أن الله يهدي به كما يهدي بكلمته. وقيل في تسمية المسيح مسيحا قولان : أحدهما قال الحسن وسعيد : لأنه مسح بالبركة ، وقال آخرون : لأنه مسح بالتطهر من الذنوب.

__________________

(١). سورة مريم : ١١.

(٢). سورة البقرة : ١١٨.

(٣). سورة آل عمران : ٥٩.

١٢٤

فصل : قوله (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) الاية : ٤٧.

ان قيل : كيف سألت مريم عليها‌السلام عن خلق الولد من غير مسيس مع أنها لا تنكر ذلك في مقدور الله؟

قلنا : فيه وجهان ، أحدهما : أنها استفهمت أيكون ذلك وهي على حالتها من غير بشر أم على مجرى العادة من بشر.

الثاني : أن في البشرية التعجب مما خرج عن المعتاد ، فتعجبت من عظم قدرة الله تعالى ، كما يقول القائل عند الاية يراها : ما أعظم الله.

قوله «كن فيكون» قيل في معناه قولان أحدهما : أنه على جهة المثل ، لان منزلة جميع ما يريد احداثه من جسم أو عرض كثر ذلك أو قل ، فإنما هو بمنزلة قول القائل «كن» في أنه يكون بغير علاج ولا معاناة ولا تكلف سبب ولا أداة ولا شغل ببعض عن بعض.

الثاني : أن معناه ان الله تعالى جعل «كن» علامة للملائكة فيما يريد احداثه لما لها فيه من (١) اللطف والاعتبار. ويمكن الدلالة على الأمور المقدورة لله عزوجل.

وقول من قال ان قوله «كن» سبب للحوادث التي يفعلها الله تعالى ، فاسد من وجوه : أحدها أن القادر بقدرة يقدر على أن يفعل من غير سبب ، فالقادر للنفس بذلك أولى. ومنها : أن «كن» محدثة ، فلو احتاجت الى «كن» أخرى لتسلسل ، وذلك فاسد ، ولو استند ذلك الى «كن» قديمة لوجب قدم المكون ، لأنه كان يجب أن يكون عقيبه ، لان الفاء توجب التعقيب ، وذلك يؤدي الى قدم المكونات.

فصل : قوله (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) الاية : ٤٩.

انما قيد قوله (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) ولم يقيد قوله (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ

__________________

(١). في التبيان : لما فيها من.

١٢٥

الطَّيْرِ) فذكر اذن الله لينبه بذكر الاذن أنه من فعل الله دون عيسى ، وانما (١) التصوير والنفخ فعله ، لأنه مما يدخل تحت مقدور القدر ، وليس كذلك انقلاب الجماد حيوانا ، فانه لا يقدر على ذلك أحد سواه تعالى.

وقوله (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) على وجه المجاز اضافه الى نفسه ، وحقيقته ادعوا الله باحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون باذنه.

والأكمه الذي يولد أعمى ، والكمه عند العرب العمى ، كما قال سويد بن أبي كاهل :

كمهت عيناه حتى ابيضتا (٢)

فصل : قوله (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) الاية : ٥٠.

انما أحل لهم لحوم الإبل والثروب وأشياء من الطير والحيتان مما كان محرما في شرع موسى عليه‌السلام ، ولم يحل لهم جميع ما كان محرما عليهم من الظلم والغصب والكذب والعبث وغير ذلك ، فلذلك قال (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وبهذا القول قال أكثر المفسرين.

والإحلال هو الإطلاق في الفعل بتحسينه. والتحريم هو حظر الفعل بتقبيحه والفرق بين التقليد والتصديق ، أن التصديق لا يكون الا فيما يبرهن عند صاحبه ، والتقليد يكون فيما لم يتبرهن ، ولهذا لم نكن مقلدين للنبي عليه‌السلام وان كنا مصدقين له.

فصل : قوله (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) الاية : ٥٢.

اختلفوا في تسميتهم حواريين على ثلاثة أقوال ، قال سعيد بن جبير : سموا بذلك لنقاء ثيابهم.

__________________

(١). في التبيان : وأما.

(٢). اللسان «كمه».

١٢٦

الثاني : أنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب.

الثالث قال قتادة والضحاك : لأنهم خاصة الأنبياء ، فذهب (١) الى نقاء قلوبهم كنقاء الأبيض بالتحوير ، ويروى عن النبي عليه‌السلام أنه قال : الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي.

فصل : قوله (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) الاية : ٥٤.

المكر وان كان قبيحا ، فإنما أضافه الى نفسه لمزاوجة الكلام ، كما قال (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) الثاني ليس باعتداء وانما هو جزاء.

فصل. قوله (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) الاية : ٥٥.

قوله (وَرافِعُكَ إِلَيَّ) قيل في معناه قولان ، أحدهما : رافعك الى السماء ، فجعل ذلك رفعا اليه للتفخيم وأجراه على طريق التعظيم ، والاخر : مصيرك الى كرامتي كما يقال رفع السلطان ورفع الكتاب الى الديوان.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) الاية : ٧٧.

«لا خلاق لهم» معناه : لا نصيب وافر لهم.

وقوله «لا يكلمهم» قيل : في معناه قولان ، أحدهما : لا يكلمهم بما يسرهم بل بما يسوؤهم. الثاني : لا يكلمهم أصلا وتكون (٣) المحاسبة بكلام الملائكة عليهم‌السلام بأمر الله إياهم ، فيكون على العادة في احتقار الإنسان عن أن يكلمه الملك لنقصان المنزلة.

__________________

(١). في التبيان : يذهب.

(٢). سورة البقرة : ١٩.

(٣). في التبيان : وتثبت.

١٢٧

وقوله (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي : لا يرحمهم ، وفي ذلك دلالة على أن النظر مع تعديته بحرف «الى» لا يفيد الرؤية ، لأنه لا يجوز حملها في الاية على أنه لا يراهم بلا خلاف.

وقوله (وَلا يُزَكِّيهِمْ) معناه : لا يحكم بزكائهم دون أن يكون معناه لا يفعل الايمان الذي هو الزكاء لهم ، لأنهم في ذلك والمؤمنين سواء ، فلو أوجب ما زعمت المجبرة لكان لا يزكيهم ولا يزكي المؤمنين أيضا في الاخرة ، وذلك باطل.

فصل : قوله (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الاية : ٧٨.

قوله (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله بخلاف ما تقوله المجبرة ، ولا من فعله لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده ، وليس لهم أن يقولوا أنها من عنده خلقا وفعلا ، وليست من عنده إنزالا ولا أمرا ، وذلك أنها لو كانت من عنده فعلا أو خلقا لكانت من عنده على آكد الوجوه ، فلم يجز اطلاق النفي بأنها ليست من عنده.

فان قيل : أليس الايمان عندكم من عنده؟ ومع ذلك ليس من عنده من كل الوجوه ، فهلا جاز مثل ذلك في تأويل الاية؟.

قيل : لا يجوز ذلك ، لان اطلاق النفي يوجب العموم ، وليس كذلك اطلاق الإثبات ، ألا ترى أنك تقول : ما عندي طعام ، فإنما تنفي القليل والكثير ، وليس إذا قلت عندي طعام ، لأنه لا يجب أن يكون عندك جميع الطعام ، فبان الفرق بين النفي والإثبات.

فصل : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) الاية : ٨٣.

١٢٨

قيل : في معناه ستة أقوال : قال ابن عباس : أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها بحاله (١) الناطقة عنه الدالة عند أخذ الميثاق عليهم.

الثاني : أن معناه أسلم أي بالإقرار بالعبودية ، وان كان منهم من أشرك في العبادة ، كقوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢).

والثالث : أسلم المؤمن طوعا والكافر كرها عند موته ، كما قال (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٣) واختاره البلخي.

فصل : قوله (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الاية : ٨٤.

قيل : في تأويل هذه الاية قولان : أحدهما ـ أن معناه الإنكار على الكفار ما ذهبوا اليه من الايمان ببعض النبيين دون بعض ، فأمر الله تعالى النبي عليه‌السلام والمؤمنين أن يقولوا : انا نؤمن بجميع النبيين ولا نفرق بين أحد منهم ، وقال «قل» في أول الاية خطابا للنبي عليه‌السلام ، فجرى الكلام على التوحيد وما بعده على الجمع.

وقيل : في ذلك قولان : أحدهما ـ أن المتكلم قد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع للتفخيم ، كما قال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (٤).

والثاني : أنه أراد دخول الامة في الخطاب الاول والامر بالإقرار ، ويجوز أن يقال في الواحد المتكلم فعلنا ، ولا يجوز للواحد المخاطب فعلتم.

والفرق بينهما أن الكلام بالجملة الواحدة يصح لجماعة مخاطبين ، ولا يصح الكلام بالجملة الواحدة لجماعة متكلمين ، ولذلك جاز فعلنا في الواحد للتفخيم ،

__________________

(١). في التبيان : بالحالة.

(٢). سورة الزخرف : ٨٧.

(٣). سورة غافر : ٨٥.

(٤). سورة الاعراف : ١٠.

١٢٩

لأنه لا يصح أن يتكلم به الا الواحد ، ولم يجز فعلتم في الواحد للتفخيم ، لأنه يصح أن يكون خطابا للجماعة ، فلم يصرف عنهم بغير قرينة لما يدخله من الإلباس في مفهوم العبارة.

فصل : قوله (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الاية : ٨٦.

الهداية هاهنا تحتمل ثلاثة أشياء :

أولها : سلوك طريق أهل الحق المهتدين بهم في المدح لهم والثناء عليهم.

الثاني : في اللفظ الذي يصلح به من حسنت نيته وكان الحق معتمده ، وهو أن يحكم لهم بالهداية.

فان قيل : كيف أطلق قوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) مع قوله (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ)؟

قلنا : لأنه لا يستحق اطلاق الصفة بالهداية الا على جهة المدحة ، كقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) فاما بالتقييد فيجوز لكل مدلول الى طريق الحق اليقين.

فصل : قوله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الاية : ٨٧.

فان قيل : لمن قال (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ومن وافق الكافر في مذهبه لا يرى لعنه.

قيل : عن ذلك ثلاثة أجوبة :

أحدها : أن له أن يلعنه ، وانما لا يفعله لجهله بأنه يستحق اللعن ويصح منه معرفة الله ومعرفة استحقاق اللعن لكل كافر ، فحينئذ يعلم أن له أن يلعنه.

الثاني : أن ذلك في الاخرة ، لان بعضهم يلعن بعضا ، وقد استقرت عليهم لعنة الجميع وان كانت على التفرق.

والثالث : أن يحمل لفظ «الناس» على الخصوص ، فيحمل على ثلاثة فصاعدا ،

١٣٠

فلذلك قال أجمعين.

فصل : قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الاية : ٨٩.

فان قيل : إذا كانت التوبة وحدها تسقط العقاب وتحصل الثواب ، فلم شرط معها الإصلاح؟

قيل : الوجه في ذلك ازالة الإبهام لئلا يعتقد أنه إذا حصل الايمان والتوبة من الكفر لا يضر معه شيء من أفعال القبائح ، كقوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (١) فذكر مع الايمان عمل الصالحات لازالة الإبهام ، بأن من كان مؤمنا في الحكم لم يضره ما عمله بعد ذلك من المعاصي.

وقبول التوبة واجب لأنها طاعة ، واستحقاق الثواب بها ثابت عقلا. فأما سقوط العقاب عندها ، فإنما هو تفضل من الله ، ولو لا أن السمع ورد بذلك ، والا فلا دلالة في العقل على ذلك.

وذكر المغفرة في الاية دليل على أن إسقاط العقاب بالتوبة تفضل ، لأنه لو كان واجبا لما استحق بذلك الاسم بأنه غفور رحيم ، لأنه لا يقال غفور الا فيما له المؤاخذة فأما ما لا يجوز المؤاخذة به فلا يجوز تعليقه بالمغفرة.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) الاية : ٩٠.

فان قيل : لم لم تقبل التوبة من هذه الفرقة؟

قيل : لأنها كفرت بعد إيمانها ثم ازدادت كفرا الى انقضاء أجلها فحصلت على ضلالتها ، فلم تقبل منها التوبة الاولى في حال كفرها بعد إيمانها ، ولا التوبة الثانية في حال الجائها.

__________________

(١). سورة فصلت : ٨.

١٣١

وقال الطبري : انه لا يجوز تأويل من قال (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) عند حضور موتهم قال : لأنه لا خلاف بين الامة أن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين في أن حكمه حكم المسلم في وجوب الصلاة عليه ومواريثه ودفنه في مقابر المسلمين واجراء جميع أحكام الإسلام عليه ، ولو كان إسلامه غير صحيح لما جاز ذلك.

وهذا الذي قاله ليس بصحيح ، لأنه لا يمتنع أن يتعبد بإجراء أحكام الإسلام عليه ، وان كان إسلامه على وجه من الإلجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب عليه ، كما أنا تعبدنا بإجراء أحكام الإسلام على المنافقين وان كانوا كفارا.

وانما لم يجز قبول التوبة في حال الإلجاء اليها ، لان فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم ، وقد قال الله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١) وقال (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٢).

فأما إذا عاد في الذنب ، فلا يعود اليه العقاب الذي سقط بالتوبة ، لأنه إذا تاب منه صار بمنزلة ما لم يعمله ، فلا يجوز عقابه عليه كما لا يجوز عقابه على ما لم يعمله ، سواء قلنا ان سقوط العقاب عند التوبة كان تفضلا أو واجبا.

وقد دل السمع على وجوب قبول التوبة وعليه اجماع الامة وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٣) وقال (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) (٤) وغير ذلك من الاي.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) الاية : ٩١.

__________________

(١). سورة النساء : ١٧.

(٢). سورة غافر : ٨٤ ـ ٨٥.

(٣). سورة الشورى : ٢٥.

(٤). سورة غافر : ٣.

١٣٢

قيل : في دخول الواو في قوله (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) قولان :

قال قوم : هي زائدة أجاز ذلك الفراء ، والمعنى لو افتدى به. قال الزجاج وهذا غلط ، لان الكلام يجب حمله على فائدة إذا أمكن ولا يحمل على الزيادة.

والثاني : أنها دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الإجمال ، وذلك أن قوله (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) قد عم وجوه القبول بالنفي ، ثم أتى بالتفصيل لئلا يتطرق عليه سوء التأويل ، ولو قيل بغير واو لم يكن قد عم النفي وجوه القبول ، فقد دخلت الواو لهذه الفائدة من نفي التفصيل بعد الجملة.

فصل : قوله (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) الاية : ٩٣.

سبب نزول هذه الاية أن اليهود أنكروا تحليل النبي عليه‌السلام لحوم الإبل ، فبين الله تعالى أنها كانت محللة لإبراهيم وولده الى أن حرمها إسرائيل على نفسه وحاجهم بالتوراة ، فلم يجسروا على إحضار التوراة ، لعلمهم بصدق النبي عليه‌السلام فيما أخبر أنه فيها.

وكان إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم نذر ان برأ من النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب اليه ، وهو لحوم الإبل وألبانها ، فلما برأ وفى لله بنذره.

فان قيل : كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم ما له فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة؟

قلنا : يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعلمه ، وكان الله أذن لاسرائيل في هذا النذر فلذلك نذر.

وفي الناس من استدل بهذه الاية على أنه يجوز للنبي أن يجتهد في الأحكام لأنه إذا كان أعلم ورأيه أفضل كان اجتهاده أحق.

١٣٣

وهذا الذي ذكروه ان جعل دليلا على أنه كان يجوز أن يتعبد النبي بالاجتهاد كان صحيحا ، وان جعل دليلا على أنه كان متعبدا به فليس فيه دليل عليه ، لأنا قد بينا أن إسرائيل ما حرم ذلك الا بإذن الله ، فمن أين أنه كان محرما له من طريق الاجتهاد؟

فصل : قوله (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الاية : ٩٥.

الصحيح أن شريعة نبينا ناسخة لشريعة كل من تقدم من الأنبياء ، وأن نبينا لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم وانما وافقت شريعته شريعة ابراهيم ، فلذلك قال الله تعالى (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) والا فالله تعالى هو الذي أوحى بها اليه وأوجبها عليه وكانت شريعة له.

فان قيل : إذا كانت الشرائع بحسب المصالح ، فكيف رغب في شريعة الإسلام بأنها ملة ابراهيم عليه‌السلام؟

قلنا : لان المصالح إذا وافقت ما تميل اليه النفس ويتقبله العقل بغير كلفة كانت أحق بالرغبة ، كما أنها إذا وافقت الغنى بدلا من الفقر كانت أعظم في النعمة ، وكان المشركون يميلون الى اتباع ملة ابراهيم ، فلذلك خوطبوا بذلك.

والحنيف : المستقيم الدين الذي على شريعة ابراهيم في حجه ونسكه.

فصل : قوله (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) الاية : ٩٦.

البركة الثبوت من قولك برك بركا وبروكا إذا ثبت على حاله ، فالبركة ثبوت الخير بنموه وتزايده ، ومنه البركاء (١) في الحرب ، ومنه البركة شبه حوض يمسك الماء لثبوته فيه ، ومنه قول الناس تبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال وحده.

فصل : قوله (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ

__________________

(١). في «م» : البراكاء.

١٣٤

سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الاية : ٩٧.

روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : من دخله عارفا بجميع ما أوجب الله عليه كان آمنا في الاخرة من العقاب الدائم.

والسبيل التي يلزم بها الحج. قال ابن عباس وابن عمر : هي الزاد والراحلة وقال ابن الزبير والحسن : ما يبلغه كائنا ما كان. وفيه خلاف بين الفقهاء ، ذكرناه في الخلاف (١).

وعندنا هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع الى كفاية عند العود ، اما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة ، مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وإمكان المسير.

وقوله «ومن كفر» معناه من جحد فرض الحج فلم يره واجبا ، في قول ابن عباس والحسن والضحاك. فأما من تركه وهو يعتقد فرضه ، فانه لا يكون كافرا وان كان عاصيا.

وفي الاية دلالة على فساد مذهب المجبرة أن الاستطاعة مع الفعل ، لان الله تعالى أوجب الحج على المستطيع ، ومن لا يستطيع فلا يجب عليه ، وذلك لا يكون الا قبل فعل الحج.

فصل : قوله (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) الاية : ٩٨.

قوله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى ، وانما أجرى عليهم أهل الكتاب مع أنهم لا يعملون به ، ولم يجر مثل ذلك في أهل القرآن حتى يقال في من لا يعمل بالقرآن أنه من أهل القرآن لامرين :

أحدهما : أن القرآن اسم خاص لكتاب الله. وأما الكتاب فيجوز أن يراد

__________________

(١). كتاب الحج ، المسألة الثانية الى المسألة الرابعة.

١٣٥

به يا أهل الكتاب المحرف عن جهته.

والاخر : الاحتجاج عليهم بالكتاب لإقرارهم به كأنه قيل يا من يقر بأنه من أهل كتاب الله لم تكفر بآيات الله.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) الاية : ١٠٢.

معناه : لا تتركوا الإسلام وانما قال «فلا تموتن» بلفظ النهي عن الموت من حيث أن الموت لا بد منه ، فكأنه قال : كونوا على الإسلام ، فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن ترك الإسلام ، لئلا يهلكوا بالاقتطاع عن التمكين منه بالموت ، الا أنه وضع كلاما موضع كلام على جهة تصرف الابدال ، لحسن الاستعارة وزوال اللبس ، لأنه لما كان يمكنهم أن يفارقوه بالإسلام فترك الإسلام صار بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم.

فصل : قوله (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) الاية : ١٠٣.

فان قالوا : إذا كان الله هو الذي ألف بين قلوبهم وأنقذهم من النار فقد صح أن أفعال الخلق فعل له وخلق من خلقه.

قيل : لا يجب ذلك ، لأنا نقول : ان النبي عليه‌السلام ألف بين قلوب العرب ، فأنقذهم من النار ، ولا يجب من ذلك أن تكون أفعالهم للنبي عليه‌السلام ولا مشاركا لهم.

فصل : قوله (مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الاية : ١٠٤.

والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف ، وأكثر المتكلمين يذهبون الى أنه من فروض الكافيات ، ومنهم من قال : انه من فروض الأعيان

١٣٦

وهو الصحيح على ما بيناه.

واختلفوا فقال جماعة : ان طريق وجوب انكار المنكر العقل ، لأنه كما تجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهية ، والا كان تاركه بمنزلة الراضي به.

وقال آخرون وهو الصحيح عندنا : ان طريق وجوبه السمع ، وأجمعت الامة على ذلك ، ويكفي المكلف الدلالة على كراهته من جهة الخير وما جرى مجراه ، وقد استوفينا ما يتعلق بذلك في شرح جمل العلم.

فان قيل : هل يجب في انكار المنكر حمل السلاح؟

قلنا : نعم إذا احتيج اليه بحسب الإمكان ، لان الله تعالى قد أمر به ، فإذا لم ينجع فيه الوعظ والتخويف ولا التناول باليد وجب حمل السلاح ، لان الفريضة لا تسقط مع الإمكان الا بزوال المنكر الذي يلزم به الجهاد ، الا أنه لا يجوز أن يقصد القتال الا وغرضه انكار المنكر.

وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من انكار المنكر لا يجوز الاقدام عليه الا بإذن سلطان الوقت ، ومن خالفنا جوز ذلك من غير الاذن مثل الدفاع عن النفس سواء.

فصل : قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الاية : ١٠٩.

قوله (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا يدل على أن الأمور كانت ذاهبة عنه لامرين :

أحدهما : لأنها بمنزلة الذاهبة بهلاكها وفنائها ثم إعادتها ، لأنه تعالى يعيدها للجزاء على الاعمال والعوض على الآلام.

والثاني : لأنه قد ملك العباد كثيرا من التدبير في الدنيا ، فيزول جميع ذلك في الاخرة ويرجع اليه كله.

فصل : قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) الاية : ١١٠.

١٣٧

انما لم يقل أنتم خير أمة لاحد أمور :

أحدها : قال الحسن : ان ذلك لما قد كان في الكتب المتقدمة ما يسمع من الخير في هذه الامة من جهة البشارة. وقال الحسن : نحن أخيرها وأكرمها على الله ولذلك روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله. فهو موافق لمعنى أنتم خير أمة ، الا أنه ذكر «كنتم» لتقدم البشارة به ، ويكون التقدير : كنتم خير أمة في الكتب الماضية ، فحققوا ذلك بالافعال الجميلة.

الثاني : أن كان زائدة ودخولها وخروجها بمعنى الا أن فيها تأكيد الامر لا محالة.

فصل : قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الاية : ١١٢.

فان قيل : كيف جاز عقابهم على ما لم يفعلوه من قتل الأنبياء ، وانما فعله أسلافهم دونهم؟

قلنا : عنه جوابان ، أحدهما : أنهم عوقبوا على رضاهم بذلك ، وأجرى عليهم صفة القتل ، لعظم الجرم في رضاهم به ، فكأنهم فعلوه على نحو (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ).

والثاني : أن تكون الصفة تعم الجميع فيدخلوا في الجملة ، ويجري عليهم الوصف على التغليب ، كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا ، فكذلك غلب القاتل على الراضي.

وقوله (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) لا يدل على أن قتلهم يكون بحق ، وانما المراد أن قتلهم لا يكون الا بغير حق ، كما قال (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) (١) والمراد أن ذلك لا يكون الا لغير برهان ، وكقول امرئ القيس :

على لا حب لا يهتدى بمناره (٢)

__________________

(١). سورة المؤمنون : ١٧.

(٢). ديوان امرئ القيس ص ٨٩.

١٣٨

فصل : قوله (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) الاية : ١١٤.

قد بينا أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان ، وأنه ليس طريق وجوبهما العقل ، وانما طريق وجوبهما السمع ، وعليه اجماع الامة ، وانما الواجب بالعقل كراهة المنكر فقط ، غير انه إذا ثبت بالسمع وجوبه ، فعلينا ازالة المنكر بما يقدر عليه من الوجوه (١) الحسنة دون القبيحة ، لأنه لا تجوز ازالة قبيح بقبيح آخر.

وليس لنا أن نترك أحدا يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها ، سواء كانت المعصية من أفعال القلوب ، مثل اظهار المذاهب الفاسدة ، أو من أفعال الجوارح ثم ننظر فان أمكننا إزالته بالقول فلا نزيد عليه ، وان لم يمكن الا بالمنع من غير إضرار لم نزد على ذلك ، فان لم يتم الا بالدفع بالحرب فعلناه على ما بيناه فيما تقدم ، وان كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوفا على السلطان أو اذنه في ذلك ، وانكار المذاهب الفاسدة لا يكون الا باقامة الحجج والبراهين والدعاء الى الحق ، وكذلك انكار أهل الذمة.

فأما الإنكار باليد فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي الجوارح ، أو يكون باغيا على امام الحق ، فانه يجب علينا قتاله ودفعه حتى يفيء الى الحق وسبيلهم سبيل أهل الحرب.

والفرق بين السرعة والعجلة : أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم ، والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة ، وضدها الاناءة وهي محمودة.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) الاية : ١١٨.

ذكر ابن عباس والحسن أن قوما من المؤمنين صافوا بعض المشركين من

__________________

(١). في التبيان : الأمور.

١٣٩

اليهود والمنافقين المودة لما كان بينهم في الجاهلية ، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الاية.

والبطانة معناها هاهنا خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويسمون دخلا ، أي : لا تجعلوا من هذه صفته من غير المؤمنين ، وبطانة الرجل خاصته ، لأنه بمنزلة ما يلي بطنه من ثيابه في القرب منه.

وقوله (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) معناه : لا يقصرون في أمركم خبالا من قولهم ما ألوت في الحاجة جهدا ، ولا آلوا في هذا الامر ألوءا ، أي : لا أقصر جهدا.

تم ما علق من الجزء الثاني بحمد الله ومنه.

وفي آخر نسخة «م» : وكتب محمد بن إدريس تاريخ رمضان سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة حامدا مصليا.

١٤٠