المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي

المنتخب من تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٦
الجزء ١ الجزء ٢

كما قال امرؤ القيس :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقال تعالى (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (١).

الثاني : أنه قد رئي ذلك في سنبل الدخن.

الثالث : أن السنبلة تنبت مائة حبة ، فقيل فيها على ذلك المعنى ، كما يقال في هذه الحبة حب كثير. والاول هو الوجه.

والوعد بالمضاعفة لمن أنفق في سبيل الله ، في قول ابن عباس. وقال الضحاك : ولغيرهم من المطيعين. والمنبت الأصل ، فلان في منبت صدق ، أي : في أصل كريم ، لأنه يخرج منه كما يخرج النبات والينبوت (٢) : شجر الخشخاش ، وأنبت الغلام : إذا راهق واستبان شعر عانته.

فصل : قوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الاية : ٢٦٢.

الإنفاق : إخراج الشيء عن الملك ، والأجر هو النفع المستحق بالعمل.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) الاية : ٢٦٤.

ضرب الله تعالى هذه الاية مثلا لعمل المنافق والمنان جميعا ، فإنهما إذا فعلا فعلا لغير وجه الله ، أو قرنا الإنفاق بالمن والأذى ، فإنهما لا يستحقان عليه ثوابا ، وشبه ذلك بالصفا الذي أزال المطر ما عليه من التراب ، فانه لا يقدر أحد على رد ذلك التراب عليه.

فكذلك إذا دفع المان صدقته وقرن بها المن ، فقد أوقعها على وجه لا طريق

__________________

(١). سورة الصافات : ٦٥.

(٢). في التبيان : والنبوت.

١٠١

له الى استدراكه وتلافيه ، لوقوعه على الوجه الذي لا يستحق عليه الثواب ، فان وجوه الافعال تابعة للحدوث ، فإذا فاتت فلا طريق الى تلافيها.

وليس فيها ما يدل على أن الثواب الثابت المستقر يزول بالمن فيما بعد ، ولا بالرياء الذي يحصل فيما يتجدد ، فليس في الاية ما تدل على ما قالوه.

فالتراب والترب واحد ، يقال : ترب الرجل إذا افتقر ، لأنه لصق بالتراب للفقر وأترب الرجل إذا استغنى ، لأنه كثر ماله حتى صار كالتراب.

فصل : قوله (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ) الاية : ٢٦٥.

الربو : الزيادة ، يقال ربا الشيء يربو ربوا إذا زاد ، وأصابه ربو إذا أصابه نفس في جوفه ، لزيادة النفس على عادته ، والربوة : العلو من الأرض لزيادته على غيره.

فصل : قوله (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) الاية : ٢٦٦.

الكبر حال زائدة على مقدار آخر ، والمراد هاهنا الشيخوخية. والفرق بين الكبير والكثير أن الكثير مضمن بعدد ، وليس كذلك الكبير ، نحو دار واحدة كبيرة ولا يجوز كثيرة ، والذرية الولد من الناس. والعصر : العشي. الفكر : جولان القلب بالخواطر.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) الاية : ٢٦٧.

هذا خطاب للمؤمنين دون سائر الناس. وقال الحسن وعلقمة : كل شيء في القرآن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فإنما أنزل بالمدينة ، وكل ما فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أنزل بمكة.

وقوله (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) روي عن علي عليه‌السلام والبراء بن عازب والحسن وقتادة أنها نزلت لان بعضهم كان يأتي بالحشف فيدخله في تمر الصدقة ،

١٠٢

فنزلت فيه هذه الاية.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنها نزلت في أقوام لهم أموال من ربا الجاهلية كانوا يتصدقون منها ، فنهى الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيب الحلال.

ويقوى الوجه الاول قوله (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) والإغماض لا يكون الا في شيء ردي يتسامح في أخذه دون ما هو حرام.

وفي الفقهاء من استدل بهذه الاية على أن الرقبة الكافرة لا تجزئ في الكفارة وضعفه قوم وقالوا : العتق ليس بإنفاق ، والاولى أن يكون ذلك صحيحا ، لان الإنفاق يقع على كل ما يخرج لوجه الله ، عتقا كان أو غيره.

ومعنى (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) الا أن تتساهلوا فيه. وقال الحسن وابن عباس وقتادة : الا أن تحطوا من الثمن فيه. وقال الزجاج : إلا بوكس. قال الطرماح :

لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم

رجال يرضون بالإغماض (١)

أي : بالوكس.

فصل : قوله (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) الاية : ٢٦٨.

الفرق بين الوعد والوعيد أن الوعيد في الشر خاصة ، والوعد يصلح بالتقييد للخير والشر معا ، غير أنه إذا أطلق لم يكن الا في الخير ، وكذلك إذا أبهم التقييد كقولك وعدته بأشياء ، لأنه بمنزلة المطلق.

وحد الوعد : هو الخبر بفعل الخير في المطلق. والوعيد هو الخبر بفعل الشر والامر هو قول القائل لمن هو دونه : «افعل» مع ارادة المأمور ، فان انضم اليه الزجر في (٢) الإخلال به كان مقتضيا للإيجاب.

فصل : قوله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)

__________________

(١). ديوان الطرماح ص ٨٦.

(٢). في التبيان : عن.

١٠٣

الاية : ٢٦٩.

قيل : في معنى الحكمة في الاية وجوه ، قال ابن عباس وابن مسعود : هو علم القرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه وقال ابن زيد : هو علم الدين. وفي رواية عن مجاهد هو القرآن والفقه ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

فصل : قوله (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) الاية : ٢٧٠.

الإنفاق ها هنا ما يخرجه في طاعة الله واجباتها ومندوباتها.

وقوله (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) فالنذر هو عقد الشيء على النفس فعل شيء من البر بشرط ، ولا ينعقد ذلك الا بقوله «لله علي كذا وكذا من أفعال الخير ان كان كذا» وقد يثبت عندنا من غير شرط ، بأن يقول «لله علي كذا» ولا يثبت بغير هذا اللفظ.

وأصل النذر الخوف ، لأنه يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير في الامر ، ومنه نذر الدماء يعقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه ، قال الشاعر :

ينذرون دمي وأنذر

ان لقيت بأن أشدا

فصل : قوله (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الاية : ٢٧١.

الفرق بين الصدقة والزكاة ، أن الزكاة لا تكون الا فرضا ، والصدقة (١) قد تكون فرضا وتكون نفلا.

واختلفوا في الصدقة التي اخفاؤها أفضل ، فقال ابن عباس وسفيان واختاره الجبائي : انها صدقة التطوع ، لأنها أبعد من الرياء. وأما الصدقة الواجبة ، فإظهارها عندهم أفضل ، لأنه أبعد من التهمة.

وقال الحسن وقتادة : الإخفاء في كل صدقة من زكاة وغيرها أفضل ، وهو الأقوى

__________________

(١). في التبيان : والصدقات.

١٠٤

لأنه عموم الاية ، وعليه تدل أخبارنا ، وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن الإخفاء في النوافل أفضل.

وقوله «من سيئاتكم» دخلت «من» للتبعيض ، لأنه انما يكفر بالطاعة غير التوبة الصغائر ، هذا على مذهب من يقول بالصغائر والإحباط ، فأما على مذهبنا فإنما كان كذلك ، لان إسقاط العقاب كله تفضل ، فله أن يتفضل بإسقاط بعضه دون بعض فلو لم يدخل «من» لأفاد أنه يسقط جميع العقاب ، وقال قوم «من» زائدة ، والذي ذكرناه أولى.

فصل : قوله (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) الاية : ٢٧٣.

السيماء : العلامة ، قال مجاهد : معناه هاهنا التخشع. قال السدي والربيع : علامة التوقع فيه بتحميل ما يشق. وأصل السيماء الارتفاع ، لأنها علامة رفعت للظهور ، ومنه السوم في البيع ، وهو الزيادة في مقدار الثمن للارتفاع فيه عن الحد ومنه سيم الخسف الفقر ، ومنه سوم الماشية إرسالها في المرعى (١).

فصل : قوله (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) الاية : ٢٧٥.

أصل الربا الزيادة من قولهم ربا الشيء يربو ربوا إذا زاد ، والربا هو الزيادة على رأس المال في نسيئة أو مماثلة ، وذلك كالزيادة على مقدار الدين للزيادة في الأجل ، أو كاعطاء درهم بدرهمين ، أو دينار بدينارين.

والمنصوص عن النبي عليه‌السلام تحريم التفاضل في ستة أشياء : الذهب والفضة ، والحنطة والشعير والتمر والملح وقيل : الزبيب ، فقال النبي عليه‌السلام فيها مثلا بمثل يدا بيد ، من زاد واستزاد فقد أربى.

هذه الستة أشياء لا خلاف في حصول الربا فيها ، وباقي الأشياء عند الفقهاء

__________________

(١). في التبيان في هذه الفصل تقديم وتأخير فراجع.

١٠٥

مقيس عليها ، وفيها خلاف بينهم ، وعندنا أن الربا في كل ما يكال أو يوزن ، إذا كان الجنس واحدا منصوص عليه ، والربا محرم متوعد عليه.

وقوله (لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة : ان قيامهم على هذه الصفة يكون يوم القيامة إذا قاموا من قبورهم ، ويكون ذلك امارة لأهل الموقف على أنهم آكلة الربا.

وقوله (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) مثل عند أبي علي الجبائي لا حقيقة على وجه التشبيه بحال من تغلب عليه المرة السوداء ، فتضعف نفسه ويلج الشيطان باغوائه عليه ، فيقع عند تلك الحال ويحصل به الصرع من فعل الله ونسب الى الشيطان مجازا لما كان عند وسوسته.

وكان أبو الهذيل وابن الاخشاذ يجيزان أن يكون الصرع من فعل الشيطان في بعض الناس دون بعضهم ، قالا : لان الظاهر من القرآن يشهد به ، وليس في العقل ما يمنع منه.

وقال الجبائي : لا يجوز ذلك ، لان الشيطان خلق ضعيف لم يقدره الله على كيد البشر بالقتل والتخبيط ولو قوي على ذلك لقتل المؤمنين الصالحين والداعين الى الخير ، لأنهم اعداؤه ومن أشد الأشياء عليهم (١) ، وفي ذلك نظر.

والفرق بين البيع والربا : أن البيع ببدل ، لان الثمن فيه بدل من المثمن ، والربا ليس كذلك ، فإنما هو زيادة من غير بدل للتأخير في الأجل أو زيادة في الجنس ، وقد أحل الله البيع وحرم الربا.

وقوله (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) قال أبو جعفر : من أدرك الإسلام وتاب مما كان عمله [في الجاهلية] وضع الله عنه ما سلف.

__________________

(١). في التبيان : عليه.

١٠٦

وقال السدي : له ما أكل وليس عليه رد ما سلف. وأما ما لم يقبض بعد ، فلا يجوز له أخذه وله رأس المال.

وقال الطبري : الموعظة التذكير والتخويف الذي ذكره الله وخوفهم به من آي القرآن.

ويحتمل أن يكون أراد فله ما سلف ، يعني : من الربا المأخوذ دون العقاب الذي استحقه.

وقوله (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) معناه في جواز العفو عنه ان لم يتب.

والوعيد في الاية يتوجه الى من أربى وان لم يأكله ، وانما ذكر الله الذين يأكلون الربا ، لأنها نزلت في قوم كانوا يأكلونه ، فوصفهم بصفتهم ، وحكمها سائر في جميع من أربى والاية الاخرى التي ذكرها وتبين معناها فيما بعد ما تبين ما قلناه ، وعليه أيضا الإجماع.

وانما ذكر الموعظة ها هنا لامرين : أحدهما ان كل تأنيث ليس بحقيقي جاز فيه التذكير والتأنيث ، فجاء القرآن بالوجهين معا.

والثاني : ذكرها هنا لوقوع الفصل بين الفعل والفاعل بالضمير وأنث في الموضع الذي لم يفصل.

فصل : قوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) الاية : ٢٧٦.

قيل : بأي شيء يمحق الله الربا ويربي الصدقات؟

قلنا : يمحقه بأن ينقصه حالا بعد حال. وقال البلخي : محقه في الدنيا بسقوطه عدالته والحكم بفسقه وتسميته بالفسق.

فصل : قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الاية : ٢٧٧.

ان قيل : إذا كان الثواب يستحق بخلوص الايمان فلم يشرط غيره من الخصال؟

١٠٧

قلنا : لم يذكر ذلك ليكون شرطا في استحقاق الثواب على الايمان ، وانما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق بها الثواب.

ونظير ذلك ما ذكره في آية الوعيد في قوله (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) (١) فإنما بين أن كل خصلة من هذه الخصال يستحق بها العقاب.

فصل : قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) الاية : ٢٧٩.

الحرب : القتال ، والحرب : الشدة ، والمحراب : مقام الامام ، لأنه كموضع الحرب في شدة التحفظ.

فصل : قوله (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) الاية : ٢٨٠.

معناه : فعليكم نظرة ، وهل الانظار واجب في كل دين ، أو في دين الربا فقط؟

قيل : فيه ثلاثة أقوال ، أولها : قال شريح وابراهيم : في دين الربا خاصة.

وقال ابن عباس والضحاك والحسن : في كل دين ، وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

الثالث : بالاية يجب في دين الربا ، وبالقياس في كل دين ، واستدل على أنه يجب في كل دين بأنه لا يخلو أن يجب في ذمته ، أو في رقبته ، أو عين ماله فلو كان في رقبته لكان إذا مات بطل وجوبه ، ولو كان في عين ماله كان إذا هلك بطل وجوبه ، فصح أنه في ذمته ، ولا سبيل له عليه في غير ذلك من جنس أو نحوه.

والإعسار الذي يجب فيه الانظار قال الجبائي : التعذر بالاعدام ، أو بكساد المتاع ونحوه ، وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام هو إذا لم يقدر على ما يفضل عن قوته

__________________

(١). سورة الفرقان : ٦٨.

١٠٨

وقوت عياله على الاقتصاد.

فصل : قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) الاية : ٢٨٢.

قوله (إِذا تَدايَنْتُمْ) معناه : تعاملتم بدين ، وانما قال «بدين» وان كان تداينتم أفاده لامرين :

أحدهما : أنه على وجه التأكيد ، كما تقول ضربته ضربا.

والثاني : ان تداينتم بمعنى تجازيتم من الدين الذي هو الجزاء ، وإذا قال بدين اختص بالدين خاصة الى أجل مسمى معناه معلوم.

وقوله «فاكتبوه» ظاهره الامر بالكتابة ، واختلفوا في مقتضاه ، فقال أبو سعيد الخدري والشعبي والحسن : هو مندوب اليه. وقال الربيع وكعب : هو على الفرض. والاول أصح ، لإجماع أهل عصرنا على ذلك ، ولقوله تعالى (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) ومفهومه فان أمنه فيما له أن يأمنه.

وقال ابن عباس : هذه الاية في السلم خاصة ، وقال غيره : حكمها في كل دين من سلم أو تأخير ثمن في بيع ، وهو الأقوى لآية العموم ، فأما القرض فلا مدخل له فيه ، لأنه لا يكون مؤجلا.

وقوله «ولا يأب كاتب» ظاهره النهي عن الامتناع من الكتابة ، والنهي يقتضي تحريم الامتناع. وقال عامر الشعبي : هو فرض على الكفاية كالجهاد ، وهو اختيار الرماني والجبائي ، وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الاجرة على ذلك وعندنا لا يجوز ذلك ، والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين ويكون الكتاب في يده لأنه له.

وقال السدي : واجب على الكاتب في حال فراغه. وقال الضحاك : نسختها قوله (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

١٠٩

(وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) أمر لمن عليه الحق بالاملال ، وهو والاملاء بمعنى تقول أمليت عليه والا ملال المراد به الندب ، لأنه لو أملى غيره واشهد هو كان جائز بلا خلاف.

وقوله (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) قال مجاهد : السفيه الجاهل. وقال السدي : الصغير. وأصل السفه الخفة ، فالسفيه الجاهل لأنه خفيف العقل بنقصه.

وقوله «أو ضعيفا» قال مجاهد والشعبي : هو الأحمق. وقال الطبري : هو العاجز عن الاملاء بالعي أو بالخرس.

وقوله (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) (١).

وقوله (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) يحتمل وجهين :

أحدهما : قال الربيع والسدي والضحاك وأكثر المفسرين : انه من الذكر الذي هو ضد النسيان. وقال سفيان بن عيينة : هو من الذكر ، ومعناه أن يجعلها كذكر من الرجال ، ومعنى (أَنْ تَضِلَّ) لان تضل ، أو من أجل أن تضل.

فان قيل : لم قال (أَنْ تَضِلَّ) وانما الاشهاد للاذكار لا للضلال؟

قيل : عنه جوابان : أحدهما قال سيبويه : انه لما كان الضلال سبب الاذكار قدم لذلك وجاز ، لتعلق كل واحد منهما بالآخر في حكم واحد ، فصار بمنزلة ما وقع الاشهاد للمرأتين من أجل الضلال ، كما وقع من أجل الاذكار ، وكثيرا في السبب والمسبب أن يحمل كل واحد منهما على الاخر. ومثله أعددت الخشبة أن تميل الحائط فأدعمه ، وانما أعددته في الحقيقة للدعم ، ولكن حمل عليه الميل لأنه سببه.

الثاني : قال الفراء : انه بمعنى الجزاء على أن تذكر إحداهما الاخرى ان ضلت ، الا أنه لما قدمت (أَنْ) اتصلت لما قبلها من العامل فانفتحت.

__________________

(١). كذا في النسخ.

١١٠

فان قيل : فلم قال : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) فكرر لفظ إحداهما ، ولو قال فتذكرها الاخرى لقام مقامه مع الاختصار.

قيل : قال الحسين بن علي المغربي : أن تضل إحداهما يعني احدى الشهادتين أي : تضيع بالنسيان ، فتذكر احدى المرأتين الاخرى ليلائم لفظ إحداهما.

ومعنى قوله (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) معناه : ما هو في العادة صغير جرت العادة بكتب مثله ، ولا يريد بذلك ما قدره حبة أو قيراط ، لان ذلك لم تجر العادة بكتب مثله والاشهاد عليه.

وليس في الاية ما تدل على أنه لا يجوز الحكم بالشاهد واليمين ، لان الحكم بالشاهد والمرأتين أو بالشاهدين لا يمنع من قيام دلالة على وجوب الحكم بالشاهد مع اليمين ، ولا يكون ذلك نسخا لذلك ، لأنه ليس بمناف للمذكور في الاية ، والحكم بالشاهد والمرأتين يختص بما يكون مالا أو المقصد به المال.

فأما الحدود التي هي حق الله وحقوق الآدميين وما يوجب القصاص ، فلا يحكم فيها بشهادة رجل وامرأتين ، وكذلك عندنا في الشاهد واليمين حكم الشاهد والمرأتين سواء.

فصل : قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) الاية : ٢٨٣.

من شرط صحة الرهن أن يكون مقبوضا ، لقوله (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فان لم يقبض لم ينعقد الرهن. وقوله عليه‌السلام «لا يغلق الرهن» معناه أن يقول الراهن ان جئتك بفكاكه الى شهر ، والا فهو لك بالدين ، وهذا باطل بلا خلاف.

فصل : قوله (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) الاية : ٢٨٦.

انما جاز الرغبة اليه تعالى في ذلك وان علمنا أنه لا يؤاخذ بذلك ، ولم يجز أن يقول : «لا تجر علينا» لامرين :

١١١

أحدهما : أن قوله «لا تجر علينا» يدل على تسخط الداعي ، وليس كذلك (لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) لان الإنسان قد يتعرض للنسيان ، فيقع منه الفعل الذي فيه جناية على النفس ويحسن الاعتذار بالنسيان ، فيجري الدعاء مجرى الاعتذار إذا قال العبد لسيده : لا تؤاخذني بكذا فاني نسيت ، فلحسن الاعتذار حسن الدعاء به.

والثاني ان نسينا بمعنى تركنا لشبهة دخلت علينا ، والنسيان بمعنى الترك معروف نحو قوله (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١).

أي : تركوا عبادته فترك ثوابهم. والإصر في اللغة الثفل ، قال النابغة :

يا مانع الضيف (٢) ان يغشى سراتهم

والحامل الإصر منهم بعد ما غرقوا

والإصر العهد في قول ابن عباس ، قال النابغة :

يا بن الحواضن والحاضنات

أينقص اصرك حالا فحالا

وقوله (أَنْتَ مَوْلانا) معناه : أنت ولينا ، أي : أولى بالتصرف فينا ، والفرق بين أخطأ وخطئ ان أخطأ قد يكون على وجه الإثم وغير الإثم ، فأما خطئ فاثم قال الشاعر :

والناس يلحون الأمير اذاهم

خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (٣)

__________________

(١). سورة التوبة : ٦٨.

(٢). في التبيان : الضيم.

(٣). ديوان عبيدة بن الأبرص الأسدي ص ٥٤.

١١٢

سورة آل عمران

فصل : قوله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) الاية : ٣.

معناه : لما قبله من كتاب أو رسول ، في قوله مجاهد وقتادة والربيع وجميع المفسرين ، وانما قيل لما قبله لما بين يديه ، لأنه ظاهر له كظهوره لما بين يديه.

فصل : قوله (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) الاية : ٦.

الفرق بين الصورة والصيغة ، أن الصيغة عبارة عما وضع في اللغة ليدل على أمر من الأمور ، وكذلك الصورة ، لان دلالتها على جعل جاعل قياسية.

فصل : قوله (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) الاية : ٧.

المحكم : هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن اليه ودلالة تدل على المراد به لوضوحه ، نحو قوله (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (١) وقوله (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ

__________________

(١). سورة يونس : ٤٤.

١١٣

ذَرَّةٍ) (١).

والمتشابه : ما لا يعلم المراد به بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد لالتباسه نحو قوله (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (٢) فانه يفارق قوله (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (٣) لان إضلال السامري قبيح ، وإضلال الله بمعنى حكمه بأن العبد ضال ليس بقبيح ، بل هو حسن.

فان قيل : لم أنزل في القرآن المتشابه؟ وهلا أنزله كله محكما؟

قلنا : للحث على النظر الذي يوجب العلم دون الاتكال على الخبر من غير نظر وذلك أنه لو لم يعلم بالنظر أن جميع ما يأتي به الرسول حق ، يجوز أن يكون الخبر كذبا وبطلت دلالة السمع وفائدته ، فلحاجة العباد الى ذلك من الوجوه التي يتناوله (٤) أنزله الله متشابها.

ولو لا ذلك لما بان منزلة العلماء وفضلهم على غيرهم ، لأنه لو كان كله محكما لكان من يتكلم باللغة العربية عالما به ، ولا كان يشتبه معرفة المراد على أحد فيتساوي الناس في علم ذلك ، على أن المصلحة معتبرة في انزال القرآن ، فما أنزله متشابها لان المصلحة اقتضت ذلك وما أنزله محكما فلمثل ذلك.

والمتشابه في القرآن يقع فيما اختلف الناس فيه من أمور الدين ، من ذلك قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٥) فاحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على السرير ، واحتمل أن يكون بمعنى الاستيلاء ، نحو قول الشاعر :

__________________

(١). سورة النساء : ٣٩.

(٢). سورة الجاثية : ٢٢.

(٣). سورة طه : ٨٥.

(٤). في التبيان : من الوجه الذي بيناه.

(٥). سورة الاعراف : ٥٣.

١١٤

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وأحد الوجهين لا يجوز عليه تعالى لقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) وقوله (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) والاخر يجوز عليه ، فهذا من المحكم الذي يرد اليه المتشابه.

ومن ذلك قوله (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢) فرددناه الى المحكم الذي هو قوله (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣).

فان قيل : كيف عددتم من جملة المحكم قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) مع الاشتباه فيه بدخول الكاف؟

قلنا : انما قلنا انه محكم ، لان مفهومه ليس كمثله شيء على وجه من الوجوه دون أن يكون عند أحد من أهل التأويل ليس مثل مثله شيء ، فدخول الكاف وان اشتبه على بعض الناس لم دخلت ، فلم يشتبه عليه المعنى الاول الذي من أجله كان محكما.

وقد حكينا فيما مضى عن المرتضى رحمه‌الله علي بن الحسين الموسوي أنه قال : الكاف ليست زائدة ، وانما نفى أن يكون لمثله مثل ، فإذا ثبت ذلك علم أنه لا مثل له ، لأنه لو كان له مثل ، لكان له أمثال ، وكان يكون لمثله مثل ، فإذا لم يكن له مثل دل على أنه لا مثل له ، غير أن هذا تدقيق في المعنى ، فتصير الاية على هذا متشابهة ، لان ذلك معلوم بالادلة.

فصل : قوله (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) الاية : ٨.

قيل : في معنى (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) قولان :

أحدهما : لا تزغ قلوبنا عن الحق بمنع اللطف الذي يستحق معه أن تنسب

__________________

(١). سورة الشورى : ١١.

(٢). سورة النساء : ٧٧.

(٣). سورة آل عمران : ٧٨.

١١٥

قلوبنا الى الزيغ.

والثاني : قال أبو علي : معناه لا تزغ قلوبنا عن الايمان ، لأنه تعالى لا يأمر بالكفر كذلك لا تزغ عن الايمان.

فان قيل : هلا جاز على هذا أن يقولوا : ربنا لا تظلمنا ولا تجر علينا؟

قلنا : لان في تجر علينا تسخط السائل ، لاستعماله في من جرت عادته بالجور وليس كذلك (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) على معنى سؤال اللطف.

والهبة : تمليك الشيء من غير مثامنة.

فصل : قوله (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) الاية : ٩.

في الاية دلالة على أنه لا يخلف وعده ولا وعيده ، ولا ينافي ذلك ما نجوزه من العفو عن فساق أهل الملة ، لان من يجوز العفو عنه إذا عفى كشف ذلك عندنا أنه ما عفاه بالخطاب ، وانما الممنوع منه أن يعنيه بالخطاب ، وبأنه لا يعفو عنه ثم يعفو فيكون ذلك خلفا في الوعيد ، وذلك لا يجوز عليه تعالى.

فصل : قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) الاية : ١٣.

فان قيل : كيف يصح تقليل الاعداد مع حصول الرؤية وارتفاع الموانع ، وهل هذا الا ما تقوله المجبرة من أنه يجوز أن يكون بحضرتنا أشياء تدرك بعضها دون بعض بحسب ما يفعل فينا من الإدراك ، وهذا عندنا سفسطة وتشكيك في المشاهدات.

قلنا : يحتمل أن يكون التقليل في أعين المؤمنين ، بأن يظنوهم قليلي العدد لا أنهم أدركوا بعضهم دون بعض ، لان العلم بما يدركه الإنسان جملة غير العلم بما يدركه مفصلا ، ولهذا إذا رأينا جيشا كبيرا ، أو جمعا عظيما ندرك جميعهم ونتبين أطرافهم ، ومع هذا نشك في أعدادهم حتى يقع الخلف بين الناس في حزرهم وعددهم ، فعلى هذا يكون تأويل الاية.

١١٦

والنصر : المعونة على الاعداء ، وهو على وجهين : نصر بالغلبة ، ونصر بالحجة. ولو هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال هم المنصورون بالحجة ومحمود العاقبة وان سر عدوهم بظفر العاجل.

العبرة الاية ، والعبرة : الدمعة من العين.

فصل : قوله (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) الاية : ١٤.

قيل : في المزين لحب الشهوات ثلاثة أقوال :

أحدها : قال الحسن : زينة الشيطان ، لأنه لا أحد أشد ذما لها من خالقها.

الثاني : ما قال الزجاج : انه زينة الله بما جعل في الطباع من المنازعة.

الثالث : قال أبو علي : زين الله ما يحسن منه ، وزين الشيطان ما يقبح منه.

والشهوات جمع شهوة ، وهي توقان النفس الى الشيء ، والشهوة من فعل الله تعالى لا يقدر عليها أحد وهي ضرورية.

واختلفوا في مقدار القنطار ، قال ابن عباس والحسن والضحاك : هو ألف ومائتا مثقال ، وقال بعضهم : هو ملء مسك ثور ذهبا. وقال الفراء وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : هو المال الكثير. ومعنى المقنطرة المضاعفة.

وقوله «المسومة» قيل : في معناه أربعة أقوال : أحدها الراعية ، الثاني الحسنة الثالث المعلمة ، الرابع المعدة للجهاد.

والانعام هي : الإبل والبقر والغنم من الضأن والمعز ، ولا يقال لجنس منها على الانفراد نعم الا الإبل خاصة ، لأنه غلب عليها في التفصيل والجملة.

فصل : قوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الاية : ١٨.

حقيقة الشهادة الاخبار بالشيء عن مشاهدة ، أو ما يقوم مقام المشاهدة. ومعنى «شهد الله» أنه أخبر بما يقوم مقام الشهادة من الدلالات الواضحة والحجج اللائحة على وحدانيته من عجيب خلقه ولطف حكمته فيما خلق.

١١٧

فصل : قوله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الاية : ١٩.

الدين هاهنا الطاعة ، فمعناه : ان الطاعة لله عزوجل هي الإسلام ، قال الأعشى

هو دان الرباب اذكر هوا

الدين دراكا بغزوة وصيال (١)

ومعناه : ذللهم للطاعة اذكر هوا الطاعة.

والإسلام والايمان عندنا وعند المعتزلة بمعنى واحد ، غير أن عندهم أن فعل الواجبات من أفعال الجوارح من الايمان ، وعندنا أن أفعال الواجبات من أفعال القلوب التي هي التصديق من الايمان. فأما أفعال الجوارح ، فليست من الايمان وان كانت واجبة.

فصل : قوله (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) الاية : ٢٠.

معنى قوله «وجهي» يريد نفسي ، وانما أضاف الإسلام الى الوجه ، لأنه لما كان وجه الشيء أشرف ما فيه ذكر بدلا منه ليدل على شرف الذكر. ومثله قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) أي : الا هو.

وقوله (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني : اليهود والنصارى. «والأميين» الذين لا كتاب لهم ، على قول ابن عباس وغيره من أهل التأويل ، وهم مشركوا العرب ، كما قال (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) (٣) وقال (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) (٤) أي : الذي لا يكتب. وانما قيل لمن لا يكتب أمي ، لأنه نسب الى ما عليه الامة في الخلقة ، لأنهم خلقوا لا يكتبون شيئا وانما يستفيدون الكتابة.

فصل : قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الاية : ٢٢.

__________________

(١). ديوان الأعشى ص ١١.

(٢). سورة الاسراء : ٢٣.

(٣). سورة الجمعة : ٢.

(٤). سورة الاعراف : ١٥٦.

١١٨

حبوط العمل عندنا هو إيقاعه على خلاف الوجه المأمور به ، فإذا أوقعه كذلك لم يستحق عليه الثواب ، فجاز لذلك أن يقال أحبط عمله ، ومتى أوقعه على الوجه المنهي عنه استحق مع ذلك العقاب ، وليس المراد بذلك بطلان ما يستحق عليه من الحمد والثناء ، ولا بطلان الثواب بما يستحق من العقاب ، لان الثواب إذا ثبت ، فلا يزول على وجه بما يستحق صاحبه من العقاب ، لأنه لا تنافي بين المستحقين ولا تضاد. وأما حبوطها في الدنيا ، فلأنهم لم ينالوا بها مدحا ولا ثناء.

وأصل الحبوط مأخوذ من قولهم «حبطت بطون الماشية» إذا فسدت من مآكل الربيع ، فعلى ما حررناه انما تبطل الطاعة حتى تصير بمنزلة ما لم تفعل إذا وقعت على خلاف الوجه المأمور به.

وعند المعتزلة ومن خالفنا في ذلك أن أحدهما يبطل صاحبه إذا كان ما يستحق عليه من الثواب والعقاب أكثر مما يستحق على الاخر ، فانه يبطل الأقل على خلاف بينهم في أنه يتحبط على طريق الموازنة أو غير الموازنة.

فصل : قوله (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) الاية : ٢٥.

فان قيل : كيف قال (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) وما كسبت لا نهاية له لأنه دائم ، وما لا نهاية له لا يصح فعله؟

قلناه : معناه أنه توفى كل نفس ما كسبت حالا بعد حال ، فاما أن يفعل جميع المستحق فمحال ، لكن لا ينتهي الى حد ينقطع ولا يفعل فيما بعده.

فصل : قوله (اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) الاية : ٢٦.

قيل : في زيادة الميم في «اللهم» قولان :

أحدهما : قال الخليل : انها عوض من ياء التي هي أداة للنداء ، بدلالة أنه لا يجوز أن تقول غفر يا اللهم لي ، ولا يجوز ايضا مع باقي الكلام.

والثاني : ما قاله الفراء : انها الميم في قولك يا الله أمنا بخير ، فألقيت الهمزة

١١٩

وطرحت حركتها على ما قبلها. ومثله هلم وانما هي هل أم ، قال : وما قاله الخليل لا يجوز ، لان الميم انما تزاد مخففة في مثل «فم» و «أينم» ولأنها قد اجتمعت مع «يا» في قول الشاعر :

وما عليك أن تقولي كلما

سجت أو صليت يا اللهما

أردد علينا شيخنا مسلما (١)

فان قيل : ما الفرق بين تمليك الكافر العبيد والإماء ، وبين تمليكه السياسة والتدبير؟

قيل : تمليكه العبيد من جهة تمليك المال ، وليس كذلك السياسة والتدبير ، لان الله لا يجعل للجاهل أن يسوس العالم ، وهذا الذي ذكره البلخي بعينه يستدل به على أن الامام يجب أن يكون معصوما ولا يكون في باطنه كافرا ولا فاسقا.

فان قيل : ان ذلك عبادة (٢) جاز أن يكلفنا الله اختياره على ظاهر العدالة ، فإذا بان فسقه انخلعت إمامته ، وانما لا يجوز أن يختار الله تعالى من هو في باطنه فاسق ، لأنه يعلم البواطن ، ولو علمنا نحن البواطن لما جاز منا أن نختاره.

قلنا : عن ذلك جوابان ، أحدهما : أن الامام عندنا الله تعالى يختاره ، فوجب أن يكون مأمون الباطن على ما قلتموه ، وما الفرق بين أن يختار من في باطنه فاسق الفاسق وبين أن يكلفنا ذلك مع علمه بأنا لا نختار الا الفاسق.

والجواب الثاني : أنه إذا كانت علة الحاجة الى الامام ارتفاع العصمة ، فلو كان الامام غير معصوم لاحتاج الى امام آخر وأدى ذلك الى التسلسل وذلك باطل.

فصل : قوله (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) الاية : ٢٧.

__________________

(١). معاني القرآن ١ / ٢٠٣.

(٢). في التبيان : عادة.

١٢٠