موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٧٧

تحدّث الإمام عليه‌السلام عن العرش حينما سئل عنه ، فأجاب :

« إنّ الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش ـ كما تظنّ ـ كهيئة السّرير ، ولكنّه شيء محدود ، مخلوق ، مدبّر ، وربّك عزّ وجلّ مالكه لا أنّه عليه ، ككون الشّيء على الشّيء » (١).

وسأل الجاثليق الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له :

اخبرني عن الله عزّ وجلّ يحمل العرش أو العرش يحمله؟

فأجابه الإمام بمنطق الدراية والحكمة قائلا :

« الله عزّ وجلّ حامل العرش والسّماوات والأرض ، وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) (٢).

وطفق الجاثليق قائلا :

اخبرني عن قوله تعالى : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) (٣) فكيف ذاك؟ وقلت : إنّه يحمل العرش والسماوات؟ ...

وأجابه باب مدينة علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا :

« إنّ العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرّت الحمرة ، ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرّت الصّفرة ، ونور أبيض منه ابيضّ البياض ... وهو العلم الّذي حمّله الله الحملة ، وذلك نور من نور

__________________

(١) التّوحيد : ٣١٩.

(٢) فاطر : ٤١.

(٣) الحاقّة : ١٧.

٨١

عظمته ، فبعظمته ونوره أبصرت قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السّماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المتشتّتة ، فكلّ شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرّا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فكلّ شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا ، والمحيط بهما من شيء ، وهو حياة كلّ شيء ونور كلّ شيء سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا ... ».

وراح الجاثليق يقول :

اخبرني عن الله أين هو؟ ...

فأجابه الإمام :

« هو هاهنا وهاهنا ، وفوق وتحت ، ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله : ( ... ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ... ) (١) ، فالكرسيّ محيط بالسّماوات والأرض ( وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى ) (٢) ، وذلك قوله : ( ... وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (٣) ، فالّذين يحملون العرش هم العلماء ـ أي من الملائكة ـ الّذين حمّلهم الله علمه ، وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته ، وهو الملكوت الّذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله فقال : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٤) ، وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم ،

__________________

(١) المجادلة : ٧.

(٢) طه : ٦ و ٧.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

(٤) الأنعام : ٧٥.

٨٢

وبنوره اهتدوا إلى معرفته » (١).

وقد حلّل السيّد الطباطبائي الحديث وبين فقراته ، ويعدّ هذا الحديث من أروع البحوث الكلامية التي ألمّت ببعض الامور الغامضة وكشفت حقيقتها.

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (١٣٨)

نزلت الآية الكريمة في بني إسرائيل فإنّهم لمّا قطع بهم موسى البحر وهو نيل مصر ، واغرق الله فرعون وقومه فيه ، مرّوا على قوم يعكفون على أصنامهم ، فقالوا لنبيّهم : ( يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ) ، ودلّ ذلك على إغراقهم في الجهل ، وعدم إيمانهم بالله الواحد القهّار ، هذا ما أفادته الآية ، وقد اعترض الجاثليق على أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له مندّدا بالمسلمين :

لم تلبثوا بعد نبيّكم إلاّ ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف ...

فأجابه الإمام بمنطقه الفياض :

« وأنتم ـ يا معشر اليهود ـ لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم : ( اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ... ) » (٢).

ولم يطق الجاثليق الردّ على الإمام بعد هذا البرهان الحاسم والحجّة القاطعة.

( وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ

__________________

(١) الميزان ٨ : ١٦٢ ـ ١٦٧.

(٢) البرهان ٢ : ٣٢.

٨٣

لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١٤٣)

لمّا انتهى موسى عليه‌السلام إلى الميقات وكلّمه الله تعالى ، طلب موسى من الله أن يراه ، فردّ الله عليه أنّه لن يراه ، وعهد إليه أن ينظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف يرى الله تعالى ، ولمّا ظهر وحي الله للجبل جعله دكّا ، وخرّ موسى صعقا يطلب من الله التوبة على سؤاله ، وقد علق الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام على هذه الآية وشرح أبعادها قائلا :

« سأل موسى عليه‌السلام وجرى على لسانه من حمد الله عزّ وجلّ : ( ... رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ... ) ، فكانت مسألته تلك أمرا عظيما ، وسأل أمرا جسيما ، فعوقب فقال الله تعالى : لن تراني في الدّنيا حتّى تموت ، فتراني في الآخرة ، ولكن إن أردت أن تراني : ف( انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ) ، فأبدى الله سبحانه بعض آياته ، وتجلّى ربّنا للجبل فتقطّع الجبل فصار رميما ، وخرّ موسى صعقا ، ثمّ أحياه الله وبعثه وتاب عليه فقال : ( ... سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، يعني أوّل مؤمن آمن بك منهم بأنّه لا يراك » (١).

وقد سئل عملاق الإيمان في الإسلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقيل له :

يا أخا رسول الله ، هل رأيت ربّك؟ ... فأجاب :

« لم أكن بالّذي أعبد ربّا لم أره ».

كيف رأيته؟ صفه لنا.

وأخذ الإمام في وصفه لله تعالى قائلا :

__________________

(١) التّوحيد : ٢٦٣.

٨٤

« لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان » (١).

ودلّ ذلك على مدى إيمانه العميق الذي امتاز على الكثيرين من أنبياء الله ، وحسبه أنّه نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أفضل من جميع الأنبياء.

وكان من عظيم إيمانه أنّه قال :

« ما رأيت شيئا إلاّ ورأيت الله قبله » (٢).

وقال : « لم أعبد ربّا لم أره » (٣) ، إنّه رأى الله تعالى بقلبه المليء بالإيمان ، فقد نظر إلى الكائنات الحية وغيرها وتأمّلها فرآها تنطق بوجود الخالق العظيم ، المبدع والمصوّر لهذه الأكوان ، وتعجز العقول أن تدرك كنهه أو تحيط بمعرفته.

( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١٥٩)

دلّت الآية الكريمة على أن كوكبة من قوم موسى يدعون إلى الحقّ وبه يحكمون ، وقد أشار الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذه الكوكبة في حديثه مع رأس الجالوت وأسقف النصارى ، فقد قال لهما :

« إنّي سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما ولا تكتماني :

يا رأس الجالوت ، بالّذي أنزل التّوراة على موسى ، وأطعمهم المنّ والسّلوى ، وضرب لهم في البحر طريقا يبسا ، وفجّر لهم من الحجر الطّوريّ اثنتي عشرة عينا ، لكلّ سبط من بني إسرائيل عين إلاّ ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ ».

فقال رأس الجالوت :

__________________

(١) الميزان ٨ : ٢٥٥.

(٢) الميزان ٨ : ٢٦٣.

(٣) الميزان ٨ : ٢٦٣.

٨٥

فرقة واحدة ...

وشجب الإمام قوله :

« كذبت والّذي لا إله إلاّ هو ، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ واحدة ، فإنّ الله يقول : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) فهذه الّتي تنجو » (١).

ولا وجود لهذه الفرقة في بني إسرائيل ، فجميع طوائفهم يدعون إلى المنكر ، ويعدلون عن الحقّ ، ويقتلون الأبرياء ، ومنكراتهم في فلسطين وآثامهم في العالم تدلّل على ذلك ، ولعلّ تلك الفرقة كانت موجودة بعد وفاة موسى ثمّ انقرضت.

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ (٢) إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (١٦٣) إلى (١٦٦)

ورد تفسير هذه الآيات في كتاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حسب ما رواه أبو جعفر عليه‌السلام قال :

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٢.

(٢) حاضرة البحر : أي قريبة من البحر.

٨٦

« وجدت في كتاب عليّ عليه‌السلام أنّ قوما من أهل إيلة من قوم ثمود ، كانت الحيتان ـ وهي الأسماك ـ قد سيقت إليهم يوم السّبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك ، فشرعت ـ أي ظهرت ـ في يوم سبتهم في ناديهم ، وأمام بيوتهم في أنهارهم وسواقيهم ، فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها ويأكلونها ، فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الأحبار ، ولا يمنعهم العلماء عن صيدها ، ثمّ إنّ الشّيطان أوحى إلى طائفة منهم إنّما نهيتم عن أكلها يوم السّبت ، ولم تنهوا عن صيدها ، فاصطادوها يوم السّبت وأكلوها في ما سوى ذلك من الأيّام.

فقالت طائفة منهم : الآن نصطادها ، فعتت وانحازت طائفة اخرى منهم ذات اليمين ، فقالوا : ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرّضوا لخلاف أمره ، واعتزلت طائفة منهم ذات اليسار ، فسكتت ولم تعظهم ، وقالت للطّائفة الّتي ووعظتهم : ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) ، فقالت الطّائفة الّتي وعظتهم : ( مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ، فقال الله عزّ وجلّ : ( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ) ، يعني لمّا تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة ، فقالت الطّائفة الّتي ووعظتهم : لا والله لا نجامعكم ، ولا نبايتكم اللّيلة في مدينتكم هذه الّتي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل عليكم البلاء فيعمّنا معكم.

قال : فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء ، فنزلوا قريبا من المدينة ، فباتوا تحت السّماء ، فلمّا أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية ، فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت ، فدقّوا الباب فلم يجبهم أحد ، فوضعوا سلّما على سور المدينة ، ثمّ أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة ولهم أذناب ، فكسروا الباب فعرفت الطّائفة أنسابها من الإنس ، ولم يعرف الإنس أنسابها من القردة ، فقال القوم للقردة : ألم ننهكم ».

٨٧

وقال الإمام عليه‌السلام :

« والّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، إنّي لأعرف أنسابها من هذه الامّة لا ينكرون ولا يغيّرون ـ أي منكرا ـ بل تركوا ما امروا به فتفرّقوا ، وقد قال الله : ( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقال الله : ( ... أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) » (٢).

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (١٧٢)

روى الأصبغ بن نباتة عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال :

أتاه ابن الكواء ، فقال له : هل كلّم الله أحدا من ولد آدم قبل موسى؟

فقال الإمام : « قد كلّم الله جميع خلقه ، برّهم وفاجرهم ، وردّوا عليه الجواب ».

ولم يفهم ابن الكوّاء كلام الإمام ، فقال له :

كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟

فقال له الإمام : « أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيّه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ... ) ، فقد أسمعهم كلامه ، وردّوا عليه الجواب ، كما تسمع في قول الله يا ابن الكوّاء( قالُوا بَلى ) ،

__________________

(١) المؤمنون : ٤١.

(٢) الميزان ٨ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، تقلا عن تفسير القمّي.

٨٨

فقال لهم :

إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا ، وأنا الرّحمن الرّحيم ، فأقرّوا له بالطّاعة والرّبوبيّة ، وميّز الرّسل والأنبياء والأوصياء ، وأمر الخلق بطاعتهم ، فأقرّوا بذلك في الميثاق ، فقالت الملائكة عند إقرارهم بذلك :

شهدنا عليكم يا بني آدم ( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) » (١).

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٤١ و ٤٢. الميزان ٨ : ٣٢٤.

٨٩

سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم

السورة المباركة مدنيّة ، غير سبع آيات نزلت بمكّة ،

عدد آياتها خمس وسبعون آية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ) (١٥)

استشهد الإمام عليه‌السلام بالآية الكريمة في ذمّ الفارّين في ساحة الحرب قال :

« إنّ الرّعب والخوف من جهاد المستحقّ للجهاد ، والمتواطئ على الضّلال ، ضلال في الدّين ، وسلب للدّنيا مع الذلّ والصّغار ، وفيه استيجاب النّار بالفرار من الزّحف عند حضرة القتال ، يقول الله عزّ وجلّ : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ) ».

( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) (٣٠)

٩٠

نزلت الآية الكريمة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما أجمعت قريش على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج وبات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في فراشه ، وبات المشركون يحرسونه ظانّين أنّه النبي ، فلما اندلع نور الصبح ثاروا عليه ، فلمّا رأوه عليّا ردّ الله مكرهم فقالوا له : أين صاحبك؟ قال : « لا أدري ».

وقد اعتزّ الإمام عليه‌السلام بهذه التضحية التي قدّمها لسيّد الكائنات ، وأثر عنه من الشعر ما يلي :

« وقيت بنفسي خير من وطىء الحصى

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

محمّدا لمّا خاف أن يمكروا به

فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكر

وبتّ اراعيهم متى ينشرونني

وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر

وبات رسول الله في الغار آمنا

هنالك في حفظ الإله وفي ستر » (١)

وقد ذكرنا تفصيل الحادثة بصورة مفصلة في بعض أجزاء هذه الموسوعة.

__________________

(١) الميزان ٩ : ٨٢.

٩١

سورة التّوبة

هذه السورة المباركة مدنيّة ، عدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية

نتحدّث ـ بإيجاز ـ عن سبب نزولها ، وما رافقها من أحداث :

سبب نزولها :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين من الحجّ ، وكانت عادة المشركين أنّ من دخل مكّة وطاف بالبيت في ثيابه لم يحلّ له إمساكها ، وكانوا يتصدّقون ولا يلبسونها بعد الطواف ، فكان من وافى مكّة ، يستعير ثوبا يطوف فيه ثمّ يردّه ، ومن لا يجد ثوبا عارية ، وليس له إلاّ ثوب واحد طاف بالبيت عريان ، فنزلت هذه السورة بتحريم ذلك ، وتحريم دخول المشركين إلى البيت الحرام ، كما نزلت السورة بقتل المشركين أين ما كانوا إلاّ الذين عاهدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكّة.

الايعاز لأبي بكر بقراءة السورة :

كلّف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر بقراءة السورة على أهالي مكّة ، وإلزامهم بتنفيذ ما فيها من بنود ، وسار أبو بكر يطوي البيداء لأداء مهمّته.

تلاوة الإمام لبنود السورة :

وسار أبو بكر يجدّ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى ذي الحليفة ،

٩٢

فنزل جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره أن لا يبلّغ هذه السورة إلاّ عليّ عليه‌السلام ، فدعاه النبيّ وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه السورة ويقرأها عنه ، وركب الإمام ناقة النبيّ العضباء ، وسار حتّى لحق بأبي بكر ، وأخذ منه السورة ، وفزع أبو بكر وخاف أن يكون قد نزل في حقّه شيء من السماء ، فهدّأ الإمام روعه ، وأخبره أنّه لم ينزل في أمره شيء.

وقام الإمام عليه‌السلام بتبليغ المواد التي عهد بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ، فقال :

« أيّها النّاس ، لا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يحجّنّ بالبيت مشرك ، ومن كانت له مدّة فهو إلى مدّته ، ومن لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر ... ».

وصادف خطابه يوم النحر (١).

ومن الجدير بالذكر أنّ من جملة المؤاخذات التي وجّهتها الشيعة لأبي بكر أنّ السماء لم تر له أهليّة لتبليغ هذه المقرّرات ، فكيف يتقلّد الخلافة التي هي من أهمّ المراكز الحساسة في الإسلام.

( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) (١٢)

استشهد الإمام عليه‌السلام بهذه الآية وطبّقها على أعضاء حزب عائشة في حرب الجمل ، فقد قال لأصحابه :

« لا تعجلوا على القوم حتّى أعذر فيما بيني وبين الله وبينهم » ، فقام وخطب قائلا :

« يا أهل البصرة ، هل تجدون عليّ جورا في حكم؟ ».

__________________

(١) الدرّ المنثور ٤ : ١٢٤. تفسير العيّاشي ٢ : ٧٤.

٩٣

فقالوا : لا.

فقال : « فحيفا في قسم؟ ».

قالوا : لا.

قال : « فرغبة في دنيا أخذتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ ».

قالوا : لا.

قال : « فأقمت فيكم الحدود وعطّلتها في غيركم؟ ».

قالوا : لا.

قال : « فما بال بيعتي تنكث وبيعة غيري لا تنكث ، إنّي ضربت الأمر أنفه وعينه ، فلم أجد إلاّ الكفر أو السّيف ... ».

ثمّ انتهى الإمام إلى أصحابه ، فقال لهم :

« إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) ، والّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ، واصطفى محمّدا بالنبوّة ، إنّهم لأصحاب هذه الآية » (١).

واستشهد بالآية الكريمة على غدر طلحة والزبير ونكثهما لبيعته ، فقد قال :

« عذيري من طلحة والزّبير بايعاني طائعين غير مكرهين ، ثمّ نكثا بيعتي من غير حدث » ، ثم تلا الآية الكريمة (٢).

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ

__________________

(١) قرب الاسناد ـ الحميري : ٩٦.

(٢) أمالي المفيد : ٧٣.

٩٤

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (١٩)

نزلت الآية الكريمة في الاشادة بحقّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما تفاخر شيبة والعباس بن عبد المطلب ، فقال لهما الإمام :

« بما تفتخران؟ ».

فقال العباس : لقد اوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد ، سقاية الحاجّ.

وأدلى شيبة بما يفتخر به قائلا : اوتيت عمارة المسجد الحرام.

وأنبرى الإمام قائلا :

« وأنا أقول لكما : لقد اوتيت على صغري ما لم تؤتيا ».

وطفقا قائلين : وما اوتيت يا عليّ؟

وأظهر الإمام عليه‌السلام حجّته الحاسمة قائلا :

« ضربت خراطيمكما بالسّيف حتّى آمنتما بالله تبارك وتعالى ... ».

وورم أنف العباس ، وراح يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكيا من الإمام ، فدعاه الرسول وقال له :

« يا عليّ ، ما حملك على ما استقبلت به عمّك؟ ... ».

وأجابه الإمام بمنطقه الفيّاض قائلا :

« يا رسول الله ، صدمته بالحقّ ، فإن شاء فليغضب ، وإن شاء فليرض ... ».

ونزل جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه القرار الحاسم في هذا التفضيل ، بهذه الآية المباركة : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... ) الخ (١).

__________________

(١) مجمع البيان ٥ : ٢٤ ـ ٢٥.

٩٥

وخرج العباس ، وهو نادم على ما صدر منه تجاه ابن أخيه حامي الإسلام وبطل الجهاد المقدّس.

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (٣٦)

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« لمّا ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه ، قال : أيّها النّاس ، إنّ السنّة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم » ، ثمّ قال بيده : « رجب مفرد ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ثلاثة متواليات » (١).

( الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٦٧)

فسّر الإمام عليه‌السلام هذه الكلمات التي وردت في الآية : ( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) قال عليه‌السلام :

« يعني نسوا الله في دار الدّنيا لم يعملوا له بطاعته ، فنسيهم في الآخرة ، أي لم يجعل لهم في ثوابه شيئا ، فصاروا منسيّين من الخير » (٢).

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ : ٨٨.

(٢) المصدر المتقدّم ١ : ١٤٤.

٩٦

( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١٠٠)

روى ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو أسبق الناس كلّهم بالإيمان ، وصلّى على القبلتين ، وبايع البيعتين : بيعة بدر ، وبيعة الرضوان ، وهاجر الهجرتين : مع جعفر من مكة إلى الحبشة ، ومن الحبشة إلى المدينة (١).

والآية وإن كانت عامّة لجميع السابقين من الأنصار والمهاجرين إلاّ أنّها تشمل أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنّه الفرد الأمثل منهم.

__________________

(١) تفسير البرهان ١١ : ١٥٤.

٩٧

سورة يونس

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة المباركة مكّية ـ في قول الأكثر ـ ،

إلاّ ثلاث آيات نزلت في المدينة ، عدد آياتها مائة وتسع آيات

( أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ ) (٢)

سئل الإمام عليه‌السلام عن هذه الآية فقال بما مضمونه : « إنّ البشارة للّذين آمنوا هي شفاعة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم يوم القيامة » (١).

( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (٢٦)

__________________

(١) الدرّ المنثور ٣ : ٣٠٠.

٩٨

كتب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى محمّد بن أبي بكر أن يفسّر للناس الحسنى بالجنّة ، والزّيادة بالدنيا (١).

( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٦٢)

روى ابن عباس أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن هؤلاء الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأجاب :

« هم قوم أخلصوا لله تعالى في عبادته ، ونظروا إلى باطن الدّنيا حين نظر النّاس إلى ظاهرها ، فعرفوا أجلها حين غرّ النّاس سواهم بعاجلها ، فتركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم ، وأماتوا منها ما علموا إنّه سيميتهم ».

وأضاف قائلا :

« أيّها المعلّل نفسه بالدّنيا ، الرّاكض على حبائلها ، المجتهد في عمارة ما سيخرب منها ، ألم تر إلى مصارع آبائك في البلى ، ومضاجع أبنائك تحت الجنادل والثّرى؟ كم مرّضت بيديك ، وعلّلت بكفّيك تستوصف لهم الأطبّاء ، وتستعتب لهم الأحبّاء ، فلم يغن عنهم غناؤك ، ولم ينجع فيهم دواءك » (٢).

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٦٢.

(٢) المصدر المتقدّم : ٨٦ ـ ٨٧.

٩٩

سورة هود

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة المباركة مكّية ـ في قول الأكثر ـ ،

عدد آياتها مائة وثلاث عشرون آية

( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (٦)

عرضت الآية الكريمة إلى أنّ الله تعالى متكفّل برزق جميع مخلوقاته ، وأنّ سعي الإنسان وعدم سعيه لا يجلبان ولا يمنعان ما كتب له ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام كثيرا ما يقول :

« اعلموا علما يقينا أنّ الله تعالى لم يجعل العبد وإن اشتدّ جهده وعظمت حيلته وكثرت مكائده أن يسبق ما سمّي في الذّكر الحكيم.

أيّها النّاس ، إنّه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه ، ولن ينقص امرؤ نقيرا لحمقه ، فالعالم بهذا ، العامل به ، أعظم راحة في منفعة ، والعالم بهذا ، التّارك له ، أعظم النّاس شغلا في مضرّة ، وربّ منعم عليه مستدرج بالإحسان ، وربّ مغرور في النّاس مصنوع

١٠٠