نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

تكون شاملة وعامّة إلى هذه الدرجة وخاصّة بين جماعة بعيدة عن العلم والفكر.

من هنا فإنّا نعتقد أنّ الآيات الخمس أو أمثالها تشكّل أدلّة على التوحيد الفطري.

ولذا يقول صاحب تفسير «روح البيان» في ذيل الآية ٩ من سورة الزخرف :

«وفي الآية إشارة إلى أنّ في جبلة الإنسان معرفة لله مركوزة» (١).

وفي تفسير «الفخر الرازي» في ذيل الآية ٨٧ من سورة الزخرف عرض لهذا المضمون على صورة سؤال وجواب فيقول : «ظنّ قوم أنّ هذه الآية وأمثالها في القرآن تدلّ على أنّ القوم مضطرون إلى الإعتراف بوجود الإله للعالم ، وقوم إبراهيم قالوا : (وَانَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ). (ابراهيم / ٩)

فيقال لهم : لا نسلّم أنّ قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله ، والدليل على قولنا ، قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا واستَيقَنَتْهَا أَنفُسُهُم ظُلماً وَعُلُواُ). (النمل / ١٤)

وجاء في قوله تعالى حيث قال موسى عليه‌السلام لفرعون : (لَقَد عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ بَصَائِرَ). (الاسراء / ١٠٢)

فالقراءة بفتح التاء في علمت تدلّ على أنّ فرعون كان عارفاً بالله ، وأمّا قوم إبراهيم عليه‌السلام حيث قالوا : (وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ) فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوّة» (٢).

وفي التعبير ب (لقد علمت ....) إشارة واضحة إلى هذا المعنى.

والطريف أنَّ آيتين من هذه الآيات تذكران في النهاية بعد أخذ الإقرار من الكفّار والمشركين بأنَّ الله هو الخالق للإنسان والأرض والسماوات : (فَأَنِّى يُؤفَكُونَ) (٣).

وبناء الجملة للمجهول إشارةٌ إلى أنَّ ذواتهم تسير في طريق الفطرة ، غير أنَّ أسباباً خارجية وهي (شياطين الجنّ والإنس) ، وأسباباً داخلية وهي (أهواء النفس والعصبية

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٨ ، ص ٣٥٣ ، ذيل الآية ٨٧ من سورة الزخرف إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

(٢) التفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٣٩٩ ، ج ٢٧ ، ص ٢٣٣.

(٣) «تؤفكون» مشتق من «الإفك» ويعني الإرجاع والحرف ولذا يطلق «الإفك» على الكذب أيضاً كما تطلق «المؤتفكات» على الرياح المعارضة.

٨١

الجاهلية) تحرفهم عن الحقّ رغم تجذّره في أعماق فطرتهم.

في حين جاء التعبير في موضع آخر بـ (فَأَنّى تُسحَرُونَ) بصيغة المبني للمجهول ، وهي عبارة تطلق على من يتّبع أمراً دون إرادة.

ويوجد احتمال آخر في تفسير هذه الآيات وهو أنَّهم كانوا يقولون بأنَّ رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد أنْ يحرفنا عن طريق الحقّ أو أنّه ساحر قد سحرنا ، فردّ عليهم القرآن : مع أنّكم تُقرّون بأنَّ الله هو خالق السماء والأرض والشمس والقمر والبشر ، وهو المدبّر لهذا الكون فكيف يحرفكم أو يسحركم من يدعوكم إلى عبادته ونبذ عبادة غيره؟ أي عقل يحكم بهذا؟!

إنّ الكثير من المفسّرين ومنهم (الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في الميزان والفخر الرازي في التفسير الكبير والآلوسي في روح المعاني والقرطبي في تفسيره) اختاروا التفسير الأوّل ولو أنّ التفسير الثاني غير بعيد عن مفهوم الآية.

* * *

عهد عالم الذرّ :

الآية العاشرة والأخيرة في هذا البحث تذكر تعبيراً آخر بصياغة جديدة حول التوحيد الفطري ولا نظير لها في الآيات القرآنية الاخرى ، وبسبب المحتوى المعقّد لهذه الآية دارت حولها أحاديث مطوّلة بين العلماء والمفسّرين والمتكلّمين وأرباب الحديث ، نورد ـ بصورة إجمالية ـ آراءهم المختلفة ثمّ رأينا المختار بعد الفراغ من تفسيرها.

تقول الآية الكريمة : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيتَهم وَأَشْهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِربِّكُمْ) فقالوا جميعاً : (بَلى شَهِدنَا) وتُضيفُ الآية بأنَّ الله تعالى فعل ذلك لئلّا يقولوا يوم القيامة إنّا غفلنا عن هذا الأمر (وهو التوحيد ومعرفة الله) : (أَنْ تَقُولوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) أو تتشبّثوا بحجّة (التقليد) بدلاً عن حجّة (الغفلة) وتقولوا : (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبلُ وَكُنَّا ذُرِّيَةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَل المُبطِلُونَ). (الأعراف / ١٧٣)

٨٢

هذه الآيات تكشف عن حقائق بصورة إجمالية ، منها :

١ ـ أنّ الله تعالى أظهر جميع ذرّية آدم إلى يوم القيامة في مرحلة واحدة من الخلق.

٢ ـ أنّ الله سبحانه أشهدهم على أنفسهم وأخذ الإقرار منهم بربوبيته.

٣ ـ الهدف من أخذ الإقرار والإعتراف والشهادة لأمرين :

أوّلاً : عدم السماح للمشركين لادّعاء الغفلة والجهل عن حقيقة التوحيد ووحدانية الله يوم القيامة.

وثانياً : منعهم من اتّخاذ التقليد لآبائهم ذريعة لارتكاب المعاصي.

وأهمّ سؤال يُطرح هنا هو : متى وقع هذا (الظهور)؟ وبأيّة صورة تمّ ذلك؟ وما المراد من (عالم الذرّ)؟ وكيف تحقّق هذا الأمر؟ للأجابة عن هذا السؤال هناك ستّة آراء على الأقل ، وقد أيّد كلَّ واحد منها جماعة من المفكّرين الإسلاميين :

١ ـ طريق المحدّثين وأهل الظاهر ، حيث يقولون : إنّ المراد هو ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ ذريّة آدم بأجمعهم قد خرجوا من ظهره على شكل ذرّات دقيقة وملأت الفضاء وكانت تتمتّع بالعقل والإحساس والقدرة على النطق ، فخاطبهم الله عزوجل وسألهم : (ألست بربّكم؟) فقالوا جميعاً : (بَلى) ؛ وبذلك أخذ العهد الأوّل على التوحيد ، وكان بنو الإنسان بأنفسهم شاهدين على ذلك (١).

٢ ـ المراد من عالم الذرّ وتفسير الآية أعلاه هو الذرّات الاولى لوجود الإنسان ، أي النطفة التي انتقلت من ظهور الآباء إلى أرحام الامّهات وتبدّلت في المراحل الجنينية إلى صورة إنسان كامل تدريجياً ، وقد أعطاها الله عزوجل في ذلك الحال القوى والقابليات المختلفة كي تدرك حقيقة التوحيد ومنهاج الحقّ ، وقد جعل هذه الفطرة التوحيدية ملتحمة بوجوده.

__________________

(١) يقول العلّامة المجلسي رحمه‌الله في شرح أصول الكافي (مرآة العقول ، ج ٧ ، ص ٣٨) عن هذه الحقيقة : (طريقة المحدّثين والمتورّعين فانّهم يقولون نؤمن بظاهرها ولا نخوض فيها ، ولا نطرق فيها التوجيه والتأويل) ؛ والفخر الرازي ينسب ذلك إلى المفسّرين والمحدّثين تفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ٤٦.

٨٣

يذهب إلى هذا التفسير جمع من المفسّرين كصاحب تفسير (المنار) و (في ظلال القرآن) ونقلوا ذلك عن الكثير من المفسّرين (١).

وبهذا يكون (عالم الذرّ) هو عالم الجنين ويكون السؤال والجواب بلسان الحال لا القال ؛ ولهذا الأمر شواهد ونظائر كثيرة وردت في كلمات العرب وغيرهم ؛ كما نقل السيّد المرتضى في كلامه عن بعض الحكماء حيث يقول : «سَل الأرض من شقّ أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإنْ لم تُجبك حواراً أجابتك اعتباراً».

هذاالقول يشابه ما ذكره جمع من المفسّرين حول الحمد والتسبيح اللذين يعمّان موجودات العالم حتّى الجمادات أيضاً.

٣ ـ المراد من (عالم الذرّ) هو (عالم الأرواح) ويعني ذلك أنّ الله عزوجل خلق في البداية أرواح البشر قبل أجسادهم ، وخاطبها وأخذ الإقرار منها على وحدانيته.

وقد استخلص هذا التفسير من بعض الروايات كما سنشير إليه.

والجدير ذكره أنَّ كلمة (ذرّية) في آية البحث مشتقّةٌ من (ذرّ) وهي تعني ذرّات الغبار الدقيقة ، أو النمل الدقيق أو أجزاء النطفة أو من (ذرْو) ويعني التفريق أو من (ذرْء) ويعني الخلق.

بناءً على ذلك لا نسلّم بأنّ الأصل في (ذرّية) هو (ذرّ) بمعنى الأجزاء الدقيقة (فتأمّل جيّداً).

٤ ـ إنَّ هذا السؤال والجواب وقع بين جمع من البشر وبين الله عزوجل بواسطة الأنبياء وبلسان القال حيث استمع جمع من البشر إلى أدلّة التوحيد ـ بعد ولادتهم وإكتمال عقولهم ـ من الأنبياء واستجابوا لها وقالوا (بلى).

فإنْ قيل إنّ (ذريّة) مشتقّة من (ذرّ) وتعني الاجسام الصغيرة جدّاً فلا تنجسم مع هذا المعنى ، فيردّ أصحاب هذا القول : بأنَّ أحد المعاني المعروفة لـ (ذريّة) هو الأبناء ـ صغاراً وكباراً ـ وأنّ إطلاق (ذريّة) على العقلاء والبالغين في القرآن الكريم ليس بالقليل.

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٩ ، ص ٣٨٧ (تعبيره ينسجم مع القول الخامس) ؛ تفسير في ظلال القرآن ، ج ٣ ، ص ٦٧١.

٨٤

وقد ذكر السيّد المرتضى رحمه‌الله هذا التفسير ـ في بعض كلماته ـ على شكل احتمال في إيضاح الآية المذكورة ، كما أنّ أبا الفتوح الرازي قد أورد هذا التفسير كاحتمال في تفسيره إضافةً إلى وجود إشارة إلى ذلك في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية (١).

٥ ـ أنّ هذا السؤال والجواب هو مع البشر بأجمعهم بلسان الحال وذلك بعد البلوغ والكمال والعقل ، فكلّ إنسان يقرّ بعد اكتمال عقله ومشاهدته لآيات الله في الآفاق والأنفس بوحدانية الله بلسان حاله ، وكأنّ الله عزوجل يسألهم بإرائة هذه الآيات : (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ فيجيبون بلسان الحال : «بلى» ، وأمّا الحديث بلسان القال فإنّ له شواهد ونظائر كثيرة.

وهذا التفسير ينقله الشيخ الطوسي رحمه‌الله في التبيان عن البلخي والرمّاني (٢).

٦ ـ وهو التفسير الذي اختاره العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله في «الميزان» : بعد أن ذهب إلى استحالة أن يكون للبشر وجود مستقل سابقاً مقروناً بالحياة والعقل والشعور وقد أخذ الله منهم العهد على وحدانيته ثمّ أعادهم إلى حالتهم السابقة كي يجتازوا مسيرتهم الطبيعية ، وبذلك يأتون إلى الدنيا مرّتين فقال :

وأثبت بقوله : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* فَسُبحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىءٍ). (يس / ٨٢ ـ ٨٣)

وقوله : (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمحٍ بِالبَصَرِ). (القمر / ٥٠)

إنّ هذا الوجود التدريجي للأشياء ومنها الإنسان هو أمر من الله يفيضه على الشيء ويلقيه إليه بكلمة (كن) إفاضة دفعية والقاء غير تدريجي ، فلوجود هذه الأشياء وجهان ، وجه إلى الدنيا وحكمه أن يحصل بالخروج من القوّة إلى الفعل تدريجاً ، ومن العدم إلى الوجود شيئاً فشيئاً ويظهر ناقصاً ثمّ لا يزال يتكامل حتّى يفنى ويرجع إلى ربّه ، ووجه إلى الله سبحانه وهو بحسب هذا الوجه امور تدريجية وكلّ ما لها فهو لها في أوّل وجودها من غير أن تحتمل قوّة تسوقها إلى الفعل ... وبعبارة اخرى : أنّ الموجودات لها نوعان من

__________________

(١) تفسير روح الجنان ، ج ٥ ، ص ٣٢٦.

(٢) تفسير التبيان ، ج ٥ ، ص ٢٧ (وفي تفسير المنار ج ٩ ، ص ٣٨٦ تعبير يقرب من هذا المعنى).

٨٥

الوجود ، الأوّل : الوجود الجمعي عند الله تعالى والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالملكوت ، والآخر : الوجودات المتناثرة التي تظهر تدريجياً بمرور الزمان.

وبهذا تكون حياة الإنسان في الدنيا مسبوقة بحياة إنسانية اخرى لا يكون فيها أحد محجوباً عن الله تعالى ، وقد شاهده هناك كلُّ موجود بالشهود الباطني وأقرّ بربوبيته.

ثمّ يضيف رحمه‌الله : لو دقّقنا في الآيات الآنفة الذكر لرأينا أنّها تشير إلى هذا المعنى.

بعد اتّضاح التفاسير الستّة بصورة إجمالية نشرع بدراستها ونقدها :

القول الأوّل هو أضعف الأقوال لدى الكثير من المحقّقين ، ووجّهوا إليه أغلب الإشكالات ، حيث أشكل عليه الطبرسي في «مجمع البيان» والسيّد المرتضى ـ كما نقله العلّامة المجلسي رحمه‌الله في مرآة العقول ـ كما أنّ الفخر الرازي أورد ١٢ إشكالاً على هذا القول! غير أنّ بعضها ليس جديراً بالإهتمام وبعضها مكرّر أو قابل للإندماج مع غيره ، وبصورة عامّة تتوجّه خمسة إشكالات إلى هذا القول :

أ) إنَّ هذا التفسير لا ينسجم مع كلمة (بني آدم) أبداً ، وكذلك مع ضمائر الجمع في الآية ، وكلّها تتحدّث عن بني آدم لا آدم نفسه ، كما لا يتطابق مع لفظة (ظهور) جمع (ظهر) ، والخلاصة هي أنّ الآية تقول : إنّ (الذرّية) ظهرت من ظهور (بني آدم) لا من ظهر (آدم) ، في حين أنّ الروايات تدور حول نفس آدم.

ب) لو صحّ أخذ مثل هذا العهد الصريح في عالم سابق لهذا العالم فكيف يعقل نسيان ذلك من قبل البشر بأجمعهم؟! وهذا النسيان العام دليل على استبعاد هذا التفسير ، لأنّ المستفاد من الآيات القرآنية هو أنّ البشر لا ينسون حوادث الدنيا حين تقوم الساعة ولهم حوار بشأنها غالباً ، فهل الفاصل الزمني بين عالم الذرّ والدنيا هو أكثر من الفترة بين الدنيا والآخرة؟

ج) لو سلّمنا ـ فرضاً ـ بأنّ هذا النسيان العام يمكن تبريره بالنسبة لعالم الذرّ ، ولكن النتيجة هي علّية هذا العهد ، لأنّه يكون مؤثّراً حينما يتذكّره الناس ، أمّا ما ينساه كافّة البشر

٨٦

فانّه يفقد تأثيره التربوي ولا ينفع في إلقاء الحجّة وسدّ باب الاعذار.

د) يستفاد من قوله تعالى : (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَينِ وأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ). (المؤمنون / ١١)

إنّ للبشر موتتين وحياتين (حيث كانوا موجودات ميتة فأحييت ثمّ يموتون ثمّ يحيون يوم القيامة) في حين يكون لهم ـ وفق هذا التفسير ـ أكثر من موتتين وحياتين : (موت وحياة في عالم الذرّ وموتان وحياتان آخران).

ه) يستلزم هذا التفسير (التناسخ) ، لأنّا نعلم بأنّ التناسخ ليس إلّاحلول روح واحدة في جسمين أو أكثر ، وطبقاً لهذا التفسير فإنّ الروح الاولى تعلّقت أوّلاً بالذرّات الدقيقة جدّاً والتي خرجت من ظهر آدم ثمّ خرجت لتتعلّق بالأجسام الحاضرة ، وهذا هو عين التناسخ.

وبطلان التناسخ هو من المسلّمات في الدين ، ولذا فإنّ الشيخ المفيد رحمه‌الله في كتابه «جواب المسائل السروية» عندما يذكر التفسير أعلاه مقروناً ببعض الروايات يضيف : «هذه أخبار القائلين بالتناسخ وفيه جمعوا بين الحقّ والباطل» (١).

وقد ورد هذا الكلام بنفسه في كلام شيخ المفسّرين الطبرسي رحمه‌الله (٢).

وسنلاحظ بإذن الله لدى مطالعة أخبار عالم الذرّ أنّ الأخبار الدالّة على هذا التفسير معارضة بأخبار اخرى.

* * *

وأمّا القول الثاني الذي يتحدّث عن خلق فطرة التوحيد والقابلية الخاصّة لمعرفة الله في عالم الرحم فإنّه أقلّ الأقوال إشكالاً ، والإشكال الوحيد الذي أورده عليه هو أنّ ظاهر الآية المبحوث عنها هو أنّ السؤال والجواب جاء بلسان القال لا الحال ، وهو ضرب من التشبيه والمجاز ، مضافاً إلى أنّ جملة (أخذ) دليل على أنّ هذا الأمر قد أخذ في الماضي ، في حين

__________________

(١) مرآة العقول ، ج ٧ ، ص ٤١.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٩٧.

٨٧

أنّ فطرة التوحيد للأجنّة هي أمر مستمرّ ويتحقّق في كلّ زمان ، والإشكالان يمكن الإجابة عليهما وذلك لعدم مانعية حمل هذا الكلام على لسان الحال مع القرينة ، وقد كثر ذلك في اللغة العربية نثراً وشعراً و... ، والإشكالات المهمّة التي ترد على التفسير الأوّل قرينة واضحة على هذا التفسير ، والفعل الماضي قد يستعمل في الاستمرار أيضاً ، وهذا ـ طبعاً ـ يحتاج إلى قرينة أيضاً ، وهذه القرينة موجودة في موضوع البحث (١).

أمّا التفسير الثالث القائل بأنّ المراد هو : سؤال الأرواح فانّه لا ينسجم مع آية البحث أبداً ، لأنّ الآية تتحدّث عن أخذ الذرّية من ظهور بني آدم ولا يرتبط هذا بقضيّة الأرواح.

وأمّا التفسير الرابع القائل بأنّ السؤال والجواب كان بهذا اللسان الطبيعي ويرتبط بمجموعة من البشر قد سئلوا بعد إبلاغهم بواسطة الأنبياء عن مسألة التوحيد وأجابوا بالإيجاب عليه ، فإنّ عليه إشكالات رئيسية منها :

إنّ الآية تتحدّث عن جميع البشر لا مجموعة صغيرة منهم آمنوا بالأنبياء أوّلاً ثمّ كفروا ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الآية هو كون السؤال من قِبَلِ الله لا من قبل الأنبياء.

ولا يصحّ ما يظنّه البعض من أنّ جملة : (إنّما أشرَك آباؤُنا من قَبْل) دليل على أنّ الآية تقصد المجموعة التي أشرك آباؤها ، لأنّ الآية تذكر عذرين غير موجّهين للكفّار ، الأوّل هو الغفلة والثاني التقليد للآباء المشركين.

ويمكن أن يكون كلّ عذر لمجموعة خاصّة وأنّهما معطوفان بكلمة (أو).

وأمّا التفسير الخامس فإنّه يشابه التفسير الثاني من جهات مع وجود فارق وهو : أنّ التفسير الثاني يتحدّث عن الفطرة القلبية ، بينما يتحدّث التفسير الخامس عن فطرة العقل وكما أسلفنا فإنّ هذا التفسير قد مال إليه كثير من المفسّرين الأعلام.

وأمّا التفسير السادس الذي ورد في «تفسير الميزان» فإنّه يواجه إشكالَيْن كبيرين :

الأوّل : هو إثبات عالمين (عالم جمعي وعالم تفصيلي) ولا دليل واضح لهما حسب ما ورد من البيان.

__________________

(١) شوهدت هذه العبارة كثيراً في الآيات القرآنية : فاطر ، ٤٤ ؛ الشورى ، ٥١ ؛ الفتح ، ١١ ؛ الفتح ، ١٩.

٨٨

والثاني : أنّ تطبيق الآية على هذا العالم (بافتراض ثبوته) يبدو بعيداً جدّاً ولا يسلم أصل القضيّة وفرعها من الإيراد.

حصيلة البحث عن عالم الذرّ :

نصل ممّا ذُكر إلى هذه النتيجة وهي : أنّ التفسير الثاني والخامس ـ بعد الدراسة الدقيقة ـ هما أقلّ التفاسير إشكالاً ، وامّا الإشكال الوارد في أنّه يخالف الظاهر في بعض الجهات فإنّه يمكن التغاضي عنه مع توفّر القرينة والنظائر الكثيرة لذلك في اللغة العربية وغيرها ، ولذا فإنّ الكثير من المفسّرين المشهورين وعلماء العقائد والكلام قد اختاروهما ، كما تتضمّن الروايات إشارات واضحة إلى هذا المضمون وسيأتي ذلك في البحث المقبل بإذن الله.

وباختصار : إنّ أغلب المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا السؤال والجواب الإلهي قد تمّ مع جميع البشر وبلسان الحال لا القال ، أو عن طريق الإستعداد الفطري المودع في الجنين أو عن طريق الإستعداد العقلي الذي أوجده فيهم بعد البلوغ والكمال العقلي ، أحدهما يتحدّث عن الفطرة القلبية (دون الحاجة إلى استدلال) والثاني يتحدّث عن الفطرة العقلية التي تعتبر معرفة الله من البديهيات العقلية ، حيث إنّ دلائله من الوضوح ما يجعل كافّة البشر يدركون ذلك ، صحيح أنّ مجموعة من البشر ينكرون ذلك بلسان القال ويؤيّدون الماديّة ، ولكنّا حينما نحلّل كلامهم نراهم يجعلون للمادّة والطبيعة نوعاً من العقل والإحساس ، وبعبارة اخرى أنّهم أطلقوا كلمة (الطبيعة) على (الله) ، ونعتقد أنّ الإشارة إلى الفطرة القلبية هي الأنسب (فتأمّل جيّداً).

* * *

توضيحات

١ ـ (عالم الذرّ) في الروايات الإسلامية

إنَّ المصادر الإسلامية (السنيّة والشيعية) تتضمّن روايات جمّة عن (عالم الذرّ) تبدو

٨٩

وكأنّها روايات متواترة ، فمثلاً يتضمّن تفسير نور الثقلين ٣٠ رواية ، وتفسير البرهان ٣٧ رواية ولعلّها تتجاوز الأربعين في مجموعها (مع حذف المكرّرات) ، كما يتضمّن تفسير (الدرّ المنثور) روايات عديدة ، ممّا يشير إلى أنّ مضامين الروايات لا تنحصر في مذهب إسلامي خاصّ.

غير أنّ كثيراً منها منقولة عن راوٍ واحد ولذا يشملها حكم الخبر الواحد (يلاحظ أنّ كثيراً منها مروي عن زرارة ، وعدداً منها عن أبي بصير ، وبعضاً منها عن جابر ، كما تلاحظ روايات عن عبدالله بن سنان وصالح بن سهل) وبهذا فإنّ العدد الحقيقي للروايات ينخفض بشكل ملحوظ.

هذا وإنّ مضامين هذه الروايات متباينة تماماً فبعضها يتّفق مع التفسير الثاني القائل بأنّ هذا العهد عهد فطري ويرجع إلى إيداع المعرفة الفطرية في الإنسان نظير الرواية التي ينقلها عبدالله بن سنان عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «قال : سألته عن قول الله عزوجل (فطرة الله التي فطر الناس عليها) ما تلك الفطرة؟ ، قال : هي الإسلام ، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وفيه المؤمن والكافر» (١).

وكما تلاحظ فإنّ الحديث يتضمّن بياناً عن الإرتباط الوثيق بين آية (الفطرة) وآية (عالم الذرّ) ، وقد روى زرارة هذا المعنى بعبارة اخرى عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، فإنّه عندما سأل الإمام عليه‌السلام عن تفسير الآية (وإذ أخذ ربّك ...) أجابه عليه‌السلام : «ثبتت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف ، ويذكرونه يوماً ، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ومن رازقه؟» (٢).

في حين أنّ بعضاً آخر من الروايات يتّفق مع التفسير الأوّل حيث تذكر أنّ ذرّية آدم خرجوا من ظهره على صورة ذرّات ، وقد أخذ الله هذا العهد منهم بلسان القال ، كالروايات التي وردت في تفسير البرهان المرقّمة ب ٣ ، ٤ ، ٨ ، ١١ ، ٢٩ (وقد روى زرارة هذه الروايات عن الإمام الباقر عليه‌السلام وهي ـ في الحقيقة ـ رواية واحدة).

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٤٧ ، ح ٧ ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٩٥ ، ح ٣٤٥.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٤٨ ، ح ١٥.

٩٠

وقد ورد هذا المعنى في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عبّاس بطرق متعدّدة ولكن يطول ذكرها وهي ذات مضمون واحد في الحقيقة وتتلخّص في حديث واحد عن ابن عبّاس وليس عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي كتب اخرى نقل هذا المعنى بطرق اخرى.

والإشكال المهمّ الذي يرد على هذه الأحاديث هو أنّها مخالفة لظاهر وصريح كتاب الله لأنّها تقول بأجمعها : أنّ ذرّية آدم خرجت من ظهر آدم على صورة ذرّات ، في حين يقول القرآن الكريم بأنّ الذرّات هذه خرجت من ظهور بني آدم : (مِنْ بَنى آدمَ مِن ظهورِهِم ذُريَّتَهم).

وإضافة إلى ذلك فإنّ ثمّة إشكالات عديدة اخرى ترد على مضامين هذه الأحاديث تمّت الإشارة إليها وتجعلها في المجموع في عداد الأحاديث الضعيفة.

والمجموعة الثالثة من الأحاديث مبهمة وتلائم التفاسير المختلفة ، مثل الحديث الذي يرويه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث سأله : كيف أجابوا وهم ذرّ؟! فقال عليه‌السلام : «جعل الله فيهم ما إذا سألهم أجابوه ، يعني في الميثاق» (١).

وهناك مجموعة رابعة من الأحاديث تقول بأنّ هذا السؤال والجواب قد جريا مع أرواح البشر ، وهذا يوافق التفسير الثالث فقط ، كرواية المفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال : «قال الله عزوجل لجمع أرواح (بني آدم) ألست بربّكم؟ قالوا : بلى» (٢).

كما يستفاد من مجموعة روائية خامسة أنّ الله سبحانه أوقف الأرواح البشرية في ذلك اليوم على نفس الهيئة التي تخلق عليها وأخذ منها العهد (٣).

بناءً على ما ذكر وبملاحظة التعارض بين هذه الروايات وضعف السند في كثير منها ، لا يمكن الإعتماد عليها كمستمسك معتبر أبداً ، والأفضل كما يقول العلماء العظام هو أن نترك

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٤٩ ، ح ٢٢.

(٢) المصدر السابق ، ح ٢٠.

(٣) تفسير درّ المنثور ، ج ٣ ، ص ١٤٢.

٩١

في مثل هذه الموارد الحكم بشأنها وندع العلم بها إلى أهلها (١).

نبقى والآية أعلاه وما يستفاد منها بمعونة القرائن المختلفة ، وكما أشرنا فإنّ التفسير الثاني ـ كما يبدو ـ هو الأنسب من بين التفاسير الستّة المذكورة للآية ، وهو التفسير الذي يعتبر عالم الذرّ منسجماً مع فطرة المعرفة الإلهيّة والإسلام ، وعليه فإنّ ذرّات النطفة منذ خروجها من ظهور الآباء واستقرارها في أرحام الامّهات تكون قد استقرّ فيها نور المعرفة والتوحيد والقانون الإلهي على صورة قابلية ذاتية.

٢ ـ فطرة العقل أم القلب؟

الحصيلة من كلمات العلماء في بحث فطرية المعرفة الإلهيّة هي أنّهم سلكوا طريقين ، فبعض اعتبر الفطرة هنا بمعنى الاستدلال العقلي الواضح ، وهو أنّ كلّ إنسان بعد اكتمال عقله وملاحظته لنظام عالم الوجود وبعض الأسرار في الخلق ينتقل إلى هذه الحقيقة فوراً وهي استحالة نشوء هذا النظام البديع ذي الأسرار العجيبة من مبدأ فاقد للعقل والإحساس ، وعليه فإنّ الفطرة تعني : (العقل الفطري) الذي يكفيه استدلال واضح للوصول إلى الحقيقة ولا يحتاج إلى استاذ أو معلّم ، كما يحكم الإنسان بأنّ (الكلّ أكبر من الجزء) حيث أدركه باستدلال عقلي واضح وهكذا عندما يقول بأنّ (المساويين لشيء متساويان).

من هنا نلاحظ أنّ علماء المنطق يقسّمون بديهيات المنطق إلى ستّة أقسام :

الأوّليات ، المشاهدات ، التجريبيات ، المتواترات ، الحدسيات ، الفطريات ، وقالوا في تعريف (الفطريات) : بأنّها القضايا التي لا يصدق بها العقل بمجرد تصوّرها بل يحتاج إلى حدّ أوسط وهو حاضر لدى الذهن دائماً ، وللفطرة معنى آخر وهو أصحّ وأفضل في البحوث المعنية وهو : إدراك الحقائق من دون الحاجة إلى أي استدلال (معقّد أو بسيط) ويتفهّمها

__________________

(١) للمزيد من المعلومات عن الروايات المرتبطة بعالم الذرّ يمكن مراجعة الكتب الخمسة الآتية : بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٧٧ ؛ مرآة العقول ، ج ٧ ، ص ٣٦ ؛ تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٤٦ ؛ تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٩٣ ؛ وتفسير درّ المنثور ، ج ٣ ، ص ١٤١ ، وما بعدها.

٩٢

بوضوح ويتقبّلها ، فهو حينما يشاهد ـ مثلاً ـ باقة من الورد الجميل ذات عطر زكيّ يقرّ بجمالها ، دونما حاجة إلى إقامة الدليل أبداً ، ويقول بأنّها جميلة حقّاً ولا تحتاج إلى دليل.

والفهم الفطري في مجال المعرفة الإلهيّة من هذا القبيل ، فالإنسان حينما يتدبّر من أعماق روحه يبصر نور الحقّ ويسمع نداءه بقلبه ، يدعوه إلى مبدأ العلم والقدرة التي لا مثيل لها في عالم الوجود ، مبدأ الكمال المطلق ومطلق الكمال ، وهو في الفهم الوجداني ـ كما في جمال الورد ـ لا يشعر بحاجة إلى إقامة الدليل.

* * *

٣ ـ شواهد حيّة على فطرية الإيمان بالله

ربّما يقال بأنّ هذه كلّها ادّعاءات ولا سبيل لإثبات مثل هذه الفطرة في المعرفة الإلهيّة ، فمن الممكن أن أدّعي بأنّي أشعر بهذا الإحساس في قلبي أي من أعماق روحي ، ولكن كيف أقنع شخصاً يرفض هذا الكلام؟ لدينا شواهد كثيرة بإمكانها إثبات فطرية المعرفة الإلهيّة بشكل واضح جدّاً ، بنحو يفحم المنكرين ، ويمكن تلخيصها في أقسام خمسة :

أ) الحقائق التاريخية

إنّ الحقائق التاريخية التي تمّت دراستها من قِبَل أقدم المؤرّخين في العالم تدلّ على عدم وجود دين لدى الأقوام السابقة ، بل كان كلّ قوم يؤمنون بمبدأ العلم والقدرة في عالم الوجود ويعبدونه ، ولو سلّمنا بوجود حالات نادرة في هذا الأمر ، فإنّ هذه القضية لا تضرّ بالأصل العام الذي يحكم بأنّ المجتمعات البشرية كلّها كانت دائماً على طريق عبادة الله (كل قاعدة كليّة لها استثناءات نادرة).

المؤرّخ الغربي الشهير (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة) يُقرّ بهذه الحقيقة بعد الإشارة إلى بعض الموارد في الإلحاد الديني ويقول : «إلى جانب هذه القضايا التي ذكرناها فإنّ الإلحاط الديني من الحالات النادرة ، وهذا الإعتقاد القديم بأنّ التديّن حالة بشرية عامّة يتطابق مع الحقيقة ...».

٩٣

«تعتبر هذه القضيّة من القضايا التاريخية والنفسية الأساسية لدى الفيلسوف ، فهو لا يقول بأنّ الأديان مملوءة باللغو والباطل بل يلتفت إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الدين كان مع التاريخ منذ أقدم العصور» (١).

ويقول في تعبير آخر بهذا الشأن : «أين تكمن التقوى التي لا تفارق قلب الإنسان أبداً؟» (٢).

كما يقول في كتابه (دروس التاريخ) وبتعبير ساخط ومتألّم : «للدين مائة روح ، كلّما تقتله فإنّه يسترجع الحياة مرّة اخرى!» (٣).

ولو كان الإيمان بالله والدين ناشئاً عن تقليد أو تلقين أو دعاية من قبل الآخرين لما كان عاماً وشاملاً بهذا الحجم ولما استمرّ طيلة التاريخ ، وهذا أفضل دليل على أنّه أمر فطري.

ب) الآثار التاريخية

إنَّ الآثار المتبقّية من عصور ما قبل التاريخ (أي ما قبل اختراع الخطّ وكتابة أحوال الإنسان) تدلّ على أنّ البشر ما قبل التاريخ كانوا يعتقدون بالدين ويؤمنون بالله والمعاد والحياة بعد الموت ، بدليل أنّهم كانوا يدفنون الأشياء التي يحبّونها معهم كي يستفيدوا منها بعد الموت! كما أنّ تحنيط أجساد الأموات حفظاً لها من الإندثار ، وبناء المقابر نظير (أهرام مصر) لتبقى أزماناً متمادية دليل على إيمان الأسلاف بالمبدأ والمعاد.

صحيح أنّ هذه الأعمال تدلّ على اقتران إيمانهم الديني بخرافات كثيرة إلّاأنّها دليل على أنّ الإيمان الديني في مراحل ما قبل التاريخ لا يمكن إنكاره.

ج) الدراسات النفسية واكتشافات علماء النفس

إنّ الأبعاد الروحية للإنسان وميوله الأساسية هي أيضاً دليل واضح على فطرية العقائد

__________________

(١) قصة الحضارة ، ويل ديورانت ، ج ١ ، ص ٨٧.

(٢) المصدر السابق ، ص ٨٩.

(٣) الفطرة للشهيد المطهّري ، ص ١٥٣.

٩٤

الدينية ، وهي أربعة ميولات سامية وأصيلة عبّر عنها بعض علماء النفس بأنّها الأبعاد الأربعة لروح الإنسان وتشمل : (١ ـ حبّ العلم ، ٢ ـ حبّ الجمال ، ٣ ـ حبّ الخير ، ٤ ـ حبّ الدين) وتمثّل شاهداً حيّاً على هذا الأمر (١).

وقد اعتبرها بعض العلماء خمسة أبعاد هي : (١ ـ مقولة البحث عن الحقيقة ، ٢ ـ مقولة الخير الأخلاقية ، ٣ ـ مقولة الجمال ، ٤ ـ مقولة الإبداع ، ٥ ـ مقولة العشق والعبادة) (٢).

ويبدو أنّ مقولة الإبداع لا تنفكّ عن مقولة البحث عن الحقيقة.

على أيّة حال فإنّ حبّ العلم يوجِد في الإنسان ميلاً شديداً نحو العلم وفهم أسرار عالم الوجود ، وهذا الإحساس يشمل الامور المؤثّرة وغيرها في حياته.

ونريد أن نعلم كيف كانت الدنيا قبل مليار عام وكيف ستكون بعد مليار عام؟ دون أن تكون لهذه الامور في فهمها على الحياة الفردية والاجتماعية تأثيرات عملية ، فهذا الحسّ هو السبب في ظهور العلوم والمعارف.

إنَّ الجمال الذي يشعر به كلّ إنسان في أعماقه هو الذي يدفعه إلى الإبداع وهو المصدر الأساس لكلّ الفنون.

وإنَّ حبّ الخير هو السبب في ظهور الأخلاق والإلتزام في الإنسان تجاه المباديء من قبيل العدل ، الحرية ، الصدق ، وأمثالها ، ومن الممكن أن لا يلتزم كثير بهذه المباديء عمليّاً غير أنّه لا ريب في ارتياح قلوبهم لها.

البعد الرابع لروح الإنسان والمعبّر عنه أحياناً بالميل نحو الكمال المطلق أو البعد المقدّس والإلهي هو الذي يدفع الإنسان نحو الدين ، وهو يؤمن بوجود ذلك المُبديء العظيم بدون حاجة إلى دليل خاصّ ، ويمكن أن يقترن هذا الإيمان الديني بألوان من الخرافات وينتهي بعبارة الأصنام والشمس والقمر ، غير أنّ بحثنا يدور حول الأساس فيه.

__________________

(١) راجع مقالة (كوونتايم) في كتاب (الحسّ الديني أو البعد الرابع لروح الإنسان).

(٢) الفطرة ، للشهيد المطهّري ، ص ٦٤.

٩٥

د) فشل الدعاية ضدّ الدّين

نحن نعلم بأنّ دعايات شديدة لا مثيل لها من حيث السعة شُنّت ضدّ الدين في القرون الأخيرة وخاصّة في الغرب بالاستفادة من الأساليب والوسائل المختلفة.

وكانت بداياتها في مرحلة النهضة العلمية في اوربا (رنسانس) وفيها تحرّرت المحافل العلمية والسياسية من ضغوط الكنيسة وطغى التيار المعارض للدين (كان الدين المسيحي هو السائد وقتئذٍ في اوربا) إلى درجة تُطرح فيها الأفكار الملحدة في كلّ مكان واستغلَّوا مكانة الفلاسفة وعلماء العلوم الطبيعية بشكل خاصّ لرفض الاسس الدينية كلّها حتّى فقدت الكنيسة مكانتها المرموقة ، وانعزل رجال الدين في اوربا وأصبح الإيمان بوجود الله والمعجزات والمعاد والكتب السماوية في عداد الخرافات.

وغدا من المسلّمات لدى كثير منهم أنَّ البشرية مرّت بمراحل أربع هي : (مرحلة الأساطير ، مرحلة الدين ، مرحلة الفلسفة ، ومرحلة العلم) وحسب هذا التقسيم يكون الدين قد انقرض في مرحلة سابقة!

والعجيب أنّ كتب علم الإجتماع الحديثة التي تمثّل الصورة المتكاملة لعلم الإجتماع السائد آنذاك تفترض هذه القضيّة من المسلّمات ، وهي أنّ الدين يمثل عاملاً طبيعيّاً يتردّد بين الجهل والخوف والمتطلّبات الاجتماعية والامور الاقتصادية ، فهناك اختلاف بصددها!

صحيح أنّ السلطة الدينية الحاكمة (أي الكنيسة) في القرون الوسطى هي التي يجب أن تدفع الثمن بسبب استبدادها وظلمها وتعاملها السيّ مع الناس بصورة عامّة وعلماء الطبيعة بصورة خاصّة ، إضافةً إلى اهتمام الكنيسة بالشكليات والمظاهر وبالامور التي لا تستحقّ الإهتمام ونسيان المحرومين من طبقات المجتمع ، لكن العيب في هذا الأمر هو أنّ الكلام لم يكن عن البابا والكنيسة فحسب بل عن المذاهب في العالم كلّها.

وقد دخل (الشيوعيون) كغيرهم الميدان ليقضوا على الدين بكلّ ما يمتلكون من قوّة ، وسخّروا جميع الأجهزة الإعلامية وأفكار فلاسفتهم من أجل ذلك وسَعَوْا سعيهم لإظهار الدين وكأنّه افيون الشعوب!

٩٦

بيد أنّا نشهد أنّ هذه التيارات العاتية ضدّ الدين لم توفّق لاجتثاث الجذور الدينية المغروسة في القلوب والقضاء على النشاط الديني ، وها نحن اليوم نرى بامّ أعيننا انتشار الوعي الديني بشكل واسع من جديد حتّى في البلدان الشيوعية ، والأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام تحكي عن الرعب المتزايد الذي يعيشه الحكّام في هذه المناطق إزاء الميول الدينية وخاصّة الإسلامية ، كما نلاحظ في الأقطار الشيوعية ـ التي تبذل محاولات يائسة وفاشلة للقضاء على الدين ـ ظهور حركات تطالب بانتشار الدين.

هذه الحقائق تدلّ بصورة واضحة على تجذّر الدين في أعماق (الفطرة) البشرية ، وبذلك استطاع أن يواجه التيارات الإعلامية المعارضة العاتية ولولاها لانقرض تماماً.

ه) التجارب الشخصية في الأزمات

إنَّ أغلب الناس جرّبوا هذه الحقيقة في حياتهم وهي : أنّ الإنسان حينما يواجه مشكلات قاتلة ، وشدائد الحياة الصعبة ، ويُبتلى بدوّامات البلاء وحينما توصد بوجهه الأبواب ويبلغ السيل الزبى ، ففي هذه اللحظات المضطربة يورق أمل في أعماق روحه ، فيتجه إلى الله سبحانه القادر على حلّ المشكلات كلّها فيتعلّق به ويستمدّ العون منه.

ولا يستثنى من ذلك حتّى الأشخاص الذين ليس لديهم ميول دينية حيث تصدر منهم ردود فعل روحية عند تعرّضهم للأمراض الخطرة والهزائم الماحقة وهذه شواهد على الحقيقة التي تتحدّث عنها الآيات القرآنية السابقة حول فطرية المعرفة الإلهيّة.

نعم ، في زوايا قلب الإنسان وأعماق روحه نداء لطيف مليء بالرحمة وقوي وبيّن يدعوه إلى الحقيقة الكبرى ، وهي (الله) القادر والمتعالي والعالم ، وبحثنا يدور حول الإيمان بتلك الحقيقة لا عن تسميتها.

و) شهادة العلماء على فطرية الدين

ليست قضيّة فطرة (معرفة الله) قضيّة مطروحة في القرآن الكريم والروايات الإسلامية

٩٧

فحسب ، بل إنّ كلمات العلماء والفلاسفة من غير المسلمين والشعراء عامرة بها :

فمثلاً ، يقول اينشتاين في حديث طويل : «إنّ العقيدة والدين موجودان في الجميع دون استثناء ... إنّي اسمّيه (الشعور الديني للخلق) .. في هذا الدين يشعر الإنسان الصغير بآمال وأهداف البشرية العظيمة والجلال الكامن خلف هذه القضايا والظواهر، إنّه يرى وجوده كسجن، وكأنّه يريد التحرّر من سجن الجسم ليدرك الوجود كلّه كحقيقة واحدة» (١).

ويقول العالم الشهير باسكال :

«للقلب أدلّة لا يدركها العقل» (٢).

ويقول ويليم جيمز :

«إنّي أقرّ تماماً بأنّ القلب هو المصدر للحياة الدينية ، كما اقرّ بأنّ القواعد الفلسفية تشابه موضوعاً مترجماً كُتب نصّه بلغة اخرى» (٣).

ويقول ماكس مولر :

«لقد خضع أسلافنا لله في عصور لم يكونوا قادرين فيها حتّى على إطلاق اسم على الله» (٤).

وهو القائل في موضع آخر : «خلافاً لما تقوله النظرية الشهيرة بأنّ الدين ظهر أوّلاً بعبادة الطبيعة والأشياء والأصنام ثمّ وصل إلى عبادة الله الواحد ، فلقد أثبت علم الآثار بأنّ عبادة الله الواحد كانت سائدة منذ أقدم الأيّام» (٥).

ويقول المؤرّخ الشهير (بلوتارك) :

«لو لاحظتم العالم فإنّكم ستجدون أماكن كثيرة لا عمران فيها ولا علم وصناعة وسياسة ودولة ، ولكنّكم لا تجدون موضعاً ليس فيه الله» (٦).

__________________

(١) العالم الذي أراه ، ص ٥٣ (بتلخيص).

(٢) مسيرة الحكمة في اوربا ، ج ٢ ، ص ١٤.

(٣) المصدر السابق ، ص ٣٢١.

(٤) مقدّمة الدعاء ، ص ٣١.

(٥) الفطرة للشهيد المطهّري ، ص ١٤٨.

(٦) مقدّمة الدعاء ، ص ٣١.

٩٨

ويقول صموئيل كينغ في كتاب (علم الإجتماع) : «كان لجميع المجتمعات البشرية لون من الدين وإن قام علماء الأنساب والرحالة والمبشّرون (المسيحيون) الأوائل بذكر أسماء مجموعات لا تدين بدين أو مذهب، ولكن أقوالهم ـ كما عُلم فيما بعد ـ لم يكن لها أساس من الصحّة فأحكامهم ناشئة فقط من ظنّهم بأنّ أديان اولئك يجب أن تشابه ديننا» (١).

ونختم هذا البحث بكلام ل (ويل ديورانت) المؤرّخ المعاصر الشهير حيث قال : «إن لم نتصوّر للأديان جذوراً في عصر ما قبل التاريخ ، فإنّنا لا يمكن أن نتعرّف على حقيقتها في التاريخ» (٢).

* * *

٤ ـ الفطرة في الروايات الإسلامية

إنّ قضيّة فطرية التوحيد في العبادة بشكل خاصّ ، أو الدين والمذهب بصورة عامّة ، أمر فطري ذو انعكاس كبير في الروايات الإسلامية بالرغم من اختلاف التعبير فيها ، ففي بعضها عرض لقضيّة التوحيد وتوحيد العبادة كأمر فطري كما في الحديث الآتي ، حيث سأل أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام ـ وهو علاء بن فضيل ـ عن الآية الكريمة : (فطرتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ، فأجاب عليه‌السلام : «التوحيد» (٣).

كما ورد هذا المضمون في أحاديث عديدة اخرى (٤).

وفي القسم الآخر من هذه الأحاديث اعتبرت (معرفة الله) أمراً فطرياً ، كالحديث الذي يرويه زرارة عن الإمام الباقر عليه‌السلام حينما سأله عن تفسير الآية : (حُنَفاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ) : أهي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله؟ قال عليه‌السلام : فطرهم الله على المعرفة».

__________________

(١) علم الإجتماع لصموئيل كينغ ، ص ١٩١.

(٢) قصّة الحضارة ، ج ١ ، ص ٨٨.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٧٧ ، ح ٤.

(٤) المصدر السابق ، ح ٥ ، ٦ ، ٨ ، ١٠.

٩٩

وقال : قال رسول الله عليه‌السلام : كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ الله عزوجل خالقه» (١).

وقد ورد هذا المضمون أيضاً في أحاديث اخرى (٢).

وبعض الروايات تعرّف (الاصول الإسلامية) كلّها أمراً فطرياً ، كما نقرأ في الحديث النبوي الشريف : كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه(٣).

وقد نقلت النصوص الشيعية والسنّية هذا الحديث بكثرة وهو من الأحاديث الشهيرة جدّاً.

ويلاحظ نظير هذا المضمون في روايات اخرى وفيها تأكيد على قضيّة التوحيد ونبوّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وولاية علي عليه‌السلام (٤).

وختاماً فإنّ بعض الروايات تؤكّد على قضيّة الولاية ، كما نقرأ الحديث الذي يرويه أبو بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام في آية البحث حيث عبّر عن المقصود في الآية بأنّه : «الولاية» (٥).

وواضح أنّ هذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها أبداً ، فالاصول الدينية ـ في الحقيقة ـ توجد في الفطرة البشرية بصورة مركّزة ، غير أنّ بعض الروايات تشير إليها كلّها وبعضها الآخر يشير إلى قسم منها.

وفي الحقيقة فإنّ فطرة التوحيد لا يمكن أن تنفصل عن اصول العقيدة لأنّ الله الحكيم لم يخلق العباد عبثاً ، ومن البديهي أنّه وضع تكاليف ومناهج لتكامل العباد يجب إبلاغها عن طريق الرسل ، ويحفظها أوصياؤهم وتنفذ عن طريق الولاية وتشكيل الحكومة الإسلامية وتظهر نتائجها في عالم الآخرة.

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٣ ، ص ٢٧٩ ، ح ١١.

(٢) المصدر السابق ، ح ١٢ ، ١٣.

(٣) غوالي اللآلي ، طبقاً لبحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٨١ ، ح ٢٢.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٨٠ ، ح ٣ ، ٩ ، ١٨.

(٥) المصدر السابق ، ح ٢.

١٠٠