نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

ويعتقد البعض الآخر أنّ الآية ناظرة إلى حقّانية القرآن الكريم ، ونبوّة الرسل ، ويقولون : «أولم يكف ربّك شاهداً أنّ القرآن من عند الله» (١).

ويبدو أنّ التفاسير الثلاثة الاولى من بين التفاسير الخمسة هذه والتي ترى أنّ الآية ناظرة إلى قضيّة التوحيد وإثبات وجود الله هي أكثر صحّة، ويبدو التفسير الأوّل منها أكثر انسجاماً مع معاني الألفاظ الواردة في الآية، وبذلك يكون شاهداً على (برهان الصدّيقين).

وننهي هذا الكلام بحديث معتبر للإمام الصادق عليه‌السلام.

عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إنّي ناظرت قوماً فقلت لهم : إنّ الله جلّ جلاله أجلّ وأعزّ وأكرم من أن يُعرف بخلقه بل العباد يُعرفون بالله ، فقال : «رحمك الله» (٢).

ومن الطبيعي أنّ هذا الكلام لا يتنافى أبداً مع استخدام برهان النظم وأدلّة التوحيد وعظمة الله في موجودات العالم ، في الحقيقة فإنّ برهان النظم في مستوى ، وهذا البرهان (برهان الصدّيقين) هو في مستوى أعلى وأرفع.

بزوغ الشمس دليل عليها :

في الآية الثانية يدور الحديث حول شهادة الله سبحانه على وحدانيته ثمّ شهادة الملائكة والعلماء حيث تقول : (شَهِدَ اللهُ انَّهُ لَاإِله إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَاولُوا العِلْمِ) ، وتضيف : أنّ ذلك يكون مع قيام الله سبحانه بالعدل وإدارة العالم على محور العدل : (قَائِمَاً بِالقِسطِ).

وبما أنّ القيام بالقسط والعدل يحتاج إلى أصلين هما : القدرة والعلم لكي تتحدّد موازين العدل بالعلم أوّلاً وتطبّق بالقدرة ثانياً ، أضافت الآية في ذيلها : (لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ).

والمراد من شهادة الملائكة واولو العلم واضح ، ولكن ما هو المراد من شهادة الله؟

هناك خلاف بين المفسّرين ، حيث اعتقد البعض أنّ المراد هو الشهادة (الفعلية)

__________________

(١) راجع تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠.

(٢) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٨٦ ، باب أنّه لا يعرف إلّابه ، ح ٣.

٦١

و (القولية) أي أنّه شهد على وحدانيته بعرض آيات عظمته في عالم الوجود وفي الآفاق وفي الأنفس من جهة ، وكذلك من خلال آيات التوحيد النازلة في الكتب السماوية من جهة اخرى.

في حين ذكر بعض المفسرين الشهادة القولية وحدها ، وذكر بعض آخر الشهادة الفعلية ، بيد أنّ مفهوم الآية يتضمّن ـ بالتأكيد ـ شهادة أعلى وأرفع من هذه ، بل هي أهمّ مصداق للشهادة وهي أنّ ذاته شاهدة على ذاته كمصداق لما ورد : «يامن دلّ على ذاته بذاته» انّه سبحانه أفضل دليل على وجوده وهو الهدف الذي يقصده برهان الصدّيقين.

ولا مانع من اجتماع المعاني الثلاثة (الشهادة الذاتية والفعلية والقولية) في مفهوم الآية. وقد استنتج البعض من عبارة (قائماً بالقسط) بأنّ آيات العدل والنظم والتقدير في عالم المخلوقات هي مصداق بيّن لشهادته سبحانه وتعالى على وحدانيته ، وهو استدلال جيّد (ولا ضير في انفصال الملائكة عن (اولو العلم) كما يشير تفسير الميزان إلى هذا المعنى) ، كما لا يمنع من عمومية الآية وسعة مفهومها وشمول ما قلنا.

وكما ذكرنا من قبل فإنّ القائم بالعدل يحتاج إلى العلم والقدرة ، وهاتان الصفتان موجودتان في ذاته المقدّسة واتّصاف الباري بـ (العزيز الحكيم) في ذيل الآية إشارة إلى هذا المعنى الدقيق.

* * *

إحاطة الوجود الإلهي :

الآية الثالثة ـ بعد الإشارة إلى الجيوش الجرّارة التي واجهت أنبياء الله وحاربتهم وذكر نموذجين متميزين أحدهما في العصور القديمة وهم (قوم ثمود) وثانيهما في العصور المتأخّرة وهم (قوم فرعون) : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيب).

التعبير بـ (في) ـ ويستعمل عادةً لبيان الظرف والمظروف ـ تعبير جميل وفيه إشارة إلى أنّ الكفّار غارقون في تكذيب الحقائق ، والمراد من الكفّار هم الكفّار المعاندون في عصر

٦٢

النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كانوا ينكرون وحدانية الله سبحانه ونبوّة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعاد كذلك ، ولا يستبعد أن تشمل الآية هؤلاء جميعاً ، لأنّ قوم فرعون وثمود الذين ذُكروا من قبل كانوا كذلك ، كما أنّ استعمال (تكذيب) على صورة نكرة والذي يدلُ في مثل هذه الحوادث على الأهميّة والعظمة هو شاهد آخر على هذا المعنى.

ثمّ تقول الآية : (وَاللهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌ).

التعبير بـ (ورائهم) إشارة إلى أنّهم محاطون من كلّ جهة ، والله محيط من كلّ جهة وجانب ، وقد وقع كلام بين المفسّرين بشأن المراد من (الإحاطة الإلهيّة) حيث احتمل البعض أنّها إحاطة الله العلمية على أعمالهم ، واعتقد البعض الآخر أنّها إحاطة القدرة حيث الجميع في قبضته ، وليس لهم القدرة على الفرار من عقابه ، وذهب البعض الآخر إلى أنّها الإحاطة العلمية ، وإحاطة القدرة معاً.

بيدا أنّ مفهوم الآية أوسع ممّا ذكر حيث يشمل إحاطته الوجودية أيضاً ، نعم ، لله تعالى إحاطة وجودية لجميع الممكنات والكائنات ، وليست هذه الإحاطة ـ طبعاً ـ من قبيل إحاطة الظرف بالمظروف (كإحاطة الحائط بالبيت) وليست من قبيل إحاطة الكلّ بالجزء ، بل هي (الإحاطة القيومية) ، أي أنّه سبحانه وجود مستقلّ وقائم بالذات والموجودات الاخرى قائمة به وتابعة له.

وهذا المعنى يفتح الطريق أمام برهان الصدّيقين في مسألة إثبات وجود الله ، وسنقدّم شرحاً لذلك في المستقبل.

هو الأوّل والآخر :

تقول الآية الرابعة ـ وهي من الآيات الاولى من سورة الحديد وفيها ذكر لصفات الله سبحانه بشكل عميق وواسع : (هُوَ الأَوَّلُ وَالاخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَليمٌ).

إنّ هذه الصفات الخمس التي اجتمعت في الآية بيان جلي لذاته المقدّسة اللامتناهية.

٦٣

هو (الأوّل) أي هو الأزلي دون أن تكون له بداية ، وهو (الآخر) أي الأبدي الذي لا نهاية له ، وهو (الظاهر) أي البيّن دون أن يكون خافياً على أحد ، وهو (الباطن) أي أنّ ذاته ليست ظاهرة لأحد (لعدم قدرة الموجودات المحدودة كالإنسان على إدراك الحقيقة اللامتناهية) دون أن يكون محجوباً عن عباده.

ولذا فانّه سبحانه عالم بكلّ شيء لأنّه موجود في البداية ، وسوف يبقى حتّى النهاية وحاضر في ظاهر العالم وباطنه.

وهناك تفسيرات متعدّدة ذكرها المفسّرون في تفسير الصفات الأربع : (الأوّل) و (الآخر) و (الظاهر) و (الباطن) إلّاأنّها غير متنافية ويمكن جمعها في مفهوم الآية.

فتارةً قالوا : إنّه الأوّل قبل وجود أي شيء وهو الآخر بعد هلاك كلّ شيء ، ودلائل وجوده ظاهرة ولا يمكن إدراك باطن ذاته.

وتارةً قالوا : هو الأوّل ببرِّه حيث هدانا ، والآخر بعفوه حيث يقبل التوبة ، والظاهر بإحسانه وتوفيقه عند طاعته والباطن في ستر عيوب العباد عند المعصية (الأوّل ببرّه إذ هداك والآخر بعفوه إذْ قبل توبتك ، والظاهر بإحسانه وتوفيقه إذا أطعته ، والباطن بستره إذا عصيته) (١) وقد ورد أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول في دعائه : «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء» (٢).

على أيّة حال ، فإنّ الآية الكريمة أعلاه ، في عين إثباتها بطلان أفكار الصوفية في استقلالية الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق ، فإنّها تبيّن حقيقة وهي أنّ الذات الإلهيّة المقدّسة مطلقة ولا نهاية ولا حدود لها.

أي هو وجود بلا عدم ، ولو أنّا تدبّرنا حقيقة الوجود جيّداً ونزهناه من العدم فسوف نصل إلى ذاته المقدّسة ، وهذا جوهر برهان الصدّيقين وروحه.

__________________

(١) راجع تفاسير مجمع البيان ؛ الميزان ؛ الكبير ؛ روح البيان.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٠٦.

٦٤

ومن البديهي أنّ الموجود المحدود يكون موضعه إمّا في البداية أو النهاية ، وإمّا في ظاهر الأشياء أو باطنها ، واتّصاف الله سبحانه بأنّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن هو لكونه وجوداً غير متناه ولا محدود.

هو نور العالم :

في الآية الخامسة والأخيرة نقرأ في جملة قصيرة وغزيرة المعنى :

(اللهُ نُورُ السَماوَاتِ وَالأَرض).

ويعقّب هذه العبارة تشبيه جميل وجذّاب لهذا النور الإلهي يشكّل ميداناً واسعاً لبحوث المفسّرين الأعلام للقرآن ، وبما أنّ الشاهد في هذا البحث هو العبارة الاولى ، فإنّا نشرع بتبيانها وشرحها :

من الطرق الهامّة في تفهيم الحقائق المعقّدة هو استعمال التشبيهات البليغة بغية تقريب الحقائق العلمية إلى الذهن بضرب الأمثلة الحسّية ، وهنا قد استفيد من هذه الطريقة (وإن كانت الأمثلة بشأن الله تعالى ناقصة لعدم وجود مثيل لذاته) ولإدراك حقيقة هذا المثال لابدّ من التدبّر في معنى النور وصفاته وخصائصه وبركاته ، ولا ريب في أنّ النور من أجمل الموجودات المادية وألطفها وأكثرها بركة ، وتنتشر منه البركات والجمال في عالم المادّة.

فنور الشمس منبع الحياة والسرّ في بقاء الموجودات الحيّة والعنصر الفاعل في نمو النبات والزهور وجميع الأحياء.

النور هو المصدر الأساس للطاقات ، نظير حركة الرياح ، وهطول الأمطار ، والعنصر الأساس في وجود المحروقات (البترول والفحم الحجري) ولو تبدّل نور الشمس إلى ظلام فسوف تتوقّف كلّ حركة في العالم.

والنور واسطة لمشاهدة الموجودات المختلفة والمظهر لها ، هذا وانّ حركة الأمواج والذرّات الضوئية هي أسرع الحركات المتصوّرة في عالم المادّة ، حيث تبلغ سرعتها (٣٠٠ ألف كم) في الثانية ، وهذا يعني أنّ النور في طرفه عين يدور حول الأرض سبع مرّات.

٦٥

وأخيراً فإنّ نور الشمس أفضل عامل على تلطيف البيئة والقضاء على مختلف أنواع الجراثيم الضارّة وإزالة الموانع عن طريق الحياة البشرية ، وبملاحظة هذه الخصائص التي يتّصف بها النور المحسوس يتّضح عمق تشبيه ذات الله المقدّسة بالنور.

نعم ، إنّ وجوده تعالى هو النور الذي يظهر الوجودات ويحفظها ، ومنه تنبع الحياة المعنوية والمادية ، ويصدر كلّ جمال في العالم ، وكلّ حركة نحو الكمال تنبع من وجوده المقدّس ، وكلّ هداية تتحقّق برعايته.

وهو الذي يرفع الموانع عن طريق عباده ، وهو الهادي للإنسان في طريق الكمال والقرب لذاته ، وبكلمة واحدة كلّ ما في العالم قائم بذاته المقدّسة.

وهناك سؤال يطرح نفسه وهو : هل النور الذي يُظهر الأشياء يحتاج إلى مظهر؟ وهل الموجودات التي يُظهرها النور تكون أكثر ظهوراً من النور نفسه لتكون معرفة له؟

وبتعبير أدق : ما هي الوسيلة التي يمكن مشاهدة النور بها غير النور نفسه؟ وهذا هو الأساس في برهان الصدّيقين.

وقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات في تفسير هذه الآية لا تنافي بينها ، نظير الموارد الكثيرة الاخرى ، ويمكن الجمع بينها ، أي أنّ كلّ مفسّر منهم لاحظ ـ في الحقيقة ـ الآية من زاوية معيّنة.

وقد قال الكثير بأنّ جملة : (اللهُ نُورُ السَمَاواتِ وَالأَرض) تعني (المنوّر للسماوات والأرض).

وقد فسّرها البعض الآخر بـ (الهادي لمن في السماوات والأرض) تبعاً للرواية التي وردت عن الإمام الرضا عليه‌السلام في هذا الشأن حيث قال :

«هادٍ لأهل الأرض» أو «هادٍ لأهل السماوات وهادٍ لأهل الأرض» (١).

وفسّرها البعض الآخر بمعنى الطاهر المنزَّه من كلّ عيب في جميع السماوات والأرض.

وفسرها آخرون بمعنى المُدبر لشؤون السماوات والأرض.

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ١٣٣ ، ح ١ و ٢ ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦٠٣.

٦٦

وفُسّرت بمعنى الإضاءة بواسطة الشمس والقمر والنجوم ، وبواسطة الأنبياء والملائكة والعلماء والمفكّرين.

وفسّرها بعض بمعنى المنظّم للعالم العلوي والسفلي.

وفُسّرت بمعنى المفيض بالجمال على الكونين.

وفُسّرت بمعنى خالق السماوات والأرض.

وكما أسلفنا فإنّ هذه المعاني موجودة في الآية الكريمة : (اللهُ نُورُ السَّمَاواتِ وَالأَرض) ، بل إنّ الآية تنطق بما هو أعلى وأوسع ، حيث إنّ النور نيّر ذاتاً وهو الدليل على وجوده ولا يحتاج إلى مظهر آخر ، لأنّ الآخرين ظاهرون بأجمعهم ببركته وكما قال العرفاء :

«كفى بك جهلاً بأن تهجر الشمس الساطعة وتبحث في الوديان بنور الشمع ، واعلم بأنّ الكون طرّاً من شعاع الحقّ».

* * *

توضيحان

١ ـ برهان الصدّيقين في الروايات الإسلامية والأدعية

هناك طريق آخر لمعرفة ذات الله المقدّسة أقصر وأدقّ من البحث في موجودات العالم ، وهو معرفة الذات المقدّسة بذاتها ، أي الوصول منه إليه ، وقد ورد هذا المضمون بشكل واسع في الروايات الإسلامية وأدعية المعصومين ويشكّل هذا المضمون جوهر برهان الصدّيقين.

ولا نقول أنّ لا يمكن التعرّف على ذاته عن طريق الموجودات في العالم ، كما لا نقول بأنّ آيات (الآفاق والأنفس) ليست علائم على علمه وقدرته وعظمته فإنّ هذا المعنى جلي في القرآن كلّه ، ولكن نقول إنّ ثمّة طريق أرقى وأعلى وألطف وهو البحث في أصل الوجود والوصول إليه عن طريق ذاته المقدّسة ، وهذا الطريق هو طريق الخواص والعرفاء الحقيقيين غالباً ، فمثلاً :

١ ـ نقرأ في دعاء الصباح الشهير : «يامن دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته».

٦٧

٢ ـ ونقرأ في دعاء أبي حمزة الثمالي المعروف : «بك عرفتك وأنت دللتني عليك».

٣ ـ وقد ورد في دعاء عرفة أيضاً : «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك)؟!

٤ ـ وورد في الدعاء نفسه : «متى غبت ـ حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بعدت ـ حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تراك عليها رقيباً».

٥ ـ وقد ورد في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام وإسمه منصور بن حازم قال له : إنّي دخلت في مناظرة ـ مع جماعة وقلت لهم : «إنّ الله أجل وأكرم من أن يُعرف بخلقه بل العباد يعرفون بالله» ، فقال له الإمام الصادق عليه‌السلام مصدّقاً إيّاه : «رحمك الله» (١).

٦ ـ وقد ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين قوله : «اعرفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان» (٢).

٧ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حينما سأله أحدهم : بم عرفت ربّك؟

فأجاب : «بما عرّفني نفسه» (٣).

أجل ، إنّه معرّف ذاته (شروق الشمس دليل على الشمس) وذاته المقدّسة دليل ذاته دون الحاجة إلى معرّف ، وخفاؤه على البعض بسبب شدّة ظهوره ، كالنور الذي لا يقدر الإنسان على النظر إليه لو تجاوز حدّه ، وكما قيل :

نور وجهك الحاجب عن ظهورك.

* * *

٢ ـ إيضاح برهان الصدّيقين

من المناسب أن نفصّل هذا البرهان كما يراه الفلاسفة الإسلاميون ، وبسبب تعقيد البحث

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٨٦ ، باب أنّه لا يعرف إلّابه ، ح ٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٨٥ ، باب انّه لا يعرف إلّابه ، ح ١.

(٣) المصدر السابق ، ح ٢.

٦٨

فإنّا سوف نبيّنه قدر الإمكان بتعبيرات واضحة دون استعمال الإصطلاحات الفلسفية.

ويجب الانتباه قبل كلّ شيء إلى أنّ مزايا برهان الصدّيقين تتمثّل في عدم التطرّق إلى الدور والتسلسل أو معرفة المؤثّر من خلال الأثر ، ومن المخلوق إلى الخالق ، ومن الممكن إلى الواجب في إثبات وجود الله ، بل هو تحليل للوجود نفسه وحقيقة الوجود ، وبذلك نصل إليه من خلال ذاته ، وهذا هو المهمّ (وان لوحظ وجود خلط في عبارات البعض بين هذا الاستدلال واستدلال الوجوب والإمكان وبرهان العلّة والمعلول ـ كما بيّناه في السابق ـ ووضعوا بعضها موضع البعض الآخر) (١).

وقد ذكرت تعاريف مختلفة لبرهان الصدّيقين منها : (تقدير صدر المتألّهين في الأسفار ، ثمّ المحقّق السبزواري في حاشية الأسفار ، ثمّ المرحوم العلّامة الطباطبائي في نهاية الحكمة وغيرهم في كتب اخرى) ، والبيان الأوضح والأنسب دون الرجوع إلى استعمال برهان الوجوب والإمكان ، والعلّة والمعلول وبدون الاستناد إلى مسألة الدور والتسلسل أن يقال :

إنّ حقيقة الوجود هي (العينية) في الخارج ، وبتعبير آخر هي (الواقعية) وعدم قبول العدم ، لأنّ كلّ شيء لا يتقبّل ضدّه ، وبما أنّ (العدم) ضدّ (الوجود) فحقيقة الوجود ـ إذن ـ ترفض العدم.

ومن هنا نستنتج أنّ (الوجود) ذاتاً هو (واجب الوجود) أي أزلي أبدي ، وبتعبير أخر إنّ التدبّر في حقيقة (الوجود) يرشدنا إلى أنّ (العدم) لا ينفذ إليه أبداً ، وكلّ ما لا يطاله العدم فانّه واجب الوجود (فتأمّل جيّداً).

وأمّا صدر المتألّهين ـ وهو من السابقين إلى هذا الاستدلال ـ فيقول : «واعلم أنّ الطرق إلى الله كثيرة لأنّه ذو فضائل وجهات كثيرة ، «ولكلٍّ وجهةٍ هو مولّيها» لكن بعضها أوثق وأشرف وأنور من بعض ، وأشدّ البراهين وأشرفها إليه هو الذي لا يكون في الوسط في البرهان غيره بالحقيقة ، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود وهو سبيل

__________________

(١) راجع نهاية الحكمة ، ص ٢٦٨ ، وشرح مختصر المنظومة ص ٨ و ٩ للشهيد المطهّري.

٦٩

(الصدّيقين) الذين يستشهدون به (تعالى) عليه ، ثمّ يستشهدون بذاته على صفاته وبصفاته على أفعاله ، واحداً بعد واحد ، وغير هؤلاء (كالمتكلّمين ، والطبيعيين وغيرهم) يتوسّلون إلى معرفته (تعالى) وصفاته بواسطة إعتبار أمر آخر غيره (كالإمكان للمهيّة ، والحدوث للخلق ، والحركة للجسم ، أو غير ذلك) وهي أيضاً دلائل على ذاته ، وشواهد على صفاته ، لكن هذا المنهج أحكم وأشرف.

وقد اشير في الكتاب الإلهي إلى تلك الطرق بقوله (تعالى) : (سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِى الافَاقِ وَفِى أَنفُسِهِم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ) وإلى هذه الطريقة بقوله (تعالى) : (أَوَ لَم يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ شَهِيدٌ).

ثمّ يضيف : وذلك لأنّ الربّانيين ينظرون إلى الوجود ، ويحقّقونه ويعلمون أنّه أصل كلّ شيء ، ثمّ يصلون بالنظر إليه إلى أنّه بحسب أصل حقيقته واجب الوجود ، وأمّا الإمكان والحاجة والمعلولية وغير ذلك فإنّما تلحقه لا لأجل حقيقته بما هي حقيقته ، بل لأجل نقائص وأعدام خارجة عن أصل حقيقته» (١).

وباختصار عند ملاحظة الوجود الحقيقي نجد أنّه لا يجتمع مع العدم أبداً ، ولا يسمح للعدم أن يتطرّق إليه وذلك لأنّ الوجود والعدم متقابلان ، وهكذا إذا لاحظنا العدم فإنّا نجده يطرد الوجود عن ذاته ، وعليه فإنّ حقيقة الوجود واجبة الوجود ، والعدم ممتنع الوجود.

والإشكال المهمّ الذي يتبادر إلى الذهن والذي بادر صدر المتألّهين للإجابة عنه في الأسفار هو أنّ كلّ موجود ـ وفق هذا الاستدلال ـ يجب أن يكون واجب الوجود ، لأنّ هذا الاستدلال يجري في كلّ مورد في حين نرى أنّ الممكنات حادثة وليست أزلية ولا أبدية ولا واجبة الوجود.

الإجابة : لابدّ من الإلتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ الوجودات الممكنة ليست وجودات أصيلة ، بل هي وجودات محدودة ومصحوبة بالعدم وهذا العدم ناشيء من محدوديتها ، وما

__________________

(١) راجع الأسفار ، ج ١ ، ص ١٥ (بتلخيص يسير) ، كما ورد نظير هذا المعنى في حاشية الأسفار للمحقّق السبزواري ، ج ٨ ، ص ١٤.

٧٠

يقال : إنّ الوجودات الممكنة تتركّب من شيئين فانّه يعني أنّ الوجودات الممكنة فيها نوع من العدم بسبب محدوديتها ، وعليه فإنّ الوجود الممكن ليس وجوداً أصيلاً وحقيقيّاً ، لأنّ حقيقية الوجود هي عين الواقعية ولا سبيل لأي قيد أو شرط ونقصان إليها ، ولهذا يكون الوجود الأصيل واجب الوجود حتماً.

ونؤكد ـ بأنّ الوصول إلى حقيقة هذا الاستدلال ـ بالرغم من هذه الإيضاحات ـ يحتاج إلى رياضة فكرية ودقّة وتعمّق كبير (فتأمل جيّداً).

* * *

٧١
٧٢

٦ ـ الطريق الباطني لمعرفة الله (الفطرة)

تمهيد :

(الإدراكات العقلية) ـ كما نعلم ـ تشكّل جزءً من المضمون الروحي لدى الإنسان ، أي أنّ الإنسان لا يصل إلى كلّ شيء عن طريق الدليل العقلي ، بل إنّ المتطلّبات والمكتسبات الفطرية الغريزية تشكّل جزءً مهمّاً من المحتوى الروحي فيه ، حتّى أنّ الأساس في الكثير من الأدلّة العقلية قائم على هذه المكتسبات الفطرية ، في حين تنشأ المتطلّبات والمكتسبات في الحيوانات عن طريق الغريزة فقط.

وفي الحقيقة فإنّ الذين قاموا بتحديد الإنسان بالبعد العقلي لم يعرفوا تمام الأبعاد الوجودية للإنسان.

ومن المتّفق عليه أنّ طريق الباطن من الطرق المهمة في مسألة (معرفة الله) التي لها طرق لا تحصى ، والإنسان هنا يسلك أقصر الطرق ، فبدلاً من (المعرفة) يصل إلى (الوجدان) ، ومن (التفكير) إلى (الرؤية) ، وبدلاً من إعداد (المقدّمات) يصل إلى ذي المقدّمات.

إنّه طريق عظيم ، مثير للنشاط والحيوية ومريح.

وقد اعتمدت آيات قرآنية عديدة على هذا المعنى وجاءت بتعابير جميلة.

بعد هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية :

١ ـ (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لَايَعْلَمُونَ). (الروم / ٣٠)

٢ ـ (وَإذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهمُ مُّنِيبِينَ إِلَيهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهمْ يُشْرِكُونَ). (الروم / ٣٣)

٧٣

٣ ـ (فَإِذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشِركُونَ). (العنكبوت / ٦٥)

٤ ـ (هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى البَرِّ وَالبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُم فى الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ برِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْهَا رِيحٌ عاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ* فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيرِ الحَقِّ). (يونس / ٢٢ ـ ٢٣)

٥ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَليمُ). (الزخرف / ٩)

٦ ـ (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤفَكُونَ). (الزخرف / ٨٧)

٧ ـ (وَلَئِنْ سأَلْتَهمُ مَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمسَ والقَمرَ لَيقُولُنَّ اللهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ). (العنكبوت / ٦١)

٨ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّماءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمعَ والأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَىَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ). (يونس / ٣١)

٩ ـ (قُلْ لِّمَنِ الأَرضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُم تَعلَمُونَ* سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ* قُلْ مَنْ رَّبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ* سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ* قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلكُوتُ كُلِّ شَىءٍ وَهُوَ يُجيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُم تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون). (المؤمنون / ٨٤ ـ ٨٩)

١٠ ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَومَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ). (الأعراف / ١٧٢)

شرح المفردات :

«الفطرة» : من مادة (فَطْر) وتعني ـ كما أسلفنا ـ شق الشيء طولياً ، ثمّ أطلق على كلّ شق ،

٧٤

والشقّ ربّما يكون للتخريب وربّما للإصلاح ولذا يستعمل للمعنيين.

وبما أنّ (الخلق) بمثابة كشف حجاب ظلمات العدم ، فيكون أحد المعاني المهمّة لهذه المفردة هو الإيجاد والخلق ، ولنفس السبب يعطي معنى الإبداع والإختراع أيضاً.

ويطلق لفظ (الإفطار) على تناول الغذاء بعد أذان المغرب أو إبطال الصوم ، فالصوم يُعد حالة متصله ومستمرة وعند تناول المفطر فإنّ هذه الحالة تُقطع أو تُهدم ، ولهذا سميت حالة إبطال أو قطع الصوم بالإفطار.

كما يستعمل هذا اللفظ في إنبات النباتات أيضاً وذلك لانفطار الأرض أثناء خروج النباتات منها ، كما يطلق على عملية استخراج اللبن من الضرع باصبعين ، فكأنّه ينشقّ ويخرج منه اللبن.

نقل عن ابن عبّاس قوله : لم أعرف معنى (فاطر السماوات والأرض) جيّداً حتّى جاء إليّ رجلان أعرابيان يتنازعان على بئر ، فقال أحدهما لإثبات ملكيته :

أنا فطرتها بمعنى (أنا حفرتها) ، هنا أدركت أنّ (الفطر) يعني الإيجاد والإبتداء في الشيء. ويطلق على البثور التي تظهر في وجوه الشباب من البنين والبنات اسم (تقاطير) أو (تفاطير) (١).

وإذا ما لاحظنا اعتبار بعض اللغويين مفردة (فطرة) بمعنى الدين والشرع إنّما هو لوجودها في خلقة الإنسان منذ البداية كما سيأتي.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الخلق الثابت والراسخ :

الآية الاولى التي تصرّح بأنّ (الدين) هو أمر فطري وتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (٢).

__________________

(١) لسان العرب ؛ مفردات الراغب ؛ نهاية ابن الأثير ؛ ومجمع البحرين.

(٢) «حنيف» من «حنف» ويعني كلّ ميل أو انحراف ، وجاء بمعنى الميل من الضلال إلى الهدى ، ومن الباطل إلى ـ

٧٥

ومن أجل التعليل أو التشجيع على هذا الأمر تقول الآية بعد ذلك : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (١).

وبما أنّ الإنسجام والتنسيق بين (التشريع) و (التكوين) يعتبر من المسلمات حيث لا يمكن وجود أمر متأصّل في خلق الإنسان غير منسجم مع سلوكه ، فيمكن أن يكون هذا التعبير دليلاً على وجوب العمل بأصل التوحيد ونفي كلّ شرك.

وللمزيد من التأكيد تقول الآية بعد ذلك : (لَاتَبْديلَ لِخَلْقِ اللهِ).

وهذا يعني أنّ ما يتجذّر في أعماق الوجود الإنساني يستمرّ كأصل ثابت وراسخ ـ وسوف يتضح لنا بأنّ لهذه الجملة معنى غزير واعجازي ، حيث تشير الدراسات الحديثة التي يجريها المفكّرون إلى أنّ العلاقات الدينية هي من أشدّ العلاقات الإنسانية تجذّراً ورسوخاً وبقاءً على مر التاريخ.

بيد أنّ فئة جاهلة وغافلة تقوم بإفساد هذه الفطرة الطاهرة بالشرك ، ولذا فإن القرآن يؤكد على المحافظة عليها بذكر كلمة (حنيفاً) (٢).

وللمزيد من التأكيد تضيف الآية : (ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ).

كلمة «قيّم» من مادة «قيام» واستقامة بمعنى الثابت والراسخ والمستقيم كما جاءت بمعنى القائم بشؤون المعاد والمعاش في الإنسان (٣).

وبما أنّ الكثير من الناس يغفلون عن هذه الحقيقة ويبتلون بأنواع من عبادة الأصنام ، لذا فقد ورد في آخر الآية قوله سبحانه وتعالى : (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ) ، والجدير بالذكر أنّ الفطرة التي جاءت في الآية لا تشمل التوحيد فقط بل تشمل الدين بجميع أُصوله وفروعه وسنتطرّق إلى هذا البحث الظريف إن شاء الله تعالى.

__________________

ـ الحقّ والتعبير ب (وجه) هنا كناية عن الذات ، لأنّ الوجه أهمّ عضو في الجسم وتقع فيه الحواس الهامّه كحاسّة البصر والسمع والذوق والشمّ.

(١) توجد أقوال كثيرة حول تعليل النصب في (فطرة الله) ومنها أنّها بتقدير (اتّبع) و (الزم).

(٢) يقول بعض المفسّرين بأنّ «لا» في «لَاتَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ» نافية وتعطي معنى النهي (راجع تفاسير مجمع البيان والميزان وروح الجنان) ولكن كما قلنا فإنّ النفي أنسب وأجمل (فتأمّل جيّداً).

(٣) مفردات الراغب وكتب لغوية اخرى.

٧٦

عند مواجهة الأزمات :

في الآيات الثانية والثالثة والرابعة التي يدور البحث حولها (وبتعابير مختلفة) هناك إشارة إلى قضيّة عامّة وهي أنّ الإنسان حينما يواجه الصعوبات والبلاء الشديد ويعجز عن استخدام الوسائل الطبيعية يلجأ إلى فطرته الأصيلة فيشرق في أعماق قلبه نور المعرفة الإلهيّة بعد اختفائه ، ويتذكّر مبدأ العلم والقدرة الذي لا نظير له والذي يسهل عليه حلّ المشكلات كلّها.

ورد في قسم من الآية قوله : (وَاذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا ربَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيهِ).

ولكن بعد انتهاء الأزمة وهبوب رياح الرحمة ، فإنّ مجموعة منهم يعودون إلى شركهم (ثُمَّ إِذَا اذاقَهُم مِّنهُ رَحمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنهُمْ بِربِّهمْ يُشرِكُونَ).

وفي موضع آخر يذكر هذا المعنى مقروناً بذكر مصداق واضح من الصعاب والمشكلات حيث تقول الآية : (فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلكِ) «وأحاطت بهم الأمواج العظيمة والأعاصير المخيفة وامتلأت قلوبهم رعباً وهلعاً» (دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُم إِلَى البَرِّ إِذَا هُم يُشرِكُونَ).

وقد أشارت آية اخرى إلى اخطار البحر هذه ، بصورة جميلة اخرى حيث تقول بأنّ الله هو الذي يُسيّركم في الصحارى والبحار وعندما تركبون السفينة وتحرّككم الرياح الطيّبة الهادئة إلى أهدافكم والجميع يغمرهم الفرح والسرور ، وفجأة تهبّ الأعاصير ويهيج البحر وتأتي الأمواج من كلّ جهة فتهدد الراكبين في السفينة حتّى يروا الموت بأعينهم وينتابهم اليأس من الحياة يتذكّرون الله فيدعونه مخلصين ويعاهدونه على أن يكونوا شاكرين له إذا نجّاهم من الهلاك (شكراً مصحوباً بالمعرفة) :

(هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُم فِى البَرّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُم فِى الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجاءَهُم المَوجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا انَّهُم احِيطَ بِهِم دَعَوُا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِن أَنجَيتَنَا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).

ولكن هؤلاء عندما ينجّيهم الله من الأخطار الموحشة ويوصلهم إلى ساحل الأمان

٧٧

ينسون عهدهم مع الله فيشرعون مرّة اخرى بالظلم بدون حقّ فيسلكون طريق الشرك وهو من أعظم الظلم ويظلمون الذين تحت أيديهم مغرورين بالنعمة التي هم فيها : (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبغُونَ فِى الْأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ).

كما يلاحظ هذا المعنى في آيتين اخريين ، ففي موضع تقول الآية :

(فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا اوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ). (الزمر / ٤٩)

وفي موضع آخر تقول الآية : (وَإذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ). (يونس / ١٢)

هذه الآيات الخمس مع أنّها تقصد حقيقة واحدة ، بَيدَ أنّ كلّ آية تتمتّع بخصوصية ولطافة ولحن خاصّ ، ففي بعضها ذكر لأنواع الأضرار والمشكلات والأذى والتي تشمل أنواع الأمراض والبلاء والقحط والآفات والمشكلات.

وفي البعض الآخر إشارة إلى أخطار البحر فقط (من قبيل الأعاصير والأمواج ودوران المياه والحيوانات الخطرة الموجودة في أعماقه والضلال عن الطريق وأمثالها).

وفي الأخرى تركيز على أخطار الأعاصير والأمواج.

وفي آية اخرى حديث عن عودة الإنسان للسير في طريق الشرك.

وفي آية اخرى ذكر لطريق البغي والظلم الذي له مفهوم أوسع من الشرك.

وفي آية اخرى إشارة إلى أنّهم يعتبرون المشاكل ناشئة من الله أمّا النعم فانّها منهم ، ونقرأ في آية ، أنّهم يشركون بأجمعهم ، وتذكر آية اخرى فئة منهم ، وذلك لاختلاف المجتمعات البشرية قسم من الفئة الاولى وبعضها قسم من الفئة الثانية.

وتقول آية اخرى : إنّهم يعاهدون الله عند البلاء عهداً ينسونه عند استقرار الأوضاع وزوال البلاء ، وفي آية اخرى يكون الحديث عن الدعاء والطلب من الله تعالى.

وتقول آية اخرى : إنّهم إذا أصابهم شيء من الضرر (التعبير ب «مسّ» فيه إشارة إلى هذا المعنى) ، ولكن في آية اخرى أنّهم عندما ينتابهم اليأس من الحياة يقبلون على الله ، ولعلّ هذا

٧٨

الاختلاف إشارة إلى مختلف أفراد البشر حيث يكون البعض من القسم الأوّل والبعض الآخر من القسم الثاني.

وقد ذكرت كلمة (الإخلاص) في الكثير من الآيات ، حيث تشير إلى رفض كلّ معبود سوى الله الواحد ، وتدلّ على أنّهم حين الدعة والراحة يعبدون الله أيضاً ، ولكنّهم يجعلون لله أنداداً سرعان ما ينسونهم عند ارتفاع الأمواج العاتية أو الأعاصير الموحشة ، ويغمر نور التوحيد والوحدانية قلوبهم ويضيء وجودهم.

ورد في تفسير «روح البيان» بأنّ عبدة الأوثان وفي أثناء رحلاتهم البحرية (حيث كانت رحلاتهم محفوفة بالمخاطر ، باعتبار أنّ السفر عن طريق البحر مملوء بالحوادث وفي ذلك الزمان أكثر خطراً بالنسبة لعصرنا الحاضر وذلك لافتقارهم للمعدات البحرية المتطورة).

فكانوا يحملون معهم الأصنام ، وعند هبوب الأعاصير العنيفة فانّهم كانوا يلقون أصنامهم في البحر ويستغيثون بأصوات عاليه ، ياربّ! ياربّ! (١).

والأعجب أنّهم كانوا يسمعون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع الأدلّة المنطقية الناصعة ، لكنّهم لم يؤمنوا ، في حين كانوا يقبلون على الله بكلّ وجودهم عندما يتعرضون للبلاء الشديد ، وهذا ممّا يشير إلى أنّ طريق الفطرة أسمح وأيسر للكثير من الناس من الطرق الاخرى.

والجديرُ بالذكر أنّ القرآن الكريم يحذّر الذين يستجيبون لنداء الفطرة عند الشدة وينسونه عند الرخاء ، ويلفت أنظارهم ببيان جميل بقوله : (أَفَأَمِنْتُم أَنْ يَخسِفَ بِكُمْ جانِبَ البَرِّ أَوْ يُرسِلَ عَلَيكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لَاتَجِدُوا لكُمْ وَكيلاً) (٢).

هل هناك إلهان أحدهما للبحر والآخر للبرّ؟! أم أنّ الله قادرٌ في البحر ولا قدرة له في البرّ؟! إنّ الله قادر على أن يأمر الأرض بأن تبتلع كل ما موجود عليها في لحظة واحدة وبواسطة زلزال واحد (٣).

__________________

(١) روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٩٣.

(٢) الإسراء ، ٦٨.

(٣) قبل عدّة سنوات وقع زلزال في شمال أفريقيا وفيه ابتلعت الأرض قرية كاملة ولم يعثروا حتّى على خرائبها!

٧٩

وقد حدث مراراً أن تهب الأعاصير وتحمل الحصى والرمال إلى السماء وتلقيها في نقاط اخرى ، وقد تطمر تحتها قافلة بأكملها.

الله الذي يأمر الأمواج في البحار ـ إذن ـ قادر على أن يتّخذ من الأعاصير والزلازل في الصحارى جنوداً يهلك بهم الفاسدين.

ويتبع هذه الآية جواب آخر حيث يقول :

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعيْدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى فَيُرسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً). (الإسراء / ٦٩)

أي أنّكم تظنّون أنّ هذه هي رحلتكم البحرية الأخيرة؟ إنّه خطأ كبير.

إقرار المشركين :

وتتضمّن الآية الخامسة حتّى التاسعة من آيات البحث حديثاً حول هذا المضمون :

(وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَليمُ).

وأيضاً : (وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللهُ).

وأيضاً : (قُلْ مَنْ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ).

ولو سألت عبدة الأوثان ـ عن خلق كلّ فرد من المخلوقات وكيفية تدبير امورها فانّهم يقرّون بأنّ الله وحده هو الخالق والمدبّر!!

إنّ هذه الآيات القرآنية وأمثالها (١) من الشواهد الحيّة على التوحيد الفطري ، ومن الممكن أن تكون هذه الإجابة المتناسقة نتيجة للاستدلال العقلي أيضاً وذلك عن طريق برهان النظم ، ولكن بملاحظة أنّ المشركين العرب اناسٌ امّيون وبعيدون عن العلم والفكر والاستدلال ، فإنّ هذا التناسق في الإجابة يدلّ على أنّها كانت تنبع من فطرتهم وهم في ذلك سواء وبدون استثناء ، وإلّا فإنّ الاستدلالات العقلية مهما كانت واضحة فانّها لا يمكن أن

__________________

(١) العنكبوت ، ٦٣ ؛ لقمان ، ٢٥ ؛ الزمر ، ٣٨.

٨٠