نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

فواجب الوجود يكون وجوده ذاتياً ، وذاته المقدّسة غير محتاجه إطلاقاً ، في حين لا يملك الممكن في ذاته شيئاً فهو محتاج.

وبهذا يُعد احتياج الممكن إلى العلّة من القضايا البديهية والأوّلية والتي لا تحتاج إلى إقامة البرهان ، ومن يتردّد في هذا الأمر فإنّ ذلك يعود إلى عدم الفهم الجيّد لمفهوم الممكن.

ثمّ يُطرح هذا السؤال : ما هو سبب احتياج الممكن إلى العلّة؟ هل السبب هو الوجود أو مسألة الحدوث؟ أي هل أنّ الأشياء تحتاج إلى العلّة بسبب كونها حادثة أو بسبب كونها موجودة؟ أو أنَّ الملاك الأصل وهو (الإمكان)؟ وبناء على هذا الدليل فإنّ الإحتياج إلى العلّة يجب أن لا يبحث في أصل وجود الشيء أو في حدوثه ، بل إنّ العلّة الأساسية هي الإمكان.

ولا ريب في أنّ الإجابة الصحيحة والدقيقة هي الإجابة الثالثة ، لأنّنا إذا ـ بحثنا عن معنى الإمكان وجدنا أنّ الإحتياج إلى العلّة متحقّق فيه ، لأنّ ـ (الممكن) وجود (غير اقتضائي) أي أنّ ذاته لا تقتضي الوجود ولا العدم.

وبملاحظة هذا الإستواء الذاتي يكون في وجوده وعدمه بحاجة إلى عامل ولذا فإنّ الفلاسفة يقولون بأنَّ حاجة الممكن أوّلية ، «حاجة ممكن الوجود إلى العلة أمرٌ بديهي».

ويُستنتج من ذلك أنّ حاجة الممكن إلى واجب الوجود لا تقتصر على ابتداء الوجود فحسب ، بل هي ثابتة في مراحل البقاء كلّها لثبوت الإمكان في حقّ الممكن دائماً لذا فإنّ الحاجة إلى العلّة أمر باقٍ وثابت.

وللمثال على ذلك فانّنا حينما نمسك القلم ونحرّكه على قرطاس نجد أنّ حركة القلم تحتاج إلى محرّك من الخارج ويتمثّل في أصابعنا ، فما دامت الحركة في اليد والأصابع فإنّ القلم يتحرّك كذلك ، ويتوقّف بتوقّفها.

وأوضح من ذلك ما يوجد في أفعال أرواحنا ، فحينما نعزم على العمل ببرنامج ما نجد أنّ الإرادة والعزم ـ وهما من فعل الروح ـ يرتبطان بها ويختفيان حال انقطاع هذا الارتباط.

إنّنا مرتبطون بوجود الله كذلك وَهذا الوجود الإرتباطي لا يستقرّ لحظة واحدة بدون ذلك.

٤١

ويقول الشاعر :

لم أسلم النفس للاسقام تبلغها

إلّا لعلمي بأنّ الوصل يحييها

نفس المحبّ على الآلام صابرةٌ

لعلّ مسقمها يوماً يداويها

قد يقال : إنّنا نشاهد البناء باقياً بعد موت بانيه فكيف إذن تستغني الأفعال عن الفاعل في بقائها؟

فنقول : إنّ ذلك يحصل بسبب حلول علّة محلّ علّة اخرى ، ففي البداية تقوم يد البنّاء الماهر بوضع لبنة على لبنة اخرى ثمّ يبقى البناء مستقرّاً بفضل جاذبية الأرض وعوامل الإلتصاق من جصّ وإسمنت.

وباختصار ، أنّ وجود (الممكن) وجود ارتباطي ولا يستمرّ دون الإتّكال على وجود مستقلّ ، وعليه فإنّ تعريف معنى الوجود الإرتباطي كافٍ في التعرّف على الوجود المستقلّ دون الحاجة إلى بحوث واسعة في «الدور والتسلسل» (تأمّل جيّداً).

يُستبطن في مفهوم الوجود الإرتباطي والتبعي معنى الإستناد إلى واجب الوجود فهل للوجود الإرتباطي معنى دون الوجود المستقلّ؟

* * *

٢ ـ برهان الغنى والفقر في الروايات الإسلامية

نقرأ في دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ـ وهو من أعمق وأثرى الأدعية الواردة عن المعصومين : ـ خاصّة في بحث التوحيد إذ يقول عليه‌السلام :

كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المُظهِر لك؟ (١).

ونقرأ في موضع آخر من الدعاء نفسه :

«إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟!».

__________________

(١) يستفاد من هذه الجملة في (برهان الصدّيقين) أيضاً فيشار إليها في بحثه إن شاء الله.

٤٢

ونجد في حديث نبوي : «الفقر فخري وبه أفتخر» (١).

إنّ أحد التفسيرات المعروفة لهذه الرواية هو الشعور بالفقر الذاتي تجاه الله سبحانه وهو الداعي إلى الفخر ، وليس الفقر هنا بمعنى ضنك المعيشة والإفتقار إلى المخلوق وهو ممّا تذمّه الروايات ، كالحديث الذي ينصّ :

«كاد الفقر أن يكون كفراً» (٢).

ولذا نقرأ عنه عليه‌السلام في حديث آخر : «اللهمّ أغنني بالإفتقار إليك ولا تفقرني بالإستغناء عنك» (٣).

كانت لقلبي أهواءٌ مفرغة

فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي

تركت للناس دنياهم ودينهم

شغلاً بذكرك ياديني ودنيائي

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٥٥ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٣٣٤.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٩ ، ص ٣٠.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٧٨ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٣٣٤.

٤٣
٤٤

٤ ـ برهان العلّة والمعلول

تمهيد :

لا شكّ أنّ العالم الذي نعيش فيه يشتمل على مجموعة من العلل والمعلولات ، والعلّية هي من أوضح القوانين في هذا العالم.

كما لا شكّ في أنّنا والأرض التي نعيش عليها لم نكن موجودين بصورة دائمة بل انّنا معلولون لعلّة اخرى ، فهل لهذه السلسلة من العلل والمعلولات أن تستمرّ بلا نهاية وتبقى في حالة تسلسل؟ وبعبارة اخرى أتكون كلّ علّة معلولة لعلّة اخرى ولا تنتهي في موضع ما؟ إنّها قضيّة لا يتقبّلها أي وجدان ، فكيف يمكن لأصفارٍ توضع جنباً إلى جنب وإلى ما لا نهاية من أن تكوّن رقماً ما؟ (المقصود من الصفر هو الموجود الذي لا وجود له من ذاته بل وجوده مكتسب من علّته) ، وكيف يمكن أن يصطف الفقراء ـ والمعوزون إلى ما لا نهاية ثمّ يحصل منهم وجود غني؟!

يجب الإذعان ـ إذن ـ إلى أنّ هذه السلسلة من العلل والمعلولات تنتهي بوجود ، وهذا الوجود هو علّة غير معلول حيث ينبع الوجود من ذاته ، وبتعبير أدقّ هو عين الوجود اللامتناهي وواجب الوجود.

إنّه أوضح دليل على إثبات الوجود الأزلي والأبدي لله سبحانه.

والملاحظ أنّ الاستدلالات الاخرى لإثبات وجود الله تنتهي كذلك ببرهان (العلّة والمعلول) وبدونه تكون ناقصة.

بعد هذا التمهيد نمعن خاشعين في الآيات القرآنية التالية :

٤٥

١ ـ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَىءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ). (الطور / ٣٥)

٢ ـ (أَمْ خَلَقُوا السَّماوَاتِ والأَرضَ بَلْ لَّايُوقِنُونَ). (الطور / ٣٦)

٣ ـ (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيرُ اللهِ سُبحَانَ اللهِ عَمَّا يُشرِكُونَ). (الطور / ٤٣)

شرح المفردات :

«خلقوا» : من «الخلق» ويعني في الأصل : التقدير المباشر ، وبما أنّ صُنع وإيجاد شيء غير موجود في الماضي ، وليس له أصل ومادّة يكون صُنعاً وإيجاداً بكل معنى الكلمة ، لذا اطلقت هذه المفردة على الإبداع والإيجاد.

كما تستعمل هذه الكلمة في عملية إيجاد شيء من شيء آخر نظيره :

(خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُّطفَةٍ). (النحل / ٤)

من البديهي أنّ (الخلق) بمعنى (الإبداع والإيجاد من العدم) مختصّ بالله ، ولذا ينفي هذه القدرة عن غيره حيث يقول تعالى :

(أَفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لَايَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ). (النحل / ١٧)

في حين يصدق المعنى الثاني (وهو إيجاد شيء من شيء آخر والتقدير له) ، على غير الله تعالى ، ناظرة إلى هذا المعنى : (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحسَنُ الخالِقِينَ). (المؤمنون / ١٤)

وقد تستعمل هذه الكلمة بمعنى الكذب أيضاً ، ولعلّ ذلك لما يختلقه من أشياء لا واقع ولا وجود لها.

وقد ذكروا لـ (الخلق) أصلين في مقاييس اللغة أحدهما : التقدير ، وثانيهما : الليونة والنعومة ، ولذا يطلق على الصخرة الملساء (الصخرة الخلقاء) كما يطلق فعل خَلقَ على الأشياء القديمة حينما تكون ملساء نتيجة لتعاقب الأزمنة عليها.

أمّا (الأخلاق) والتي تعني الصفات والسجايا الإنسانية الثابتة فانّها مشتقّة من المعنى الأول وهو التقدير (لأنّها تحدّد أبعاد الشخصية والروح الإنسانية وقدرها).

٤٦

جمع الآيات وتفسيرها

استجواب عجيب!

لقد جاءت الآيات المذكورة أعلاه ضمن تسع آيات في سورة (الطور) ، ووردت في نطاق ١١ سؤال على صورة الإستفهام الإستنكاري.

وهذه الآيات تضع الإنسان أمام مجموعة من الأسئلة المتسلسلة العجيبة ثمّ تسدّ عليه طريق الفرار كي يذعن للحقّ.

وتتابع هذه الأسئلة الأحد عشر ثلاثة أهداف مهمّة هي :

إثبات التوحيد ، المعاد ، ورسالة نبي الإسلام ، غير أنّ الأساس فيها يتمحور حول توحيد الخالق المعبود.

الآية الاولى من الآيات الثلاث التي تقدّمت تقول : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَىءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ).

وبعبارة اخرى : إنّ كلّ إنسان لا شكّ في أنّه مخلوق وحادث ولا يخرج من ثلاث حالات : امّا مخلوق من دون علّة أو هو علّة وجوده أو أنّ علّته هو الوجود الأزلي والأبدي وهو الله سبحانه.

وبما أنّ الاحتمالين الأوّل والثاني لا يتوافقان مع العقل والوجدان فالاحتمال الثالث هو الثابت حتماً ، ولذا ذكر الإحتمالين الأوّل والثاني بصيغة «الإستفهام الإستنكاري» ، وحينما ينفيهما العقل والوجدان ، يثبت الاحتمال الثالث لا محالة.

هذا جوهر الاستدلال الشهير ب (العلّة والمعلول) حيث يعرض في جملتين قصيرتين ومركّزَتَيْنِ ذات معنى واسع.

وقد يبرز هنا احتمال رابع وهو أن يكون الإنسان معلولاً لعلّة اخرى وهذه العلّة معلولة لعلّة اخرى وهكذا تستمرّ هذه السلسلة إلى ما لا نهاية.

وهذا الاحتمال يبرز لدى الفلاسفة عادةً وليس لعامّة الناس ، ولعلّ الآية لم تذكره لهذا السبب.

٤٧

على أيّة حال فإنّ هذا الاحتمال واضح البطلان أيضاً ، لاستحالة (تسلسل العلل والمعلولات) منطقياً ووجداناً ، وسيأتي إيضاح ذلك بإذن الله.

وقد ذكر الكثير من المفسّرين تفسيرات اخرى للآية ، ترتبط بصورة أساسية بالهدف من الخلق وإن كانت بعبارات مختلفة وتفاسير متعدّدة ، حيث يقولون بأنّ المراد هو أنّ البشر لم يخلقوا دونما تكليف وأمر ونهي وثواب وعقاب ، ويعتبرونها نظير قوله تعالى : (أَفَحَسِبتُم أَنَّما خَلَقْنَاكُم عَبَثاً) (١). (المؤمنون / ١١٥)

ولكن بملاحظة ذيل الآية يضمحل هذا الإحتمال تماماً لأنّه تعالى يقول : (أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ) ، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الجملة الاولى ناظرة إلى سبب الخلقة وعلّة ظهور الإنسان لا الغاية من خلقه ، وبعبارة اخرى أنّ الآية تلاحظ العلّة الفاعلية لا الغائية.

* * *

الآية الثانية تُشير إلى خلق السماوات وتعيد استدلال العلّة والمعلول هذا في مورد خلق السماوات والأرض وتقول : (أَمْ خَلَقُوا السَماواتِ وَالأَرضَ).

ويعني هذا أنّ السماوات والأرض حادثة دون شكّ لتعرّضها إلى الحوادث باستمرار وحدوث أنواع التغييرات عليها وكلّ شيء معرض للتغيير لا يمكن أن يكون أزلياً.

في هذه الحالة يجري السؤال عن خالق السماوات والأرض فهل هي خلقت نفسها؟ أو لا خالق لها أبداً وقد وجدت صدفة؟ أم أنّ خالقها هو البشر؟ وبما أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة بالنفي ، يعلم أنّ لها خالقاً ليس مخلوقاً بل هو أزلي أبدي.

والملاحظ أنّ من بين هذه الاحتمالات يتوجّه الاستفهام الإنكاري إلى احتمال خالقية الإنسان للسماوات والأرضين فقط ، وذلك لان الاحتمالات الاخرى وردت في الآيات السابقة ، وعدم التكرار هو مقتضى الفصاحة والبلاغة.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ؛ تفسير الكبير ؛ تفسير القرطبي ؛ تفسير الميزان ؛ تفسير روح المعاني وتفسير روح البيان ؛ حيث ذكروا هذا المعنى كمعنى رئيس في الآية أو كاحتمال.

٤٨

من هنا فإنّ الآيتين أعلاه أقامتا برهان العلّة والمعلول في الآفاق والأنفس ، وعليه فإنّ الآية الثانية تشهد كذلك على أنّ الحديث يدور حول العلّة الفاعلية لا الغائية.

في الختام تشير هذه الآية إلى هذه الحقيقة وهي أنّ القضايا في هذا الصدد واضحة ، ولكن العيب هو أنّهم لا يستعدّون للإيمان واليقين : (بَل لا يوقِنُون).

أجل ، إنّ الحقّ بيّن ، بَيدَ أنّهم معاندون وأعداءٌ للحقّ.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تشابه ما ورد في قوله تعالى :

(وَفِى خَلقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِّقَومٍ يُوقِنُونَ). (الجاثية / ٤)

أو تشابه ما ورد في قوله تعالى : (وَفِى الأَرضِ آيَاتٌ لِّلمُوقِنِينَ). (الذاريات / ٢٠)

وواضح أنّ اولئك لو كانوا من الموقنين لما احتاجوا إلى الآيات ، وعليه فإنّ الحديث يدور حول الذين لا يقين لديهم ولكنّهم على استعداد لقبوله.

وذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المقصود هو أنّ اولئك لا يقولون بأنّهم خلقوا السماوات والأرض ، بل يعتقدون بأنّ الله هو الخالق ، نظير ما جاء في قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرضَ لَيقُولُنَّ اللهُ) (١). (لقمان / ٢٥)

بيد أنّ هذا التفسير يبدو بعيداً.

والأضعف من هذا الاحتمال هو ما يقوله الذين يعتقدون أنّ معنى الآية هو : «أنّهم لا يقين لهم بما يقولون وهو أنّ الله خالق السماوات والأرض» وهو اليقين الذي يدعوهم إلى العبودية والطاعة.

ويتّضح خطأ هذا التفسير من أنّ الآيات هذه لم تطرح قضيّة خلق الله للسماوات والأرض ، فكيف يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إليها؟ (٢)

وأخيراً تقول الآية الثالثة كاستنتاج دون ذكر للاستدلال : (أَمْ لَهُم إِلهٌ غَيرُ اللهِ سُبحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

__________________

(١) أقرّ الزمخشري هذا التفسير في الكشّاف وقد احتمله الفخر الرازي في الكبير وجمع آخر من المفسّرين.

(٢) جاءت عبارة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَماواتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) في العنكبوت ، ٦١ ؛ الزمر ، ٣٨ ؛ الزخرف ، ٩ و ٨٧ ؛ لقمان ، ٢٥.

٤٩

إنّه في الحقيقة استدلال على توحيد المعبود ، أي عندما يكون هو الخالق للعالم فإنّ العبادة يجب أن تقتصر عليه أيضاً لا على غيره ، كالأصنام والشمس والقمر والنجوم وغيرها.

وكما أسلفنا فإنّ هناك سبعة أسئلة اخرى إضافة إلى هذه الأسئلة الثلاثة الواردة على صورة الاستفهام الإنكاري في آيات ثلاث ترتبط بقضيّة النبوّة وامور اخرى لا حاجة لذكرها في هذا البحث التوحيدي (١).

* * *

توضيحان

١ ـ برهان العلّة والمعلول في الفلسفة والكلام

يعدّ هذا البرهان من أقدم وأشهر الإستدلالات على إثبات وجود الله ابتداءً من فلاسفة اليونان القدماء ومنهم ارسطو الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وحتّى يومنا هذا حيث كانوا يستندون إليه ، وكما أشرنا من قبل فإنّ أغلب الأدلّة على التوحيد تعتبر غير تامة إذا لم تستند إلى برهان العليّة.

ولكي تتوضّح قواعد هذا الاستدلال ، ينبغي ملاحظة عدّة امور :

١ ـ تعريف أصل العلّية

(العلّية) هي العلاقة الوجودية بين شيئين بشكل يكون أحدهما تبعاً للآخر ، ومن يرى أنّ علاقة العلّية عبارة عن ظهور حادثين على التعاقب فإنّ هذا التعريف يكون ناقصاً ، فصحيح أنّ المعلول يحدث بعد علّته ولكن ذلك لا يكفي لتوضيح مفهوم العلّية ، بل لابدّ أن يكون هذا الأمر ناشئاً من العلاقة بينهما ومن تبعية الوجود الثاني إلى الوجود الأوّل.

__________________

(١) للمزيد من الإيضاح راجع التفسير الأمثل ذيل الآية ٣٥ من سورة الطور.

٥٠

٢ ـ شمولية قانون العلّية وسعة تطبيقاتها

طبقاً لما يقوله بعض المحقّقين ، كان قانون العلّة والمعلول أوّل قضيّة شغلت الفكر البشري من بين القضايا الفلسفية ماضياً وحاضراً ودفعت البشر للتفكير من أجل اكتشاف ألغاز الوجود ، وأهمّ دافع للتفكير لدى الإنسان الذي يمتلك القدرة على التفكير هو فهم قانون (العلّة والمعلول العامّ) الذي يثبت أنّ لكلّ حادثة علّة وهو السبب في تبادر مفهوم (لماذا) في الذهن البشري ، ولو لم يتعرّف الذهن البشري على مفهوم العلّة والمعلول العامّ ولم يذعن لقانون العلّية لم يكن ليخطر في ذهنه مفهوم (لماذا)؟ (١)

هذه ال (لماذا) هي الأساس لكلّ العلوم والأفكار البشرية والتي دفعت الإنسان للبحث عن الجذور والنتائج لهذا العالم وحوادثه المختلفة.

وبعبارة اخرى : إنّ جميع العلوم البشرية انعكاس لقانون العلّية ، ولو سُلب هذا القانون من البشر فإنّ هذه العلوم سوف تفقد كل محتوياتها.

وكذلك لو فقدنا قانون (العلّية) فإنّ (الفلسفة) أيضاً سوف تتزعزع بكلّ فروعها ، وعليه فإنّ العلوم والأفكار والفلسفة مبنيّة على هذا القانون.

٣ ـ جذور معرفة قانون العلّية

كيف توصّل الإنسان إلى قانون العلّية؟

للإجابة عن هذا السؤال لابدّ أن نرجع إلى الوراء لنستقريءَ حياتنا في الصغر ، عندما ينضج عقل الإنسان وتكتمل قابلية التمييز لديه ، فالطفل عندما يمدّ يده إلى النار فيحسّ بألم الإحتراق ، وعندما يعيد هذا العمل ويتكرر الإحساس نفسه يتيقّن شيئاً فشيئاً بوجود علاقة بين أمرين (مسّ النار والشعور بألم الإحتراق).

وهكذا حينما يحس بالعطش ويشرب الماء فانّه يشعر بالراحة وزوال العطش ويتكرّر هذا العمل حتّى يتيقّن بوجود علاقة بين العطش وشرب الماء ، وعندما تتكرّر هذه التجارب

__________________

(١) أصول الفلسفة ، ج ٣ ، ص ١٧٥ (اقتباس واختصار).

٥١

في مجالات كثيرة وموضوعات مختلفة يتيقّن بأنّ لكلّ حادثة علّة وبهذا يكتشف قانون العلّية بشكله العادي البسيط ، وبتقدم عمره وبواسطة التجارب التي يمرّ بها سواء على صعيد الحياة الاعتيادية أو على صعيد العلوم والأفكار ـ سيدرك سعة هذا القانون وقوّته أكثر فأكثر (كما يصل إلى هذا المبدأ وهو أنّ لكلّ حادثة علّة عن طريق الفلسفة).

نحن لا نقول بأنّ تعاقب حادثين يعني العلّية بل نقول إنّ القضيّة لابدّ من تكرارها حتّى يتّضح وجود علاقة بينهما ، وأنّ الثاني تابع للأوّل.

والظاهر أنّ القائلين : إنّ قانون العلّية خاضع للتجربة. يذهبون إلى أنّ الإنسان يتوصّل إلى الجذور والاصول عن طريق التجربة والحسّ ومن ثمّ يكتشف علاقة العلّية من خلال (التحليل العقلي) ، وهو في الحقيقة يتوصل إلى مقدّمة من خلال (الحسّ) واخرى من خلال (العقل) وذلك لأنّ القوانين الكلّية توجد في العقل بصورة بديهية ، ودور الحسّ هو إدراك الموضوعات المتفرقة ثمّ يقوم العقل بجمعها فيتوصّل إلى النتائج.

ويتصوّر البعض أنّ مبدأ العلّية ـ هو عبارة عن علم حصولي ـ يستحصل من العلم الحضوري (النفس) بالنسبة إلى (أفعال النفس).

وفي توضيح كلامهم هذا يقولون أنّ الروح الإنسانية تحسّ بامور في أعماقها تابعة لها وقائمة بها كالتصوّر والأفكار والإرادات والقرارات .. هذه كلّها أفعال الروح الإنسانية ومعلولة لها ، ومن خلال العلاقة بين هذه الأفعال والروح يمكن أن نكتشف قانون العلّية ، ثمّ يستندون في ذلك إلى قول لإبن سينا حيث يقول : «فإنّا ما لم نثبت وجود الأسباب لمسبّبات من الامور بإثبات أنّ لوجودها تعلّقاً بما يتقدّمها في الوجود ، لم يلزم عند العقل وجود السبب المطلق ، وأنّ ههنا سبباً ما ، وأمّا الحسّ فلا يؤدّي إلّاإلى الموافاة وليس إذا توافى شيئان وجب أن يكون أحدهما سبباً للآخر ... (١).

ولا شكّ في أنّ هذا خطأ كبير ومن المستبعد أن يقصد ابن سينا هذا المعنى لأنّ هذه التحليلات بشأن الروح وأفعالها هي من اختصاص الفلاسفة لا عموم الناس ، في حين أنّ

__________________

(١) الشفاء ، الفصل ١ ، مقالة الإلهيات الاولى ، ص ٨.

٥٢

عامّة الناس يعرفون قانون العلّية حتّى الأطفال منهم ، ولا شكّ في أنّ ذلك حصل لهم من خلال التجارب الخارجية والحسّية كما أسلفنا ، غير أنّ العقل ما لم يحلّل هذه التجارب وما لم يجعل من القضايا الجزئية أمراً عامّاً ، فنحن لا ندرك (قانون العلّية) ، وعليه فإنّ الأساس في معرفة هذا القانون هو التجربة إضافة إلى العقل ، ولعلّ ابن سينا يقصد ذلك ولا يمكن قبول غيره ، بَيدَ أنّا لا ننكر أنّ الفلاسفة والعلماء يسهل عليهم معرفة العلّية من خلال الأفعال النفسية كما يمكن ذلك عن طريق الحسّ.

كما أنّ ثمّة طريق استدلال واضح يوصل إلى هذا الأمر ، وهو أنّنا لو أنكرنا قانون العلّية وجب أن لا يكون شيء شرطاً لشيء ، وسوف ينشأ كلّ شيء من أي شيء ، بل يجب رفض مناهج الاستدلالات العقلية أيضاً ، وللوصول إلى نتيجة منطقية ـ مثلاً ـ يجب أن لا نستفيد من أدلّة خاصّة ، بل إنّنا نصل من كلّ مقدّمة إلى أيّة نتيجة نتوخّاها ، وهذا ما لا يتقبّله أي عاقل قطعاً.

ينبغي إذن أن نذعن بعلاقة العلّية في الخارج وفي الامور العقلية.

٤ ـ أقسام العلّة

العلّة لها مفهوم واسع وأقسام عديدة :

العلّة التامّة وتعني أنّ الشيء إذا وجد فإنّ معلوله سوف يوجد مباشرة.

والعلّة الناقصة وتعني أنّ الشيء يحتاج ـ في وصوله إلى المعلول ـ انضمام امور اخرى ، كما تقسّم العلّة إلى (العلّة الفاعلية) و (الغائية) و (المادّية) و (الصورية) وهذه تقسيمات مشهورة يمكن إيضاحها بمثال بسيط :

لو لاحظنا ملابسنا التي نرتديها لوجدناها لكي توجد يجب توفّر المادّة (كالقطن والصوف) ثمّ تحويلها إلى قماش مناسب ثمّ تباشرها يد الخيّاط لخياطتها ، ومن الأكيد أنّ الخيّاط يصنع اللباس لهدف خاصّ وهو الإنتفاع منه.

تعتبر المادّة الأصلية هي (العلّة المادّية) والصورة التي اعطيت لها هي (العلّة الصورية)

٥٣

والذي جعلها على صورة اللباس هو (العلّة الفاعلية) والدافع لهذا الشيء هو (العلّة الغائية.

ومن المعلوم أنّنا استندنا في برهان (العلّة والمعلول) الذي نتابعه إلى العلّة الفاعلية وخاصّة العلّة التامّة.

* * *

٢ ـ إيضاح برهان العلّية

بعد اتّضاح هذه المقدّمات نرجع إلى أصل برهان العلّية.

إنّ برهان العلّة والمعلول في الحقيقة مبني على أساسين هما :

١ ـ أنّ العالم الذي نعيش فيه (حادث) و (ممكن الوجود).

٢ ـ كلّ موجود حادث وممكن الوجود يجب أن ينتهي إلى واجب الوجود ، وبعبارة اخرى يجب أن تنتهي الوجودات الإرتباطية إلى الوجود المستقل.

وقد تكلّمنا بما فيه الكفاية عن المقدّمة الاولى وهي حدوث العالم ، يبقى أن نثبت الآن المقدّمة الثانية :

إنّها قضيّة واضحة وحتّى المادّيون والمنكرون لوجود الله يقرّون بها ، بَيدَ أنّهم يقولون : إنّ (المادّة) لها وجود أزلي وأبدي ومستقلّ بالذات ، لكن هذا الكلام باطل استناداً إلى الأدلّة التي تثبت استحالة أزلية المادّة وأبديتها وقد أشرنا إلى ذلك.

ولتوضيح هذه المقدّمة من المناسب أن نقول : مع الإقرار بأنّ العالم حادث فسنواجه خمسة افتراضات لا سادس لها :

فإمّا أن يوجد العالم بدون علّة ، أو أن يكون هو علّة لوجوده ، أو أن يكون معلوله علّة له ، أو أن يكون العالم معلولاً لعلّة وهي معلولة لعلّة اخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.

أو أن نقرّ بأنّ كلّ هذه الموجودات الحادثة مستندة إلى موجود أزلي أبدي فوق المادّة ، وهذه السلسلة من العلل والمعلولات تنتهي أخيراً إلى (واجب الوجود).

الفرضية الاولى : وهي حدوث العالم بدون علّة وتسمّى بفرضية (الصدفة) وهي فرضية

٥٤

باطلة ، لأنّ الحادث إن لم يحتج إلى علّة فإنّ كلّ موجود يجب أن يوجد في كلّ زمان وأي ظرف ، في حين نرى بوضوح أنّ الأمر ليس كذلك ، حيث يحتاج كلّ حادث لحدوثه إلى توفّر الشرائط والظروف الخاصّة.

وهكذا بطلان الفرضية الثانية وهي (أن يكون الشيء نفسه علّة لوجوده) يعتبر أمراً بديهياً ، لأنّ العلّة يجب أن تكون قبل المعلول ولو كان الشيء علّة لنفسه فلابدّ أن يكون موجوداً قبل وجوده ممّا يستلزم اجتماع (الوجود) و (العدم) وهو ما يطلق عليه بالمصطلح العلمي (الدور).

وهكذا بالنسبة لبطلان الفرضية الثالثة ، حيث يكون معلول الشيء علّة لوجوده ، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى توضيح.

وأمّا بطلان الفرضية الرابعة التي تعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية فانّه بحاجة إلى إيضاح : (التسلسل) يعني استمرار سلسلة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية وهذا باطل عقلاً لأنّ كلّ معلول يحتاج إلى علّة ، ولو إستمرّت هذه السلسلة إلى ما لا نهاية ولم تنته بواجب الوجود فانّه يعني أنّ مجموعة من ذوات الحاجة غير محتاجة ، في حين أنّ ما لا نهاية من الفقراء والمحتاجين محتاجون حتماً.

فلو تراكمت ما لا نهاية من الظلمات لا تتحوّل إلى (نور) ، وما لا نهاية من (الجهل) لا يكون (علماً) ، وما لا نهاية من (الأصفار) لا يكون (رقماً).

لابدّ إذن من انتهاء سلسلة العلل والمعلولات إلى موجود يحتاج شيئاً آخر .. وجود مستقلّ وغني ، وجوده من ذاته ، وبعبارة أصحّ أن يكون عين الوجود والوجود المطلق.

وممّا ذكر نستنتج أنّ وجود الممكنات والحوادث في العالم لابدّ أن ينتهي بوجود واجب أزلي نسمّيه (الله) سبحانه وتعالى.

* * *

٥٥
٥٦

٥ ـ برهان الصدّيقين

تمهيد :

برهان الصدّيقين من أدلّة إثبات وجود الله بالاستفادة من القرآن الكريم والروايات ، والذي اهتمّ به العلماء والفلاسفة الإسلاميون ، وكما يبدو من إسمه أنّه ليس دليلاً عامّاً بل يختصّ بالذين يحظون بمعلومات وفهم أوسع في العقيدة والفلسفة ، ولهم قسط وافر من الذوق ودقّة الملاحظة.

دليل يتّصف بالتعقيد قليلاً وفي الوقت نفسه لطيف وجميل ومربٍّ للروح.

ومحور هذا الدليل أنّنا بدلاً من دراسة المخلوقات من أجل معرفة الله ، نتوجّه للتدبّر في ذاته المقدّسة للوصول إلى ذاته ، وكما يقتضيه الدعاء : «يامن دلّ على ذاته بذاته» نتّخذ منه تعالى طريقاً للوصول إليه ، وكلّ ما في هذا البرهان من تعقيد وظرافة ناشيء عن كيفية إمكان اتّحاد الدليل والإدّعاء.

القضية هي أنّ في هذا العالم وجوداً فنبادر بتحليل أصل هذا الوجود ومن خلال تحليل دقيق نصل إلى أنّ أصل الوجود يجب أن يكون واجباً.

هذه إشارة سريعة ولو أنّها غير كافية حيث سنتكلم عن ذلك بالتفصيل ونعود الآن إلى القرآن لنمعن خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (أَوَ لَمْ يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ شَهيدٌ). (فصّلت / ٥٣)

٢ ـ (شَهِدَ اللهُ انَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَاإلهَ إِلَّا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ). (آل عمران / ١٨)

٥٧

٣ ـ (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحيْطٌ). (البروج / ٢٠)

٥ ـ (هُوَ الْأوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والباطنُ وَهُوَ بكُلِّ شَىءٍ عَليمٌ). (الحديد / ٣)

٦ ـ (اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ) (١). (النور / ٣٥)

شرح المفردات :

«شهيد» : مشتق من (شهود) وهو في الأصل ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى (الحضور المقرون بالمشاهدة) سواء كان ذلك بالعين الباصرة أو بعين القلب ، وقد يعني (الحضور) مجرّداً عن مفهوم المشاهدة بَيدَ أنّ استعمال (شهود) بمعنى الحضور ، و (الشهادة) بمعنى الحضور المقرون بالمشاهدة أولى.

وقد وردت في (مقاييس اللغة) ثلاثة اصول في معنى (الشهادة) هي : الحضور والعلم والإعلام للآخرين ، وإطلاق (شهيد) على من يقتل في طريقه هو لحضور ملائكة الرحمة عليه ، أو بسبب حضوره في ساحة الجهاد ، أو بسبب مشاهدة النعم العظيمة التي أعدّها الله له ، أو بسبب حضوره بين يدي الله.

وقد جاء في كتاب العين أنّ (الشّهْد) يعني (العسل) قبل استخراجه من الشمع وهو المعنى الذي اتّخذه صاحب الكتاب الأصل الأوّل لهذه المادّة ، فهل يرى ذلك هو الأصل اللغوي؟ وفي هذه الحالة ما هو وجه العلاقة بما نحن فيه؟ إنّه لم يذكر توضيحاً لذلك(٢).

(محيط) ومصدرها (الإحاطة) وتعني الضمّ ويستفاد من بعض الكتب اللغوية بأنّ الإحاطة على نوعين :

إحداهما : تكون في الأجسام ولذا يطلق على البناء المحيط بمكان (حائط).

وثانيهما : (الإحاطة المعنوية) وتعني الحفظ والحراسة أو العلم والإطّلاع على شيء ما.

وقد تستعمل هذه المفردة بمعنى الإمتناع من شيء ، وكأنّ الإنسان محاط من كلّ جهة

__________________

(١) هناك آيات قرآنية اخرى تحمل نفس هذا المضمون من جملتها سورة الحجّ ، ١٧ وسبأ ، ٤٧ والمجادلة ، ٦ والبروج ، ٩ والنساء ، ٣٣ والأحزاب ، ٥٥.

(٢) المفردات ، لسان العرب ، مقاييس اللغة ، كتاب العين.

٥٨

لئلّا يصل إلى ذلك الشيء ، وكلمة (الإحتياط) تستعمل في المجالات التي يحاول الإنسان فيها أن يعمل عملاً يصونه من الخطأ والإشتباه والمعصية والمخالفة.

وقد ورد في (مقاييس اللغة) أنّ الأصل في هذه المفردة هو من مادّة (حوْط) ويعني دوران شيء حول شيء آخر.

كما أنّ كلمة (محيط) يمكن أن تكون بمعنى الإحاطة الوجودية أو إحاطة القدرة والعلم (١).

«نور» : يعني الأشعّة المنتشرة التي تعين العين على النظر وهو على نوعين :

مادّي وهو النور الذي تبصره العيون المجرّدة ، ومعنوي وهو النور الذي تراه عين البصيرة كنور العقل ونور القرآن ، وقد جاء إطلاق (نائرة) على الفتنة وذلك لانتشارها واتّساعها.

والأقرب أنّ هذه المفردة تعني في أصلها الضياء المحسوس ، ثمّ استعملت في الامور المعنوية كالإيمان والعلم والعقل والقرآن حتّى ذات الله المقدّسة.

«نار» : هي من هذا الأصل أيضاً ويقترنان في كثير من الموارد.

وكلمة (منارة) تعني الموضع المتّخذ لإشعال الشموع ، أو لأجل نشر نور المعنويات الذي يبثّه (الأذان) إلى مختلف الجهات.

«نَوْر» : ويطلق على براعم الأشجار وخاصّة البيض منها لما فيها من نور خاصّ منذ ظهورها.

جمع الآيات وتفسيرها

القرآن وبرهان الصدّيقين : (٢)

تقول الآية الاولى التي وردت في هذا البحث بعد الإشارة إلى آيات الآفاق والأنفس

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن ، المفردات ، مقاييس اللغة ، ولسان العرب.

(٢) قال البعض : إنّ تسمية هذا البرهان ب (برهان الصدّيقين) لأنّ صدّيق هو صيغة مبالغة ويعني كثير الصدق. صحيح أنّ الأدلّة الاخرى التي أوردناها لإثبات وجود الله صادقة بَيدَ أنّ هذا البرهان أشدّ صدقاً نظراً إلى أنّا نصل في البرهان من ذات الله سبحانه وتعالى إلى الله ولا نسمح لغيره في هذا الطريق.

٥٩

الدالة على حقانية وجود الله سبحانه وتعالى : (أَوَ لَمْ يَكفِ بِرَبِّكَ انَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ شَهِيدٌ).

يمكن أن تكون كلمة (شهيد) هنا بمعنى الشاهد أوالحاضر والمراقب ، أو تعني كلا المعنيين وذلك لصدقهما في الله سبحانه ، والآية المذكورة أعلاه مطلقة من هذه الجهة.

واستناداً إلى هذا التفسير يكفي لإثبات ذاته المقدّسة أن يكون شاهداً وحاضراً في كلّ مكان ، فكلّ موجود ممكن نجد إلى جانبه ذات واجب الوجود ، وحيثما نظرنا كان الوجود المطلق ظاهراً ، وكلّ ما وقع عليه نظرنا وجدنا وجهه فيه ، ونحسّ بخضوع العظماء لعظمته ، وهو مصداق حديث أميرالمؤمنين عليه‌السلام : «ما رأيت شيئاً إلّاورأيت الله قبله وبعده ومعه» (١).

وفي تفسير الميزان أنّ «شهيد» تعني «مشهود» وبذلك يكون معنى الآية :

«أو لم يكف في تبيّن الحقّ كون ربّك مشهوداً على كلّ شيء إذ ما من شيء إلّاوهو فقير من جميع جهاته إليه متعلّق به وهو تعالى قائم به قاهر فوقه فهو تعالى معلوم لكلّ شيء وإن لم يعرفه بعض الأشياء» (٢).

ونتيجة هذا التفسير هو إثبات وجود الله من الآية أعلاه أيضاً ، ولكن عن طريق برهان الغنى والفقر.

يقول الفخر الرازي : «أو لم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقرّرها ، الدالّة على التوحيد والتنزيه ...» (٣) (وعلى هذا فالآية ناظرة إلى إثبات وجود الله عن طريق برهان النظم).

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية ناظرة إلى قضيّة إثبات المعاد حيث يقولون :

«أو لم يكف بربّك أنّه شاهد على كلّ شيء ، ممّا يفعله العبد وفي هذا كفاية لمحكمة يوم الجزاء» (٤).

__________________

(١) يعتقد الكثير من المفسّرين بأنّ الباء في «بربّك» زائدة وتفيد التأكيد ، وقد حلّت (ربّك) محلّ الفاعل ، وجملة «على كلّ شيء شهيد» هي بدل منه والجملة تعني (أو لم يكفهم أنّ ربّك على كلّ شيء شهيد).

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ٤٠٥.

(٣) تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ١٤٠.

(٤) تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٥٨١٩.

٦٠