نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

ومن هنا يتّضح لماذا لم يستند إبراهيم عليه‌السلام إلى طلوع هذه الكواكب مع أنّ الطلوع والغروب كلاهما مصداقان للحركة؟ وذلك لأنّ ظاهرة الزوال والفناء وانقطاع الفيض والبركة يشاهد في الغروب تماماً في حين لا يشاهد ذلك في الطلوع.

وعليه فإنّ الفصاحة والبلاغة تقتضيان أن يكون الإعتماد على (الغروب) لكي تتوضّح القضيّة أكثر ، وتكون مقبولة تماماً لدى جميع الطبقات ، وهذه النقطة جديرة بالملاحظة أيضاً وهي أنّ الحركة ـ كما سيأتي ـ لها أنواع وأوضحها هي (الحركة في المكان) وقد استند إليها في الآية (الحركة المكانية هنا مقترنة بالحركة الكيفية ، لأنّ كيفية النور في هذه الكواكب تتغيّر مع الحركة وتكون ضعيفة النور عند الغروب حتّى تختفي عن الأنظار).

* * *

يعتقد بعض الفلاسفة أنّ هذه الآية تتضمّن إشارة إلى برهان الحركة حيث يقول تعالى : (وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدةً وهِىَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىءٍ إِنَّهُ خَبيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ). (النمل / ٨٨)

فيقول اولئك بأنّ هذا التعبير ناظر إلى (الحركة الجوهرية) وهي الحركة التي تكون في ذات الأشياء وباطنها ، الحركة التي تدلّ على أنّ عالم المادّة بأجمعه حادث ويحتاج إلى خالق [سيأتي شرح هذا الكلام في باب الإيضاحات بإذن الله] ولكن بناءً على أنّ الآية ناظرة إلى حقيقة (الحركة الجوهرية) فانّها لا تشير إلى الاستدلال التوحيدي ولا إلى الاستفادة من ظاهرة الحركة لإثبات وجود الله (تأمّل جيّداً).

ويعتقد أغلب المفسّرين بأنّ هذه الآية ترتبط بأشراط الساعة (أشراط الساعة هي الأحداث المروّعة التي تحدث عند قيام القيامة وخاصّة تَحَرُّك الجبال وتلاشيها ثمّ صيرورتها غباراً كما جاء في آيات عديدة من القرآن الكريم) (١).

ولكن كما قلنا في التفسير الأمثل : إنّ هذا المعنى لا ينسجم مع ظاهر الآية ، لأنّ تلاشي

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٨٨ من سورة النمل.

٢١

الجبال قبيل قيام الساعة مروّع إلى درجة يجعل الإنسان يعيش وحشة عظيمة في حين تقول الآية بأنّك لا تعلم بحركة الجبال.

ولهذا نعتقد أنّ الآية تشير إلى حركة الجبال المواكبة لحركة الأرض في الدنيا وتشبيها بحركة السحاب ، وجملة (ترى) فيها إشارة إلى الوضع الموجود والتعبير بـ (صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كلَّ شَىءٍ) وذيل الآية : (انَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) كلاهما دليلان على أنّ الآية ترتبط بحركة الجبال في هذه الدنيا (١).

ويعتقد البعض الآخر بأنّ الآية ٢٩ من سورة الرحمن : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ والأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ) إشارة إلى مسألة الحركة الجوهرية التي يمكن عن طريقها الوصول إلى وجود الله (عن طريق برهان الحركة).

ولكن دلالة هذه الآية على الدعوى المذكورة غير واضحة أيضاً ، بل إنّ ظاهرها هو أنّ الله يخلق كلّ يوم أمراً جديداً ، خلقه دائم ومستمر ، وهو يبتكر في كل زمان أمراً جديداً ، ويقدّر كلّ يوم نعمة جديدة ، وعمله هو الإستجابة لقضاء حوائج السائلين.

كما أنّ الظاهر من تعبير الآية وكذلك الروايات الواردة في تفسيرها هو ما ذكر أيضاً (تحدّثنا عن هذا الموضوع مفصّلاً في التفسير الأمثل) (٢).

ويُستنتج من مجموع ما تقدّم أنّ أبرز الآيات الدالّة على برهان الحركة هي آيات إبراهيم عليه‌السلام التي استدلّ بها على نفي الوهية النجوم وذلك بافولها وغروبها واحتياجها إلى الخالق كذلك.

* * *

توضيحات

١ ـ برهان الحركة ومقدّماته

الفهم الصحيح لبرهان الحركة وكيفية استخدامه في مسألة إثبات وجود الله يقتضي ملاحظة الامور التالية إجمالاً :

__________________

(١) لاحظ التفاصيل في التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٨٨ ، سورة النمل.

(٢) التفسير الأمثل ذيل الآية ٢٩ من سورة الرحمن.

٢٢

أ) تعريف الحركة.

ب) وجود الحركة.

ج) أركان الحركة.

د) المقولات التي تقع فيها الحركة.

أ) تعريف الحركة

ذكرت عدّة تعاريف للحركة ، أوضحها التعريفان الآتيان.

١ ـ خروج الشيء من القوّة إلى الفعل بصورة تدريجية.

٢ ـ الزوال والحدوث المستمرّ.

عندما تتساقط قطرات المطر من السماء فالنتيجة هي إمّا أن ينبت نبات أو ينضج ثمر تدريجيّاً ، وفي هذه الموارد كلّها يكون للجسم وضع فعلي كما أنّ له القابلية في ذات الوقت لاتّخاذ وضع آخر ، وعندما يفقد الوضع الموجود تدريجيّاً ويتقبّل وضعاً جديداً (ما كان فيه بالقوّة يصبح فعليّاً) فإنّ ذلك الموجود وفق سلسلة من الزوال والحدوث المستمر يكون قد انتقل من حال إلى حال ، غير أنّ هذا لا يعني أنّ الحركة مركّبة من أجزاء إسمها (السكون) أو أنّها مركّب من (الوجود) و (العدم) بل إنّ الحركة أمر واحد مستمر في الخارج وله أجزاء في التحليل العقلي.

ممّا قدمنا يمكن استنتاج أنّ الشيء إذا كانت له فعلية تامّة ووجود مطلق فلا تتصوّر فيه الحركة ، بل سيكون ذا ثبات تامّ ، وبتعبير آخر أنّ الحركة تكون مقرونة بنوع من النقصان ، وعليه لا توجد في ذات الله سبحانه حركة على الإطلاق.

ب) وجود الحركة

لا نواجه مشكلة مهمّة في إثبات الوجود للحركة فذلك من الامور البديهيّة ، حيث نلاحظ بامّ أعيننا وبوضوح ونحسّ بحواسنا الاخرى باستمرار وجود حركات في الخارج ،

٢٣

وعليه فإنّ أدلّة المنكرين لوجود الحركة ومنهم (الفيلسوف اليوناني ذنون وأتباعه) لا قيمة لها وأنّها تواجه أمراً بديهياً ، وذلك لأنّنا لا يمكن أن نعتبر الماء الجاري في النهر ، أو التفاجة التي تنضج في الشجرة تدريجيّاً ، أو عندما نركب السيّارة ونسافر من مدينه إلى اخرى اموراً خيالية قد ابتلينا بها ، وأنّها امور ذهنية وليست خارجية لأنّ هذا الأمر هو أشبه بإنكار البديهيات ، ونحن في غنى عن الاستدلال لإثبات ذلك.

ولكن لا يمكن إنكار أنّ فهم الحركة بدون قوّة حافظة أمر غير مقدور ، لأنّ الحركة لا يمكن إدراكها بإحساس آني لأنّها أمر تدريجي.

ج) أركان الحركة

ذكر الفلاسفة ستّة أركان للحركة :

١ ـ المبدأ ٢ ـ الغاية ٣ ـ المحرّك ٤ ـ المتحرّك ٥ ـ موضوع الحركة ٦ ـ زمن الحركة (ستعرف أنّ الزمان ليس سوى مقدار الحركة) وبتعبير آخر أنَّ الزمان وليد الحركة وليس والدها).

وسنرى أيضاً أنّ هذه الأركان الستّة تطابق نظرية شهيرة ذهب إليها الأقدمون وعليه فإنّا لا نحتاج موضوعاً للحركة بعد الإقرار بالحركة الجوهرية.

د) مجالات الحركة

كان الفلاسفة في السابق يعتقدون بأنّ الحركة تحدث في أربع مقولات من مجموع تسع مقولات عرضية هي (١).

١ ـ الحركة في (المكان) ، نظير حركة قطرات المطر وحركة السيارة في الطريق.

٢ ـ الحركة في (الكمية) نظير زيادة حجم النبات النامي.

__________________

(١) المقولات العرضية التسع هي : الكم ، الكيف ، الوضع ، المتى ، الأين ، أن يفعل ، أن ينفعل ، ملك ، والإضافة وشروحها في محالّها.

٢٤

٣ ـ الحركة في (الوضع) نظير حركة الأرض حول نفسها.

٤ ـ الحركة في (الكيفية) نظير التغيّر التدريجي في لون وطعم ورائحة الفاكهة في الشجرة.

وكانوا يعتقدون بعدم وجود حركة في غير هذه الموضوعات الأربعة (غير ممكنة في جوهر الأشياء من باب أولى) فكان فلاسفة اليونان لا سيّما (ارسطو) وأتباعه وكذلك بعض الفلاسفة المسلمين ومنهم ابن سينا وآخرون يعتقدون باستحالة الحركة في الجوهر ، وكما قلنا في البحث الماضي : إنّهم كانوا يتصوّرون أنّ ذات المتحرّك هي من أركان الحركة ، ويعتقدون بأنّ الحركة لا مفهوم لها ما لم يوجد موجود ثابت يتعرّض للحركة.

ولكن صدر المتألّهين (الفيلسوف الإسلامي الشهير) قدّم نظرية جديدة وقال : بأنَّ الحركة في الجوهر ليست غير مستحيلة فحسب بل لا يمكن أن توجد حركة في الاعراض ما لم تكن مستندة إلى حركة في الجوهر.

وبتعبير آخر إنّ (الحركات العرضية) تنشأ من (الحركة في الجوهر) ، قال صدر المتألّهين : لماذا نفترض هنا أمراً ثابتاً؟ وما المانع من أن يكون (الجوهر) متحرّكاً في ذاته؟ بمعنى أنّه يفقد نفسه باستمرار ويكتسب تشخيصاً جديداً.

هذا الموضوع يبدو عجيباً لأوّل مرّة ـ طبعاً ـ لأنّه يستلزم أن يكون (المتحرّك) مع (الحركة) شيئاً واحداً ، وأن يكون الموجود نفسه سبباً لتحرّكه ، لكنّه يقول : لو دقّقنا قليلاً لوجدنا أنّ الأمر ليس عجيباً فحسب بل هو أمر لازم وملفت للنظر أيضاً.

ويصُرّ صدر المتألّهين على أنّ أصل الحركة الجوهرية موجود في أقوال السلف ويذهب إلى أبعد من ذلك حيث يستعين بآيات قرآنية كشواهد على هذا الموضوع (كي لا تكون حداثة هذه النظرية سبباً لنزاع المعارضين كما هو الحال في أيّة نظرية جديدة).

ولو افترضنا أنّ هذه النظرية ليست جديدة ، غير أنّ عرضها بهذه السعة يعتبرُ أمراً جديداً.

* * *

٢٥

٢ ـ أدلّة وجود الحركة الجوهرية

يعتقد صدر المتألّهين بأنّ الوجود على صورتين :

١ ـ الوجود مستقرّ وثابت وعديم الحركة مطلقاً لا في ذاته أو صفاته.

٢ ـ الوجود سيّال ومتموّج في ذاته ، أي أنّ السيلان جزء من ذاته وليس له سكون ولا قرار ، وقد يلاحظ هذا الإضطراب الذاتي بوضوح في اضطراب الاعراض ، وقد لا يلاحظ تغيّر في ظاهر الذات في حين تتجدّد في باطنها باستمرار.

وبتعبير آخر إنّ هذه الموجودات السيّالة لها وجود جديد في كلّ آن ، وهي أشياء جديدة ، ولكن هناك لون من الاتّصال بينها يجعلها تبدو كوجود واحد.

وقد ذكر المناصرون ل (الحركة الجوهرية) أدلّة لإثبات مرادهم ، وإن لم يسمح المجال لبيان هذه القضايا ، غير أنّنا نشير إلى ثلاثة أدلّة رئيسية هي :

١ ـ من القاعدة القائلة «كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات» ، هناك أصل عام وهو أنّ كلّ موجود استعار صفة من غيره وأنّها لابدّ أن تنتهي إلى مصدر تنشأ منه ، وبدون ذلك سنواجه مشكلة (التسلسل) ، أي أنّ الحرارة في الماء الحار مستعارة ولابدّ لها أن تنتهي إلى النار التي تولّد الحرارة من ذاتها.

بناءً على هذا الأصل فإنّ الحركة التي نلاحظها في أعراض الجسم (نظير الكميّة والكيفية) لابدّ لنا أن نعرف أنّ هذه الحركة ناشئة من اضطراب الذات والباطن ، فمثلاً : لو كانت التفاحة ثابتة في ذاتها ومستقرّة فكيف إذن يتغيّر لون أعراضها؟ هذه الحركة الظاهرية إذن تخبر عن حركة الداخل.

٢ ـ كلّ (معلول متغيّر) بحاجة إلى (علّة متغيّرة) ، فلو جلسنا في ظلّ شجرة في بستان ولاحظنا التحرّك المستمرّ للظلّ فالواجب أن نعلم أنّ علّته وهي أشعة الشمس في حالة تحرّك ، ومن هناك ندرك الحركة في ذات الجسم عن طريق الحركة في أعراضه.

٣ ـ الزمان دليل آخر على الحركة الجوهرية ، لأننا نلاحظ جيّداً أنّ حوادث العالم لا تكون مجتمعة ، فحوادث اليوم تتحقّق بعد حوادث أمس وقبل حوادث غد ، وهذا أمر واقعي ،

٢٦

وهذا الاختلاف هو ما نطلق عليه عنوان تفاوت (الزمان).

من خلال نظرة سطحية وابتدائية للزمان فانّه يبدو واقعاً مستقلاً عن الموجودات ووعاء للحوادث ، ولكن لو افترضنا ـ ولو للحظة واحدة ـ عدم وجود الموجودات المادية لوجدنا أنّ الزمان لا مفهوم له ، وبتعبير أوضح (الزمان) (وليد المادة) أو (الزمان) هو (مقدار الحركة).

ومن جهة اخرى إذا اعتقدنا بأنّ الموضوعات التي تقع فيها الحركة تنحصر في الموضوعات الأربعة السابقة فانّه يعني أنّ الموجود الفاقد لهذه الحركات ، أي لا يلحظ وجود للحركة في ظاهره ، فإنّ هذا الموجود ينبغي أن لا يكون زمانياً ، في حين أنّ وجداننا يحكم بأنّا نشعر بالزمان رغم عدم هذه الحركات الرباعية ، وليس ذلك إلّالأنّ المادّة ذات حركة في ذاتها لكي تتقبّل أجزاء الزمان.

هذه هي أهمّ الأدلّة لدى أنصار الحركة الجوهرية وقد اعتمدنا الاختصار في عرضها.

وهناك سؤال لا يزال قائماً عند البعض : كيف يمكن أن نتصوّر أنّ (المتحرّك) هو عين (الحركة) مع عدم وجود موضوع للحركة مطلقاً؟! وكيف يمكن التصديق بشيء يكون تصوّره محل سؤال؟

والعجيب أنّ القائل بالحركة الجوهرية بنفسه تتملكه الحيرة أمام هذه المعضلة العويصة ، وتتباين أقواله ممّا يدلّ على أنّ حلّها غير يسير (١).

وباختصار أنّ أبحاث الحركة الجوهرية بأجمعها تتفرّع عن قابلية تصوّر الحركة بدون موضوع ، ويقول البعض : إنّ هذا أمر غير معقول ، كما يعتقد البعض أنّ تصوّر هذا المعنى يقتضي إخلاء الذهن والإبتعاد عن المفاهيم التي يأنس الإنسان بها في مجال الحركة حتّى يتصوّر وجوداً هو عين الحركة والمتحرّك والحركة واحدة ، كانت هذه خلاصة عن أبحاث الحركة.

* * *

__________________

(١) للمزيد من المعرفة حول هذا الأمر راجع كتاب الأسفار في بحث الحركة أو دروس المرحوم الشهيد مطهّري حول بحث الحركة في الأسفار ، ج ١ ، ص ٤٤٧.

٢٧

٣ ـ إثبات وجود الله بواسطة برهان الحركة

لا شكّ في أنّ الحركة لا تنحصر في الحركة الجوهرية ، ولذا لا يتحدّد برهان الحركة لإثبات ذات واجب الوجود ببحث الحركة الجوهرية ، على الرغم من أنّ برهان الحركة ـ بعد الإيمان بالحركة الجوهرية ـ أكثر وضوحاً في معرفة الله ، ومن أجل ذلك نقول :

إنّ الحركة الجوهرية تقول بأنّ عالم المادّة بأسره عبارة عن حركة ، أي أنّه في حالة حدوث وتجدّد متواصل ، وله في كلّ آنٍ وجود جديد ، وهذا الحدوث المستمرّ يثبت الإرتباط الدائم للعالم بمبدأ غير حادث ، أي أنّه يثبت الأزلية والأبدية لواجب الوجود.

وبتعبير آخر : إنّ العالم في حال (صيرورة) دائمة لا (كينونة) ، وليس ذلك في الأعراض فحسب بل هو متأصّل في أعماق ذاته ، ولذا يكون محتاجاً إلى المبدأ باستمرار لكي يخلقه كلّ آن.

من خلال هذا البحث يمكن التوصّل إلى نتيجة ظريفة وهي أنّ خلق العالم لم يحدث في البداية ثمّ انتهى ، بل إنّ عملية الخلق مستمرة في كلّ آن ، ولذا فإنّ حاجة العالم إلى علّة أزلية ، أبدية لم تكن في البداية فقط ، لأنّه في حالة حدوث وخلق مستمرّ وفي كلّ آن ، وهذا المعنى كامن في أعماق مفهوم الحركة.

ولهذا فبواسطة الحركة الجوهرية يثبت حاجة العالم إلى واجب الوجود عند نشوئه وحاجته إليه في البقاء تبقى قائمة ومستمرة أيضاً ، بل وكما ترى نظرية الحركة الجوهرية فانّه لا مفهوم للبقاء أصلاً والحدوث دائم ، غير أنّه حدوث متواصل ومتسلسل ولهذا يطلق على الاتّصال مصطلح البقاء.

هنا يمكن أن نذكر تشبيهاً ناقصاً لكيفية ارتباط الأشياء بالمُبدىء الأزلي للعالم وهو أنّ الموجودات في العالم تشبه المصابيح التي يتواصل وجودها من خلال ارتباطها بالمصدر الكهربائي ، وبما أنّ النور يتجدّد في كلّ آن فانّه بحاجة إلى العلّة في كلّ آن والتعرّف على كيفية انبعاث النور في المصابيح يكفي لمعرفة حاجتها المستمرّة للمصدر المولّد للطاقة الكهربائية.

٢٨

صحيح أنّ (برهان الحركة) له علاقة ب (برهان الإمكان والوجوب) غير أنّه يُبحث بصورة مستقلّة من أجل الحصول على صورة جديدة عنه.

* * *

٤ ـ العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث

استند الكثير من المتكلّمين (علماء العقيدة) على هذا الدليل (دليل التغيّر) لإثبات وجود الله دون ملاحظة نظرية الحركة الجوهرية لأنّ التغيّرات التي تشاهد في ظاهر الموجودات في العالم باستمرار تكفي لإثبات آرائهم.

ولتوضيح ذلك نقول : لا يبقى في عالم المادّة شيء على حالة واحدة ، فكلّ الأشياء ـ دون استثناء ـ في حالة تغيّر.

ومن جهة اخرى ، أنّ التغيّر والحركة حادثان ، وبما أنّ المادّة متعرّضة لهذه التغيّرات والتحوّلات دائماً فينبغي أن تكون حادثة أيضاً فمن غير الممكن أن تكون المادّة أزلية وتتعرّض للحدوث والتغير منذ الأزل لأنّ ذلك يستلزم اجتماع (الحدوث) و (الأزلية) وهما متضادّان كما نعلم.

إنَّ هذا الاستدلال ومن خلال ملاحظة النظريات الجديدة بشأن المادّة يَرِدُ بصورة أوضح ، فكلّ مادّة ـ وفق النظرية الفيزيائية الجديدة ـ تتركّب من ذرّات ، والذرّة عبارة عن مجموعة من الحركات ، وكلّ حركة حادثة ، فالمادّة ـ إذن ـ والتي هي عبارة عن مجموعة حركات (الالكترونات) و (البروتونات) لا يمكن أن تكون أزلية ، وبعبارة اخرى أنّ كلّ حركة لها بداية ونهاية ، وكلّ ما له بداية ونهاية لا يكون أزلياً.

هذه المسألة جاءت بشكل ملفت للنظر في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام في مناظرة مع (ابن أبي العوجاء) حيث قال له الإمام عليه‌السلام : اسأل ما شئت ، فقال (ابن أبي العوجاء) : ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال الإمام عليه‌السلام : «إنّي ما وجدت شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلّاإذا ضُمّ إليه مثله صار أكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى ، ولو كان قديماً ما زال

٢٩

ولا حال ، لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الأزل دخوله في القدم ، ولن تجتمع صفة الأزل والحدوث والقدم والعدم في شيء واحد» (١).

* * *

٥ ـ حدوث العالم والقوانين العلمية الحديثة

لقد ثبت في البحوث العلمية الحديثة [خاصّة بحوث (الثرموديناميك) والقانون الثاني المعروف بقانون (الانتروبي) أو ما يسمى (بالكهولة) أو (الإضمحلال)] ثبت :

«أنّ الحرارة تنتقل من الأجسام الحارّة إلى الباردة دائماً ولا يحدث العكس بنفسه أبداً ، و (الانتروبي) في الحقيقة هي نسبة الطاقة التي لا يمكن الانتفاع بها إلى الطاقة القابلة للإنتفاع ، ومن ناحية ثانية نحنُ نعلم أنّ هذا الإنتقال والانتروبي في العالم في حالة تزايد ، فلو كان العالم أزليّاً لكانت الحرارة في الأجسام كلّها متساوية منذ عصور قديمة ولم تبق طاقة نافعة وبالتالي لم يتحقّق في العالم أي فعل أو تفاعل كيميائي ، ولاستحالت الحياة على الأرض ، لكنّنا نلاحظ بأنّ التفاعلات الكيميائية مستمرّة والحياة على الأرض ممكنة ، ولذا فإنّ العلوم تثبت البداية للعالم ـ دونما قصد ـ وبهذا تثبت ضرورة وجود الله نظراً إلى أنّ الحادث لا يحدث لوحده بل يحتاج إلى المحرّك الأوّل» (٢).

والطريق الآخر الذي سلكوه لإثبات الحدوث للعالم هو التحقيق في الأجسام (المشعّة) (وهي أجسام لها ذرّات غير مستقرّة وفي حالة اضمحلال وزوال مستمرّ حتّى تتبدّل إلى ذرّات مستقرّة ، ولها عدد ذرّي أكبر من ٨٠! وتكون على شكل أجسام ثقيلة وغير مستقرّة ، وفي حالة إشعاع ذرّي ، وكأنّها تلقي بنفاياتها إلى الخارج حتّى تتحوّل إلى عناصر مستقرّة.

إنَّ وجود هذه العناصر في الطبيعة دليل على أنّ العالم حادث وذو تاريخ ، وكما يقول

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٤٦ ؛ اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٧٧ باب حدوث العالم.

(٢) كتاب إثبات وجود الله ، لادوارد لوثر كيسل ، ص ٥٥ (باختصار طفيف).

٣٠

المفكّر الشهير (دونالد روبرت كار) والمتخصّص في (الكيمياء الحياتية) كاتب كتاب (الأرض) وهو كتاب يعيّن عمر الأرض بحساب كاربون الإشعاع الطبيعي : «لو كان العالم أزليّاً وأبديّاً لما وجدنا عنصراً مشعّاً وذلك لتبدلّه إلى عناصر مستقرّة» (١).

ونستنتج من ذلك أنّ العلوم الطبيعية تثبت حدوث العالم أيضاً بطرق مختلفة ، ومن هنا تتّضح ضرورة وجود خالق أزلي أبدي لتفسير ظهور عالم الوجود.

وبتعبير أوضح : نّ اضمحلال المادّة (الانتروبي) دليل على أنّ للعالم تاريخاً ينبىء عن بداية حدوثه ، فلو كان عالم المادّة أزليّاً لكان قد مضى عليه زمان غير محدود ، ولكانت الحرارة فيه متساوية وانعدم النشاط فيه وتعرّض للفناء.

ويشبه هذا إذا وضعنا وعاءً مليئاً بالماء الحارّ في غرفة ، فما دامت الحرارة في الوعاء تختلف عن حرارة الجوّ فإنّ الهواء حوله يكون متحرّكاً باستمرار ويزداد حرارة ويتصاعد إلى الأعلى ويحلّ محلّه الهواء المجاور له وهذا يحدث حركة مستمرّة في الفضاء المجاور ، وعندما تتساوى الحرارة في الغرفة فلن تكون أيّة حركة.

وهذا هو مصير العالم أخيراً ، والحركة الموجودة حالياً دليل على عدم مرور زمان لا محدود عليه ، أي أنّ له تاريخ ظهور وحدوث.

وهو يشبه الأواني المستطرقة المتصلة فإذا سكبنا الماء في أحدها فانّه سوف يتحرّك في الأواني كلّها حتّى يتساوى فيها وبذلك يحلّ السكون ، ويقول العالم الفلكي (استونتر) : «قام العلم باحتساب أعمار الكثير من الأشياء مثل : عمر الأرض ، والصخور الشهابية ، والقمر والشمس ، والمجرّة وأخيراً عمر الدنيا ، والعمر اللازم ـ لتركيب العناصر المختلفة وتفكّكها ـ وظهر أنّ هذه الأعمار متقاربة وتقدّر ب ٦٠٠٠ مليون سنة منذ بداية حدوث العالم» (٢).

* * *

__________________

(١) كتاب إثبات وجود الله ، لادوارد لوثر كيسل ، ص ١٥٥.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٦٠.

٣١

وفي الختام نعود لنقول : إنّ حديث إبراهيم عليه‌السلام في الآيات المذكورة يستهدف مسألة إثبات وجود الله عن طريق الحكم العقلي القائل بأنّ الشيء المتغيّر لا يمكن أن يكون خالداً وإن كانت براهين اخرى للحركة كامنة في طيّات استدلال إبراهيم عليه‌السلام.

* * *

٣٢

٣ ـ برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر)

تمهيد :

استدل الفلاسفة والمتكلّمون (علماء العقيدة) بأدلةٍ مختلفة لإثبات وجود الله سبحانه ، والبعض منها ذات اصول مشتركة ، ومن هذه الأدلّة برهان (الوجوب والإمكان) وبرهان (العلّة والمعلول) ، وستأتي تفصيلاتهما تباعاً بإذن الله.

وبما أنّ هذه الاستدلالات تكون ذات شروح مختلفة لذا فإنّا نشير إليها بصورة مستقلّة مع الإشارة إلى اصولها المشتركة.

إن الأساس في برهان «الوجوب والامكان» أو «الغنى والفقر» يرتكز على مبدأ حاجة وفقر المخلوقات ، فعندما ننظر إلى أنفسنا وسائر الموجودات في العالم ، نراها دائماً في حالة عوَزٍ وحاجة ، فالحاجة إلى ماحولها يكاد يكون أمراً بديهياً.

إن الحاجة والفقر الشامل في هذا العالم يدل على وجود مصدر عظيم للغنى وعدم الحاجة ، وهذا المصدر نطلق عليه لفظ الجلالة «الله» سبحانه وتعالى (١).

وبعبارة اخرى إنّنا نجد كلّ موجود في هذا العالم تابع ، ولا يمكن لهذه التبعية أن تكون إلى ما لا نهاية ، والعالم عبارة عن مجموعة من التبعيات ، ممّا يدلّ على وجود ذات مستقلّة قائمة بذاتها في هذا العالم تتبعه هذه (التبعيات) وتستند إليه.

بعد هذا التمهيد نرجع إلى القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

__________________

(١) التعبير بـ (إنّ الله غني حميد) وأمثاله جاء في عشر آيات قرآنية ، في البقرة ، ٢٦٧ ؛ إبراهيم ، ٨ ؛ الحجّ ، ٦٤ ؛ لقمان ، ١٢ ؛ لقمان ، ٢٦ ؛ الحديد ، ٢٤ ؛ الممتحنة ، ٦ ؛ التغابن ، ٦ ؛ النساء ، ١٣١ ؛ والآية أعلاه كما أنّ وصف الله بالغنى ورد في آيات أكثر عدداً ، وهذا التأكيد والتكرار القرآني في هذا الصدد يحكي أهميّة المضمون في هذا التعبير.

٣٣

١ ـ (يَاايُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَميِدُ). (فاطر / ١٥)

٢ ـ (وَاللهُ الغَنِىُّ وأنتُمُ الفُقَرَاءُ). (محمّد / ٣٨)

٣ ـ (يَسْئَلُهُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالأَرضِ كُلَّ يَومٍ هُوَ فِى شَأْنٍ). (الرحمن / ٢٩)

شرح المفردات :

«فقراء» جمع «فقير» ، وأصله كما يقول (الراغب) في (المفردات) هو الذي كسرت فقرات ظهره ، وبما أنّ البؤساء يشبهون حال من تعرّض لكسر الفقرات لذا اطلق عليه هذا المصطلح.

كما أنّ (مسكين) مشتقّ من (السكون) ويعني العجز عن المشي ولذا اطلق على الفقراء المُعدمين ، ولذا تطلق كلمة (فاقرة) على الحادثة أو المصيبة العظيمة التي من شأنها أن تهشّم الفقرات.

وقد ورد في (مجمع البحرين) بأنّ (فقير) يُطلق على الذي هو أفضل حالاً من (المسكين) ، ولذا قيل لرجل في الصحراء أفقير أنت؟ قال : لا والله بل مسكين (١).

وعلى أيّ حال فانّهم ذكروا ل (الفقر) أربعة معانٍ هي :

١ ـ الحاجة الضرورية التي تشمل جميع البشر بل كلّ الموجودات في العالم ، والآية : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ) يذهبون إلى أنّها تشير إلى ذلك.

٢ ـ الإحتياج إلى الحدّ الأدنى من مستلزمات الحياة ، ويعتقدون أنّ الآية : (انَّما الصَدقاتِ للفُقَراء ...) تشير إلى ذلك.

٣ ـ فقر النفس والذي يعني الطمع ، وقد عدَّهُ الحديث المعروف كفراً (كاد الفقرُ أن يكون كفراً) ويقابله غنى النفس.

٤ ـ الحاجة إلى الله كما جاء في الحديث المعروف (اللهم أغنني بالإفتقار إليك ولا تفقرني بالإستغناء عنك) (٢).

__________________

(١) يذهب البعض إلى العكس في ذلك.

(٢) مفردات الراغب ، مادّة (فقر).

٣٤

وقد جاء في كتاب (العين) كلمة (فُقْرة) على وزن (نُقرة) بمعنى الحفرة التي يوجدها الإنسان في الأرض من أجل غرس الشتلات ، ومن الممكن أن يكون الأصل في (فقير) هو هذا المعنى وهو نشوء فجوة في حياته ، ومن المحتمل أن يكون استعمال هذا اللفظ في العمود الفقري وذلك لوجود التقعّرات فيه.

«غِنى» : من مادة (غِناء) وتعني عدم الإحتياج ويقابله الفقر ، ولذا ذكروا له هذه الموارد الأربعة في استعمالاته :

١ ـ الغنى بمعنى عدم الاحتياج إلى أي شيء وهذا مختصّ في الله سبحانه.

٢ ـ عدم النقص في مستلزمات الحياة.

٣ ـ الغنى وعدم احتياج النفس أي القناعة.

٤ ـ الاستغناء عن الله وهذا المعنى محال ، ولكن قد تخطر هذه الفكرة لدى بعض الناس وتكون سبباً للطغيان : (كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطغَى * أَنْ رَّءَاهُ استَغنَى). (العلق / ٦ ـ ٧)

ويقول ابن منظور في (لسان العرب) : «الغَناء» بالفتح : يعني المنفعة وغِناء بمعنى التطريب وغني (بلا مدّ) يعني الإستغناء وعدم الحاجة ، ومن الممكن أن يعتقد بوجود أصل مشترك بين هذه المعاني كلّها ويقول بأنّ الغناء يطلق عندما يرفع الإنسان صوته ويملأ به الجوّ كالأغنياء الذين لهم وفرة من المال والثروات!

* * *

حاجة الجميع إلى الله :

الآية الاولى تخاطب جميع الناس وبدون استثناء : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَراءُ إلَى اللهِ) ، إنّ «للفقر» هنا معانٍ واسعة وتشمل كلّ احتياج لأي شيء في الوجود ، فانّنا ومن أجل مواصلة حياتنا الماديّة بحاجة إلى ضوء الشمس ، والماء ، والهواء ، وأنواع من الغذاء والملبس والمسكن.

ومن أجل بقاء الحياة في أجسامنا نحن بحاجة إلى الأجهزة الداخلية من قلب وعروق

٣٥

وجهاز للتنفّس والمخ والأعصاب.

ونحتاج في الحياة المعنوية ـ من أجل أن نميّز الطريق السليم عن غيره ونعرف الحقّ من الباطل ـ إلى قوّة عاقلة ، وأرقى من ذلك نحن بحاجة إلى القادة الإلهيين والكتب السماوية.

وبما أنّ منشأ كل هذه الامور يعود كله إلى الله لذا فانّنا بحاجة إليه في وجودنا كلّه.

إنّ الشهيق والزفير في عملية التنفس يحدثان بتعاضد الآلاف من العوامل وبدونها لا يحدثان ، وكلّ هذه العوامل هي هبات إلهيّة ، ففي كلّ نفس هناك آلاف النعم ، وينبغي الشكر على كلّ نعمة.

هذه الآية وإن كانت تقصد كلام الذين يستغربون من إصرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على عبادة الله تعالى كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين (١) ويقولون هل أنّ الله بحاجة إلى عبادتنا؟ فيجيبهم القرآن : أنتم الفقراء إلى الله وبعبادته تتكامل أرواحكم.

ولكن هذا الكلام لا يحدّد من سعة مفهوم الآية في جهاتها المختلفة ، لأنّ قضيّة استغناء الله واحتياجنا هي الأساس في حلّ الكثير من المشكلات.

وعلى أيّة حال فإنّ الفقر نافذ إلى أعماق ذات البشر أجمع ، بل وكلّ الموجودات ، ولا تقتصر الحاجة إليه في الرزق ومستلزمات الحياة فقط ، بل إنّ وجودَها يحتاج إلى فيضه في كلّ لحظة وآن (فلو تَوقَف لحظة تهدّمت الهياكل).

أجل ، إنّ الغني في عالم الوجود هو الذات المقدّسة ، ولمّا كان البشر ـ وهم تحفة عالم الخلق ـ بحاجة إليه في كلّ وجودهم فإنّ حال سائر الموجودات واضحة ولا تحتاج إلى بيان ، ولذا فإنّ الآية تضيف في ذيلها : (وَاللهُ هُوَ الغَنىُّ الحَمِيدُ) وبملاحظة أنّ التعبير أعلاه يدلّ على الحصر ـ وفق القواعد الأدبية ـ فإنّ مفهومه ليس إلّاهذا ، وهو إنّ الغني المطلق هو الذات المقدّسة لله سبحانه ، ولو قسّمنا البشر إلى (فقير) و (غني) فإنّ هذا أمر نسبي غير حقيقي.

وبتعبير آخر ، إنّ الموجودات كلّها فقيرة ومحتاجة ، وإنّ ذات الله المقدّسة تمثل الغنى

__________________

(١) تفسير الكبير ؛ وتفسير روح المعاني في ذيل آية مورد البحث.

٣٦

والإستغناء ، وهذا هو أوّل الكلام وآخره.

على هذا الأساس فإنّ الله سبحانه لا يحتاج إلى عبادتنا وطاعتنا أبداً ، كما لا يحتاج إلى مدح وثناء ، بل إنّ طاعتنا وعبادتنا لهُ ومدحنا وثناءنا عليه هي جزء من احتياجنا إليه وسبب لتكاملنا المعنوي والروحي ، حيث إنّنا كلّما اقتربنا من منبع النور فإنّا نزداد نوراً ، وكلما اقتربنا من المصدر الفيّاض ذاك فإنّا نستفيد أكثر ، وبتمثيل ناقص إنّنا كالنباتات والأشجار التي تستقبل نور الشمس دون أن تحتاج إليها الشمس.

إنّ فهم هذه الحقيقة يقدّم للبشر درساً في التوحيد حتّى لا يخضعوا إلّاإلى الله ولا يُطأطئوا رؤوسهم ويستسلموا لغيره وأن يمدّوا يد الحاجة إليه لأنّهُ (غني وكريم ورحيم وودود).

إنّ الإنتباه إلى هذه الحقيقة له الأثر البالغ في تربية الإنسان ، فمن جهة يخرجه من حالة الغرور وعبادة هوى النفس ، ومن جهة اخرى يحرّره من جميع القيود ويجعله غنيّاً عن سواه ، وبهذه الرؤية والفهم سوف لا يضيع في عالم الماديات ، ويتوجّه دائماً إلى مسبّب الأسباب.

وهنا لابدّ من الإلتفات إلى أمرين :

الأوّل : أنّ الله هنا (في الآية) قد وُصف ب (الحميد) بعد وصفه بـ (الغني) ، وكما أشرنا أنّ هذا التعبير قد تكرّر في عشر آيات ممّا يدلّ على وجود نقطة مهمّة فيه ـ هي كما يحتمل ـ : إنّ الكثير من الأغنياء يتّصفون بصفات ذميمة نظير الكبر والغرور والحرص والبخل ، حتّى لو كان لدى أحد إخوانهم نعجة واحدة ولديهم ٩٩ نعجة فانّهم سيصرّون على أن يسلبوه نعجته ، إلى حدّ يتبادر في ذهن الكثير بأنّ لفظ (الغني) تعني الظلم والكبر والبخل ، في حين أنّ الله سبحانه في عين كونه غني فهو رحيم وعفو وغفور ، ولذا هو أهل لكلّ مدح وثناء.

أجل ، إنّ «الغني» الوحيد المُبرَّأ من كلّ عيب ونقص وذو الفضل واللطف والرحمة هي الذات المقدّسة.

الثاني : أنَّ المخاطبين في الآية هم البشر فقط : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ) فلماذا لم تذكر الموجودات الاخرى في حين أنّها فقيرة إلى الله أيضاً؟

٣٧

قال الكثير من المفسّرين إنَّ ذلك ناشي من سعة حاجة الإنسان ، فكلّما كان الموجود أكمل فانّه أكثر احتياجاً في مسيرته ويزداد شعوراً بالحاجة كما هو الحال في الإحتياج المادّي ، فالطير يقنع بشيء من الماء والحبّ والعشّ البسيط في حين لا يقتنع الإنسان بألوان الطعام واللباس والبيوت والقصور! (١).

* * *

والآية الثانية تحدثت عن (الإنفاق في سبيل الله) وبخل البعض في الانفاق في سبيل الله وانعكاس بخل البخلاء على أنفسهم لأنّهم محرومون من فيض الله ورحمته اللامحدودة ، فتقول : (وَاللهُ الغَنىُّ وأنتُمُ الفُقَراءُ).

قد يكون هذا التعبير من أجل رفع التصوّر بأنَّ الله تعالى عندما يدعو الناس إلى الإنفاق في سبيل الله فانّه محتاج إلى إنفاقهم ، أو أنَّ هذه الجملة تتنافى مع الجملة التي وردت في آيات سابقة حيث تقول : (ولا يَسئَلكُمُ أَموَالَكُم).

فتقول الآية : إنّ الله غني على الإطلاق والجميع محتاجون إليه ، فعندما يأمرهم بالإنفاق فليس ذلك لحاجته ، بل لأنّهم هم المحتاجون ، ويصلون إلى الكمال عن هذه الطرق ويتقرّبون إلى ذلك الوجود اللامحدود.

صحيح أنّ بداية الآية ترتبط ب (الفقر والغنى الماليين) وتنظر إلى الإنفاق في سبيل الله ، غير أنّ الإطلاق في ذيل الآية يعطي مفهوماً واسعاً ، ففي الوقت الذي تعرّف الله سبحانه بالغني المطلق فانّها تعتبر البشر محتاجين في كلّ وجودهم ، وقد نفذ الفقر إلى أعماق ذواتهم ولهذا يمكن استخدامه للاستدلال في هذا البحث.

__________________

(١) انتبه بعض المفسّرين إلى هذه النقطة أيضاً وهي أنّ ذكر (الفقراء) بصورة معرفة (مع أنّ الخبر يكون نكرة عادةً فلو كان معرفة لما احتاج المخاطب إلى الخبر) هو للتنبيه والتذكير ، أي أنّ المخاطب نفسه يعلم بأنّه فقير إلى الله وهذا تذكير ليس إلّا ، وقد جاء في علم البلاغة أيضاً أنّ المخاطب العالم الذي لا يعمل بعلمه يعتبر جاهلاً وينذر عن طريق الأخبار (تأمّل جيّداً).

٣٨

على أيّ حال فإنّ من الملفت أنّه هو الذي تفضّل بالهبات كلّها ووهبها للعباد ثمّ يطلب منهم أن ينفقوا في سبيل الله ، وهذه مقدّمة لهباتٍ أكبر.

ولا ينحصر هذا في قضيّة الإنفاق فحسب ، بل يجري في كلّ التكاليف وتعود بنتائجها على العباد أنفسهم.

وقد جاء هذا المضمون في آيات عديدة منها ما تضمّنته هذه الآية حيث نقرأ : (قُلْ مَا سَأَلتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلىَ اللهِ). (سبأ / ٤٧)

وكما جاء في قوله تعالى : (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ، إِنَّ اللهَ لَغَنِىٌ عَنِ العَالَمِينَ). (العنكبوت / ٦)

* * *

والآية الثالثة والأخيرة من بحثنا تُصوِّر هذا المضمون (الفقر العامّ للموجودات والغنى المطلق لله) في حُلّة جديدة وجميلة وتقول : (يَسئَلُهُ مَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ).

وكلّ يوم هو في شأن ومنح مواهب جديدة : (كُلَّ يَومٍ هُوَ في شَأْن).

وبملاحظة الفعل المضارع (يسأل) والذي يدلّ على الاستمرار ، وملاحظة ما للآية من معنى واسع يشمل البشر جميعاً والملائكة وسكنة السماء والأرض (وباحتمال قوي يشمل كلّ الموجودات العاقلة وغير العاقلة ، والتعبير بـ (من) الذي يستعمل للعاقل هو للتغليب) وملاحظة أنّ الآية لم تذكر الموضوع المسؤول عنه فيدلّ ذلك على شمولية الآية ، وسيكون مفهوم الآية هو أنَّ كلّ الموجودات في عالم الخليقة تستمدّ الفيض من مبدأ الفيض بلسان حالها بصورة دائمة ومستمرّة ، (فيض الوجود ومتعلّقاته).

وليس هذا الطلب من ذات ممكن الوجود في حالة الحدوث فحسب ، بل في البقاء أيضاً يكون محتاجاً إلى واجب الوجود وفي كلّ لحظة يطلب منه الوجود.

وقد ورد هذا المعنى بتعبير واحد تقريباً في تفسير (روح البيان) و (روح المعاني) حيث جاء فيهما «.. قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم ووجوداتهم حدوثاً وبقاءً وسائر أحوالهم

٣٩

سؤالاً مستمرّاً بلسان المقال وبلسان الحال فانّهم كافّة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتفرّع عليه من الكمالات بالمرّة بحيث لو انقطع ما بينهم من العناية الإلهيّة من العلائق لم يشمّوا رائحة الوجود أصلاً فهم في كلّ آن مستمرّون على الإستدعاء والسؤال» (١) من هنا يتّضح أنّ اعتقاد البعض بأنَّ السؤال يرتبط ب (الرزق) أو (الرحمة الإلهيّة) أو (متطلّبات الدين والدنيا) أو (العلم بعاقبة العمل وصلاح النفس وفسادها) فقط لا دليل عليه وإنْ اندرجت في المفهوم الواسع للآية.

* * *

توضيحات

١ ـ برهان الوجوب والإمكان من الناحية الفلسفية

وهو من البراهين القابلة للفهم ، حيث يمكن بيانه بلسان عامّة الناس ، وكذلك بواسطة التعبيرات والاصطلاحات الفلسفية الخاصة ، وبتعبير بسيط عندما نرجع إلى وجودنا نجد أنَّ وجودنا برمّته في حالة احتياج ولا يؤَمن الاحتياج من الداخل ، ومن أجل تأمين هذا الاحتياج يجب أن نمد الدنيا خارج وجودنا ، وكما يقول المثل كلما ازداد الغنى ازدادت الحاجة فكلّما تضاعفت قوّة الإنسان في الظاهر (ماديّاً أو معنويّاً) توسّعت دائرة احتياجاته ، فالطير في الصحراء يكتفي بقليل من الماء والحبّ وعشّ مؤلّف من بعض الأوراق ، في حين تحتاج حياة سلطان مقتدر إلى آلاف الحاجات ، وهكذا لوقارنا الحياة العلمية لمحقّق كبير بالنسبة لطالب مبتدىء.

ومن خلال ملاحظة هذا الاحتياج وبإلهام باطني يدرك الإنسان أنّ لهذا العالم مُبدئاً غنيّاً يتّجه الجميع إليه لنيل حوائجهم وهو الذي نطلق عليه (الله) تبارك وتعالى.

أمّا في العبارات الفلسفية وبحوث المتكلّمين فإنَّ الوجود يقسّم إلى قسمين : (ممكن) و (واجب).

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٢٩٩ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٢٧ ، ص ٩٥.

٤٠