نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

ويشمل كلّ حكم في عالم الوجود وعالم الشريعة والدنيا والآخرة.

أمّا المراد من (الوجه) في العبارة : (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فإنّ البعض فسّره بمعيّة الأعمال الصالحة التي تنجز لله تعالى ، فيما فسّره البعض الآخر بمعنى الدين والقانون ، والبعض الآخر بمعنى مقام الربّ.

ولكنّا نعلم أنّ (وجه) يعني في الأصل (الصورة) وكما يقول الراغب : أنّ الوجه هو أوّل ما يواجه الأشخاص الآخرين وهو أشرف الأعضاء في الإنسان ، ولذا اطلقت هذه الكلمة على الموجودات الشريفة ، وبهذه المناسبة يطلق على ذات الله المقدّسة وقد استعملت بهذا المعنى في الآية ظاهراً.

وبما أنّ كلّ موجود يرتبط بهذه الذات الباقية والأبدية ، فانّه يتلوّن بلون الأبدية فإنّ دين الله وشريعته والأعمال المنجزة من أجله والأنبياء تكون خالدة وباقية لارتباطها بالله تعالى ، وبهذا تجتمع التفاسير المذكورة في مضمون الآية.

* * *

عند الاختلاف ارجعوا إلى الله :

الآية التاسعة ترى (الحاكمية) بمعنى القضاء حيث تقول : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ).

أجل ، إنّه وحده القادر على رفع الاختلاف فيما بينهم لأنّه عالم بكلّ شيء وله الولاية على الجميع.

وتضيف الآية : (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيْهِ انِيبُ).

وهناك أقوال عديدة في تفسير هذه الآية ، فالبعض اعتبرها ناظرة إلى الاختلافات والخصومات بين الناس الذين وجَبَ عليهم الإحتكام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما اعتبرها البعض الآخر إشارة إلى الاختلاف في تأويل الآيات وتفسيرها ، في حين اعتبرها آخرون ناظرة إلى الاختلاف في العلوم المرتبطة بالمفاهيم الدينية والتكاليف وواجبات الناس مثل معرفة الروح وأمثالها (١).

__________________

(١) نقلت هذه التفاسير الثلاثة عن المفسّرين في تفسير روح المعاني ، ج ٢٥ ، ص ١٥.

٢٨١

ولكنّا لا نرى دليلاً لتحديد مفهوم الآية ، بل كما قال بعض المحقّقين : إنّ الآية تشمل كلّ قضاء سواء كان في الأحكام أو في المفاهيم الدينية أو في معنى الآيات المتشابهة أو غيرها.

إنّ الآية هذه من الآيات التي تثبت هذه الحقيقة بوضوح وهي أنّ كلّ المسائل التي يحتاجها الناس قد وردت في الكتاب والسنّة ، ويكون كلّ قياس وتشريع وأمثاله باطلاً ، فلولا وجود هذه الأحكام كلّها في الكتاب والسنّة فلا معنى لإرجاع جميع الاختلافات إلى الله فيها (تأمّل جيّداً).

والملاحظ أنّ الفخر الرازي وبعض المفسّرين قد أقرّوا بهذه الحقيقة واعتبروا هذه الآية من جملة الأدلّة المبطلة للقياس في الأحكام الفقهية (١).

فالآية تقول : يجب إرجاع الحكم في جميع الاختلافات إلى الله ، وبالطبع فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو خليفة الله المصطفى من بين الناس ، فلو لم يتضمّن الكتاب والسنّة طرق حلّ للاختلافات في الأحكام والعقائد وما يتعلّق بالشرع لكان إرجاع الاختلافات إلى الله عزوجل لا معنى له.

* * *

الآية العاشرة والأخيرة تقول كاستنتاج عام عن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أَفَغَيرَ اللهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً) وعليه فإنّ (الحكم والحاكم والقاضي) هو ذاته المقدّسة فقط لأنّه عالم بكلّ شيء ، والقرآن أفضل دليل على علمه (٢).

وأمّا السؤال عن أنّ الحكمية في أي شيء تكون؟ فإنّ القرائن تشير إلى أنّ المقصود هو

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ١٤٩.

(٢) «حكم» : كما يعتقد المرحوم الطبرسي في مجمع البيان والشيخ الطوسي في (التبيان) يطلق على من لا يحكم إلّابالحقّ في حين أنّ (الحاكم) يمكن أن يحكم بغير الحقّ ، ولكن لم يتوضّح من أين استفيد هذا المعنى إلّاأنّ القدر المسلّم به هو أنّه صفة مشبهة وتدلّ على الدوام والاستمرار ويطلق على من يحكم باستمرار ، والقصّة المعروفة عن (الحكمين) في حرب صفّين شاهد على نفي هذا المعنى ، غير أنّ هذه الكلمة أو كلمة (حاكم) إذا استعملت في الله فانّها إشارة إلى القضاء والحكم المنزّه عن كلّ ظلم وخطأ وليس لهذا ارتباط بالأصل اللغوي.

٢٨٢

الإحتكام إلى الله في حقّانية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وسبب النزول الذي ينقل في هذا المجال شاهد على هذا المعنى حيث قيل : إنّ مشركي قريش إقترحوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن اجعل بيننا وبينك حكماً من اليهود أو قساوسة النصارى؟ كي يخبرونا عنك بما يتوفّر لديهم من كتب سماوية (١).

فنزلت الآية كجواب على إشكالهم : هل يوجد غير الله حَكْماً!

وذيل الآية شاهد على هذا المعنى أيضاً بقولها : (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَبِّكَ بِالحَقِّ).

على كلّ حال فإنّ مفهوم الآية واسع ويحصر الحَكَمية في جميع الامور دون استثناء في ذات الله المقدّسة لأنّا نعلم أنّ مورد الآية لا يحدّد مفهوم الآية أبداً.

* * *

المستفاد جيّداً من الآيات العشر السالفة هو أنّ الحاكمية ونفوذ الحكم والأمر في عالم الوجود وفي عالم الشريعة مختصّ في ذات الله المقدّسة.

والحاكمية بمعنى التشريع وهكذا القضاء والحكومة بمعنى التنفيذ كلّها تنشأ منه تعالى ومن يرغب في التصدّي لبعض هذه الامور فلابدّ أن يكون ذلك بإذنه وأمره سبحانه.

غير أنّ الآيات المذكورة مختلفة ، فبعضها يلاحظ فروع الحاكمية كلّها وبعضها يلاحظ مسألة القضاء أو التشريع فقط ، ولكن المستفاد من المجموع هو مسألة (توحيد الحاكمية) بجميع أبعادها من هذه الآيات.

توضيحات

١ ـ حاكمية الله في المنطق العقلي

لا شكّ أنّ كلّ عارف بالله مقرّ بتوحيد الخالق يذعن بنفاذ أمره في عالم الوجود ، وعندما

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٨ ، ص ٧.

٢٨٣

يتقبّل حاكميته على عالم الوجود فانّه سوف لا يتردّد في ولايته وحكومته التشريعية لأنّه حينما يكون هو الخالق والمالك والمدير والمدبّر فغيره لا يكون أهلاً للتشريع ولا يتمكّن من وضع قوانين تنسجم مع نظام التكوين والخلق.

وهكذا عندما يكون هو الخالق والمدبّر فانّه هو الذي يجب أن يحكم في مسألة الحكومة القانونية على العباد ويقضي في الاختلافات ، وبدونه سيكون هناك تدخل في نطاق مالكية الله عزوجل وتدبيره بدون إذنه ، من جهة اخرى يكون القانون الصحيح هو القانون الذي ينسجم مع التركيب الجسمي للإنسان وروحه ويلبّي حاجاته الماديّة والمعنوية ولا يترك آثاراً سلبية في فترة زمنية قصيرة وطويلة ، وأن يكون ذا ضمان تنفيذي كافٍ وذا تقبّل وانشداد في المجتمع الإنساني.

وبتعبير آخر يكون المشرِّعُ الحقيقي عالماً بالإنسان بصورة كاملة من جهة وعالماً بالكون من جهة اخرى كي يلاحظ بدقّة العلاقات التي تربط الإنسان مع العالم الخارجي والداخلي ويضع القوانين مضافاً إلى عدم وجود مصالح شخصية من وضع تلك القوانين.

وما نشاهده من اختلال كبير في القوانين البشرية فانّه ناشيء من :

أوّلاً : فقدان البشرية لمن يعرف الإنسان بجميع جزئياته الجسمية والروحية ويعلم جميع القوانين والعلاقات التي تحكم العالم ، فلا زالت تؤلّف كتب من قبل المفكّرين تحت عنوان (الإنسان موجود مجهول) وما شاكل ، فإذا كانت معرفة الإنسان بنفسه إلى هذه الدرجة من الضعف فكيف تكون معرفته بالعالم الواسع؟

ثانياً : الإنسان موجود محتاج إلى غيره ، ولذلك نجد أنّ كلّ مجموعة تسنّ القوانين في إحدى المجتمعات البشرية تأخذ بنظر الإعتبار منافع تلك المجموعة أو الحزب.

ثالثاً : الإنسان غير مصون عن الخطأ والإشتباه ولذا تكون القوانين البشرية عرضة للتغيّر المستمرّ وذلك لظهور عيوبها ونقائصها وأخطائها بمرور الزمان فيبادر لإصلاحها ولكن سوف تظهر عيوب اخرى ، ومن هنا أصبحت المجالس التشريعية البشرية مختبرات تختبر فيها القوانين بشكل دائم اختباراً لا طائل فيه ولا نهاية!

٢٨٤

وبقطع النظر عن مسألة مالكية الله وخالقيته لا يصلح أحد للتشريع أصلاً إلّامن كان خالقاً للإنسان وعالماً بكلّ متطلّباته الجسمية والروحية وغنيّاً عن كلّ شيء وكلّ إنسان ومنزّهاً عن كلّ خطأ واشتباه.

وواجبنا الوحيد هو تطبيق اصول القوانين الإلهيّة العامّة على مصاديقها وجعل الأحكام العامّة أحكاماً جزئية قابلة للتنفيذ.

* * *

٢ ـ الحكومة وديعة إلهيّة

من الآيات السابقة يستنتج بصورة جيّدة أنّ الحكومة وديعة إلهيّة ، وعلى الحكّام والمسؤولين العمل كنوّاب عن الله تعالى ، المفهوم من هذا الكلام هو وجوب رعاية أوامر المالك الأصلي للحكومة ، أي الله سبحانه وتعالى في جميع المجالات.

وقد خاطب الله عزوجل النبي داود عليه‌السلام وهو ملك لأحد أوسع الحكومات في التاريخ البشري : (يَادَاوُدُ انَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ). (ص / ٢٦)

إنَّ هذا التعبير يشير من جهة إلى أنّ الحكومة وديعة ، وإلى المنهج والطريقة للحكومة الإلهيّة الشرعية والصحيحة من جهة اخرى.

* * *

٣ ـ شرعية الحكومات تستمد من الله فقط

في الإسلام والرؤية التوحيدية تُنصب الحكومة من الأعلى وليس من الأسفل ، أي من قبل الله عزوجل لا من قبل الناس ، ويضمن الجانب الاجتماعي لها بأمره أيضاً.

توضيح ذلك : إنّ إحدى الفوارق الواضحة بين الرؤية التوحيدية وبين الرؤية المشوبة بالشرك في قضيّة الحكومة هي أنّ الموحّد يعتقد أنّ الحكومة في جميع أبعادها (التشريعية

٢٨٥

والتنفيذية والقضائية) نشأت من الله ومن ثمّ انتقلت إلى الأنبياء وأوصيائهم ثمّ الصالحين والعلماء في الامم.

لابدّ أن يشعر هؤلاء الحكّام بالمسؤولية أمام الله عزوجل ، ويراعوا رضاه قبل كلّ شيء ، وأن يكونوا خُداماً مخلصين وامناء لعباده.

إنّ مثل هذه الحكومة وبوحي من الرسالة الإلهيّة يمكنها قيادة البشر ، لا أن تكون تابعة لأهواء هذا أو ذاك ولرغباتهم المنحرفة والمشوبة بالمعاصي.

ومن الممكن أن يقال : إنّ الحكومة الإسلامية إذن ليس لها بعد شعبي بل هي أكثر ما تكون نوعاً من دكتاتورية الصالحين ، ولكن هذا خطأ كبير لأنّ مبدأ الشورى الذي تقرّر في الشرائع التوحيدية كقضيّة أساسية في الحكومة وأكّد عليها النصّ القرآني ويشهد له فعل نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو صاحب مقام (العقل الكلّ) يدلّ على أنّ الله هو (مالك الملك) و (أحكم الحاكمين) وهو الذي أمر بالمشورة مع الناس في أمر الحكومة وإشراكهم في هذا الشأن.

من هنا تكون الحكومة التوحيدية والإسلامية حكومة (شعبية دينية) ويعني ذلك الإهتمام بآراء الناس بأمر إلهي وذلك في إطار مباديء العقيدة والأحكام الإلهيّة طبعاً ، وسيأتي تفصيل هذا الكلام بشكل كامل في مباحث الحكومة في الإسلام بإذن الله.

النتيجة هي أنّ الناس ـ مثلاً ـ عندما يتوجّهون إلى صناديق الإقتراع في الحكومة الإسلامية لانتخاب رئيس الجمهورية أو نوّاب المجلس فانّهم يلاحظون هذه النقطة وهي أنّهم امناء الله تعالى ، فالواجب هو أن يضعوا هذه الوديعة الإلهيّة التي تسمى بالحكومة في يد من تتجسد به القيم الالهيّة ، وإلّا فانّهم يخونون الأمانة.

قوله تعالى : (انَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). (النساء / ٥٨)

وقد ورد في الروايات الإسلامية ، إنّ إحدى المصاديق المهمّة للأمانة هي الحكومة ، وقد تأكّد هذا الأمر في تفسير الدرّ المنثور حيث قال : (حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة) (١).

__________________

(١) تفسير درّ المنثور ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

٢٨٦

وعليه فانّهم لا يفكّرون أبداً بأي نائب أو رئيس للحكومة يقوم برعاية مصالحهم الشخصية أو الفئوية أو من هو الذي تربطهم معه الصداقة أو القرابة؟ من الذي يستأنسون به أم لا يستأنسون؟ بل ينبغي أن يراعوا الله عزوجل ورضاه والقيم الإنسانية والدينية السامية في كلّ موقف.

أمّا في الحكومات الديمقراطية والشعبية في العالم المادّي فيمكن أن تنظر هذه الامور في آراء المقترعين من قبيل الميول الشخصية والفئوية ، الصراعات السياسية ، المصالح المادّية اللامشروعة والعلاقات الخاصّة وأمثالها.

لاحظ الفارق من أين وإلى أين؟

* * *

٤ ـ الإيمان بتوحيد المالكية وتأثيراته التربوية

ممّا ذكر يتّضح جانب من تأثير الإيمان بهذا النوع من التوحيد وهو مدى تأثير الإعتقاد بحاكمية الله في جميع الأبعاد ، وأنّ الحكومة وديعة إلهيّة عند الناس ، فعند التعيين سواء كان في المسؤوليات الكبيرة في الحكومة أو الصغيرة ينبغي أن يراعى فيه مبدأ الأمانة والوديعة الإلهيّة وعدم التضحية بالضوابط فداءً للعلاقات وعدم التضحية بمصالح المجتمع من أجل المصالح الشخصية.

وأمّا من جهة الحكّام فانّا نعلم بأنّ المشكلة الهامّة في العالم هي مشكلة الحكّام المستبدّين الذين أضرموا النيران طيلة التاريخ في مناطق واسعة من العالم ، أو في العالم بأسره وجلبوا المصائب والشقاء الكبير للبشرية.

في هذا العصر قام (هتلر) بقتل عشرات الملايين ، و (ستالين) مسؤول عن مقتل ٣٠ مليون إنسان! حسب الإحصاءات المروّعة التي نشرت من قبل شعبه ، ولا تزال أوضاع العالم بهذا النحو وان كانت بصور اخرى.

في حين لو كان الإنسان ذا رؤية توحيدية لآمن بأنّ الحكومة المطلقة مختصّة بالله تعالى

٢٨٧

وقد فوّضت إليه بإذنه عزوجل وإعانة عباده وأنّه خليفة الله في الأرض وعليه يجب أن لا يكون إنساناً مستبدّاً مغروراً وظالماً أبداً ، وعندما يصل إلى الحكومة يقول كما قال علي عليه‌السلام : «... وما أخذ الله على العلماء ألّا يقارّوا على كظَّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(١).

أجل إنّه يرى الحكومة في كلّ الأحوال وديعة إلهيّة وهو أمينها ومسؤول أمام صاحبها الأوّل ، وهذه الرؤية يمكن لها أن تقلب صورة الحكومة في العالم بشرط أن تنفذ إلى أعماق الروح وتتلوّن الروح الإنسانية بلونها.

ولا يصدق هذا الأمر على المتصدين في الحكومة فحسب ، بل يصدق على جميع العاملين في الحكومة والامراء والقادة والمدُراء والقضاة.

المعلوم من مجموع ما مرّ من أبحاث هو أنّ الحكومة في الإسلام ليس لها شكل استبدادي وليست من الطراز الديمقراطي الغربي ، بل هي نوع من الحكومة الشعبية التي تعمل في إطار العقيدة ولها لون إلهي في أساسها ، عن هذا الطريق تكتسب لوناً شعبياً وتنشأ كلّ امتيازاتها من هنا.

وهناك كلام طويل حول (الحكومة في القرآن) وموضوع البحث هنا هو (التوحيد في الحاكمية) و (نشوء الحكومة من الله) ولذا نوكل الباقي إلى البحث العامّ حول الحكومة بإذن الله.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٢٨٨

ه) توحيد الطاعة

تمهيد :

الكلام الأخير في باب أقسام التوحيد هو أنّ الإنسان الموحّد يعتقد بأنّ الله وحده واجب الطاعة ولذا يضع طوق العبودية في رقبته ويفتخر بقوله : إنّي عبد ويستعدّ للتضحية بنفسه ويعلن عن استعداده لتنفيذ أوامر الله تعالى.

ويقوم بطاعة الأنبياء والمرسلين وأوصيائهم المعصومين ومبعوثيهم بوصفها فرعاً لعبادة الله عزوجل ويحترم أوامرهم.

إنّه يفكّر بأمر واحد فقط هو رضا المحبوب الحقيقي وامتثال أوامر المولى الحقيقي ، إنّه لا يشتري (رضا الناس) ب (سخط الله) ولا (إطاعة المخلوق) ب (معصية الخالق) ، لأنّه يرى ذلك شعبة من الشرك.

إنَّ هذا الفرع من التوحيد وهو (توحيد الطاعة) ينشأ في الواقع من التوحيد في الحاكمية الذي مرّ في البحث السابق.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل بخشوع في الآيات التالية :

١ ـ (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَولَّيتُمْ فَاعلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ المُبِينُ). (المائدة / ٩٢)

٢ ـ (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ والرَّسُولَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ الكَافِرِينَ). (آل عمران / ٣٢)

٣ ـ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِى الْأَمْرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ). (النساء / ٥٩)

٢٨٩

٤ ـ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا). (التغابن / ١٦)

٥ ـ (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

(الشعراء / ١٠٨ ، ١٢٦ ، ١٤٤ ، ١٦٣ ، ١٧٩) (آل عمران / ٥٠) (الزخرف / ٦٣)

٦ ـ (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيكُمْ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ). (الأعراف / ٣)

٧ ـ (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً). (الأحزاب / ٣٦)

٨ ـ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرَسُولِهِ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ). (الحجرات / ١)

٩ ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (التوبة / ٣١)

١٠ ـ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُم يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَاتَعبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ). (١) (يس / ٦٠ ـ ٦١)

شرح المفردات :

(إطاعة) تعني في الأصل الإنقياد والتسليم (وقد صرّح بذلك الكثير من اللغويين) ومن ثمّ أُطلق على اتّباع الأمر.

وقد فرَّق البعض بين (الإطاعة) و (المطاوعة) ففسّر الإطاعة بمعنى الإنقياد وتنفيذ الأمر ، والمطاوعة بمعنى الموافقة والإنسجام ، ولذا يقول الخليل ابن أحمد في كتاب (العين) : تستعمل (الإطاعة) في مورد الرعية بالنسبة للقائد ، وفي مورد المرأة بالنسبة لزوجها تستعمل (طواعية) أو (مطاوعة).

* * *

__________________

(١) هنالك آيات قرآنية كثيرة اخرى تتفق مع الآيات أعلاه مضموناً منها : الأنفال ، ٢٠ ، ٤٦ ؛ النور ، ٥٤ ؛ محمّد ، ٣٣ ؛ المجادلة ، ١٣ ؛ النساء ، ١٦ ؛ الأنعام ، ١٥ ؛ يونس ، ١٥ ؛ الزمر ، ١٣.

٢٩٠

جمع الآيات وتفسيرها

إلهنا نطيع أمرك وحدك :

إنَّ آية البحث الاولى وإن جاءت بعد تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام إلّاأنّ محتواها لا يخفى كونه حكماً عامّاً حيث تقول : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) ، وتضيف لدى تأكيدها على هذا الأمر : (فَإِنْ تَوَلَّيتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ المُبِينُ) (١).

ومن الواضح أنّ طاعة الرسول رشحة من رشحات طاعة الله تعالى وطاعته طاعة الله ، لأنّه لا يبيّن سوى كلام الله وأمره ، ولعلّ تكرار جملة (أطيعوا) إشارة إلى هذا المعنى ، أي أنّ الطاعة الاولى لها جانب ذاتي وأصلي والثانية لها جانب عرضي وفرعي.

* * *

والآية الثانية تعكس هذا المضمون من خلال توجيه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ الكَافِرِينَ) ذيل الآية يشهد جيّداً بأنّ التمرّد يستوجب الكفر ، التمرّد الحادث عناداً وعداءً لأمر الله تعالى والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو نتوسّع في معنى الكفر حتّى يشمل كلّ معصية.

على أيّة حال فإنّ الآية تؤكّد على وجوب طاعة الله ونبيّه أي اتّباع الكتاب والسنّة.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية وإن كان معطوفاً على الله تعالى بدون واسطة ولكن بملاحظة الآية السابقة التي تقول : (قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى) ، يتّضح أنّ طاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي فرع لطاعة الله تعالى.

* * *

__________________

(١) جزاء الشرط في الآية محذوف يقدّر ب (قامت الحجّة عليكم) أو (استحققتم العقاب) أو (لم تضرّوا بتوليكم الرسول) (تفاسير مجمع البيان ؛ الكبير ؛ روح المعاني والمراغي في ذيل آية مورد البحث).

٢٩١

وهذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ علامة الحبّ الحقيقي لله ورسوله هي طاعتهما واتّباعهما وإلّا كان حبّاً كاذباً أو ضعيفاً جدّاً.

* * *

الآية الثالثة تضيف طاعة اولي الأمر إلى طاعة الله ورسوله وتأمر : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ واولِى الأَمرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعتُمْ فِى شَىءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ).

وهذا التعبير يدلّ بوضوح على أنّ الطاعة مختصّة في الله ثمّ رسوله واولي الأمر ، ولحلّ أي نزاع لابدّ من الإستعانة بهم ، وبدون ذلك فإنّ قواعد الإيمان بالمبدأ والمعاد ستتزعزع في قلب الإنسان وروحه.

* * *

الآية الرابعة تتحدّث عن طاعة الله فقط حيث تقول : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ، فهي تأمر بالتقوى أوّلاً وتجنّب المعاصي لأنّ (التحلية) والتطهير يتقدّمان على (التخلية) ، ثمّ تأمرنا ثانياً بالإستماع لأمر الله استماعاً يكون مقدّمة للطاعة ، وتأمر أخيراً بإطاعة أمره دون قيد أو شرط ، وهذه الطاعة المطلقة مختصّة في الله عزوجل ، وما يظنّه البعض من أنّ عبارة : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) نسخت الآية (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) (آل عمران / ١٠٢) خطأ كبير لأنّ الآيتين تتحدّثان عن حقيقة واحدة ، لأنّ حقّ التقوى ليس سوى أن يكون الإنسان متّقياً قدر ما يستطيع.

الآية الخامسة التي جاءت على لسان الكثير من الأنبياء عليهم‌السلام تأمر أوّلاً بالتقوى ثمّ طاعة الأنبياء وتقول : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) وقد نقلت هذه العبارة نفسها عن لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب والسيّد المسيح عليهم‌السلام في القرآن الكريم (مرّة واحدة على لسان نوح (الشعراء / ١٠٨) ومرّتين على لسان هود (الشعراء / ١٢٦ و ١٣١) ومرّتين على لسان صالح

٢٩٢

(الشعراء / ١٤٤ ، ١٥٥) ومرّة على لسان لوط (الشعراء / ١٦٣) وشعيب (الشعراء / ١٧٩) ومرّتين على لسان المسيح (آل عمران / ٥٠ والزخرف / ٦٣) ومن المسلّم به هنا هو أنّ الطاعة ترتبط بالدرجة الاولى بمبدأ التوحيد وترك الوثنية ثمّ سائر التعاليم الدينية ، ومثل هذه الطاعة هي طاعة لأمر الله لأنّهم لم يتحدّثوا إلّاعنه تعالى.

* * *

في الآية السادسة حديث عن متابعة الأحكام الإلهيّة ، وهي تعبير آخر عن الطاعة إضافةً إلى تصريح الآية بعدم اتّباع غيره ، وهذا النفي والإثبات يوضّحان (توحيد الطاعة) وتقول : (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيكُمْ مِّنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَولِياءَ) ، هذه الآية تبطل طاعة الغير أيّاً كان وفي أيّة حال إلّاأن ترجع طاعته إلى طاعة أمر الله عزوجل.

وهذه الآية وأمثالها تشهد جيّداً أنّ أحكام البشر وآراءهم مهما كانت فهي ليست أهلاً للإتّباع (لامتلائها بالأخطاء إضافةً إلى عدم وجود دليل على وجوب طاعة الآخرين).

* * *

الآية السابعة وبعد التصريح بعدم امتلاك أي رجل مؤمن أو امرأة مؤمنة أي خيار أمام أمر الله ورسوله تقول : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً).

إنّ الآية تُبيّن في أوّلها وآخرها توحيد الطاعة وتعتبره علامة الإيمان ومعارضته تكون (ضلالاً مبيناً) وأي ضلال هو أوضح من أن يترك الإنسان أمر الله العالم الحكيم والرحمن والرحيم ويتوجّه لطاعة الآخرين؟!

* * *

الآية الثامنة تخاطب المؤمنين ، وقد ذكرت شؤون مختلفة في نزولها وكلّها تشهد على أنّ بعض الأشخاص يتقدّمون أحياناً على الله ورسوله بالإقتراحات ويقولون : لو أصدر

٢٩٣

الأمر الفلاني لكان أفضل ، فنزلت الآية تنذرهم بقولها : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ومن المسلّم به أنّ الله لا مكان له حتّى يقول : لا تتقدّموا عليه ، بل أنّ ذلك كناية عن عدم التقدّم عليه في أي عمل أو كلام (١).

على أيّة حال فإنّ الآية لا تعتبر طاعة الأمر الإلهي واجباً فحسب ، بل تقول : كونوا بانتظار أوامره في كلّ عمل ، وبعد إصدار الأمر لا ينبغي عليكم التقدّم عليه أو التريَّث في امتثاله فالمسرعون والمبطئون مخطئون.

وقد جاء في تفسير المراغي القول عن بعض علماء الأدب العربي : إنّ مفهوم التعبير (لا تقدّم بين يدي الإمام) هو : لا تعجّل عليه في أداء الأعمال.

* * *

عبادة القادة والعلماء :

الآية التاسعة تذمّ اليهود والنصارى لكونهم جعلوا من علمائهم ورهبانهم آلهة من دون الله الواحد : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ) (٢).

وقد جعلوا من المسيح بن مريم معبوداً لهم أيضاً : (والمَسِيحَ ابْنَ مَريْمَ) في حين : (وَمَا

__________________

(١) المراد من «تقدّموا» هنا هل هو بمعنى لا تتقدّموا أم لا؟ وقع كلام بين المفسّرين (الأوّل من باب التفعيل والثاني من باب التفعّل) ولكن جملة (بين يدي الله ورسوله) في الحالة الاولى يكون معناها عدم التقدّم على الله ورسوله ، وفي الحالة الثانية يكون مفهومها هو لا تقدّموا شيئاً على الله ورسوله وأوامرهما والمعنى الأوّل هو الأنسب.

(٢) «احبار» جمع «حبر» أو «حِبر» ويعني في الأصل الأثر الجميل ثمّ اطلق على العالم والمفكّر بسبب الآثار الجميلة التي تبقى منهما بين الناس وهذه الكلمة تستعمل في الغالب في علماء اليهود وقد تطلق أحياناً على غيرهم كما لقّبوا ابن عبّاس ب (حبر الامّة).

«رهبان» جمع «راهب» وقال البعض : إنّ هذه الكلمة لها معنى المفرد والجمع وتعني في الأصل الشخص الذي يتّصف بخوف الله ويظهر ذلك على أعماله ، وتطلق عادةً على مجموعة (التاركين للدنيا) من النصارى وهي مجموعة هجرت الحياة والإكتساب والعمل بل والزواج أيضاً واشتغلوا بالعبادة في الدير (مفردات الراغب ، العين ، نهاية ابن الأثير ، وتفاسير الميزان ، الكبير ، روح المعاني ؛ وروح البيان ؛ والمراغي).

٢٩٤

امِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِدَاً لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). ومن المسلّم به أنّ اليهود والنصارى لم يعتقدوا بالوهية علمائهم ورهبانهم ولم يعبدوهم كما نعبد الله تعالى أبداً ، فلماذا إذن استعمل القرآن الكريم كلمة (ربّ) و (إله) فيهم؟!

وردت الإجابة عن ذلك في رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام والإمام الصادق عليه‌السلام : «أما والله ما صاموا لهم ولا صلّوا ولكنّهم أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فاتّبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون» (١).

وقد ورد هذا الحديث بطرق متعدّدة اخرى في المصادر الشيعية والسنّية ومنها ما نقرأه في كتب عديدة : «عن عَدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عنقي صليب من ذهب فقال : ياعدي : اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ آية : اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فقلت له : يارسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله تعالى فيحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فيستحلّونه؟ فقلت : بلى، قال : ذلك عبادتهم» (٢).

وبهذا يتّضح أنّ اتّباع وإطاعة أشخاص يأمرون على خلاف حكم الله يكون لوناً من الشرك.

* * *

الآية العاشرة والأخيرة تخاطب جميع البشر : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُم يَابَنِى آدَمَ أَنْ لَاتَعبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِينٌ) (وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ).

ومن المسلّم به أنّه لا أحد يعبد الشيطان بمعنى الركوع والسجود والصلاة والصيام ، فما هي العبادة التي نُهي عنها؟ هل هي شيء غير الطاعة؟ أجل ، إنّهم حينما يستسلمون لما يريده الشيطان ويقدّمون أمره على أمر الله فانّهم مشركون وعبّاد الشيطان ، والشرك هنا

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٣ ؛ وتفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٢٠ و ١٢١.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ١٠ ، ص ٧٥ وورد هذا المعنى في تفاسير متعدّدة اخرى منها تفسير درّ المنثور بفارق طفيف.

٢٩٥

بمعنى طاعة الأمر لا الركوع والسجود.

أين أخذ الله تعالى هذا العهد من بني آدم؟ فسّره البعض بأنّه (عالم الذرّ) وفسّره بعض أنّه وصايا الأنبياء لأقوامهم ، ولكن الظاهر أنّ الآية تشير إلى الوصايا التي تشبه العهد الذي كان لله تعالى عند هبوط آدم مع أولاده إلى الأرض ، وقد قامت هذه الآية بتبيان ذلك : (يَابَنِى آدَمَ لَا يَفَتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخرَجَ أبَوَيكُم مِّنَ الجَنَّةِ). (الاعراف / ٢٧)

وهكذا في خطابها لآدم وزوجته بقولها (انَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ). (الاعراف / ٢٢)

والآية ١١٧ من سورة طه تخاطب آدم عليه‌السلام : (فَقُلنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدوٌّ لَّكَ وَلِزَوجِكَ). ومن المسلّم به أنّ مثل هذا العدو يكون عدوّاً لأبنائه أيضاً ، لأنّ مخالفته لم تكن مع آدم فقط بل مع جميع نسله ، ولذا أقسم من البداية : (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمتَ عَلَىَّ لَئِن أَخَّرتَنِ الى يَومِ القِيَامَةِ لَأَحتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً). (الاسراء / ٦٢)

وقوله الله تعالى : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ). (ص / ٨٢ ـ ٨٣)

* * *

توضيحان

١ ـ الله تعالى هو المطاع المطلق

من مجموع الآيات السابقة يستفاد جيّداً أنّ الله تعالى وحده هو (واجب الطاعة) في النظرية الإسلامية وفي المنظار القرآني وهكذا الذين تُعتبر طاعتهم طاعة لله تعالى ، وكلّ طاعة وتسليم أمام الأحكام والأوامر المخالفة لأمر الله يُعدّ لوناً من الشرك والوثنية في المنظار القرآني.

وعليه فإنّ لزوم طاعة النبي والأئمّه : والوالدين هو بأمر الله كما يقول القرآن : (وَمَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ). (النساء / ٦٤)

كما يمكن إثبات هذه المسألة بالدليل العقلي ، لأنّ المطاع المطلق هو من يكون عالماً

٢٩٦

بكلّ شيء وحكيماً وخبيراً ومنزّهاً عن كلّ خطأ ورحيماً وقد اجتمعت هذه الصفات في ذات الله المقدّسة فقط.

وإرادة الحكّام والأصدقاء والأبناء والأرحام والامنيات القلبية إن لم تتناسق مع إرادة الله فإنّ طاعتها تكون شركاً.

يقول الإنسان الموحِّد : لو انحرفت عن طاعة الله قيد أنملة فانّي قد أشركت لأنّي جعلت له ندّاً في طاعته.

٢ ـ توحيد الطاعة في الروايات الإسلامية

إنَّ الأحاديث المختلفة التي وردت في مصادرنا الإسلامية أكّدت على هذه المسألة أيضاً وهي أنّ أحد شعب الشرك هو الشرك في الطاعة ومن هذه الروايات :

أ) ورد في الحديث النبوي : «لا طاعة في معصية الله إنّما الطاعة في المعروف» (١).

ب) ونقرأ في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٢).

ج) وحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «من أطاع رجلاً في معصية فقد عبده» (٣).

د) في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام وهكذا عن الإمام الجواد عليه‌السلام : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله ، وان كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (٤).

ه) ونختم هذا الكلام بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا دين لمن دان بطاعة المخلوق في معصية الخالق» (٥).

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٤٦٩.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٦٥.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، ح ٨.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩١ ، ح ٩ ، وتحف العقول ، ص ٣٣٩ (باختلاف يسير).

(٥) بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٣٩٣ ، ح ٦ (وهذا المضمون ورد أيضاً عن الإمام الباقر عليه‌السلام في أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، ح ٤).

٢٩٧

تتّضح من هذه الروايات الصريحة والقاطعة النظرية الإسلامية في مسألة الشرك وتمييز الموازين الإسلامية في توحيد الطاعة.

«إلهنا : إنّ سلوك طريق التوحيد معقّد ومشكل ، فاهدنا أنت في هذا الطريق الملتوي».

«الهنا : إنّ جهات مختلفة تدعونا لطاعتها من كلّ جهة ، فالهوى من الداخل ، وشياطين الجنّ والإنس من الخارج ، ونحنُ نرغب في طاعة أمرك وحدك ، فكن لنا عوناً وناصراً في هذا الطريق».

* * *

٢٩٨

الفهرس

المقدمة....................................................................... ٥

الطرق إلى الله................................................................. ٥

براهين معرفة الله.......................................................... ٩

٢ ـ برهان التغير والحركة....................................................... ١٣

شرح المفردات............................................................... ١٤

جمع الآیات وتفسیرها........................................................ ١٥

إبراهيم عليه‌السلام يواجه عبدة الأصنام بمنطق قوي.................................... ١٥

العلاقة بين الأفول والحدوث................................................... ١٩

توضيحات.................................................................. ٢٢

١ ـ برهان الحركة ومقدّماته..................................................... ٢٢

أ) تعريف الحركة............................................................. ٢٣

ب) وجود الحركة............................................................. ٢٣

ج) أركان الحركة............................................................. ٢٤

د) مجالات الحركة............................................................ ٢٤

٢ ـ أدلّة وجود الحركة الجوهرية................................................. ٢٦

٣ ـ إثبات وجود الله بواسطة برهان الحركة........................................ ٢٨

٢٩٩

٤ ـ العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث.............................................. ٢٩

٥ ـ حدوث العالم والقوانين العلمية الحديثة....................................... ٣٠

٣ ـ برهان الوجوب والإمكان (الغني والفقر)..................................... ٣٣

شرح المفردات............................................................... ٣٤

حاجة الجميع إلى الله......................................................... ٣٥

توضيحات.................................................................. ٤٠

١ ـ برهان الوجوب والإمكان من الناحية الفلسفية................................ ٤٠

٢ ـ برهان الغني والفقر في الروايات الإسلامية.................................... ٤٢

٤ ـ برهان العلّة والمعلول....................................................... ٤٥

شرح المفردات............................................................... ٤٦

جمع الآیات وتفسیرها........................................................ ٤٧

استجواب عجیب............................................................ ٤٧

توضیحان................................................................... ٥٠

١ ـ برهان العلّة والمعلول في الفلسفة والكلام..................................... ٥٠

١ ـ تعريف أصل العلّية........................................................ ٥٠

٢ ـ شمولية قانون العلّية وسعة تطبيقاتها.......................................... ٥١

٣ ـ جذور معرفة قانون العلّية.................................................. ٥١

٤ ـ أقسام العلّة.............................................................. ٥٣

٢ ـ إيضاح برهان العلّية....................................................... ٥٤

٥ ـ برهان الصدّيقين......................................................... ٥٧

شرح المفردات............................................................... ٥٨

جمع الآیات وتفسیرها........................................................ ٥٩

القرآن وبرهان الصدّيقين...................................................... ٥٩

٣٠٠