نفحات القرآن - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-97-0
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٠٨

المهمّ هنا هو أن نعلم بأنّ القرآن الكريم واجه هذه الأفكار كلّها وفي هذا الوسط الواسع من الأفكار العجيبة والغريبة والملوّثة بالشرك وأمام هذه العقائد والمذاهب الفلسفية المختلفة التي تُشمّ منها رائحة الشرك قام بعرض توحيد خالص في مسألة الخالقية وتدبير العالم وربوبيته وهو بحقّ من معجزات القرآن الكريم.

لقد أبطل القرآن هذه الآلهة الوهمية وربّ الأنواع الخيالية وعرّف (الله عزوجل) كربٍّ للعالمين فقط ، واعتبر كلّ شيء وكلّ إنسان مخلوقاً له وتحت تربيته وتدبيره ، وقام بإفاضة الصفاء على قلوب البشر وأرواحهم بنور الوحدة ووجّه أنظار البشر المشتّتة إلى ذلك الواحد الأبدي.

أجل ، إنّ دراسة تلك العقائد المشوبة بالشرك ومطالعتها تفصح عن قيمة التوحيد الإسلامي في منظار أتباع الحقّ.

والطريف أنّ الإسلام قد انبعث من أجواء لا يتحكّم فيها سوى الجهل ، وكان الشرك يفرض قوّته على عقول الناس ، ولم يكن العالم الخارج عن حدود الجزيرة العربية متخلّفاً عنها ، فقد أشرنا سالفاً إلى أنّ الفلاسفة والمفكّرين كانوا متورّطين بلون من الأفكار المشوبة بالشرك.

ويدلّ ذلك على أنّ طريق التوحيد الأصيل ليس أمراً يسمح للإنسان أن يسير فيه بنفسه ، بل لابدّ من يد غيبية تمتدّ إليه عن طريق الوحي ، ومن أنبياء يقودونه من وادي الظلمات ويوصلونه إلى معين التوحيد الخالص.

* * *

٣ ـ التفويض لون من الشرك

بالرغم من أنّ للتفويض معاني مختلفة تبلغ سبعة عند بعض ، ووجود بحوث واسعة مرتبطة به ، إلّاأنّ من اللازم التذكير بأنّ جمعاً من المسلمين القائلين بالتفويض قد ظهروا وهم يحملون عقيدة بأنّ الله تعالى خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ثمّ أوكل إليهم

٢٦١

أمر الخلق والرزق والموت والحياة لسائر الموجودات في العالم.

وأفضل ما قيل عن هذه العقيدة هوماذكره العلّامة المجلسي رحمه‌الله في مرآة العقول : «ثم اعلم أنّ التفويض يطلق على معانٍ بعضها منفي عنهم عليهم‌السلام وبعضها مثبت لهم ، فالأوّل : إنّ التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء ، فإنّ قوماً قالوا : إنّ الله خلقهم وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويحييون ويميتون وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يقال : إنّهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون لها حقيقة وهذا كفر صريح ، دلّت على استحالته الأدلّة العقليّة والنقلية ولا يستريب عقل في كفر من قال به.

وثانيهما : إنّ الله تعالى يفعلها مقارناً لإرادتهم كشقّ القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حيّة وغير ذلك من المعجزات ، فانّها جميعها إنّما تقع بقدرته سبحانه مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم فلا يأبى العقل من أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ثمّ خلق كلّ شيء مقارناً لإرادتهم ومشيئتهم ، وهذا وإن كان العقل لا يعارضه بتاتاً لكن الأخبار الكثيرة ممّا أوردناها في كتاب (بحار الأنوار) يمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً بل صريحاً» (١).

وعليه فإنّ الاحتمال الثاني غير محال عقلاً ، إلّاأنّ الأدلّة النقلية لا ترتضيه ، وقد كثرت الامور التي ليست محالة عقلاً ولكن الشرع يرفضها ، فمن الممكن ـ مثلاً ـ أن يكون عدد الأنبياء أو الأئمّة أكثر من المعروف إلّاأنّ الأدلّة النقلية قد حدّدت أعدادهم بما نعلمه.

وهناك احتمال ثالث وهو أنّ الله عزوجل يوهب النبي أو الإمام قدرة يستطيع بها إحياء الميّت أو إبراء المريض من مرضه المستعصي بإذنه والظاهر من الآيات القرآنية حول السيّد المسيح هو ما ذكرنا ، وهذا كلّه ممكن أيضاً بالنسبة للمعصومين ، ولكن كما وردت في العبارات المذكورة تكون هذه المسألة في إطار المعجزات والكرامات فقط ، لا في مورد خلق السماء والأرض وتدبير امور الكائنات ، لأنّ القرآن الكريم قد صرّح في حصر أمر الخلق والتدبير والربوبية في الله عزوجل ، والآيات التي ذكرناها في هذا الفصل حول

__________________

(١) مرآة العقول ، ج ٣ ، ص ١٤٣ (باختصار).

٢٦٢

التوحيد والربوبية شاهدة على هذا المعنى.

وبما أنّ الإنسان الكامل هو الغاية الأساسية من الخلق وبما أنّ المعصومين هم أفضل البشر ، يمكن القول أنّ عالم الوجود قد خلق من أجلهم ، وبتعبير آخر ، أنّهم بمثابة العلّة الغائية لعالم الوجود.

* * *

٤ ـ هل أنّ الملائكة تدبر الامور؟

يُقسم القرآن الكريم في سورة النازعات الآية ٥ ب (المدبّرات أمراً) ، والمشهور بين المفسّرين هو أن الملائكة هي التي تدبّر امور العالم ، فهل هذا يتنافى مع توحيد الربوبية؟

الإجابة عن هذا السؤال واضحة ، فلو كانت الملائكة لها الإستقلال في التأثير لم يكن ذلك منسجماً مع توحيد الربوبية ولكنّا نعلم أنّها منفّذة للأمر الإلهي وقد أوكلت إليها الامور بإرادته ومشيئته نظير الأسباب في عالم الطبيعة التي لها تأثيراتها بأمر الله.

وقد لاحظ الكثير من المفسّرين هذه النقطة في هذه الآية ولم يجدوا تناقضاً بين القول بأنّ الله (ربّ العالمين) و (ربّ كلّ شيء) وبين تأثيرات عالم الأسباب أو تدبير الملائكة بإذن الله ، فكما ينصّ القرآن الكريم على أنّ الرازق لجميع الموجودات هي الذات المقدّسة لله عزوجل : (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزقُهَا). (هود / ٦)

في حين يقول في موضع آخر : (وَعَلَى المَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ). (البقرة / ٢٣٣)

ومن المسلّم به أنّ إطلاق الرازق على والد المولود لا يتنافى مع إطلاقه على الله سبحانه ، فهذا مستقلّ بالذات وذلك بالعرض والتبع.

عندما نقول : إنّ في العسل شفاء : (فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ). (النحل / ٦٩)

فإنّ ذلك لا يتنافى مع أنّ الشافي هو الله فقط ، كما يقول رمز التوحيد ، إبراهيم عليه‌السلام : (وَإِذَا مَرِضتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). (الشعراء / ٨٠)

٢٦٣

هذه كلّها تبيّن سلسلة العلّة والمعلول ، أي تبدأ بالعلّة غير المستقلّة حتّى تصل إلى علّة العلل ومسبّب الأسباب ، أي الذات المقدّسة لله تبارك وتعالى حيث يكون كلّ سبب مديناً له في تأثيره.

* * *

٥ ـ «توحيد الربوبية» في الأحاديث الإسلامية

لقد انعكس هذا المضمون بصورة واسعة في الروايات والأدعية المأثورة عن المعصومين : ومنها الأدعية المختلفة التي وردت في الجزء الثاني من اصول الكافي ، حيث تلاحظ هذه العبارات خلال الأدعية : «اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع ... رب العرش العظيم ... ربّ المشعر الحرام وربّ البلد الحرام وربّ الحل والحرام ... الحمد لله ربّ الصباح ... ربّ الملائكة والروح .. ربّ المستضعفين .. ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وربّ القرآن العظيم وربّ محمّد خاتم النبيين» (١).

كما وردت هذه التعابير في روايات أهل السنّة (٢).

وعليه فلا ربّ للسماء والأرض والملائكة والنبيين والأغنياء والمستضعفين والصباح والمساء والكعبة ومكّة والعرش العظيم إلّاالله القادر الواحد.

والتنسيق في شؤون الكون وتنفيذ الأنظمة الحاكمة عليه دليل واحد على وحدة المدبّر ، ولذا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله للزنديق الملحد الذي سأله عن وحدانية الله عزوجل : «فلمّا رأينا الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد» (٣).

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٥١٤ ـ ٥٨٥.

(٢) للمزيد من الإيضاح راجع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ، ج ٣ ، ص ٢٠٧.

(٣) توحيد الصدوق ، ص ٢٤٤ ، باب ٣٦ (باب الردّ على الثنوية والزنادقة).

٢٦٤

ج) توحيد المالكية (الحاكمية التكوينية)

تمهيد :

من الأقسام المهمّة الاخرى لـ (توحيد الأفعال) هو التوحيد في المالكية ، ويعني أنّ المالك الحقيقي تكويناً وتشريعاً هو الذات الإلهيّة المقدّسة ، والمالكيات الاخرى مجازية وغير مستقلّة.

إيضاح ذلك : أنّ المالكية على قسمين : مالكية حقيقية (تكوينية) ومالكية حقوقية (تشريعية).

المالك الحقيقي هو من له السلطة التكوينية والخارجية على الأشياء ، وأمّا المالكية الحقوقية والتشريعية فانّها العقود التي تمضي عليها السلطة القانونية نظير مالكية الإنسان لأمواله.

والقسمان من المالكية لله تعالى في الدرجة الاولى من منظار الموحّد لعالم الوجود ، فهو تعالى المالك للسلطة الوجودية على جميع الأشياء في الكون ، لأنّ الموجودات كلّها منه وتستمدّ منه فيض الوجود آناً بعد آن ، والجميع تبع له ، وبهذا تثبت مالكيته الحقيقيّة على كلّ شيء من كلّ جهة.

وأمّا المالكية القانونية فإنّ كلّ شيء له لأنّه الخالق والموجود لجميع الأشياء ، بل حتّى ما نصنعه فانّه هو الذي أعطانا وسائل الإنتاج كلّها ، وعليه : فإن المالك الأوّل في الحقيقة هو الله ، وإن مالكيتنا ما هي إلّاوديعة لأيام معدودة.

وبهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (آل عمران / ٢٦)

٢٦٥

٢ ـ (أَلَمْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرضِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصيْرٍ). (بقرة / ١٠٧)

٣ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ لَاإلهَ إِلَّا هُوَ فَانّى تُصْرَفُونَ). (زمر / ٦)

٤ ـ (وَاللهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (بقرة / ٢٤٧)

٥ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ). (فاطر / ١٣)

٦ ـ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّماوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا من شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّنْ ظَهِيرٍ). (١) (سبأ / ٢٢)

شرح المفردات :

(الملك) بناءً على ما ورد في المقاييس هو في الأصل : القوّة على الشيء ، ولذا ورد التمليك بمعنى التقوية ، ثمّ استعمل هذا التعبير في ما يصحبه الإنسان من أشياء وذلك لما له من قدرة وقوّة عليها.

ولذا يطلق على الماء الذي يحمله المسافر (ملك) ، لأنّ المسافر الذي يصطحب الماء (خصوصاً في الصحارى الحارّة) يكون قويّاً ومهيمناً على عمله.

«مَلِك» : هو السلطان لقدرته في بلاده.

«ملكوت» : يعني العزّة والسلطنة.

«إملاك» : في العربية يعني التزويج ، لاعتبارهم الزوجة ملكاً لهم!

وأخيراً (مملكة) هي الحكومة وعزّة السلطنة ، ومن ثمّ أُطلق على الوطن.

__________________

(١) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة اخرى حول هذا الموضوع متّفقة مع الآيات أعلاه مثل : المائدة ، ١٧ ـ ١٨ ـ ٤٠ ـ ١٢٠ ؛ الأعراف ، ١٥٨ ؛ التوبة ، ١١٦ ؛ الإسراء ، ١١١ ؛ النور ، ٤٢ ؛ الفرقان ، ٢ ؛ ص ، ١٠ ؛ الزمر ، ٤٤ ؛ الشورى ، ٤٩ ؛ الزخرف ، ٨٥ ، وغيرها.

٢٦٦

جمع الآيات وتفسيرها

الله مالك الملك :

قال المفسّرون : إنّ الآية الاولى نزلت بعد فتح مكّة ، أو حينما كان النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله مشغولاً بحفر الخندق قبيل معركة الأحزاب حيث بشّر المسلمين بفتح بلاد فارس والروم وقد اعتبر المنافقون ذلك تخيّلات وتكهّنات وتشبّثاً بالمحالات (١).

وفي هذه الأثناء نزلت الآية المذكورة وأنذرت الجهلاء بأنّ الله مالك كلّ البلدان حيث قالت : (قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) وليس الحكومات فقط وليس العزّة والذلّة بل : (بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ) (٢).

وقدرة الله عزوجل على كلّ شيء هي ـ في الحقيقة ـ دليل حاكميته على الأرض والسماء.

ومن الواضح أنّ لمالكية الله بُعداً عامّاً وحقيقيّاً ، في حين ما جاء في المورد الآخر في جملة : (تؤتي الملك من تشاء) يكون له بعد جزئي ومجازي.

ولا دليل على تحديد مفهوم الآية بفتوحات الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عزّة المؤمنين وذلّة اليهود وما شاكل ـ كما يعتقد بعض المفسّرين ـ بأنَّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ الحكومات وكلّ عزّة وذلّة ، وما قالوه فهو من مصاديقها الواضحة ، والجملة الأخيرة : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ) هي في الواقع بمثابة الدليل على هذه المالكية الإلهيّة العامّة والمطلقة.

وواضح أنّ المشيئة والإرادة الإلهيّة التي استند إليها في هذه الآيات لا تعني أنّ الله يعزّ أو يذلّ أو يعطي الحكومة ويسلبها بدون حساب ، بل إنّه وضع في عالم الأسباب مجموعة من عوامل النصر والهزيمة وهي مظاهر مشيئته وإرادته.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٤٢٧ ؛ وتفسير الكبير ، ج ٨ ، ص ٤.

(٢) قال بعض اللغويين : الخير والإختيار لهما مادّة واحدة ، والحسنات خير لأنّ كلّ إنسان يختارها (التحقيق ، المفردات ، تفسير الميزان في ذيل آية البحث).

٢٦٧

فحينما يوفَّقُ المسلمون يوماً لفتح الأندلس وهي بوابة اوربا أو يخرجون من تلك الديار المعمورة يوماً آخر فإنّ ذلك حديث وفق تلك الأسباب التي هي مظاهر لمشئيته الإلهيّة.

وعندما يتسلّط أمثال يزيد وجنگيزخان على الناس فلعلّه نتيجةً لأعمال الناس أنفسهم حيث إنهم يستحقون مثل هذه الحكومات فقد ورد : «كيفما تكونوا يولّى عليكم».

من هنا يتّضح الجواب على الأسئلة التي تطرح حول آية البحث وليست بحاجة إلى توضيح أكثر.

* * *

الآية الثانية تنظر إلى الإشكالات الواهية التي أُثيرت من قبل اليهود حول تغيير القبلة بقولهم : هل بإمكان الله أن ينسخ حكماً ويحلّ حكماً آخر محلّه؟ أن يرفع حكم القبلة من بيت المقدس ويجعله للكعبة؟ فتقول : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالْأَرضِ).

وعليه هل يكون عجيباً أن يقوم مثل هذا الحاكم العظيم بنسخ حكم؟

إنّه ليس مطّلعاً على مصالح العباد فحسب بل له الحاكمية أيضاً وهو مالك التدبير والتصرّف المطلق في الكون وفي عباده.

ولذا تضيف الآية في ذيلها : (وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصيرٍ).

إنّه يعينكم في ضوء علمه بالمصالح والمفاسد وفي ظلّ حاكميته يسنّ القوانين ، ثمّ أنّ الله تعالى ليس له مكان لكي تتوجّهوا إليه في الصلاة ، وعليه فإن قيمة المكان المتّخذ كقبلة ـ مع أنّ الكون بأسره ملك له ـ ناشئة من أمره بذلك.

وقد ورد وصف الله تعالى بأنّه (ولي) و (نصير) في القرآن بكثرة ، ويمكن أن يكون الاختلاف بينهما من جهتين : الاولى أنّ (ولي) يعني حافظ المصالح و (نصير) هو الذي ينصر الإنسان على عدوّه ، والاخرى : أنّ (ولي) هو الذي يؤدّي عملاً لشخص تحت ولايته ، ولكن (نصير) هو الذي يعين الإنسان ليتغلّب على مشكلته.

الآية الثالثة ومن خلال الإشارة إلى خلق الإنسان والحيوانات والتطوّرات العجيبة

٢٦٨

تقول : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ) ، فهو الخالق وهو المربّي ولذا فهو المالك والحاكم ، ثمّ تجعل الآية هذه القضيّة مقدّمة لإثبات توحيد العبادة وتضيف : (لَاإلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

فيا أيّها الغافلون الجاهلون وياأيّها التائهون في وادي الضلالة! كيف تحيدون مع وجود هذه الدلائل الواضحة عن الإعتراف بخالقية الله وربوبيته ومالكيته؟! هذا الجزء من الآية يثبت في الحقيقة (توحيد العبادة) استناداً إلى (توحيد الحاكمية) لله تعالى وحاكميته بالإستناد إلى مسألة الخلق التي يذعن حتّى المشركون بأنّها مختصّة بالله عزوجل.

* * *

الآية الرابعة تنظر إلى قصّة طالوت وجالوت ، فقد كان جالوت جبّاراً ومجرماً وحاكماً على بني إسرائيل وقد آذاهم كثيراً.

وقد قام النبي (اشموئيل) (١) بطلب من بني إسرائيل بتنصيب (طالوت) الذي كان من القرويين الفقراء قائداً للجيش وحاكماً على بني إسرائيل!

أمّا الملأ من بني إسرائيل فقد احتجّوا على هذا الإنتخاب واعتبروا أنفسهم أرجح منه ، وذلك لما لهم من ثروة وفخامة! إلّاأنّ نبيّهم قال لهم بصراحة : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً) وأضاف : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى العِلْمِ والجِسْمِ واللهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (البقرة / ٢٤٧)

وعليه فانّه لا يكون حاكماً تكوينياً على عالم الوجود فحسب ، بل إنّ الحاكمية القانونية والتشريعية على المجتمع البشري هي لذاته المقدّسة ويمنحها لمن يشاء وإن كانت إرادته ومشيئته قائمة على أساس الأهلية واللياقة.

* * *

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين أنّه النبي شمعون أو يوشع ولكنّهما يبدوان بعيدين ، أمّا بالنسبة ليوشع الذي كان وصيّاًلموسى عليه‌السلام فهو غير ممكن تقريباً.

٢٦٩

الآية الخامسة تبيّن هذه المسألة في إطار جديد ، فبعد بيان حاكمية الله على الشمس والقمر ونظام النور والظلم تستنتج بهذا النحو بقولها : (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم لَهُ المُلكُ).

في حين ليس للمعبودات من دونه حاكمية ولا مالكية حتّى بحجم الغشاء الرقيق الذي يغلّف نوى التمر : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).

وقد ذكر المفسّرون واللغويون معانيَ مختلفة لكلمة قطمير ، أشهرها هو الغشاء الرقيق الذي يفصل النوى عن التمر.

وقد فسّره البعض بأنّه يعني التجوّف الأبيض الصغير الذي يوجد على ظهر النوى وينمو منه نبات التمر ، وفسّره البعض بأنّه رأس التمرة ، وفسّره بعض آخر بمعنى الشقّ الموجود على بطن النوى ، أو بمعنى النطفة الحيّة الموجودة في بطن النوى.

ترتبط هذه المعاني الخمسة بنوى التمر التي كانت في متناول العرب ، وهناك تفسير آخر ذكر لهذه الكلمة وهو غشاء البصل ، ولكن الأشهر ـ كما ذكرنا ـ هو المعنى الأوّل وعلى كلّ حال هو كناية عن الشيء الصغير والتافه الذي لا يؤبه له (١).

والآية هذه دليل واضح على أنّ المالكية والحاكمية لا تكون لأحد سوى الله عزوجل إلّا أن تكون بمشيئته وهبته.

* * *

وفي الآية السادسة والأخيرة جاء هذا المضمون في إطار جديد ، حيث تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللهِ) هل بإمكانهم أن يحلّوا عقدة من مشكلاتكم؟

ثمّ تقيم دليلاً على عجزهم في حلّ المشكلات وتضيف : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّماوَاتِ وَلَا فِى الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِنْ ظَهِيرٍ).

__________________

(١) راجع تفاسير مجمع البيان ؛ روح المعاني ؛ القرطبي ؛ الميزان ؛ المراغي ؛ ومفردات الراغب ، لسان العرب ؛ ومجمع البحرين.

٢٧٠

وعليه فانّهم ليسوا مالكين مستقلّين ولا شركاء ولا معاونين ، فأي عمل هم قادرون على إنجازه حتّى تسجدوا لهم وتعبدوهم؟!

بهذه الاستدلالات الواضحة ينفي القرآن الكريم كلّ شريك في المالكية والحاكمية في عالم الوجود الواسع بصورة مستقلّة ومشتركة ومتعاضدة ، وتعتبر ذلك كلّه مختّصاً في الله ، وينزّه الله عن كلّ شريك ومعين وناصر في عالم الوجود كلّه.

المستفاد من مجموع هذه الآيات الستّ والآيات القرآنية المشابهة لها هو أنّ المالك والحاكم على عالم الوجود بأسره لا يكون في منظار الموحّد الكامل إلّاالله ، ولا يملك أحد في أي موضع ومنصب جزءاً صغيراً ، وبهذا لا يبقى للمشركين أي مبرّر لعبادة الأصنام أو ربّ الأنواع أو الملائكة وغيرها.

توضيحان

١ ـ الآثار التربوية للإيمان بتوحيد المالكية والحاكمية

الطغيان والغرور والتمرّد والبخل والحسد حالات نفسية تنشأ غالباً من عقيدة الإنسان بأنّه المالك الحقيقي للأموال التي بحوزته ، ويرى نفسه حرّاً فيما إذا استلم زمام الحكم في نطاق واسع أو ضيق ، وهذه حالة مشوبة بالشرك وهي منشأ لألوان المعاصي والفساد الاجتماعي.

ولكن إذا ما نظر الإنسان إلى هذا العالم بمنظار توحيدي ، واعتقد ـ كما في الآيات ـ أنّ العالم ملك مطلق لله واعتبر نفسه ـ كما جاء في الآية ٧ من سورة الحديد : (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُّستَخلَفِينَ فِيهِ) ـ أميناً بين يدي الله ، وإستوعب هذا المعنى بوجوده كلّه ، فكيف يمكن أن يقصر في أداء ما يريده صاحب الأمانة الأصلي أو يبخل أو يحسد؟ وكيف تكون هذه الأموال سبباً لغروره وطغيانه ، إن ما يملك من مال وثروة ليس له! فهل يغترّ الموظّف في أحد المصارف بالملايين التي تكون تحت تصرُّفه كلّ يوم؟

وهكذا بالنسبة للحكومات والمناصب التي يتولّاها البعض ، فانّهم ليسوا مستخلفين في

٢٧١

جزء صغير من عالم الوجود هذا ، وعلى أساس هذا الفهم والرؤية ، فلماذا الغرور والطغيان؟ ولماذا الظلم والفساد؟

إنَّ هذه الرؤية التوحيدية للعالم تعطي للإنسانية صبغة أُخرى ، صبغة إلهيّة ، صبغة السلام والصفاء والأمن ولون الإنفاق والإيثار.

* * *

٢ ـ إستغلال مفهوم (ملكية الله)

لا شكّ ـ وكما تقدم ـ أنّ الله تعالى مالك لعالم الوجود بأسره ـ وبغض النظر عن الآيات القرآنية الكثيرة الواردة بهذا الخصوص فإنّ الدليل العقلي شاهد على هذا الأمر ، فانحصار واجب الوجود في ذاته المقدّسة واحتياج الموجودات كلّها إلى الله سبحانه وتعالى يكفي لإثبات هذا المفهوم ولايتنافى مع هذا المعنى من المالكية الحقوقية والقانونية لبني الإنسان في الإطار الذي يسمح به الله أبداً ، وما يتشبّث به البعض في قضيّة (ملكية الله) لنفي آية (الملكية الخاصة) فانّه استغلال ليس إلّا ، والعجيب إن ذلك يُطرح تحت عنوان الفقه الإسلامي ، ويعطي ـ في الحقيقة ـ للإشتراكية أو الشيوعية لوناً إسلامياً.

وبوضوح أكثر نقول : إنّ القرآن الكريم الذي أكد على مالكية الله لعالم الوجود الواسع بأسره فيه آيات تتعلّق ب (الإرث والخمس والزكاة والتجارة) أيضاً ويضفي الشرعية على الأموال المشروعة التي يتصرّف بها القطّاع الخاصّ ، فقد جاء التعبير بـ (أموالكم) في ١٤ آية قرآنية ، والتعبير بـ (أموالهم) في ٣١ آية ـ وقد وردت الكثير من التعاليم الالهيّة في العديد من الآيات تأمرهم في كيفية التصرف في أموالهم ، فلو كان مفهوم الملكية الإلهيّة ينفي ملكية الإنسان ، فما هو إذن مفهوم الآيات التي وردت في هذه ال ٤٥ آية إضافة إلى آيات كثيرة اخرى تتعلّق بهذا الموضوع؟

فالقرآن الكريم يقول : (وَآتُوا الْيَتَامى أَمْوَالَهُمْ ... وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ). (النساء / ٢)

٢٧٢

وفي موضع آخر : (انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً).

وفي موضع ثالث يقول : (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَالَهُمْ فِى سَبيلِ اللهِ ثُمَّ لَايُتبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ ...). (البقرة / ٢٦٢)

ويخاطب المرابين : (وَإِن تُبتُم فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَموالِكُم). (البقرة / ٢٧٩)

أو كما ورد في الآية الكريمة : (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً). (النساء / ٦)

وقد وردت تعابير كثيرة تشير إلى هذا النوع من المالكية.

بالطبع ، في الشريعة الإسلامية هناك أقسام أُخرى من المالكية مثل «الملكية العامة» و «ملكية الحكومة» بالإضافة إلى «الملكية الخاصة» ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك ، ولكن لا يوجد لأي من هذه الملكيات علاقة بمالكية الله سبحانه وتعالى ، وبتعبير مختصر وهو أنّ توحيد الملكية لايتعارض ولا يتنافي مع ملكية أفراد البشر أو طبقة من المجتمع ، أو المجتمع لأي شيء ، بشرط أن تكون هذه الملكية مشروعة.

ولهذا الأمر شروط وأسباب وردت في كتب الفقة الإسلامي بشكل مفصل وواضح.

* * *

٢٧٣
٢٧٤

د) توحيد التقنين (الحاكمية التشريعيّة)

تمهيد :

من المعلوم إنّه ومن أجل تنظيم شؤون المجتمعات البشرية نحتاج إلى ثلاث سلطات ، (السلطة التشريعية) التي تتكفّل سنّ القوانين الكفيلة بحفظ النظام في المجتمع والحيلولة دون ضياع الحقوق ، و (السلطة التنفيذية) التي تنفّذ ما صادقت عليه السلطة التشريعية وتتولّاها عادةً الحكومات المؤلفة من الوزراء والدوائر الحكومية.

و (السلطة القضائية) المسؤولة عن معاقبة المتخلّفين عن القانون والمجرمين والمعتدين.

في الرؤية التوحيدية الإسلامية تستمد هذه السلطات الثلاث من تعاليم الذات المقدّسة الالهيّة ولا يكون فيها حكماً جائزاً إلّابإذنه وأمره فهو الذي شرّع القوانين وهو الذي يجيز تشكيل الحكومات وتنفيذ القوانين ، وهو الذي يمنح الشرعية لعمل القضاة ، وعليه فإنّ هذه السلطات الثلاث لابدّ أن تستمدّ شرعيتها من حضرة القدس الإلهي طبق الشرائط والأوامر ، وهذا المعنى له انعكاس واسع في الآيات القرآنية إضافةً إلى إمكانية الاستدلال عليه عقليّاً.

بهذا التمهيد نراجع القرآن الكريم لنمعن خاشعين في الآيات القرآنية :

١ ـ (وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ). (المائدة / ٤٤)

٢ ـ (وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (المائدة / ٤٥)

٣ ـ (وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ). (المائدة / ٤٧)

٤ ـ (وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إلَيكَ). (المائدة / ٤٩)

٥ ـ (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (النساء / ٦٥)

٦ ـ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ). (الأنعام / ٥٧) (يوسف / ٦٥)

٢٧٥

٧ ـ (وَهُوَ اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الْاولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وإلَيهِ تُرْجَعُونَ). (القصص / ٧٠)

٨ ـ (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (القصص / ٨٨)

٩ ـ (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّى عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ انِيبُ). (الشورى / ١٠)

١٠ ـ (أَفَغَيرَ اللهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الّذِى أَنْزَلَ إِلَيكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً). (١) (الانعام / ١١٤)

شرح المفردات :

«حُكْم» : على وزن (قُفْل) ويعني في الأصل ـ كما يقول الكثير من كبار اللغويين ـ المنع والصدّ (٢) ومن ثمّ اطلق على (القضاء) و (الحكومة) ، لأنّ القاضي والحاكم يمنعان الناس بأحكامهما الحازمة من مخالفتها أو ارتكاب الأعمال الممنوعة.

«حَكَمة» : تعني الحديدة التي توضع في فمّ الحيوان أو أنفه كلجام ، ولدى سحبه يتألّم الحيوان ويستسلم ويوجد هنا معنى المنع نفسه أيضاً.

وفي (لسان العرب) : لـ «حكم» معانٍ مختلفة كالعلم والفهم والقضاء بالحقّ والعدل (حيث تصدّ هذه الامور الإنسان عن المخالفة) ويطلق (حكيم) على من كان ذا معرفة كافية تصدّه عن ارتكاب الأعمال السيّئة.

ومن اللازم التذكير بهذه النقطة وهي أنّ هذه الكلمة تستعمل في الموارد الثلاثة (التشريعية والقضائية والتنفيذية) حيث يطلق الحاكم على الموارد الثلاثة ، ولذا فإنّ البعض

__________________

(١) هنالك آيات قرآنية كثيرة وردت بهذا المضمون أيضاً مثل المائدة ، ٤٨ ، و ٥٠ ؛ الكهف ، ٢٦ ؛ الأعراف ، ٨٧ ، ؛ يوسف ، ١٠٩ ؛ هود ، ٤٥ ؛ يوسف ، ٨٠ ؛ التين ، ٨ ؛ النساء ، ٦٠.

(٢) المفردات ؛ مقاييس اللغة ؛ ومصباح المنير للفيومي.

٢٧٦

من كتب اللغة تذكر أنّ أحد معاني (حكم) هو تفويض الأمر والفعل لشخص ما.

ورد في كتاب (العين) أنّ لفظ (حكمة) يرجع إلى مفهوم العدل والعلم والحلم ، ويقول صاحب الكتاب : إنّ هذه الكلمة فُسّرت بمعنى (المنع) أو (المنع من الفساد) ، وهذا ينسجم مع ما نقلناه عن اللغويين ، والآيات المحكمات اطلق عليها هذا اللفظ لأنّ صراحتها ووضوحها يمنع من أي تفسير أو تأويل خاطيء.

جمع الايات وتفسيرها

من لم يحكم بما أنزل الله :

في الآيات الأربعة الاولى (الآية ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧ ، و ٤٩ من سورة المائدة) عرض لمسألة توحيد الحاكمية بأوضح وجوهه.

تقول الآية الاولى والثانية والثالثة : (وَمَنْ لَّمْ يَحكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الكافِرونَ ... هُمُ الظَّالِمُونَ ... هُمُ الفَاسِقُونَ).

وللمفسّرين أقوال في هذه العبارات هل أنّها تتضمّن مفاهيم مختلفة أو أنّها تشير إلى مفهوم واحد؟

فبعض يعتقد أنّها تنظر إلى جماعة واحدة ، وأنّها صفات متعدّدة لموصوف واحد ويمكن تفسيرها بهذا الترتيب : من يحكم بخلاف ما أنزل الله فانّه يخالف الله وينهض بوجه الله فهو كافر من هذه الجهة.

ومن جهة ثانية أنّه يوجّه ضربه للحقّ الإنساني فهو ظالم.

ومن جهة ثالثة أنّه يخرج من نطاق واجباته فهو فاسق (لاحظ أنّ الفسق يعني الخروج عن واجبات العبودية).

وقال بعض آخر : إنّ الآية الاولى والثانية ـ وبقرينة ما قبلها ـ تقصدان اليهود ، في حين تتحدّث الآية الثالثة عن النصارى ، وبما أنّ عداء اليهود للأحكام الإلهيّة أشدّ من النصارى فقد حكم عليهم بالكفر والظلم بينما حكم على النصارى بالفسق.

٢٧٧

ولكنّا نعلم أنّ نزول الآيات في موارد خاصّة لا يحدّد مفاهيمها الكلّية بتلك الموارد ، وعليه فإنّ الآيات هذه تشمل جميع الذين يحكمون بغير ما أنزل الله.

إنَّ صدق الظلم والفسق فيمن يرتكب هذه المعصية واضح ولكن الحكم بالكفر يكون في حالة الردّ لحكم الله والإعتقاد ببطلانه ، لأنّ ذلك أمّا إعتقاد يلازمه إنكار الذات المقدّسة أو علمه وحكمته وعدله ، وهذا يستوجب الكفر قطعاً ، وهكذا إذا رجع إنكار هذا الحكم إلى إنكار القرآن أو رسالة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكنّه إذا حكم بغير ما أنزل الله فقط وكان المنشأ فيه هوى النفس مثلاً لا إنكار التوحيد أو النبوّة فانّه لا يستوجب الكفر.

وقد ورد في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَينَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ). (المائدة / ٤٨)

وقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَينَهُم بِما أَنْزَلَ اللهُ). (المائدة / ٤٩)

وقوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). (المائدة / ٥٠)

إنّ الآيات الستّ هذه تؤكّد على هذا المعنى وهو (الحكم حكم الله فقط).

إنّ هذه التعابير المختلفة وهذا التأكيد المثالي الذي ورد في هذه الآيات الستّ في سورة واحدة وبصورة متقاربة لدليل على هذه الحقيقة وهي أنّه لا يحقّ التشريع لأي مقام إلّاالله ، وكلّ من يفتي أو يقضي أو يحكم على خلاف حكم الله فانّه يقترف إثماً عظيماً وظلماً وينزع عنه ثوب الإيمان أيضاً.

بهذه يثبت توحيد الحاكمية التشريعية وحصر التشريع في ذات الله المقدّسة وحصر الحكم في حكم الله.

* * *

الآية الخامسة تتحدّث عن مقام القضاء وتعتبره من مختصّات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (الذين ينصبون من قبله أئمّة بالمعنى المطلق أو في خصوص القضاء) وتقول : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَينَهمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

٢٧٨

وعليه تكون علامات الإيمان الحقيقي ثلاث : الإحتكام إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ اختلاف وعدم الشعور بالأذى من حكمه وتنفيذه بالكامل في الخارج ، وبهذا فإنّ الآية تعتبر فرعاً آخر من الحاكمية ، أي الحاكمية في القضاء منحصرة في الله عزوجل (لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ممثّل عن الله).

* * *

الحكم لله فقط :

الآية السادسة تقول بتعبير قصير : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ).

لقد تكرّرت هذه الجملة في القرآن الكريم مراراً ولها مفهوم واسع حيث تتضمّن الحكم بمعنى التشريع والحكومة والقضاء والحكم التكويني والأحكام التشريعية ، غير أنّ هذا التعبير في سورة الأنعام الآية ٥٧ وسورة يوسف الآية ٦٧ جاء في مورد الحكم الإلهي بالعذاب على الكافرين ومعاقبتهم.

على كلّ حال فإنّ الاختلاف في موارد التعبير هذه دليل واضح على أنّ مفهوم الآية واسع كما قلنا ، ويعتبر كلّ حكم وأمر مختصّاً في الله ، في عالم التكوين وعالم التشريع.

* * *

الآية السابعة وبعد أن وصفت الله عزوجل باستحقاق العبودية والحمد والثناء في الدنيا والآخرة تقول : (وَهُوَ اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِى الْاولى والْآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ).

وعبارة (وله الحكم) في الحقيقة دليل على انحصار الأهلية للعبادة والحمد والثناء فيه عزوجل ، لأنّ (المعبود) و (المحمود) هو من كان حكمه نافذاً في كلّ شيء وفي الجميع ، وإن قال بعض المفسّرين أمثال ابن عبّاس : إنّ المراد من (حكم) هنا هو القضاء بين العباد يوم

٢٧٩

القيامة (١) وليس بأيدينا أي دليل على تحديد معنى الآية ، وقلنا مراراً : إنّ خصوصية المورد لا تمنع عمومية مفهوم الآية.

وعليه فإنّ الآية أعلاه تشمل توحيد حاكمية الله في عالم التكوين وفي عالم التشريع والتقنين والحكومة والقضاء (في تفسير الميزان إشارة إلى عمومية مفهوم الآية) (٢).

وينبغي ملاحظة أنّ عبارة (له الحكم) تدلّ على الحصر من جهتين : إحداهما من جهة أنّ (له) مقدّم ، والاخرى من جهة أنّ كلمة (الحكم) جاءت مطلقة أي أنّها تشمل أنواع الحاكمية كلّها.

والجدير ذكره أنّ انحصار المالكية في الله لا يمنع من أن يضعها الله في اختيار الأنبياء والأئمّة المعصومين وعباده الصالحين ، فالبحث يدور حول المبدأ الأصلي للحاكمية ، كما أنّ إختصاص الحمد والثناء في ذاته المقدّسة لا يمنع من أن يثني الإنسان على العباد الصالحين أو الوالدين أو المعلّم ، فهم يمثلون الواسطة في النغمة ولابدّ من ملاحظة أنّ هذه الامور كلّها من الله وهذا هو معنى توحيد الحاكمية.

* * *

الآية الثامنة تتحدّث أوّلاً عن توحيد العبادة ثمّ توحيد الحاكمية حيث تقول : (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لَاإِلَهَ إِلَّا هُوَ) ثمّ تقول بما يتضمّن الدليل على هذا الحكم : (كُلُّ شَىءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وتضيف أخيراً : (لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

هذه الآية تخصّص العبادة في الله وهكذا البقاء والحكم والقضاء وإن اعتبر البعض الحكم فيها بمعنى الحكم التكويني وإرادة الله النافذة في كلّ شيء ، واعتبرها البعض الآخر بمعنى القضاء يوم القيامة.

وقال البعض : إنّ الحكم هنا له جانب تشريعي فقط ، غير أنّ الإطلاق هو الظاهر من الآية

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ٩٢.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٧٠.

٢٨٠